قال نصر: عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن عامر الشعبي قال: اجتمع جرير والأشتر عند علي، فقال الأشتر:
أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا، وأخبرتك بعداوته وغشه؟
وأقبل الأشتر يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة، إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان، والله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم. وأنت والله منهم، ولا أرى سعيك إلا لهم، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه، حتى تستبين هذه الأمور، ويهلك الله الظالمين.
قال جرير: وددت والله أنك كنت مكاني بعثت إذا والله لم ترجع.
قال: فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا...
وقال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه بعمرو وحوشب ذي ظليم وذي الكلاع:
____________
(1) وقعة صفين لنصر: ص 59 - 61، وراجع بهج الصباغة: ج 6 / 20 عن الطبري
(554)
عمار وعثمان
ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف عثمان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذووا القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة: دارا لنائلة، ودارا لعائشة - ابنته - وغيرهما من أهله وبناته، وبناء مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول، ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح - وهو أمير عليها سكران - أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم الصلاة زدتكم، وتعطيله إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمي حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار، حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان، فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه
أنت كتبت هذا الكتاب؟
قال: نعم.
قال: ومن كان معك؟
قال: معي نفر تفرقوا فرقا منك.
قال: من هم؟
قال: لا أخبرك بهم.
قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟
فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود - يعني عمارا - قد جرأ عليك الناس، وأنك إن قتلته نكلت به من وراءه.
قال عثمان: اضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة - زوج النبي عليه الصلاة والسلام - فأدخل منزلها (1).
(555)
ابن عباس وعثمان
ذكروا أن ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي حين صليت العصر إذ جاء رسول عثمان يدعو عليا، فقال علي: نعم، فلما أن ولى الرسول أقبل علي فقال: لم تراه دعاني؟ قلت له: دعاك ليكلمك، فقال: انطلق معي، فأقبلت فإذا طلحة والزبير وسعد وأناس من المهاجرين، فجلسنا فإذا عثمان عليه ثوبان أبيضان، فسكت القوم، ونظر بعضهم إلى
____________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 / 32 - 33، وراجع بهج الصباغة: ج 6 / 26، ويأتي ص 408 بصورة أخرى، والغدير: ج 9 / 17 و 18، والعقد الفريد: ج 4 / 307
أما بعد فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائبا عنكم وعما نلتم مني، وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني، وقد سألني أن يكلمكم وأن يكلمه من أراد.
فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول إلا ما قلت أو قيل لك؟!
فقال: على ذلكم تكلم يا معاوية، فحمد الله وأثنى عليه - إلى أن قال: - قال:
ثم خرج القوم وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له عثمان: يا ابن عمي ويا ابن خالتي، فإنه لم يبلغني عنك في أمري شئ أحبه ولا أكرهه علي ولا لي، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك فأعتذر.
قال ابن عباس: فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك أن يجل سنك ويعرف قدرك وسابقتك، والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئا تركاه لما رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس لك، كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما، فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي ينل منك، تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك.
قال: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟
قال: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل؟
قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي (1).
____________
(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 33، وبهج الصباغة: ج 6 / 59
(556)
ابن عباس وطلحة
في جمل المفيد: لما أرسل عليه السلام - يعني عليا عليه السلام - ابن عباس مع مصحف إلى طلحة والزبير وعائشة يدعوهم إلى ما فيه، نادى طلحة: ناجزوا القوم فإنكم لا تقولون لحجاج ابن أبي طالب.
قال ابن عباس: فقلت يا أبا محمد أبالسيف تخوف ابن أبي طالب، أما والله ليعاجلنك السيف (1).
(557)
الأحنف والزبير
قال الزبير لعبد الله بن عامر: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة كلهم سيد مطاع: كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة في ربيعة، والأحنف بن قيس في مضر، فكتب طلحة والزبير إلى... الأحنف بن قيس: أما بعد فإنك وافد عمر وسيد مضر وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام.
... وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا في أيديكم ثقة، والسلام (2).
(558)
عمران وأبو الأسود مع طلحة والزبير وعائشة
ذكروا أن طلحة والزبير لما نزلا البصرة، قال عثمان بن حنيف: نعذر
____________
(1) راجع بهج الصباغة: ج 6 / 132.
(2) الإمامة والسياسة: ج 1 / 58 وبهج الصباغة ج 6 / 137
يا أبا محمد: إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله، وبايعتم عليا غير مؤامرين في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعلي إذ بويع، ثم بدا لكم، فأردتم خلع علي، ونحن على الأمر الأول، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه.
ثم تكلم عمران فقال: يا طلحة: إنكم قتلتم عثمان، ولم نغضب له إذ لم تغضبوا، ثم بايعتم عليا، وبايعنا من بايعتم، فإن كان قتل عثمان صوابا فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأوفى.
فقال طلحة: يا هذان إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره، وليس على هذا بايعناه، وأيم الله ليسفكن دمه.
فقال أبو الأسود: يا عمران: أما هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك.
ثم أتيا الزبير فقالا: يا أبا عبد الله. إنا أتينا طلحة.
قال الزبير: إن طلحة وإياي كروح في جسدين، وإنه والله يا هذان، قد كانت منا في عثمان فلتات، احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا نصرناه.
ثم أتيا فدخلا على عائشة، فقالا: يا أم المؤمنين، ما هذا المسير؟ أمعك من رسول الله به عهد؟
قالت: قتل عثمان مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب لعثمان من القتل؟!
فقال أبو الأسود: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟
فقالت: يا أبا الأسود بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي.
(559)
ابن عياش وعبد الله الزبيري
في تأريخ بغداد: دخل أبو بكر بن عياش على موسى بن عيسى وهو على الكوفة، وعنده عبد الله بن مصعب الزبيري، فأدناه، ودعا له بتكاء فاتكأ وبسط رجله.
فقال عبد الله بن مصعب لموسى: من هذا الذي دخل ولم نستأذن له ثم اتكأته وبسطته؟
قال: هذا فقيه الفقهاء، والرأس عند أهل البصرة، أبو بكر بن عياش.
فقال: فلا كثير ولا طيب ولا مستحق لكل ما فعلته به.
فقال ابن عياش: أيها الأمير من هذا الذي سأل عني بجهل ثم تتابع في جهله بسوء قول وفعل - فنسبه له - فقال له ابن عياش: اسكت مسكتا فبأبيك غدر ببيعتنا، وبقول الزور خرجت أمنا، وبابنه هدمت كعبتنا، وبك أحرى أن يخرج الدجال فينا.
فضحك موسى حتى فحص برجله، وقال للزبيري: أنا والله أعلم أنه يحوط أهلك وأباك ويتولاه ولكنك مشؤوم على آبائك (2).
(560)
جارية بن قدامة مع عائشة
أقبل جارية بن قدامة السعدي إلى عائشة يوم الجمل فقال لها: لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح، أنه
____________
(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 61، وقد مر ص 34 بنحو آخر، وراجع الغدير ج 9 / 107 عنه.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 359
(561)
أم أوفى مع عائشة
دخلت أم أوفى العبدية - بعد الجمل - على عائشة، فقالت: يا أم المؤمنين ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار.
قالت فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا في صعيد واحد؟ قالت: خذوا بيد عدوة الله (2).
(562)
ابن عباس وعائشة
وفي أمالي الشيخ الحديث بأسانيد عن ابن عباس في وصية الحسن عليه السلام ودفنه - إلى أن قال: - قال: ابن عباس فإذا أنا بعائشة في أربعين راكبا على بغل مرحل تقدمهم، وتأمرهم بالقتال، فلما رأتني قالت: إلي إلي يا ابن عباس لقد اجترأتم علي في الدنيا تؤذونني مرة بعد أخرى، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحب.
فقلت: واسوأتاه يوم على بغل ويوم على جمل تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، وتحولي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين حبيبه أن يدفن معه، ارجعي فقد كفى الله المؤونة، ودفن الحسن عليه السلام إلى جنب أمه، فلم يزدد من الله إلا قربا وما ازددتم منه والله إلا بعدا، يا سوأتاه انصرفي
____________
(1) بهج الصباغة: ج 6 / 359 - 360، وروضة المؤمنين / 135 عن الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 387 عن العقد وروضة المؤمنين / 137 برواية أخرى عن زهر الربيع
فقطبت في وجهي ونادت بأعلى صوتها: ما نسيتم الجمل يا ابن عباس، إنكم لذوي أحقاد.
فقلت: أم والله ما نسيه أهل السماء فكيف ينساه أهل الأرض، فانصرفت وهي تقول:
(563)
امرأة وابن الجوزي
قال ابن الجوزي يوما على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فسألته امرأة عمار:
روي أن عليا - عليه السلام - سار في ليلة إلى سلمان، فجهزه ورجع.
فقال: روي ذلك.
فقال: فعثمان طرح ثلاثة أيام منبوذا على المزابل وعلي حاضر.
قال: نعم.
فقالت: قد ألزم الخطأ لأحدهما.
فقال لها: إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن زوجك فعليك لعنة الله، وإلا فعليه.
فقالت له: فعائشة خرجت إلى حرب علي بإذن النبي أو بغير إذنه؟ فانقطع ولم يحر جوابا (2).
(564)
زينب وعائشة
قال أبو الفرج في مقاتله: إن عائشة لما جاءها قتل أمير المؤمنين علي عليه
____________
(1) راجع بهج الصباغة: ج 6 / 390.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 395 و ج 5 / 88، وروضة المؤمنين / 131
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد فقالت:
فقالت لها زينب بنت أم سلمة: العلي عليه السلام تقولين هذا؟ فقالت:
إذا نسيت فذكروني، ثم تمثلت:
(565)
أم سلمة ومعاوية
كتب معاوية إلى عماله أن يلعنوه - يعني عليا عليه السلام - على المنابر، ففعلوا، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله إلى معاوية:
" إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله " فلم يلتفت إلى كلامها (2).
(566)
قيس بن سعد ومعاوية
أخرج الحافظ عبد الرزاق عن ابن عيينة قال: قدم قيس بن سعد على معاوية، فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع.
____________
(1) بهج الصباغة: ج 6 / 419. (2) الغدير: ج 2 / 102 عن العقد
فقال له معاوية: ولم؟ وهل أنت حبر من أحبار اليهود؟
فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا، فقال معاوية: اللهم غفرا مد يدك.
فقال له قيس: إن شئت زدت وزدت (1).
(567)
قيس ومعاوية
كان قيصر بعث إلى معاوية بعلج من علوج الروم طويل جسيم، معجبا بكمال خلقته وامتداد قامته، فعلم معاوية أنه ليس بمطاولته ومقاومته إلا قيس بن سعد بن عبادة فإنه كان أجسم الناس وأطولهم، فقال له يوما وعنده العلج:
إذا أتيت رحلك فابعث إلي بسراويلك.
فعلم قيس مراده فنزعها ورمى بها إلى العلج، والناس ينظرون، فلبسها العلج فطالت إلى صدره، فعجب الناس وأطرق الرومي مغلوبا، وليم قيس على ما فعل بحضرة معاوية فأنشد يقول:
____________
(1) الغدير: ج 2 / 105 عن تاريخ ابن كثير: ج 8 / 99، وقد مر بنحو آخر في ج 1 ص 100 فراجع.
(2) الغدير: ج 2 / 109 عن ثمار القلوب للثعالبي / 480 والبداية والنهاية: ج 8 / 103
(568)
عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص
روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام 7 / 330: أن عمرو بن العاص قال لعبد الله بن جعفر الطيار ذي الجناحين في مجلس معاوية: يا ابن جعفر؟
يريد تصغيره، فقال له: لئن نسبتني إلى جعفر فلست بدعي ولا أبتر، ثم ولى وهو يقول:
(569)
عبد الله بن أبي سفيان وعمرو
أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه ج 7 / 438: أن عبد الله بن أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي قدم معاوية وعنده عمرو، فجاء الآذن فقال: هذا عبد الله وهو بالباب. فقال: إئذن له، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين لقد أذنت لرجل كثير الخلوات للتلهي، والطربات للتغني، صدوف عن السنان محب للقيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، ظاهر الطيش، لين العيش، أخاذ للسلف، صفاق للشرف.
فقال عبد الله: كذبت يا عمرو وأنت أهله، ليس كما وصفت ولكنه لله ذكور، ولبلائه شكور، وعن الخنا زجور، سيد كريم، ماجد صميم، جواد حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، ولا فاحش عياب، كذلك قضى الله في الكتاب، فهو كالليث الضرغام، الجرئ المقدام، في الحسب القمقام، ليس بدعي ولا دني، كمن اختصم فيه من قريش شرارها
____________
(1) الغدير: ج 2 / 124
أبنفسك؟ فأنت الخوار الوغد الزنيم. أم بمن تنتمي إليه؟ فأنت أهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهر، ولا بقديم في الإسلام ذكر، غير أنك تنطق بغير لسانك، وتنهض بغير أركانك، وأيم الله إن كان لأسهل للوعث (1) وألم للشعث أن يكعمك (2) معاوية على ولوعك بإعراض قريش كعام الضبع في وجاره فأنت لست لها بكفي، ولا لإعراضها بوفي.
قال: فتهيأ عمرو للجواب، فقال له معاوية: نشدتك الله إلا ما كففت فقال عمرو: يا أمير المؤمنين دعني أنتصر فإنه لم يدع شيئا.
فقال معاوية: أما في مجلسك هذا فدع الانتصار وعليك بالاصطبار (3).
(570)
أبو الأسود وعمرو بن العاص
قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية بعد مقتل علي - رضي الله عنه - وقد استقامت لمعاوية البلاد، فأدنى مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده عمرو بن العاص، فقدم على معاوية فاستأذن عليه في غير وقت الإذن، فأذن له، فقال له معاوية: يا أبا عبد الله ما أعجلك قبل وقت الإذن، فقال: يا أمير المؤمنين أتيتك لأمر قد أوجعني وأرقني وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين قال:
وما ذاك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا الأسود رجل مفوه له عقل وأدب من مثله للكلام يذكر؟ وقد أذاع بمصرك من الذكر لعلي، والبغض
____________
(1) الوعث: العسر الغليظ.
(2) كعم البعير: شد فمه لئلا يعض أو يأكل.
(3) الغدير: ج 2 / 125 وقد تقدم بنحو آخر
فقال له معاوية: إني امرؤ والله لقل ما تركت رأيا لرأي امرئ قط إلا كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين، ولكن إن أرسلت إليه فسألته فخرج من مساءلتي بأمر لا أجد عليه مقدما ويملأني غيظا لمعرفتي بما يريد، وإن الأمر فيه أن يقبل ما أبدى من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره، وندع ما وراء ذلك يذهب جانبا.
فقال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رأيي ولست أرى خلافي وما آلوك خيرا، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه وطيئا.
فأرسل معاوية إلى أبي الأسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا، فرحب به معاوية وقال: يا أبا الأسود خلوت أنا وعمرو فتناجزنا في أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله - وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين.
قال: سل يا أمير المؤمنين عما بدا لك.
فقال يا أبا الأسود: أيهم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال أشدهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وأوقاهم له بنفسه.
فنظر معاوية إلى عمرو وحرك رأسه، ثم تمادى في مسألته.
فقال: يا أبا الأسود فأيهم كان أفضلهم عندك؟ قال: أتقاهم لربه
____________
(1) ترى تريا في الأمر: تراخى فيه
فاغتاظ معاوية على عمرو.
ثم قال: يا أبا الأسود فأيهم كان أعلم؟ قال: أقولهم للصواب وأفصلهم للخطاب.
قال: يا أبا الأسود، فأيهم كان أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء وأحسنهم عناء وأصبرهم على اللقاء.
قال: فأيهم كان أوثق عنده؟ قال: من أوصى إليه فيما بعده.
قال: فأيهم كان للنبي - صلى الله عليه وآله - صديقا؟ قال: أولهم به تصديقا.
قال: فأقبل معاوية على عمرو وقال: لا جزاك الله خيرا، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئا؟
فقال أبو الأسود: إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ فقال: نعم فقل ما بدا لك.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه وآله بأبيات من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بكل بيت لعنة، أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا، أو مدركا رباحا؟ وأيم الله إن امرء لم يعرف إلا بسهم أجيل عليه فجال لحقيق أن يكون كليل اللسان ضعيف الجنان، مستشعرا للاستكانة، مقارنا للذل والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، متعيص لدينه لعظيم دينه، غير ناظر في أبهة الكرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار.
فقال عمرو: يا أخا بني الدؤل، والله إنك لأنت الذليل القليل ولولا ما
فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك. وقال لعمرو: فلم تغرق كما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت، غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والباغي أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقوما غير مطرودين. فقام عمرو وهو يقول:
وقام أبو الأسود وهو يقول:
(571)
ابن عم لعمرو وعمرو
كان مع عمرو بن العاص ابن عم له فتى شاب وكان داهيا حليما، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا، عجب الفتى وقال: ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش وأعطيت دينك، وتمنيت دنيا غيرك، أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه بالكتاب، يعني كتاب معاوية إلى عمرو؟ فقال
____________
(1) الأجدل: الصقر. والحدأة: طائر من الجوارح، والعامة تسميه الحدية.
(2) الغدير: ج 2 / 146 - 148
فقال عمرو: يا ابن أخي لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكن الآن مع معاوية.
فقال الفتى: إنك إن لم ترد معاوية لم يردك، ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك. وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه، فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو
____________
(1) خدب بالكسر وتشديد الموحدة: سنام البعير الضخم. الأسل: الرماح
(572)
ابن عباس وعمرو
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ج 2 / 436 دخل عبد الله بن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟
قال: أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلا، وأفسدت من ديني كثيرا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا أرقي بيدين، ولا أهبط برجلين فعظني بعظة أنتفع بها يا ابن أخي.
فقال له ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك ولا تشاء أن تبكي إلا بكيت، كيف يؤمن برحيل من هو مقيم؟
فقال عمرو: وعلى حينها حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة ربي اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى.
قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديدا وتعطي خلقا.
فقال عمرو: ما لي ولك يا ابن عباس؟ ما أرسلت كلمة إلا أرسلت نقيضها (2).
(573)
السيد الحميري ووالداه
كتب السيد الحميري إلى والديه يدعوهما إلى التشيع وولاء أمير المؤمنين
____________
(1) وقعة صفين لنصر: 41 - 42 وراجع الإمامة والسياسة: ج 1 / 88 والغدير ج 2 / 149 عنهما وعن ابن أبي الحديد: ج 1 / 138.
(2) راجع الغدير: ج 2 / 175، والاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة: ج 2 / 513