فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك: إن الامام عليه السلام يعلم السرائر، وأنه مما لا يخفى عليه الضمائر، فتكون قد أخذت رهني أنه يعلم مني ما أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي وكنت أقول أنه يعلم الظواهر كما يعلم البشر، وإن علم باطنا فبإعلام الله عزوجل له خاصة على لسان نبيه عليه السلام بما أودعه آباؤه عليهم االسلام من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبدا، أو لسبب أذكره غير هذا فقد سقط سؤالك من أصله، لان الامام إذا فقد علم ذلك من جهة الله عزوجل أجاز على ما يجيزه على غيري ممن ذكرت، فأوجبت الحكمة تقية مني، وإنما تقيته مني على الشرط الذي ذكرت آنفا ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل: إن الله عزوجل قد أطلع الامام على باطني، وعرفه حقيقة حالي قطعا، فتفرع الكلام عليه على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي، وتعرفه إلي وجه واضح غير التقية.
وهو أنه عليه السلام قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفته لا يزول عن معرفته، ولا يرجع عن اعتقاد إمامته، ولا يرتاب في أمره مادام غائبا، وعلم أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم الثواب وعلو المنزلة كتاب الاعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم عليه السلام ذلك من حالنا وجب عليه الاستتار عنا، لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حال الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت، مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه، ويوجب ذلك، وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة
هذا لعمري جواب يستمر على الاصول التي ذكرتها، والحق أولى ما استعمل.
فقلت له: انا اجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته، لانظر كلامك عليه. فقال: هات ذلك، فإني احب أن أستوفي ما في هذه المسألة.
فقلت له: إن قلت: إن الامام في تقية مني، وفي تقية ممن خالفني، ما يكون كلامك عليه؟
قال: أفتطلق أنه في تقية منك، كما هو في تقية ممن خالفك؟ قلت: لا.
قال: فما الفرق بين القولين؟
قلت: الفرق بينهما، أنني إذا قلت: إنه في تقية مني، كما هو في تقية ممن خالفني أوهمت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه، وأن الذي يحذره مني هو الذي يحذره منه، أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني، ارتفع هذا الابهام.
قال: فمن أي وجه اتقى منك؟ ومن أي وجه اتقى من عدوه؟ فصل لي الامرين، حتى أعرفهما.
فقلت له: تقيته من عدوه هي: لاجل خوفه من ظلمه له، وقصده الاضرار به، وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني: لاجل خوفه من إذا عتي على سبيل السهو، أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه
فقال: ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لانه ليس يثق بك، كما لا يثق بعدوه.
فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته، وهذا سؤال بين قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك فأقول لك: أليس قد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه، واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه منهم؟ قال: بلى.
قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه، كما عرف ذلك أبو بكر لكونه معه؟ قال: لا أدري.
قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف جميع أصحابه والمؤمنين به؟ قال: لا.
قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه، وبين أعدائه الذين هرب منهم، وهلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره، ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه، وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية، وإلا فما الفصل بين الامرين؟ فلم يأت بشئ أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينهما ألزم، ولم يأت به على وجهه وعلم من نفسه العجز عن ذلك.
قال الشريف أبو القاسم بن الحسين الموسوي: واستزدت الشيخ - أدام الله عزه - على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الامام عليه السلام عن أوليائه، انما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منهم على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته.
فقلت: فكيف يكون حال هؤلاء الاولياء عند ظهوره عليه السلام؟ أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم؟
قال الشيخ - أيده الله -: ووجه آخر وهو أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الامام عليه السلام أنهم يؤمنون عند ظهوره، ويعترفون بالحق عند مشاهدته، ويسلمون له الامر، وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم، وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم، فوجب في حكمته تعالى إظهاره، لعموم الصلاح، ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الاصلح أن يخص الله تعالى بالصلاح، ولايجوز أيضا أن يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه، إذ كان في فعل ذلك اللطف رفع لطفه لجماعة في ترك القبح، والانصراف عن الكفر به سبحانه، والاستخفاف بحقوق أوليائه عليهم السلام، لان الاصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك، وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة، إذ كان الاقتطاع بالالطاف عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب، لانه ليس يجب على الله تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه من النفع، وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من أضعاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح، ومتى فعل حال بين غيره وبين منافعه، ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح، وإذا كان الامر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه
(741)
المفيد وابن لؤلؤ
قال الشيخ - أدام الله عزه -: حضرت دار بعض قواد الدولة، وكان بالحضرة شيخ من الاسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ فسألني: ما الدليل على إباحة المتعة؟
فقلت له: الدليل على ذلك قول الله جل جلاله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) فأحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها، وبذكر أوصافه من الاجر عليها والتراضي بعد الفرض له من الازدياد في الاجل وزيادة الاجر فيها.
فقال: ما أنكرت أن تكون هذه الاية منسوخة بقوله: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون).
فحظر الله تعالى النكاح، إلا لزوجة أو ملك يمين، وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا ملك يمين فقد سقط من أحلها.
فقلت له: قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين: أحدهما: أنك ادعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة، ومخالفك يدفعك عن ذلك ويثبتها زوجة في الحقيقة، والثاني: أن سورة المؤمنين مكية، وسورة النساء مدنية، والمكي متقدم للمدني، فكيف يكون ناسخا له، وهو متأخر عنه؟ وهذه غفلة شديدة.
فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق وفي إجماع
____________
(1) الفصول المختارة: ص 76 - 83.
فقلت له: وهذا أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث، ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط، وانما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن الامة إذا كانت زوجة لم ترث ولم تورث، والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والامة المبيعة تبين بغير طلاق، والملاعنة تبين أيضا بغير طلاق، وكذلك الختلعة والمرتدة، والمرتد عنها زوجها، والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الام، والزوجة تبين بغير طلاق، وكل ما عددناه زوجات في الحقيقة، فبطل ما توهمت، فلم يأت بشئ.
فقال صاحب الدار وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه، وإنما يعرف الظواهر: أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة خبرني هل تزوج رسول الله - صلى الله عليه وآله - متعة أو تزوج أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقلت له: لم يأت بذلك خبر ولا علمته.
فقال لي: لو كان في المتعة خير ما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
فقلت له: أيها القائل ليس كل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله كان محرما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله والائمة عليهم السلام كافة لم يتزوجوا بالاماء، ولانكحوا الكتابيات، ولا خالعوا، ولا تزوجوا بالزنج، ولا نكحوا السند، ولا اتجروا إلى الامصار، ولا جلسوا باعة للتجار، وليس ذلك كله محرما ولا منه شئ محظور، إلا ما اختصت الشيعة به دون مخالفيها من القول في نكاح الكتابيات.
فقال: فدع هذا، خبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج، فدخل إلى مدينة السلام فاستمتع فيها بامرأة، ثم انقضى أجلها، فتركها وخرج إلى الحج، وكانت حاملا منه، ولم يعلم بحالها، فحج ومضى إلى بلده، وعاد بعد عشرين
قلت له: إن أوجب هذا الذي ذكره القائل تحريم المتعة وتقبيحها أوجب تحريم نكاح الميراث، وكل نكاح وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق فيه مثل ما وصف وجعله طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج، فينزل بمدينة السلام، ويحتاج إلى النكاح فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية، فيسألها أن تلتمس له امرأة ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها، فيرغب فيها وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها فيحضر رجلين ممن يصلي معه ويعقد عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة، ويدخل بالمرأة، ويقيم معها إلى وقت رحيل الحاج إلى مكة فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح، فيطلقها بحضرته، ويعطيها عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج فيحج، وينصرف عن مكة على طريق البصرة، ويرجع إلى بلده، وقد كانت المرأة حاملا وهو لا يعلم، فيقيم عشرين سنة، ثم يعود إلى مدينة السلام للحج، فينزل في تلك المحلة بعينها، ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها، فيسأل عن غيرها فتأتيه قرابة لها، أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي ابنة المتوفاة بعينها، فيرغب فيها، ويعقد عليها كما عقد على امها بولي وشاهدين، ثم يدخل بها فيكون قد وطئ ابنته، فيجب على القائل أن يحرم لهذا الذي ذكرناه كل نكاح.
فاعترض الشيخ السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن يوصى إلى جيرانه باعتبار حالها، وهذا يسقط هذه الشناعة.
فقلت له: إن كان هذا عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما أن يوصي المستمتع ثقة من إخوانه في البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب وذلك أنهم مطبقون على تبديعنا في نكاح المتعة، مع أجماعهم على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد كان أذن فيها، وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر كتاب الله عزوجل في تحليلها، وإجماع آل محمد عليهم السلام على اباحتها والاتفاق على أن عمر حرمها في أيامه مع اقراره بأنها كانت حلالا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو كنا على ضلالة فيها لكنا في ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا، وليس فيمن خالفنا إلا من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن وخلاف الاجماع ونقض شرع الاسلام والمنكر في الطباع وعند ذوي المروءات، ولا يرجع ذلك إلى شبهة تسوغ له في قوله، وهم معه يتولى بعضهم بعضا ويعظم بعضهم بعضا، وليس ذلك إلا لاختصاص قولنا بآل محمد عليهم السلام، فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس واحد.
هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على امه عقدة النكاح، وهو يعلم أنها امه، ثم وطئها لسقط عنه الحد، ولحق به الولد! وكذلك قوله في الاخت والبنت وكذلك سائر المحرمات، ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد!
ويقول: لو أن رجلا استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من أصحاب الصناعات، ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه، سقط عنه الحد ولحق به الولد!
ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة، ثم أولجه في قبل امرأة ليست له بمحرم، حتى ينزل لم يكن زانيا، ولا وجب عليه الحد!
ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق، وهو سنة وتحريمه بدعة!
وقال الشافعي: إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فأولدت بنتا، فإنه يحل للفاجر أن يتزوج بهذة الابنة ويطئها ويولدها، لاحرج عليه في ذلك، فأحل نكاح البنات!
وقال: لو أن رجلا اشترى اخته من الرضاعة ووطئها، لما وجب عليه الحد!
وكان يجيز سماع الغناء وأشباهه!
وقال مالك بن أنس: إن وطء النساء في أحشاشهن حلال طلق! وكان يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات والولائم!
وقال داود بن علي الاصفهاني: إن الجمع بين الاختين في ملك اليمين حلال طلق، والجمع بين الام والابنة غير محظور!
فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه، ولم ينكر بعضهم على بعض، مع أن الكتاب والسنة والاجماع تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر المتعة والقرآن شاهد بتحليلها، والسنة والاجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين، ولكنهم من أهل العصبية والعداوة لال الرسول عليهم السلام، فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره، وأظهر البراءة من معتقديه، وسهل عليه أمر المتعة والقول بها.
قال الشيخ - أدام الله عزه -: وقد كنت استدللت بالاية التي قدمت تلاوتها على تحليل المتعة في مجلس كان صاحبه رئيس زمانه، فاعترضني فيها أبو القاسم الداركي فقال: ما أنكرت أن يكون المراد بقوله تعالى: فما استمتعتم به منهن
فقلت له: ان الاستمتاع وإن كان في الاصل هو الالتذاذ، فإنه إذا علق بذكر النكاح، وأطلق بغير تقييد لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة لكونه علما عليها في الشريعة وتعارف أهلها، ألا ترى أنه لو قال قائل: نكحت أمس امرأة متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها أو عقدي عليها للمتعة، أو أن فلانا يستحل نكاح المتعة، لما فهم من قوله إلا النكاح الذي يذهب إليه الشيعة خاصة، وإن كانت المتعة قد تكون بوطء الاماء والحرائر على الدوام، كما أن بوطء في اللغة هو وطئ القدم ومماسة باطنه للشئ على سبيل الاعتماد، ولو قال قائل: وطئت جاريتي ومن وطئ امرأة غيره فهو زان، وفلان يطئ امرأته وهي حائض، لم يعقل من ذلك مطلقا على أصل الشريعة إلا النكاح دون وطء القدم، وكذلك الغائط هو الشئ المحوط، وقيل: هو الشئ المنهبط. ولو قال قائل: هل يجوز أن آتى الغائط ثم لا أتوضأ واصلي؟ أو قال: فلان أتى الغائط ولم يستبرئ، لم يفهم من قوله إلا الحدث الذي يجب منه الوضوء وأشباه ذلك مما قد قرر في الشريعة.
وإذا كان الامر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق لفظ نكاح المتعة لا يقع إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل اللغة هو الالتذاذ كما قدمناه.
فاعترض القاضي أبو محمد بن معروف فقال: هذا الاستدلال يوجب عليك أن لا يكون الله تعالى أحل بهذه الاية غير نكاح المتعة، لانها لا تتضمن سواه، وفي الاجماع على انتظامها تحليل نكاح الدوام دليل على بطلان ما اعتمدته.
فقلت له: ليس يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال، ولا يتضمن
(742)
المفيد والداركي
قال الشيخ - أدام الله عزه: قد كنت حضرت مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم المحمدي وحضره أبو القاسم الداركي، فسأله بعض الشيعة عن الدلالة على تحريم نكاح المتعة عنده. فاستدل بقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) قال: والمتعة باتفاق الشيعة ليست بزوجة ولا بملك يمين فبطل أن تكون حلالا.
فقال له السائل: ما أنكرت أن تكون زوجة، وما حكيته عن الشيعة من إنكار ذلك لا أصل له.
فقال له: لو كانت زوجة لكانت وارثة، لان الاتفاق حاصل على أن كل زوجة فهي وارثة وموروثة إلا ما أخرجه الدليل من الامة والذمية والقاتلة، فنازعه السائل في هذه الدعوى وقال:
____________
(1) الفصول المختارة: ص 119 - 125.
قال: الدليل على أنها ليست بزوجة أن القاصد إلى الاستمتاع بها إذا قال لها: تمتعيني نفسك فأنعمت له حصلت متعة ليس بينها وبينه ميراث، ولا يلحقها الطلاق، وإذا قال لها: زوجيني نفسك، فأنعمت حصلت زوجية يقع بها الطلاق، ويثبت بينها وبينه الميراث، فلو كانت المتعة زوجة ما اختلف حكمها باختلاف الالفاظ، ولا وقع الفرق بين أحكامها بتغاير الكلام، ولوجب أن يقع الاستمتاع في العقد بلفظ التزويج، ويقع التزويج بلفظ الاستمتاع، قال: وهذا باطل بإجماع الشيعة وما هم عليه من الاتفاق، فلم يدر السائل ما يقول له، لعدم فقهه وضعف بصيرته بأصل المذهب.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: فقلت للداركي: لم زعمت أن الاحكام قد تتغير باختلاف ما ذكرت من الكلام، وما أنكرت أن يكون العقد عليها بلفظ الاستمتاع يقوم مقام العقد عليها بلفظ الزوجية، وأن يكون لفظ الزوجية يقوم مقام لفظ الاستمتاع، فهل تجد لما ادعيت في هذين الامرين برهانا أو عليه دليلا أو فيه بيان؟
وبعد كيف استجزت أن تدعي إجماع الشيعة على ما ذكرت ولم يسمع ذلك من أحد منهم، ولا قرأت لهم في كتاب؟ ونحن معك في المجلس نفتي بأنه لافرق بين اللفظين في باب العقد للنكاح سواء كان نكاح دوام أو نكاح الاستمتاع، وإنما الفصل بين النكاحين في اللفظ ومن جهة الكلام: ذكر الاجل في نكاح الاستمتاع، وترك ذكره في نكاح الميراث، فلو قال: تمتعيني نفسك، ولم يذكر الاجل لوقع نكاح الميراث لا ينحل إلا بالطلاق، ولو قال:
تزوجيني إلى أجل كذا، فأنعمت به لوقع نكاح استمتاع، وهذا ما ليس فيه بين
(743)
حنبلي وحنبلي
حدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية (2) من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد وأحد الشهود المعدلين بها، قال: كنت حاضرا عند الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه المعروف بغلام ابن المتى، وكان الفخر اسماعيل بن علي هذا مقدم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف، ويشتغل بشئ في علم المنطق، وكان حلو العبارة، وقد رأيته أنا وحضرت عنده وسمعت كلامه، وتوفي سنة عشر وستمائة.
قال ابن عالية: ونحن عنده نتحدث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به، واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، ويجتمع بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حد الاحصاء.
قال ابن عالية: فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص: ما فعلت؟ ما رأيت؟ هل وصل إليك مالك؟ هل بقي لك منه بقية عند غريمك؟ وذلك يجاوبه، حتى قال له: يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والاقوال الشنيعة وسب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة.
فقال إسماعيل: أي ذنب لهم، والله ما جرأهم على ذلك، ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر. فقال ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟
____________
(1) الفصول المختارة: ص 125 - 126.
(2) في زهر الربيع: (غالية).
قال: يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك، وعلمهم إياه وطرقهم إليه؟ قال:
نعم والله.
قال: يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا وفلانا، وإن كان مبطلا فما لنا نتولاه، ينبغي إما نبرأ منه وإما نبرأ منهما.
قال ابن عالية: فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه، وقال: لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواه هذه المسألة، ودخل دار حرمه وقمنا نحن وانصرفنا (1).
(744)
ام سلمة ومولاها
روى ابن مردويه عن ام سلمة: أنه كان لها مولى لا يصلي صلاة إلا سب عليا عليه السلام، فقالت له: ما حملك على ذلك؟ قال: لانه قتل عثمان وشرك في دمه. فقالت له: لولا أنك مولاي وأنك عندي بمنزلة ولدي ما حدثتك بسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أقبل يوما النبي صلى الله عليه وآله وكان يومي منه، وإنما كان نصيبي من تسعة أيام يوما واحدا، فدخل وهو يتخلخل أصابعه في أصابع علي عليه السلام، واضعا يده عليه فقال: يا ام سلمة اخرجي من البيت وأخليه لنا، فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع الكلام، ولا أدري ما يقولان حتى اثاقلت، وقد انتصف النهار، فأقبلت وقلت: السلام عليك أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: لا، فرجعت وجلست حتى قلت: قد زالت الشمس الان يخرج إلى الصلاة، فيذهب يومي ولم أريوما قط أطول منه.
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 9 / 308، وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 387، وزهر الربيع: ص 247.
(745)
عالم شيعي وجمع من طلاب الجامعة
حكى لي صديقي المفضال العلامة السيد عبد الكريم الموسوي الاردبيلي قال: كنت المدينة الطيبة، فذهبت إلى زيارة جامعة المدينة، فحينما كنت قافلا صادفت في الطريق جمعا من الطلاب قاصدين البلدة - والجامعة واقعة في خارجها - فقلت لهم: أي العلوم يدرس فيها؟ قالوا: كل العلوم إلا المنطق والفلسفة. قلت: لماذا لا يدرس العلمان؟ قالوا: لانهما يخرجان الطالب عن الدين؟ قلت: أي فرقة من المسلمين يشتغلون في الجامعة؟ قالو: كلهم إلا الشيعة. قلت: لماذا؟ قالوا: إنهم إن دخلوا التحقوا بالسنة وتركوا الرفض، ولكنهم لم يدخلوا فعلا. قلت: أسألكم سؤالا؟ قالوا: نعم. قلت: الذي تعتقدون أنتم من عصمته الصحابة وعدالتهم، وأنهم كلهم أبرياء واتقياء، فهل هذه العقيدة حادثة فيكم أم كانت الصحابة أيضا معتقدين بهذه العقيدة فيهم؟
قالوا: بل كان هذا الاعتقاد عندهم أيضا. قلت: فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يحارب معاوية، ومعاوية يحاربه، هذا كان يريد قتل ذاك، وهذا يريد قتله، فهل هذا كان مع اعتقادهما بعدالتهما وتقواهما، أو كل يرى الاخر مستحقا للقتل ومفسدا للدين والدنيا؟ قالوا: كل يرى الاخر مستحقا للقتل، ولكن كان ذلك اجتهادا منهما، ومعاوية كان مخطئا وعلي كان
____________
(1) بهج الصباغة: ج 4 / 126 - 127.
قلت: سؤال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله حين وفاته أي العملين كان أحسن له: الوصية وتعيين الخليفة، أو تركها وإهمال الامة، وإرجاع الناس إلى شعورهم الاجتماعي الثقافي من تعيين رئيس لهم؟
قالوا: الثاني أولى عندنا، لما فيه من الحرية، وإرجاع امور المسلمين إليهم.
قلت: هذا صحيح ولكن يأتي سؤال آخر وهو أن أبا بكر لم ترك الطريقة الحسناء، وعدل عنها فعين عمر بن الخطاب؟
فسكتوا عن الجواب، فقلت لهم: أجيبوا بأن أبا بكر علم أن ترك التعيين سوف يورث الفرقة بين المسلمين، ويولد البغضاء والشحناء، فعمل ذلك حفظا لهم وحياطة للدين.
قالوا: يأتي حينئذ سؤال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله لم لم يتوجه إلى هذه المصلحة الاجتماعية وخطأ في ذلك، وأوقع المسلمين في خلاف شديد؟ قالوا: فنحن إذا نسألك، قلت: نعم.
قالوا: هل كان من الحسن أن يترك النبي صلى الله عليه وآله الوصية وتعيين الخليفة، أو كان من الحسن التعيين والايصاء؟
قلت: هذا السؤال ساقط عندنا، لان تعيين الخليفة والوصي ليس للنبي صلى الله عليه وآله بل هو لله عزوجل، كبعث النبي صلى الله عليه وآله وإرساله، هو يأمر النبي صلى الله عليه وآله بتعيين الامام والوصية به فحسب.
فقالوا: هل عندكم علم من هذه الامور والمطالب الاسلامية؟ قلت: اي نعم، كثير.
قالوا: ولكن نحن محرومون وممنوعون.
(746)
المفيد والسائل
سئل الشيخ - أدام الله عزه - في مجلس الشريف أبي الحسن علي بن أحمد بن اسحاق - أدام الله عزه - فقيل له: خبرنا عن رجل توفي وخلف ابنة وعما، كيف تقسم الفريضة في تركته؟ فقال الشيخ - أدام الله عزه -: إذا لم يترك غير المذكورين، فالمال بأسره للابنة خاصة وليس للعم شئ.
فقال السائل: لم زعمت أن المال للابنة خاصة وما الدليل على ذلك؟
فقال الشيخ - أيده الله -: الدليل على ذلك من كتاب الله عزوجل، ومن سنة نبيه، ومن إجماع آل محمد عليهم السلام. فأما كتاب الله سبحانه فقوله جل جلاله: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) فأوجب الله سبحانه للابنة النصف كملا مع الابوين، وأوجب لها النصف الاخر مع العم بدلالة قوله تعالى: (واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) وذلك أنه إذا كان الاقرب أولى من الابعد كانت الابنة مستحقة للنصف مع العم، كما تستحقه مع الابوين بنص التلاوة، نظرنا في النصف الاخر ومن أولى به أهي أم العم؟ فإذا هي وجدناها أقرب من العم، لانها تتقرب بنفسها والعم يتقرب إلى الميت بجده، والجد يتقرب إلى الميت بأبيه، وجب رد النصف الباقي إلى الابنة بمفهوم آية ذوي الارحام.
وأما السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قتل حمزة بن عبد المطلب عليه السلام وخلف ابنته وأخاه العباس وابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبني أخيه عليا وجعفرا وعقيلا - رضي الله عنهم - فورث رسول الله صلى الله عليه وآله ابنته جميع تركته، ولم يرث منها شيئا ولا ورث أخاه العباس ولا بني أخيه أبي طالب - رحمه الله - فدل على أن الابنة أحق
وأما إجماع آل محمد عليهم السلام: فإن الاخبار متواترة عنهم بما حكيناه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
فقال السائل: وما أنكرت أن يكون قوله تعالى: (واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ليس في الميراث، لكنه في غيره، وأما فعل النبي صلى الله عليه وآله مع ابنة حمزة، فما أنكرت أن يكون إنما جاز ذلك لانه استطاب نفوس الوارث معها، وأما الاجماع الذي ذكر عن آل محمد عليهم السلام فإنه ليس بحجة، لان الحجة في إجماع الامة بأسرها.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: أما إنكارك كون آية ذوي الارحام في الميراث، فإنه غير مرتفع به ولا يعتمد عليه من كان معدودا في جملة أهل العلم، وذلك أن الله سبحانه نسخ بهذه الاية ما كان عليه القوم من الموارثة بين الاخوان في الدين، وحط عن الانصار ميراث المهاجرين لهم دون أقر بائهم، فقال سبحانه وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) فبين سبحانه أن ذوي الارحام أولى بذوي الارحام من المهاجرين الذين لارحم بينهم ومن المؤمنين البعداء منهم في النسب، ثم قال: إلا أن تتبرعوا عليهم فتفعلوا بهم معروفا، وهذا مما لا يختلف فيه من عرف الاخبار، ونظر في السير والاثار، مع دلالة تتضمن الكلام.
على أنا لانجد من ذوي الارحام أولى بأقاربهم في شئ من الاشياء إلا في
وأما دفعك الحجة من إجماع آل محمد عليهم السلام، واعتمادك على إجماع الامة كافة، فإذا وجبت الحجة بإجماع الامة وجبت باجماع أهل البيت عليهم السلام، لحصول الاجماع الذي ذكرت على موجب العصمة لال محمد عليهم السلام من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن بطل الاعتماد على إجماع آل محمد عليهم السلام مع الشهادة من النبي صلى الله عليه وآله بأن المستمسك بهم لا يضل أبدا بطلت الحجة من إجماع الامة، إذ قد وجد الفساد فيما أجمعوا عليه من نقل الخبر الذي رويناه، وهذا محال لاخفاء باستحالته، فلم يرد شيئا (1).
(747)
المفيد والجوهري
قال الشيخ: حضرت يوما عند صديقنا أبي الهذيل سبيع بن المنبه المختاري - رحمه الله وألحقه بأوليائه الطاهرين عليهم السلام - وحضر عنده الشيخان أبو طاهر وأبو الحسن الجوهريان، والشريف أبو محمد بن المأمون.
فقال لي أحد الشيخين: ما تقول في طلاق الحامل، إذا وقع (2) الرجل منه
____________
(1) الفصول المختارة: ص 131 - 134.