الصفحة 405
قال: مشيت وعمر بن الخطاب في بعض أزقة المدينة، فقال: يا ابن عباس أظن القوم استصغروا صاحبكم إذ لم يولوه أموركم. فقلت: والله ما استصغره رسول الله صلى الله عليه وآله إذ اختاره لسورة براءة يقرأها على أهل مكة. فقال لي:

الصواب تقول والله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: من أحبك أحبني، ومن أحبني أحب الله، ومن أحب الله أدخله الجنة مدلا (1).

(595)
المأمون وعلماء السنة في فدك

في الطرائف: ذكر صاحب التاريخ المعروف بالعباسي: أن جماعة من ولد الحسن والحسين عليهما السلام رفعوا قصة إلى المأمون يذكرون أن فدك والعوالي كانت لأمهم فاطمة عليها السلام، وأن أبا بكر أخرج يدها عنها بغير حق، وسألوا المأمون إنصافهم وكشف ظلامتهم، فأحضر المأمون مائتي رجل من علماء الحجاز والعراق وغيرهما، وهو يؤكد في أداء الأمانة واتباع الصدق، وعرفهم ما ذكره ورثة فاطمة عليها السلام، وسألهم عما عندهم من الحديث الصحيح في ذلك، فروى غير واحد من بشر بن الوليد وبشر بن غياث والواقدي في أحاديث يرفعونها إلى نبيهم صلى الله عليه وآله: أنه لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود. فنزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: " فآت ذا القربى حقه " قال: من ذو القربى؟ فقال: فاطمة، فدفع إليها فدك، ثم أعطاها العوالي بعد ذلك، فاستغلتها حتى توفي أبوها.

فلما بويع أبو بكر قال: لا أمنعك ما رفع إليك أبوك، فأراد أن يكتب لها كتابا، فاستوقفه عمر، وقال: إنها امرأة فادعها بينة على ما ادعت، فأمرها

____________

(1) الغدير: ج 6 / 344 عن كنز العمال: ج 6 / 391 وشرح ابن أبي الحديد: ج 3 / 105

الصفحة 406
أبو بكر أن تفعل، فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي بن أبي طالب عليه السلام، فشهدوا لها جميعا بذلك، فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر، فأتاه فأخذ الصحيفة وقال: إن فاطمة امرأة، وعلي زوجها هو جار إلى نفسه، ولا تكون شهادة امرأتين دون رجل، فأرسل أبو بكر إلى فاطمة فأعلمها ذلك، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنهم ما شهدوا إلا بالحق.

فقال أبو بكر: فلعلك أنت تكوني صادقة، ولكن أحضري شاهدا لا يجر إلى نفسه.

فقالت: ألم تسمعا من أبي يقول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنة؟ فقالا: بلى، فقالت: امرأتان من أهل الجنة تشهدان بباطل، فانصرفت صارخة تنادي أباها وتقول: قد أخبرني أني أول من ألحق به، فوالله لأشكونهما إليه.

فلم تلبث أن مرضت، فأوصت عليا عليه السلام ألا يصليا عليها، وهجرتهما فلم تكلمهما حتى ماتت، فدفنها علي عليه السلام والعباس ليلا.

ثم أحضر المأمون في اليوم الآخر ألف رجل من أهل العلم والفقه، وشرح لهم الحال، وأمرهم بتقوى الله ومراقبته، فتناظروا، فقالت فرقة منهم: الزوج جار إلى نفسه فلا شهادة له، ولكنا نرى أن يمين فاطمة قد أوجبت لها ما ادعت مع شهادة المرأتين، وقالت طائفة: نرى اليمين مع الشهادة لا يوجب حكما ولكن شهادة الزوج جائزة ولا نراه جارا إلى نفسه، وقد وجبت بشهادته مع شهادة المرأتين لفاطمة ما ادعت، فكان اختلاف الطائفتين إجماعا منهما على استحقاق فاطمة فدكا والعوالي.

فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي وفاطمة عليهما السلام، فذكروا طرفا جليلا. وسألهم عن أم أيمن و أسماء، فرووا عن نبيهم صلى الله عليه وآله أنهما من أهل الجنة.


الصفحة 407
فقال المأمون: أيجوز أن يقال: إن عليا مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة عليها السلام بغير حق، وقد شهد له الله ورسوله بهذه الفضائل، أو يجوز مع علمه وفضله أن يقال: إنه يمشي في شهادة، وهو يجهل الحكم فيها؟ وهل يجوز أن يقال: إن فاطمة مع طهارتها وعصمتها وأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، كما رويتم تطلب شيئا ليس لها، وتظلم فيه جميع المسلمين، وتقسم عليه بالله؟ أو يجوز أن يقال عن أم أيمن وأسماء: إنهما تشهدان بالزور وهما من أهل الجنة؟ إن الطعن على فاطمة عليها السلام وشهودها طعن على كتاب الله وإلحاد في دين الله.

ثم عارضهم المأمون بحديث رووه: أن عليا عليه السلام أقام مناديا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ينادي: من كان له على النبي صلى الله عليه وآله دين أو عدة فليحضر، فحضر جماعة، فأعطاهم بغير بينة، وأن أبا بكر أمر مناديا ينادي بمثل ذلك، فحضر جرير بن عبد الله، وجابر بن عبد الله فأعطاهما بغير بينة.

فقال المأمون: أما كانت فاطمة عليها السلام وشهودها يجرون مجرى جرير وجابر؟ (1).

(596)
علي بن ميثم وملحد

دخل أبو الحسن علي بن ميثم - رحمه الله - على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه الناس حوله، فقال له: لقد رأيت عجبا، قال: وما هو قال:

رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب بلا ملاح ولا ماصر.

فقال له صاحبه الملحد: إن هذا أصلحك الله لمجنون، قال: فقلت:

____________

(1) بهج الصباغة: ج 5 / 36 - 38

الصفحة 408
وكيف؟ قال: لأنه يذكر عن خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل: إنه يعبر بالناس ويفعل فعل الإنسان، كيف يصح هذا؟

فقال له أبو الحسن: فأيما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوة، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض والمطر الذي ينزل من السماء؟ كيف يصح ما تزعمه من أنه لا مدبر له كله، وأنت تنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر، وتعبر بالناس بلا ملاح.

قال: فبهت الملحد (1).

(597)
عمار وعثمان

أخرج البلاذري في الأنساب ج 5 / 48 بالإسناد من طريق أبي مخنف قال:

كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه، فخطب فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام، فقال له علي: إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه، وقال عمار بن ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك، فقال عثمان: أعلي يا ابن المتكاء تجترئ؟ خذوه، فأخذ، ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج فحمل حتى أوتي به منزل أم سلمة - زوج رسول الله صلى الله عليه وآله - فلم يصل الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله (2)...

* * *

____________

(1) روضة المؤمنين: ص 8، عن الكراجكي في الكنز.

(2) الغدير: ج 9 / 15، وراجع أيضا بهج الصباغة: ج 4 / 653

الصفحة 409

(598)
عمار وعثمان

قال البلاذري في الأنساب ج 5 / 54: وقد روي أيضا أنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه الله، فقال عمار بن ياسر: نعم فرحمه الله من كل أنفسنا، فقال عثمان: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره، وأمر فدفع في قفاه وقال: إلحق بمكانه، فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن يكلم عثمان فيه، فقال له علي: يا عثمان، إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره، وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان: أنت أحق بالنفي منه، فقال علي: رم ذلك إن شئت، واجتمع المهاجرون فقالوا: إن كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فإن هذا شئ لا يسوق، فكف عن عمار (1).

(599)
أبو الأسود وزياد

كان علي استعمل أبا الأسود على البصرة، وزيادا على الديوان والخراج فبلغ أن زيادا يطعن عليه عند علي فقال (من الطويل):

رأيت زيادا ينتميني بشره * وأعرض عنه وهو باد مقاتله
وكل امرئ والله بالناس عالم * له عادة قامت عليه شمائله
تعودها فيما مضى من شبابه * كذلك يدعو كل أمر أوائله
ويعجبه صفحي له وتحملي * وذو الجهل يجزي الفحش من لا يعادله (2)

____________

(1) الغدير: ج 9 / 19 وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 653.

(2) نور القبس: ص 8

الصفحة 410

(600)
أبو الأسود ومعاوية

أرسل معاوية إلى زياد رسولا فهما في أمر أراده، فقال: سترى عنده أبا الأسود الدؤلي شيخا عليه عمامة سوداء يجلس عن يمينه، لا يتقدمه عنده أحد في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني عن قولك (من الوافر):

يقول الأرذلون بني قشير (1) * طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا
أحبهم لحب الله حتى * أجئ إذا بعثت على هويا
هوى أعطيته منذ استدارت * رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسين * ولا حسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه * أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا رشدنا * ولست بمخطئ إن كان غيا
أشككت في حبهم أرشد هو أم غي؟

فلما حضر عند زياد، قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ما كنت أحب ألا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم إنه رشد، فإن الله عز وجل قال: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " أفيرى الله عز وجل شك في ضلالتهم؟ ولكنه حققه بهذا عليهم (2).

(601)
أبو الأسود وبنو قشير

لما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس

____________

(1) " بنو قشير " صححناه من قاموس الرجال: ج 5 / 173.

(2) نور القبس: ص 9

الصفحة 411
بني قشير فقال: يا بني قشير على ماذا اجتمع في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لا يجمعكم على هدى، وأنشد عمر في هذا المعنى (من الطويل):

إذا اشتبه الأمران يوما وأشكلا * علي ولم أعرف صوابا ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمدا * فقلت له ما تستحب من الأمر
فإن قال قولا قلت شيئا خلافه * لأن خلاف الحق قول أبي بكر (1).

(602)
أبو الأسود ومعاوية

قال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟

قال حبي يزداد له شدة، كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله، إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل.

فقال له زياد: إنك شيخ قد خرفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني.

فقال أبو الأسود (من الكامل):

غضب الأمير بأن صدقت وربما * غضب الأمير على البرئ المسلم (2)

(603)
أبو الأسود ومعاوية

دخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلا يا أبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين، فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به (من البسيط):

أفنى الشباب الذي فارقت بهجته * كر الجديدين من آت ومنطلق

____________

(1) نور القبس: ص 10.

(2) المصدر نفسه

الصفحة 412

لم يتركا لي في طول اختلافهما * شيئا أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها * في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فارقني * ما كنت التذ من عيش ومن خلق (1)

(604)
أبو الأسود وزياد

قال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا، فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان، وأنشأ يقول (من الكامل):

زعم الأمير بأن كبرت وإنما * نال المكارم من يدب على العصا
أأبالمغيرة رب أمر مبهم * فرجته بالمكر مني والدها (2)

(605)
ابن عباس وابن الزبير

عن الخليل أنه قال: كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية وقال: ما تريد من رجل كف لسانه ويده عنك؟ اتق الله، فإنك قادم على ربك، فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل، ليس له بذم ولا دين، فقال ابن عباس: رماه الله بداء لا شفاء له إن كان شرا منك في الدين والدنيا، فغضب ابن الزبير، وقال: أنت أيضا تتكلم عندي؟!

فقام ابن عباس، وندم ابن الزبير على ما قال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى الطائف، وقال: العجب من حنيكل يتعجب من كلامي عنده، وقد تكلمت غلاما عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وعند أبي بكر وعمر وعثمان

____________

(1) نور القبس: ص 10، والعقد الفريد: ج 3 / 49.

(2) نور القبس: ص 11

الصفحة 413
وعلي - رضي الله عنهم - يرونني أحق من نطق، يستمع قولي، وتقبل مشورتي، ليحك حنيكل جربه، ولا ينقاص علي انقياص الكثيب، أظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب؟! والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إلي من ابن الزبير والله، إنه لأوفر منه عقلا، وأوفى منه عهدا، وأكمل منه رأيا، وأفضل دينا وأصدق ورعا (1).

(606)
الشيعة مع معاوية

كتب معاوية إلى عثمان - بعد ما جرى بين الأشتر وأصحابه وبينه وقد مر سابقا (1) -: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان - أمير المؤمنين - من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم، فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم، والسلام.

فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن

____________

(1) نور القبس: ص 68 وقد مر عن الفتوح راجع: ص 285.

(2) وهم: مالك بن الحارث وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وعائد بن حملة الطهوي - من بني تميم - وكميل بن زياد النخعي وجندب بن زهير الأزدي والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ويزيد بن المكفف النخعي وثابت بن قيس بن المنقع النخعي وأصعر بن قيس بن الحارث الحارثي

الصفحة 414
الوليد وكان أميرا على حمص، وهم الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد النخعي وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وحبيب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي.

وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه: أما بعد فإني قد سيرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها، فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرا، والسلام.

فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: اللهم أسوءنا نظرا للرعية، وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة، فكتب بذلك سعيد إلى عثمان، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص، فأنزلهم عبد الرحمان بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقا.

وروى الواقدي: إن عبد الرحمان بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أياما وفرض لهم طعاما، ثم قال لهم: يا بني الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع الشيطان محسورا و أنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم، جزى الله عبد الرحمان إن لم يؤذكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية؟ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ عين الردة، والله يا ابن صوحان، لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك.

قال: فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه ويقول لصعصعة: يا ابن الخطية، إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زال ذاك دأبه ودأبهم حتى قال: تاب الله عليكم. فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم و يسأله فيهم، فردهم إلى الكوفة (1).

____________

(1) الغدير: ج 9 / 36 - 37، عن الطبري: ج 5 / 88 - 90، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 57 - 60 وشرح ابن أبي الحديد: ج 1 / 158 - 160، وتاريخ ابن خلدون: ج 2 / 387 - 389، و تاريخ أبي الفداء: ج 1 / 168

الصفحة 415

(607)
عامر بن عبد قيس التميمي مع عثمان

أخرج الطبري من طريق العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري أنه قال:

اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس، فأتاه فدخل عليه، فقال له:

إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها.

قال له عثمان: إنظر إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجئ فيكلمني في المحقرات، فوالله ما يدري أين الله.

قال عامر: أنا لا أدري أين الله؟

قال: نعم، والله ما تدري أين الله.

قال عامر: بلى والله إني لأدري إن الله بالمرصاد لك... (1)

(608)
عامر بن عبد قيس ومعاوية

روى ابن المبارك في الزهد من طريق بلال بن سعد: أن عامر بن عبد قيس وشي به إلى عثمان، فأمر أن ينفى إلى الشام على قتب، فأنزله معاوية الخضراء، وبعث إليه بجارية وأمرها أن تعلمه ما حاله، فكان يقوم الليل كله ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا، كان يجئ

____________

(1) الغدير: ج 9 / 52، عن أنساب البلاذري: ج 5 / 43، وتاريخ الطبري: ج 5 / 94، والكامل لابن الأثير:

ج 3 / 62، وتاريخ ابن خلدون: ج 2 / 390

الصفحة 416
معه بكسر فيجعلها في ماء فيأكلها ويشرب من ذلك الماء.

فكتب معاوية إلى عثمان بحاله، فأمره أن يصله ويدنيه، فقال: لا إرب لي في ذلك (1).

(609)
عبد الرحمان بن حنبل مع عثمان

قال اليعقوبي: سير عبد الرحمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى القموص من خيبر، وكان سبب تسييره أنه بلغه كرهه مساوي ابنه وخاله وأنه هجاه.

وقال العلائي عن مصعب وأبي عمر في الاستيعاب: إنه لما أعطى عثمان مروان خمسمائة ألف من خمس أفريقية قال عبد الرحمن:

وأحلف بالله جهد اليمين * ما ترك الله أمرا سدى
ولكن جعلت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو تبتلى
دعوت الطريد فأدنيته * خلافا لما سنه المصطفى
ووليت قرباك أمر العباد * خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس الغنيمة * آثرته وحميت الحمى
ومالا أتاك به الأشعري * من الفئ أعطيته من دنا
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * ولا قسما درهما في هوى

فأمر به فحبس بخيبر. وأنشد له المرزباني في معجم الشعراء أنه قال وهو في السجن:

____________

(1) الغدير: ج 9 / 54

الصفحة 417

إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا * أبا حسن غلا شديدا أكابده
بخيبر في قعر الغموص كأنها * جوانب قبر أعمق اللحد لاحده
أإن قلت حقا أو نشدت أمانة * قتلت فمن للحق إن مات ناشده

وكتب إلى علي وعمار من الحبس:

أبلغ عليا وعمارا فإنهما * بمنزل الرشد إن الرشد مبتدر
لا تتركا جاهلا حتى يوقره * دين الإله وإن هاجت به مرر
لم يبق لي منه إلا السيف إذ علقت * حبائل الموت فينا الصادق البرر
يعلم بأني مظلوم إذا ذكرت * وسط الندي حجاج القوم والعذر

فلم يزل علي يكلم عثمان حتى خلى سبيله على أنه لا يساكنه بالمدينة، فسيره إلى خيبر، فأنزله قلعة بها تسمى القموص، فلم يزل بها حتى ناهض المسلمون عثمان وصاروا إليه من كل بلد، فقال عبد الرحمان:

لولا علي فإن الله أنقذني * على يديه من الأغلال والصفد
لما رجوت لدى شد بجامعة * يمنى يدي غياث الفوت من أحد
نفسي فداء علي إذ يخلصني * من كافر بعد ما أغضى على صمد

فكان عبد الرحمن مع علي في صفين (1).

(610)
عبد الله بن حكيم مع طلحة

قال: وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي (يعني طلحة والزبير بعد أن نزلا البصرة) لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمد،

____________

(1) الغدير: ج 9 / 59، عن الطبري: ج 6 / 25، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 / 150، والاستيعاب: ج 2 / 410، وشرح ابن أبي الحديد: ج 1 / 66، والإصابة ج 2 / 395 ويوجد في شرح ابن أبي الحديد طباعة بيروت:

ج 1 / 198

الصفحة 418
أما هذا كتبك إلينا؟ قال: بلى.

قال: فكتبت: أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته، أتيتنا ثائرا بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلا هذه الدنيا. مهلا! إذا كان هذا رأيك، فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا راضيا، ثم نكثت بيعته، ثم جئتنا لتدخلنا في فتنتك؟

فقال: إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه (1).

(611)
عمار ومقداد مع بني أمية وعبد الرحمان بن عوف

ذكر ابن عبد ربه في بيعة عثمان وما جرى في الشورى وما فعل عبد الرحمان بن عوف، فقال: قال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، وإن بايعت عليا قلنا: سمعنا وأطعنا.

قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.

فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية.

فقال عمار: أيها الناس إن الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟

فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!

____________

(1) الغدير: ج 9 / 99 عن ابن أبي الحديد: ج 9 / 318

الصفحة 419
فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمان افرغ قبل أن يفتتن الناس [ فقال عبد الرحمان: إني قد نظرت وشاورت ] فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا - ودعا عليا - فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ثم دعا عثمان فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمن بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته محاباة ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، أما والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن، فقال عبد الرحمان: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.

فقال المقداد: يا عبد الرحمان أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.

فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين.

قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين، ثم قال: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم [ إني لأعجب من قريش إنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه ] ولا أقضى بالعدل ولا أعرف بالحق، أما والله لو أجد أعوانا!!

قال له عبد الرحمان: يا مقداد إتق الله فإني أخشى عليك الفتنة (1).

(612)
عبد الرحمان بن حسان العنزي ومعاوية

لما قتل حجر بن عدي - سلام الله عليه - وخمسة من أصحابه - رضوان الله

____________

(1) العقد الفريد: ج 4 / 279، والغدير: ج 9 / 115 عنه، وقال: أخرج الطبري نحوه: ج 5 / 37 وابن الأثير في الكامل: ج 3 / 29، وابن أبي الحديد في الشرح: ج 1 / 193

الصفحة 420
عليهم - قال عبد الرحمان بن حسان وكريم بن عفيف الخثعمي (وكانا من أصحاب حجر): إبعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إلى معاوية، فأخبروه، فبعث: إئتوني بهما، فالتفتا إلى حجر، فقال له العنزي: لا تبعد يا حجر، ولا يبعد مثواك، فنعم أخو (1) الإسلام كنت، وقال الخثعمي نحو ذلك، ثم مضى بهما، فالتفت العنزي فقال متمثلا:

كفى بشفاة القبر بعدا لهالك * وبالموت قطاعا لحبل القرائن

فلما دخل عليه الخثعمي قال له: الله الله يا معاوية، إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عم أردت بقتلنا وفيم سفكت دماءنا، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك: أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به؟

وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه، فقال: هو لك غير أني حابسه شهرا فحبسه، ثم أطلقه على أن لا يدخل الكوفة ما دام له سلطان، فنزل الموصل فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر.

وأقبل على عبد الرحمان بن حسان، فقال له: يا أخا ربيعة، ما تقول في علي؟ قال: أشهد أنه من الذاكرين الله كثيرا، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والعافين عن الناس.

قال: فما تقول في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وارتج أبواب الحق.

قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت لا ربيعة بالوادي (يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه).

فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه: إن هذا شر من بعثت به فعاقبه

____________

(1) هكذا في المصدر والصحيح " أخا "

الصفحة 421
بالعقوبة التي هو أهلها، واقتله شر قتلة، فلما قدم به على زياد بعث به إلى قيس الناطف فدفنه حيا (1).

(613)
أبو الطفيل ومعاوية

قدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية، فأخبر معاوية بقدومه، فأرسل إليه، فأتاه وهو شيخ كبير، فلما دخل عليه، قال له معاوية:

أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم.

قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن شهد فلم ينصره.

قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار.

فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقا واجبا وفرضا لازما، فإذ ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم إلى ما رأيتم.

فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين، إذ تربصت به ريب المنون، أن تنصره ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه [ نصرة له ].

فضحك أبو الطفيل وقال: بلى ولكني وإياك، كما قال عبيد بن الأبرص:

لا أعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي

فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم فلما جلسوا نظر إليهم معاوية، ثم قال: أتعرفون هذا الشيخ؟ قالوا: لا، فقال معاوية:

هذا خليل علي بن أبي طالب، وفارس صفين، وشاعر أهل العراق، هذا أبو الطفيل، قال سعيد بن العاص: قد عرفناه يا أمير المؤمنين، فما يمنعك منه؟

____________

(1) الغدير: ج 9 / 120، عن الأغاني: ج 16 / 10، والطبري: ج 6 / 115، وتاريخ ابن عساكر: ج 2 / 379، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 209

الصفحة 422
وشتمه القوم، فزجرهم معاوية، وقال: مهلا فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به درعا، ثم قال: أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال: ما أنكرهم من سوء، ولا أعرفهم بخير، وأنشد شعرا:

فإن تكن العداوة قد أكنت * فشر عداوة المرء السباب

فقال معاوية: يا أبا الطفيل ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ قال: حب أم موسى، وأشكو إلى الله التقصير.

فضحك معاوية وقال: ولكن والله هؤلاء الذين حولك لو سئلوا عني ما قالوا هذا، فقال مروان: أجل والله، لا نقول الباطل (1).

____________

(1) راجع الإمامة والسياسة: ج 1 / 165، والغدير: ج 9 / 139 عنه، وعن المروج، وتاريخ ابن عساكر:

ج 7 / 201، والاستيعاب في الكنى، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 133 أقول: قد مر ج 1 ص 248 عن العقد والمروج وغيرهما، وتوجد في صفين لنصر: ص 554 على اختلاف ألفاظ الروايات وزاد نصر في آخرها: ثم قال معاوية: هو الذي يقول - يعني أبا لطفيل -: (إلى رجب السبعين تعرفونني مع السيف في خيل وأحمي عديدها) وقال معاوية: يا أبا الطفيل، أجزها، فقال أبو الطفيل:

زحوف كركن الطود كل كتيبة * إذا استمكنت منها يفل شديدها
كأن شعاع الشمس تحت لوائها * بها ينصر الرحمان ممن يكيدها
لها سرعان من رجال كأنها * دواهي السباع نمرها وأسودها
يمورون مور الموج ثم ادعاؤهم * إلى ذات أنداد كثير عديدها
إذا نهضت مدت جناحين منهم * على الخيل فرسان قليل صدودها
كهول وشبان يرون دماءكم * طهورا وثارات لها تستقيدها
كأني أراكم حين تختلف القنا * وزالت بأكفال الرجال لبودها
ونحن نكر الخيل كرا عليكم * كخطف عتاق الطير طيرا تصيدها
إذا نعيت موتى عليكم كثيرة * وعيت أمور غاب عنكم رشيدها
هنالك النفس تابعة الهدى * ونار إذا ولت وأز شديدها
فلا تجزعوا إن أعقب الدهر دولة * وأصبح منآكم قريبا بعيدها

فقالوا: نعم، قد عرفناه، هذا أفحش شاعر، وألام جليس، فقال معاوية: يا أبا الطفيل، أتعرف هؤلاء؟ قال: ما أعرفهم بخير ولا أبعدهم من شر. فأجابه أيمن بن خريم الأسدي:

=>