فساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق وهم اثنا عشر رجلا:
حجر بن عدي، والأرقم بن عبد الله، وشريك بن عبد الله، وقبيصة بن ضبيعة، وكريم بن عفيف، وعاصم بن عوف، وورقاء بن سمي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمان بن حسان، ومحرز بن شهاب، وعبد الله بن حوية.
فحبسوا بمرج عذراء، فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما وأخذ كتابهما فقرأه على أهل الشام، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد ابن أبي سفيان أما بعد، فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء، فأداله من عدوه، وكفاه مؤونة من بغى عليه، إن طواغيت الترابية الصبائية رأسهم حجر بن عدي خالفوا أمير المؤمنين، وفارقوا جماعة المسلمين، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا الله عليهم وأمكننا منهم، وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا، وقد بعثت بهم إلى أمير المؤمنين، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا.
فلما قرأ معاوية الكتاب وشهادة الشهود عليهم قال: ماذا ترون في هؤلاء النفر الذين شهد عليهم قومهم بما تسمعون؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي: أرى أن تفرقهم في قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها، وكتب معاوية إلى زياد أما بعد، فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه وشهادة من قبلك عليهم،
فكتب إليه زياد مع يزيد بن حجية التميمي: أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجرا وأصحابه إلي.
فأقبل يزيد بن حجية حتى مر بهم بعذراء فقال: يا هؤلاء، أما والله ما أرى برأتكم، ولقد جئت بكتاب فيه الذبح فمروني بما أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل به لكم وأنطق به.
فقال حجر: أبلغ معاوية: أنا على بيعتنا لا نستقيلها ولا نقيلها، وإنما شهد علينا الأعداء والأظناء.
فقدم يزيد بالكتاب إلى معاوية وأخبره بقول حجر، فقال معاوية: زياد أصدق عندنا من حجر. فقال عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، ويقال: عثمان بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها. فقال له معاوية: لا تعن أبرا. فخرج أهل الشام ولا يدرون ما قال معاوية وعبد الرحمان، فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له مقالة ابن أم الحكم، فقال النعمان: قتل القوم.
أقبل عامر بن الأسود العجلي وهو بعذراء يريد معاوية ليعلمه بالرجلين اللذين بعث بهما زياد، ولحقا بحجر و أصحابه، فلما ولى ليمضي، قام إليه حجر ابن عدي يرسف في القيود فقال: يا عامر، اسمع مني، أبلغ معاوية: إن دماءنا عليه حرام. وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه فليتق الله ولينظر في أمرنا. فقال له نحوا من هذا الكلام، فأعاد عليه حجر مرارا.
فدخل عامر على معاوية فأخبره بأمر الرجلين، فقام يزيد بن أسد البجلي فاستوهب الرجلين، وكان جرير بن عبد الله كتب في أمر الرجلين: أنهما من
وطلب وائل بن حجر في الأرقم الكندي فتركه.
وطلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له.
وطلب حمزة بن مالك الهمداني في سعيد بن نمران فوهبه له.
وطلب حبيب بن مسلمة في عبد الله بن حوية التميمي فخلى سبيله.
فقام مالك بن هبيرة فسأله في حجر فلم يشفعه، فغضب وجلس في بيته، فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي من بني سلامان بن سعد، والتحصين ابن عبد الله الكلابي، وأبا شريف البدي - في الأغاني: أبا حريف البدري - فأتوهم عند المساء، فقال الخثعمي حين رأى الأعور مقبلا: يقتل نصفنا وينجو نصفنا. فقال سعيد بن نمران: اللهم اجلعني ممن ينجو وأنت عني راض. فقال عبد الرحمان بن حسان العنزي: اللهم اجعلني ممن تكرم بهوانهم، وأنت عني راض، فطالما عرضت نفسي للقتل، فأبى الله إلا ما أراد.
فجاء رسول معاوية إليهم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فقال لهم رسل معاوية: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم هذا تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت له بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك، فابرأوا من هذا الرجل نخل سبيلكم.
قالوا: لسنا فاعلين، فأمروا بقيودهم فحلت، وبقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، فقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم في عثمان؟ قالوا: هو أول من جار في الحكم، وعمل بغير الحق. فقال أصحاب
قال لهم حجر: دعوني أصلي ركعتين، فأيم الله ما توضأت قط إلا صليت ركعتين. فقالوا له: صل، فصلى، ثم انصرف، فقال: والله ما صليت صلاة قط أقصر منها، ولولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا. وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها، إني لأول فارس من المسلمين سلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها. فمشى إليه هدبة الأعور بالسيف فأرعدت فصائله، فقال: كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فأنا أدعك فابرأ من صاحبك. فقال: ما لي لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا؟ وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب، فقيل له: مد عنقك. فقال: إن ذلك لدم ما كنت لأعين عليه. فقدم فضربت عنقه، وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة.
قال عبد الرحمان بن حسان العنزي، وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إلى معاوية فأخبروه، فبعث: ائتوني بهما، فالتفتا إلى حجر فقال له العنزي: لا تبعد يا حجر، ولا يبعد مثواك، فنعم أخو الإسلام كنت. وقال الخثعمي نحو ذلك، ثم مضى بهما فالتفت العنزي، فقال متمثلا:
فلما دخل عليه الخثعمي قال له: الله الله يا معاوية، إنك منقول من هذه
ثم أقبل على عبد الرحمان بن حسان فقال له: إيه يا أخا ربيعة ما قولك في علي؟ قال: دعني ولا تسألني فإنه خير لك. قال: والله لا أدعك حتى تخبرني عنه، قال: أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر (1) والعافين عن الناس. قال: فما قولك في عثمان؟ قال:
هو أول من فتح باب الظلم وارتج أبواب الحق. قال: قتلت نفسك، قال: بل إياك قتلت لا ربيعة بالوادي - يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه - فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه: أما بعد، فإن هذا العنزي شر من بعثت به فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها، واقتله شر قتلة، فلما قدم به على زياد بعث به إلى قس الناطف (2) فدفن به حيا (3).
(650)
صعصعة ومعاوية
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إنما أنت هاتف بلسانك لا تنظر في أود
____________
(1) في الأغاني: من الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط.
(2) موضع قرب الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي.
(3) الغدير: ج 11 / 37 - 53، عن الأغاني: ج 16 / 2 - 11، وتاريخ الطبري: ج 6 / 141، ومستدرك الحاكم: ج 3 / 468، وتاريخ ابن عساكر: ج 4 / 84 و ج 6 / 459، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 202 وتاريخ ابن كثير: ج 8 / 49، واختصرنا نحن المواضع منه (.)
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأدع الكلام حتى يختمر في صدري فما أرهف به، ولا أتلهق فيه، حتى أقيم أوده، واحرر متنه، وإن أفضل المال لبرة سمراء في تربة غبراء، أو نعجة صفراء في روضة خضراء، أو عين خرارة في أرض خوارة.
قال معاوية: لله أنت، فأين الذهب والفضة؟
قال: حجران يصطكان، إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا (1).
(651)
جامع المحاربي والحجاج
العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخا صالحا خطيبا لبيبا جريئا على السلطان، وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط:
بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك - فجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم، فقال له جامع: أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
قال الحجاج: ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف، قال: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار.
قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله، فغضب وقال: يا هناة إنك من محارب.
فقال جامع:
____________
(1) العقد الفريد: ج 3 / 32
فقال الحجاج: والله، لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك، قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله.
قال: أجل وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق... (1).
(652)
قيس بن عباد وعبيد الله بن زياد
قال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد: ما تقول في وفي الحسين؟ قال:
اعفني عافاك الله.
قال: لا بد أن تقول. قال: يجئ أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجئ أبوك فيشفع لك.
قال: قد علمت غشك وخبثك، لئن فارقتني يوما لأضعن أكثرك شعرا بالأرض (2).
(653)
شريك والمهدي
كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع يحمل عليه المهدي، فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكا القاضي مصروفا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه، فقال:
يا أمير المؤمنين إن شريكا مخالف لك، وأنه فاطمي محض. قال المهدي: علي
____________
(1) العقد الفريد: ج 3 / 179 - 180.
(2) العقد الفريد: ج 3 / 175
قال له شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى. قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.
قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ الله.
قال: فما تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله.
قال: فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله. قال الربيع: لا والله يا أمير المؤمنين، ما ألعنها. قال له شريك: يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال؟
قال المهدي: دعني من هذا، فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي، وما ذلك إلا بخلافك علي، ورأيت في منامي كأني أقتل زنديقا.
قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق - صلوات الله على محمد وعليه - وأن الدماء لا تستحل بالأحلام، وأن علامة الزندقة بينة. قال: وما هي؟ قال: شرب الخمر، والرشا في الحكم، ومهر البغي.
قال: صدقت والله أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك (1).
(654)
مسلم بن الوليد وهارون الرشيد
كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، وكان مسلم بن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده - يعني هارون - بالتشيع، فأمر بطلبه فهرب منه، ثم
____________
(1) العقد الفريد: ج 2 / 178 - 179
قال: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
قال: فعجب هارون من سرعة بديهته، وقال بعض جلسائه: استبقه يا أمير المؤمنين، فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجبا... (1).
(655)
الكميت الأسدي وهشام
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم، ويعرض ببني أمية، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كل يوم يقضيها له ولا يرده فيها، فلما خرج مسلمة بن عبد الملك يوما إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال:
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
حتى انتهى إلى قوله:
____________
(1) العقد الفريد: ج 2 / 180 - 181، وقاموس الرجال: ج 9 / 487. ونقل القاموس عن الخطيب في تاريخ بغداد أن الرشد هو الذي سماه صريع الغواني
فقال مسلمة: سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب (1)، الذي أقبل من أخريات الناس، فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت ابن زيد، فأعجب به لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه.
فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله قال هشام: نعم الحمد لله يا هذا.
قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، والذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا، وأشهد له بما شهد به لنفسه، قائما بالقسط وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده العربي ورسوله الأمي، أرسله والناس في هبوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وآله.
ثم إني يا أمير المؤمنين، تهت في حيرة، وحرت في سكرة إدلام بي خطرها، وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت إلى الضلالة، وتسكعت في
____________
(1) الهنادك بالكاف في آخره رجال الهند يقال: رجل هندي وهندكي. الجلحاب بالكسر الجلحابة بهاء:
هو الشيخ الكبير (راجع تاج العروس وأقرب الموارد). في " هند " و " جلب "
فقال له هشام - وأيقن أنه الكميت -: ويحك من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية؟
قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما، وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابا متفرقا، فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه، فنزل الأرض فرويت وأخضلت واخضرت واسقيت، فروي ظمآنها، وامتلأ عطشانها، فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد الغموس فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا احمرت الحدق، وعضت المغافر بالهام، عز بأسك، واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف، بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب وحلم مصيب، فأطال لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء.
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة (1).
(656)
الفرزدق وسليمان بن عبد الملك
دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهم له كأنه لا يعرفه.
فقال له الفرزدق: وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا.
____________
(1) العقد الفريد: ج 3 / 183 - 185
قال: والله لتبينن ما قلت، أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك.
قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب: فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها، وأما أسود العرب: فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر.
وأما أحلم العرب: فعتاب بن ورقاء الرياحي، وأما أفرس العرب: فالحريش ابن هلال السعدي، وأما أشعر العرب فأنا ذا بين يديك يا أمير المؤمنين.
فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك فما لك عندنا شئ من خير، فرجع الفرزدق وقال:
(657)
عبد الله بن عباس ومعاوية
كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شئ ونصف شئ ولا شئ، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شئ.
فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال [ ابن عباس ]: أما ما لا قبلة له: فالكعبة، وأما من لا أب له: فعيسى، وأما من لا عشيرة له، فآدم، وأما من سار به قبره: فيونس، وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم: فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وحية موسى، وأما شئ: فالرجل له عقل يعمل بعقله، وأما نصف شئ: فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول، وأما
____________
(1) العقد الفريد: ج 3 / 193
فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر، فلما وصل إليه الكتاب والقارورة، قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة (1).
(658)
عبد الله بن الحسن وعبد الملك
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة، لأغزينك جنودا مائة ألف ومائة ألف.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج: أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول، ففعل.
فقال [ عبد الله بن الحسن ]: إن لله (2) عز وجل لوحا محفوظا يلحظه كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي [ فيها ] ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفنيك منها بلحظة واحدة.
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة (3).
(659)
المأمون مع الثنوي
قال المأمون للثنوي الذي تكلم عنده: أسألك عن حرفين لا أزيد عليهما هل ندم مسئ قط على إساءته؟ قال: بلى. قال: فالندم على الاساءة إساءة أم إحسان؟ قال: بل إحسان. قال: فالذي ندم هو الذي أساء أم غيره؟ قال: بل
____________
(1) العقد الفريد: ج 2 / 201 - 202.
(2) في الأصل: " الله " والصحيح ما أثبتناه.
(3) العقد الفريد: ج 2 / 203
إن الذي ندم غير الذي أساء. قال: فندم على شئ كان منه أم على شئ كان من غيره؟ فسكت (1).
(660)
المأمون مع الثنوي أيضا
قال له أيضا: أخبرني عن قولك باثنين، هل يستطيع أحدهما أن يخلق خلقا لا يستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم. قال: فما تصنع باثنين؟ واحد يخلق كل شئ خير لك وأصح (2).
(661)
المأمون والمرتد الخراساني
قال المأمون للمرتد الخراساني الذي أسلم على يديه وحمله معه إلى العراق فارتد عن الإسلام: أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسا من ديننا؟
فوالله لئن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلما بعد أن كنت كافرا، ثم عدت كافرا بعد أن صرت مسلما، وإن وجدت عندنا دواء لدائك تداويت به، وإن أخطأت الشفاء وتباعد عنك كنت قد أبليت العذر في نفسك ولم تقصر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين، ولم تفرط في الدخول من باب الحزم.
قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم.
قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما: كاختلافنا في الأذان، وتكبير
____________
(1) العقد الفريد: ج 2 / 384.
(2) المصدر نفسه
والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن نبينا مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان إنما أوحشك هذا، فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والانجيل متفقا على تأويله، كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين اليهود والنصارى اختلاف في شئ من التأويلات، ولو شاء الله أن ينزل كتبه مفسرة ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل، و لكنا لم نجد شيئا من أمور الدين والدنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتحصيل والنظر، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحن، وذهب التفاضل والتباين، ولما عرف الحازم من العاجز ولا الجاهل من العالم، وليس على هذا بنيت الدنيا.
قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد الله، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين [ حقا ] (1).
(662)
هشام مع المؤبذ
دخل المؤبذ على هشام بن الحكم، والمؤبذ هو عالم الفرس، فقال له: يا هشام حول الدنيا شئ؟ قال: لا، قال: فإن أخرجت يدي فثم شئ يردها؟
قال هشام: ليس ثم شئ يردها، ولا شئ تخرج يدك فيه. قال: فكيف أعلم
____________