الصفحة 79
ثلاثا في مجلس واحد؟ فقال الشيخ - أيده الله -: فقلت: إذا أوقعه بحضور مسلمين عدلين وقعت منه واحدة لاأكثر من ذلك.

فسكت الجوهري هنيئة، ثم قال: كنت أظن أنكم لا توقعون شيئا منه بتة.

فقال أبو محمد بن المأمون للشيخ - أدام الله عزه -: أتقولون أنه يقع منه واحدة؟ فقال الشيخ: نعم إذا كان بشرط الشهود، فأظهر تعجبا من ذلك، وقال:

ما الدليل على أن الذي يقع بها واحدة وقد تلفظ بالثلاث؟

قال الشيخ - أيده الله -: فقلت له: الدلالة على ذلك من كتاب الله عزوجل، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله ومن إجماع المسلمين، ومن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن قول ابن عباس - رحمه الله - ومن قول عمر ابن الخطاب، فازداد الرجل تعجبا لما سمع هذا الكلام، وقال: احب أن تفصل لنا ذلك، وتشرحه على البيان.

قال الشيخ: أما كتاب الله تعالى، فقد تقرر أنه نزل بلسان العرب وعلى مذاهبها في الكلام قال الله سبحانه: (قرآنا عربيا غير ذي عوج) وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ثم قال سبحانه في آية الطلاق:

(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فكانت الثالثة في قوله (أو تسريح بإحسان) ووجدنا المطلق إذا قال لامرأته: أنت طالق أتى بلفظ واحد يتضمن تطليقة واحدة، فإذا قال عقيب هذا اللفظ: ثلاثا، لم يخل من أن تكون إشارته إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات، أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا أو إلى الحال، فإن كان أخبر عن الماضي، فلم يقع الطلاق إذا باللفظ الذي أورده في الحال، وإنما أخبر عن أمر كان، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت، ثم يطلقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام، وليس هذان القسمان مما جرى الحكم عليهما، ولا

الصفحة 80
تضمنهما المقال، فلم يبق إلا أنه أخبر عن الحال، وذلك كذب ولغو بلا ارتياب، لان الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا، فلاجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة واحدة من حيث تضمنه اللفظ الذي أورده، وأسقطنا مالغا فيه وأطرحناه، إذ كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا، وكان مضادا لاحكام الكتاب.

وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وآله قال: (كل ما لم يكن على أمرنا هذا فهورد). وقال عليه السلام: (ما وافق الكتاب فخذوه وما لم يوافقه فاطرحوه) وقد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فأوجب السنة إبطال طلاق الثلاث.

وأما إجماع الامة: فإنهم مطبقون على أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق الثلاث للكتاب والسنة، فحصل الاجماع على بطلانه.

وأما قول أمير المؤمنين عليه السلام: فإنه قد تظاهر عنه بالخبر المستفيض أنه قال: (إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس واحد، فإنهن ذوات أزواج).

وأما قول ابن عباس: فإنه يقول: ألا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل وهي تحرم عليه، ويحرمونها على آخر وهي تحل له، فقالوا: يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟ قال: هم الذين يقولون للمطلق ثلاثا في مجلس قد حرمت عليك امرأتك!

وأما قول عمر بن الخطاب: فلا خلاف أنه رفع إليه رجل قد طلق امرأته ثلاثا، فأوجع رأسه، ثم ردها إليه، وبعد ذلك رفع إليه رجل وقد طلق كالاول فأبانها منه، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين، فقال: قد أردت أن أحمله على كتاب الله عز اسمه، ولكنني خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران.

فاعترف بأن المطلقة ثلاثا ترد إلى زوجها على حكم الكتاب، لانه إنما أبانها

الصفحة 81
منه بالرأي والاستحسان، فعلمنا من قوله على ما وافق القرآن، ورغبنا عما ذهب إليه من جهة الرأي فلم ينطق أحد من الجماعة بحرف، وأنشأ واحد حديثا آخر تشاغلوا به (1).

(748)
الفضل بن شاذان وفقهاء العامة

ألزم الفضل بن شاذان - رحمه الله - فقهاء العامة على قولهم في الطلاق أن يحل للمرأة الحرة المسلمة أن تمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على سبيل النكاح، وهذا شنيع في الدين منكر في الاسلام.

قال الشيخ - أيده الله -: وجه إلزامه لهم ذلك بأن قال لهم: خبروني عن رجل تزوج امرأة على الكتاب والسنة، وساق إليها مهرها، أليس قد حل له وطئها؟ فقالوا وقال المسلمون كلهم: بلى.

قال لهم: فإن وطئها ثم كرهها عقيب الوطء، أليس يحل له خلعها على مذهبكم في تلك الحال؟ فقالت العامة: خاصة نعم.

قال لهم: فإنه خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها، أليس يحل له أن يخطبها لنفسه، ويحل لها لها أن ترغب فيه؟ قالوا: بلى.

فقال لهم: فإنه قد عقد عليها عقد النكاح، أليس قد عادت إلى ما كانت عليه من النكاح وسقط عنها عدة الخلع؟ قالوا: بلى.

قال لهم: فإنه قد رجع نيته في فراقها، ففارقها عقيب العقد الثاني بالطلاق، من غير أن يدخل بها ثانية، أليس قد بانت منه، ولا عدة عليها بنص القرآن من قوله: (فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها)؟ قالوا: نعم، ولابد لهم من ذلك مع التمسك بالدين.

____________

(1) الفصول المختارة: ص 134 - 136.

الصفحة 82
قال لهم: أليس قد حلت من وقتها للازواج إذ ليس عليها عدة بنص القرآن؟ قالوا: بلى.

قال لهم: فما تقولون إن صنع بها الثاني كصنع الاول، أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من غير حظر من ذلك على اصولكم في الاحكام؟

قالوا - ولابد أن يقولوا -: بلى.

قال لهم: وكذلك لو نكحها ثالث ورابع إلى أن يتم ناكحوها عشرة أنفس وأكثر من ذلك إلى آخر النهار، أليس يكون ذلك جائزا طلقا حلالا، وهذه هي الشناعة التي لا تليق بأهل الاسلام.

قال الشيخ - ايده الله -: والموضع الذي لزمت منه هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الامامية، أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد حصل فيه جماع من غير إستبانة حمل، والامامية تمنع من ذلك وتقول: إن هذا أجمع لا تقع بالحاضرة التي تحيض وتطهر إلا بعد أن تكون طاهرة من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع، فلذلك سلمت مما وقع فيه المخالفون... (1)

(749)
المفيد والرماني

قال الشيخ - أيده الله -: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء، وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء، فالتفت أبو الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شئ يتعلق بالحكم في فدك، ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باظطرار أن أبا بكر قال لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث: سمعت رسول الله صلى

____________

(1) الفصول المختارة: ص 137 - 138.

الصفحة 83
الله عليه وآله يقول: (نحن معاشر الانبياء لا نورث) فسلمت عليها السلام لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر، وتترك المعروف وتسلم الباطل، لاسيما وأنتم تقولون: إن عليا عليه السلام كان حاضرا في المجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين، فلم ينكره أحد من الامة، ولا علمنا أن واحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.

فاعترض الرجل الامامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها عليه، وإنكارها لروايته، وخطبتها في ذلك، واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن، وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.

فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شئ تختص أنت وأصحابك به والذي ذكرته من الحكم عليه الاجماع، وبه حاصل علم الاضطرار، فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف، وحصل عليه الاجماع، كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الامر كذلك دل على بطلانه.

فكلمه الامامي بكلام لم ارتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب المجلس إلي لاخذ الكلام، فأحس بذلك علي بن عيسى، فقال لي: إنني قد جعلت نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في مجلس واحد، فأمسك عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.

ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني اريد شيئا غير المسألة الماضية، وأنني لا أكسر شرطه.

فقال: لست أدري أي شئ تريد بهذا الكلام، فأبن لي عن غرضك لاتكلم عليه.


الصفحة 84
فقلت: لم آتك بكلام مشكل، ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه، ولم يله عنه اللهم إلا أن تريد أن ابين لك من غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن يلزمني في حكم النظر، والذي أستخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشئ إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلف العقلاء فيه؟

فقال: ليس يكون الشئ باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب إلى ذلك عاقل.

فقلت له: فما أنكرت إلا أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على أبي بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه، واستشهدت بالقرآن على ما جاء الاثر به، ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا، ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعاه، بل قد يكون صدقا، وإن اختلف فيه على ما اعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.

فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الان معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه النبي صلى الله عليه وآله من أنه لا يورث، وصوبه فيما حكم به ما جاء به الخبر عن علي عليه السلام أنه قال: ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر. ولو لم يكن عنده صادقا أمينا عادلا لما عدل عن استحلافه، ولا صدقه في روايته، ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتدال الذي اعتمدته

الصفحة 85
بدء، ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه، وأحلتنا على شئ لا نعرفه ولا سمعناه، وإنما بينا الكلام على الاعتدال الذي حضرناه، ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على استينافه من الكلام، وأنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الاخبار أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ولا تصححه، بل تشهد بفساده وكذب رواته وإنما يرويه آحاد من العامة، ويسلمه من دان بأبي بكر خاصة، فإن لزم الشيعة أمر بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، هذا على شرط الانصاف وحقيقة النظر والعدل فيه، فيجب أن يصير إلى اعتقاد ضلالة كل ما روت الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والائمة من ذريته عليهم السلام ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك، ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك فكيف استجزت إلزامهم الاقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الانصاف.

على أن أقرب الامور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الاجماع، أو يضم إليه دليل يقوم مقام الاجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله مع أني اسلمه لك تسليم جدل، وابين لك أنك لم توفي الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبره أن يكون كاذبا في جميع الاخبار، ولا من شرط من صدق في شئ أن يصدق في كل الاخبار، وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا فيه لاجل كذبهم في الامر الاخر، ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.

وإذا كان ذلك كذلك، فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن

الصفحة 86
النبي صلى الله عليه وآله في الميراث، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان حفظه له عينه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه فيما أخبر به، ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره، على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ يدل على صحته العقل، ويشهد بصوابه القرآن، فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث العقل والقرآن، لا من جهة روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه، وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال:

سمعت رسول الله يقول: (ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه، ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين، ثم يعترف به ويستغفر الله عزوجل منه إلا غفر الله له) وهذا شئ نطق به القرآن، قال الله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وقال: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) والعقل يدل على قبول التوبة.

وإذا كان الامر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به، وكان ذكره لابي بكر خاصة، لانه لم يحدثه بحديث غير هذا فصدقه لما ذكرناه، وأخبر عن تصديقه بما وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الاحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.

فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر، وإنما جعلته توطئة للاعتماد، وطولت الكلام فيه، وأطنبت في معناه والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين - عليه السلام - قد بايع أبا بكر وأخذ عطاه، وصلى خلفه، ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة عليها السلام لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين - عليه السلام -

الصفحة 87
إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.

فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول، وتدارك فائت فارط، وتذكر ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحير، وخرج الامر عن حده، وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عند ما يظهر من وهن متعمداتك بأنك لم تردها، ولكنك وطأت بها.

فخبرني الان هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد؟ فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا كلمناك عليه، مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة، لان كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه، ووضح فساد مبناه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم بأنه توطئة لا معنى له، ولكنا نتجاوز هذا الباب ونقول لك ما أنكرت على من قال: إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع الرجل دعوى عرية عن برهان، لافرق بينها وبين قولك: إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة عليها السلام. فدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع على ما ادعيت ثم أبن عليه، فأما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع وقولك: إنه عليه السلام صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك، وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك؟ فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالاولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.

وأما قولك: إنه أخذ العطاء فالامر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أو ليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك: إنه أخذ بعض حقه، ولم يحل له الامتناع من أخذه، لان في ذلك تضييعا لماله، وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الاموال بالباطل؟


الصفحة 88
وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت بعينه حجة في إمامة معاوية.

فقال: وجدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والانصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن، وأخذوا منه العطاء، وصلوا خلفه الفرائض، ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان؟ فكلما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل.

فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).

(750)
المفيد والعباسيون

حضر الشيخ أبو عبد الله - أيده الله - بسر من رأى، واحتج عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير.

فقال له بعض مشايخ العباسيين: أخبرني من كان الامام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟

فقال له: كان الامام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم. فقال له العباسي: ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟

فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما اتفق عليه أهل النقل: (ابسط يدك يا ابن أخي ابايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان).

____________

(1) الفصول المختارة: ص 269 - 274.

الصفحة 89
فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان الجواب من علي؟

فقال: كان الجواب أن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني، ولا اجرد سيفا حتى يبايعوني، ومع هذا فلي برسول الله شغل. فقال العباسي: فقد كان العباس - رحمه الله - إذن على خطأ في دعائه له إلى البيعة.

فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد، لانه عمل على الظاهر وكان عمل أمير المؤمنين عليه السلام على الباطن، وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد لله رب العالمين.

فقال له العباسي: فإن كان علي بن أبي طالب هو الامام بعد النبي صلى الله عليه وآله فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.

فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد، وإنما أجبتك عن شئ سألت عنه فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله، فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا بتقدمه عليهما، ولا عملا له ولصاحبه عملا، ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما أبو بكر ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شئ من امورهما، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب، فإنه ذكر من يصلح للامامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختبار، فلم يذكر العباس من إحدى الطائفتين، ولما ذكر عليا عليه السلام عابه، ووصفه بالدعابة تارة، وبالحرص على الدنيا اخرى، وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمان بن عوف وجعل الحق في حين عبد الرحمان دونه وفضله عليه.

هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله الله

الصفحة 90
تعالى لهم، وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه، وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين بكراهتهما لامامتهما وتأخرهما عن بيعتهما، وترى من العقد فيهما ما سنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما عن شريف المنازل، والغض منهما، والحط من أقدارهما، فصر إلى ذلك، فإنه الضلال بغير شبهة، وإن كنت ترى ولايتهما، والتعظيم لهما، والاقتداء بهما، فاسلك سبيلهما، ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما، وليس هاهنا منزلة ثالثة.

فقال العباسي عند سماع هذا الكلام: اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (1).

(751)
الحارث بن معاوية وزياد بن لبيد

(بعد أن بويع أبو بكر وسار عماله في البلاد ومنهم زياد بن لبيد وواجهوا مع مانعي الصدقات) رأى (زياد بن لبيد) من الرأي لا يعجل بالمسير إلى أبي بكر فوجه بما عنده من إبل الصدقة إلى المدينة مع ثقة، وأمره أن لا يخبر أبا بكر بشئ من أمره وأمر القوم.

قال: ثم إنه سار إلى حي من أحياء كندة يقال لهم: بنو ذهل بن معاوية فخبرهم بما كان من... إليه ودعاهم إلى السمع والطاعة (لابي بكر وإعطاء الصدقة) فأقبل إليه رجل من سادات بني تميم يقال له: الحارث بن معاوية فقال لزياد: إنك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد.

فقال له زياد بن لبيد: يا هذا صدقت، فإنه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد، ولكنا اخترناه لهذا الامر.

____________

(1) الفصول المختارة: ص 277 - 279.

الصفحة 91
فقال له الحارث: أخبرني نحيتم عنها أهل بيته وهم أحق الناس بها، لان الله عزوجل يقول: (واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)؟

فقال له زياد بن لبيد: إن المهاجرين والانصار أنظر لانفسهم منك.

فقال الحارث بن معاوية: لا والله، ما أزلتموها عن أهلها إلا حسدا منكم لهم، وما يستقر في قلبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علما يتبعونه، فارحل عنا أيها الرجل، فإنك تدعو إلى غير رضا، ثم أنشأ الحارث بن معاوية يقول:

كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف

قال: فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال: صدق والله الحارث بن معاوية، أخرجوا هذا الرجل عنكم فما صاحبه بأهل للخلافة، ولا يستحقها بوجه من الوجوه، وما المهاجرون والانصار بأنظر لهذه الامة من نبيها محمد صلى الله عليه وآله.

قال: ثم وثب رجل من كندة يقال له: عدي بن عوف فقال: يا قوم لا تسمعوا قول عرفجة بن عبد الله، ولا تطيعوا أمره، فإنه يدعوكم إلى الكفر ويصدكم عن الحق، إقبلوا من زياد بن لبيد ما يدعوكم إليه، وارضوا بما رضي به المهاجرون والانصار، فإنهم أنظر لانفسهم منكم، قال: ثم أنشأ يقول في ذلك أبياتا من جملتها:

يا قوم إني ناصح لا ترجعوا * في الكفر واتبعوا مقال الناصح

قال: فوثب إليه نفر من بني عمه، فضربوه حتى أدموه وشتموه أقبح الشتم، ثم وثبوا إلى زياد بن لبيد، فأخرجوه من ديارهم وهموا بقتله (1).

قال الاحمدي: نقلنا هذه المناظرة لكي يتأمل فيه القارئ فيقف على

____________

(1) الفتوح لابن أعثم: ج 1 / 61.

الصفحة 92
علة (الارتداد) بعد النبي صلى الله عليه وآله في بني كنده، وأنهم لم يرتدوا عن الدين بإنكار التوحيد أو النبي صلى الله عليه وآله أو المعاد، بل هو لعدم إذعانهم بخلافة أبي بكر فحسب، كما هو السبب الوحيد في قتل مالك بن نويرة أيضا، ونقل فضل بن شاذان في الايضاح: ص 152 عن ارتداد الاشعث وأنه قال: إنما كان ذلك غضبا لعمر لصرف أبي بكر الخلافة عنه إلى نفسه، وفي الهامش نقله عن البحار والشافي والتلخيص.

(752)
مؤتمر علماء بغداد

عثرت على رسالة مطبوعة لمقاتل بن عطية الحنفي من علماء القرن الخامس الحاضر في المؤتمر ختن الخواجة نظام الملك في نقل ما جرى في مجلس المؤتمر، فأحببت نقلها هنا بأسرها وهي:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين محمد النبي العربي وآله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه المطيعين.

وبعد: فهذا كتاب (مؤتمر علماء بغداد) الذي انعقد بين السنة والشيعة الذين جمعهم الملك الكبير (ملك شاه سلجوقي) تحت إشراف العالم العظيم الوزير (نظام الملك) وكان من قصة ذلك: أن الملك شاه لم يكن رجلا متعصبا أعمى، يقلد الاباء والاجداد عن عصبية وعمى، بل كان شابا متفتحا محبا للعلم والعلماء، وكان في نفس الوقت ولعا باللهو والصيد والقنص.

أما وزيره (نظام الملك) فقد كان رجلا حكيما فاضلا زاهدا عازفا عن الدنيا، قوي إلارادة، يحب الخير وأهله، يتحرى الحقيقة دائما، وكان يحب أهل بيت النبي حبا جما كثيرا، وقد أسس المدرسة النظامية في بغداد، وجعل لاهل العلم رواتب شهرية، وكان يحنو على الفقراء والمساكين.

وذات مرة دخل على الملك شاه أحد العلماء الكبار، واسمه (الحسين بن

الصفحة 93
علي العلوي) وكان من كبار علماء الشيعة... ولما خرج العالم من عند الملك استهزأ به بعض الحاضرين وغمزه، فقال الملك: لماذا استهزأت به؟ قال الرجل:

ألا تعرف أيها الامير انه من الكفار الذين غضب الله عليهم ولعنهم؟ فقال الملك - متعجبا - ولماذا؟ أليس مسلما؟ فقال الرجل: كلا إنه شيعي، فقال الملك: وما معنى الشيعي؟ أليس الشيعة هم فرقة من فرق المسلمين؟ قال الرجل: كلا إنهم لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان. قال الملك: وهل هناك مسلم لا يعترف بإمامة هؤلاء الثلاثة؟ قال الرجل: نعم هؤلاء هم الشيعة، قال الملك: وإذا لا يعترفون بإمامة هؤلاء الصحابة فلماذا يسميهم الناس مسلمين؟ قال الرجل: ولذا قلت لك إنهم كفار... فتفكر الملك مليا، ثم قال: لابد من إحضار الوزير نظام الملك لنرى جلية الحال.

أحضر الملك نظام الملك وسأله عن الشيعة، هل هم مسلمون؟ قال نظام الملك: اختلف أهل السنة فطائفة منهم يقولون: إنهم مسلمون لانهم - أي الشيعة - يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويصومون وطائفة منهم يوقولون: إنهم كفار.

قال الملك: وكم عددهم؟

فقال نظام الملك: لا احصي عددهم كاملا، ولكنهم يشكلون نصف المسلمين تقريبا.

قال الملك: فهل نصف المسلمين كفار؟

قال الوزير: إن بعض أهل العلم يعتبرونهم كفارا وإني لا اكفرهم.

قال الملك: فهل لك أيها الوزير، أن تحضر علماء الشيعة وعلماء السنة لنرى جليلة الحال؟

قال الوزير: هذا أمر صعب، وأخاف على الملك والمملكة.

قال الملك: لماذا؟


الصفحة 94
قال الوزير: لان قضية الشيعة والسنة ليست قضية بسيطة، بل هي قضية حق وباطل قد اريقت فيها الدماء واحرقت فيها المكتبات واسرت فيها نساء والفت فيها كتب وموسوعات، وقامت لاجلها حروب.

تعجب الملك الشاب من هذه القضية العجيبة، وفكر مليا، ثم قال: أيها الوزير، إنك تعلم أن الله أنعم علينا بالملك العريض، والجيش الكثيف، فلا بد أن نشكر الله على هذه النعمة، ويكون شكرنا أن نتحرى الحقيقة، ونرشد الضال إلى الصراط المستقيم، ولا بد أن تكون إحدى الطائفتين على حق والاخرى على باطل، فلابد أن نعرف الحق فنتبعه ونعرف الباطل فنتركه، فإذا هيأت أيها الوزير مثل هذا المؤتمر بحضور العلماء من الشيعة والسنة بحضور القواد والكتاب وسائر أركان الدولة، فإذا رأينا أن الحق مع السنة أدخلنا الشيعة في السنة بالقوة.

قال الوزير: وإذا لم يقبل الشيعة أن يدخلوا مذهب السنة، فماذا تفعل؟

قال الملك الشاب: نقتلهم.

قال الوزير: وهل يمكن قتل نصف المسلمين؟

قال الملك: فما هو العلاج والحل؟

قال الوزير: أن تترك هذا الامر.

انتهى الحواربين الملك ووزيره الحكيم العالم، ولكن بات الملك تلك الليلة متفكرا قلقا، ولم ينم إلى الصباح، فكيف يستعصي عليه هذا الامر المهم، وفي الصباح؟ الباكر دعا نظام الملك، وقال له: حسنا نستدعي علماء الطرفين، ونرى نحن من خلال المحادثات والمناقشات التي تدور بينهما أن الحق مع أيهما، فإذا كان الحق مع مذهب السنة، دعونا الشيعة بالحكمة والموعظة الحسنة، ورغبناهم بالمال والجاه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المؤلفة قلوبهم، وبذلك نتمكن من خدمة الاسلام والمسلمين.


الصفحة 95
فقال الوزير: رأيك حسن، ولكني أتخوف من هذا المؤتمر.

قال الملك: ولماذا الخوف؟

فقال الوزير: لاني أخاف أن يتغلب الشيعة على السنة، وترجح احتجاجاتهم علينا، وبذلك يقع الناس في الشك والشبهة.

فقال الملك: وهل يمكن ذلك؟

قال الوزير: نعم، لان الشيعة لهم أدلة قاطعة، وبراهين ساطعة من القرآن والاحاديث الشريفة على صحة مذهبهم وحقيقة عقيدتهم.

فلم يقتنع الملك بهذا الجواب من وزيره (نظام الملك) وقال له: لابد من احضار علماء الطرفين لينكشف لنا الحق ونميزه عن الباطل، فاستمهل الوزير الملك إلى شهر لتنفيذ الامر، ولكن الملك الشاب لم يقبل ذلك... وأخيرا تقرر أن تكون المدة خمسة عشر يوما.

وفي هذه الايام جمع الوزير (نظام الملك) عشرة رجال من كبار علماء السنة الذين يعتمد عليهم في التاريخ والفقه والحديث والاصول والجدل، كما أحضر عشرة من كبار علماء الشيعة، وكان ذلك في شهر شعبان في المدرسة النظامية ببغداد، وتقرر أن ينعقد المؤتمر على الشروط الاتية:

أولا: أن يستمر البحث من الصباح الى المساء باستثناء وقت الصلاة والطعام والراحة.

ثانيا: أن تكون المحادثات مستندة إلى المصادر الموثوقة، والكتب المعتبرة، لا عن المسموعات والشايعات.

ثالثا: أن تكتب المحادثات التي تدور في هذا المؤتمر.

وفي اليوم المعين جلس الملك ووزيره وقواد جيشه، وجلس علماء السنة عن يمينه، كما جلس علماء الشيعة عن يساره، وافتتح الوزير نظام الملك المؤتمر:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على محمد وآله وصحبه، ثم قال: لابد أن

الصفحة 96
يكون الجدال نزيها، وأن يكون طلب الحق رائد الجميع، وأن لا يذكر أحد صحابة الرسول صلى الله عليه وآله بسب أو سوء.

قال كبير علماء السنة (وهو الملقب بالشيخ العباسي): إني لا أتمكن أن اجادل مذهبا يكفر كل الصحابة.

قال كبير علماء الشيعة (وهو الملقب بالعلوي واسمه الحسين بن علي): ومن هم الذين يكفرون الصحابة؟

قال العباسي: أنتم الشيعة هم اولئك الذين تكفرون كل الصحابة.

قال العلوي: هذا الكلام منك خلاف الواقع، أليس من الصحابة علي عليه السلام والعباس وسلمان وابن عباس والمقداد وأبو ذر وغيرهم، فهل نحن الشيعة نكفرهم؟

قال العباسي: إني قصدت بكل الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان، وأتباعهم.

قال العلوي: نقضت نفسك بنفسك، ألم يقرر أهل المنطق أن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، فإنك تقول مرة: إن الشيعة يكفرون كل الصحابة، وتقول مرة: إن الشيعة يكفرون بعض الصحابة.

وهنا أراد نظام الملك أن يتكلم، لكن العالم الشيعي لم يمهله، وقال: أيها الوزير العظيم لا يحق لااحد أن يتكلم إلا إذا عجزنا عن الجواب، وإلا كان خلطا للبحث، وإخراجا للكلام عن مجراه من دون نتيجة.

ثم قال العالم الشيعي: تبين أيها العباسي، أن قولك: إن الشيعة يكفرون كل الصحابة كذب صريح.

ولم يتمكن العباسي من الجواب واحمر وجهه خجلا، ثم قال: دعنا عن هذا، ولكن أنتم الشيعة تسبون أبا بكر وعمر وعثمان؟

قال العلوي: إن في الشيعة من يسبهم وفيهم من لا يسبهم.

قال العباسي: وأنت أيها العلوي من أي طائفة منهم؟


الصفحة 97
قال العلوي: من الذين لا يسبون، ولكن رأيي إن الذين يسبون لهم منطقهم، وأن سبهم لهؤلاء الثلاثة لا يوجب شيئا لا كفرا ولا فسقا، ولا هو من الذنوب الصغيرة.

قال العباسي: أسمعت أيها الملك ماذا يقول هذا الرجل؟

قال العلوي: أيها العباسي، إن توجيهك الخطاب إلى الملك مغالطة، فإن الملك أحضرنا لاجل التكلم حول الحجج والادلة، لا لاجل التحاكم إلى السلاح والقوة.

قال الملك: صحيح ما يقوله العلوي، ما هو ردك أيها العباسي؟

قال العباسي: واضح أن من يسب الصحابة كافر.

قال العلوي: واضح عندك لا عندي، ما هو الدليل على كفر من يسب الصحابة عن اجتهاد ودليل، ألا تعترف أن من يسبه الرسول يستحق السب؟

قال العباسي: أعترف.

قال العلوي: فالرسول سب أبا بكر وعمر.

قال العباسي: وأين سبهم؟ هذا كذب على رسول الله.

قال العلوي: ذكر أهل التواريخ من السنة: أن الرسول صلى الله عليه وآله هيأ جيشا بقيادة (اسامة) وجعل في الجيش أبا بكر وعمر، وقال: لعن الله من تخلف عن جيش اسامة، ثم إن أبا بكر وعمر تخلفا عن جيش اسامة فشملهم لعن الرسول، ومن يلعنه الرسول يحق للمسلم أن يلعنه.

وهنا أطرق العباسي برأسه ولم يقل شيئا.

فقال الملك - متوجها إلى الوزير: وهل صح ما ذكره العلوي؟

قال الوزير: ذكر أهل التواريخ ذلك (1).

____________

(1) انظر: طبقات ابن سعد القسم الثاني: ج 2 / 41، وتاريخ ابن عساكر: ج 2 / 391، وكنز العمال:

ج 5 / 312 والكامل لابن الاثير ج 2 / 129.