فباتت المدينة تغلي كالمرجل فمن قائل يقول: قال زيد كذا وقائل يقول:
قال عبد الله كذا، فلما كان الغد جلس خالد في المسجد وجمع الناس فمن بين شامت ومفحوم، ودعا بهما وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم فقال زيد: لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم أقبل على خالد فقال له: أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله لامر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر؟ فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد يكلمه.
فتكلم رجل من الانصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب و يابن حسين السفيه، أما ترى عليك لوال حقا ولا طاعة، فقال زيد: اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك. فقال الانصاري: ولم ترغب عني فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك وامي خير من امك.
فتضاحك زيد وقال: يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب أفذهبت الاحساب؟! فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال:
كذبت أيها القحطاني، والله لهو خير منك نفسا وأبا واما ومحتدا وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفا من الحصى فضرب به الارض وقال: إنه والله مالنا على هذا من صبر، وقام.
فقام زيد أيضا وشخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، وزيد يرفع إليه القصص وكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها:
إرجع إلى أرضك، فيقول زيد: والله لا أرجع إلى ابن الحارث ابدا، ثم أذن له بعد حبس طويل وهشام في علية له، فرقى زيد إليها، وقد أمر هشام خادما له أن
قال له هشام: إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك، لانك ابن أمة، فقال زيد: إن لك جوابا، قال: تكلم قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه، وهو اسماعيل بن ابراهيم، وهو ابن أمة قد اختاره الله لنبوته، وأخرج منه خير البشر، فقال هشام: فما يصنع أخوك البقرة، فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه، ثم قال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله: الباقر وتسميه أنت البقرة، لشد ما اختلفتما، لتخالفنه في الاخرة كما خالفته في الدنيا، فيرد الجنة وترد النار.
فقال هشام: خذوا بيد هذا الاحمق المائق فأخرجوه، فأخذ الغلمان بيده فأقاموه، فقال هشام: إحملوا هذا الخائن الاهوج إلى عامله، فقال زيد: والله لئن حملتني إليه لا أجتمع أنا وأنت حيين، وليموتن الاعجل منا.
فاخرج زيد واشخص إلى المدينة... (1)
(754)
عبد الرحمان ومعاوية
كان عبد الرحمان بن العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام فجفاه معاوية ولم يقض له حاجة، ودخل إليه يوما فقال له: يا ابن عباس كيف
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 3 / 285 - 287، ونقله اليعقوبي بنحو آخر فراجع ص 67 من ج 3، والبيان والتبيين:
ج 1 / 310 و 325، وقد مر ج 1 ص 122 وج 2 ص 307 فراجع.
قال: وإنك لتحكم على الله، قال: بما حكم الله به على نفسه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون).
قال معاوية: والله لو عاش أبو عمرو حتى يراني لرأى نعم ابن العم.
فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك خذلته حين كانت النصرة له، ونصرته حين كانت النصرة لك.
قال: وما دخولك في العصا ولحائها؟
قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلئن تحسن فاجازي أحب إلي من أن تسئ فاكافي.
ثم نهض.
(755)
عبد الله بن عباس وعمر
روى زياد البكائي عن صالح بن كيسان عن ابن عباس قال: إني لاطوف بالمدينة مع عمر ويده على جنحي، إذ زفر زفرة كادت تطير بأضلاعه، فقلت: سبحان الله والله ما أخرج هذا منك إلا هم شديد، قال: اي والله هم شديد قلت: ما هو؟ قال: هذا الامر لا أدري فيمن أضعه؟ ثم نظر إلي فقال:
لعلك تقول: إن عليا صاحبها قال: قلت: اي والله إني لاقول ذلك وأنى به؟! وأخبر به الناس (2) فقال: وكيف ذلك؟ قال: قلت: لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وصهره وسابقته وعلمه وبلائه في الاسلام، فقال: إنه
____________
(1) اليعقوبي: ج 2 / 213.
(2) في ذر: وأنى به أخبر الناس.
اجتمع حب الدنيا والاخرة في قلبه، والله لو وليته أمر الناس لحمل آل أبي معيط على رقابهم، ثم لمشت إليه العرب حتى تقتله، وأيم الله لو فعلت لفعل ولو فعل لفعلوا، فلم أزل أتوقعها من قوله حتى فعل ما فعل وفعلوا به ما فعلوا.
قلت: أين أنت عن الزبير؟ فقال: اللعقة (1) والله إذا لظل يضارب على الصاع والمد ببقيع الغرقد.
قال: قلت: فأين أنت عن طلحة؟ فقال: المزهو ما زلت أعرف فيه الزهو منذ اصيبت كفه مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: قلت: فأين أنت عن سعيد؟ قال: ليس هناك، هو صاحب فرس وقنص وكان يقال: إن سعدا رجل من عذرة وليس من قريش.
قال: قلت: فعبد الرحمان بن عوف؟ فقال: نعم الرجل ذكرت غير أنه ضعيف إن هذا الامر والله يا ابن عباس ما يصلحه إلا القوي في غير ضعف - يعني عليا - والجواد في غير سرف - يعني طلحة - والبخيل في غير إمساك - يعني الزبير - واللين في غير ضعف - يعني عبد الرحمان -.
قال الاحمدي: نقلت هذه القصة بعبارات مختلفة وقد أمضيناها ج 1 ص 149 وج 2 ص 119 وأعدناه هنا للخلاف البين بين الروايات، ونقلنا هذه العبارة عن الايضاح للفضل بن شاذان: ص 162 - 166 وفي هامشه للمحدث الارموي - رحمه الله تعالى -: (هذا الحديث قد نقل بطرق كثيرة وعبارات متفاوتة، بل صدر في أوقات مختلفة، ونكتفي هنا بما نقله الزمخشري في الفائق في مادة (كلف)، ثم بعد نقله عنه قال: ونقله المجلسي بتمامه في ثامن البحار ص 357 ط أمين الضرب... عن كتب اخرى منها العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف
____________
(1) في ظ: الوعقة.
ولا أدرى ماذا أراد الخليفة من هذه المحاضرة المتكررة مع شخص واحد في موضوع واحد؟ ونقل في الايضاح أيضا: ص 497 هذه الكلمات عنه إذا طعن وأيس من الحياة، وسألوه عن الوصية والاستخلاف، والاشارة إلى من يستحق الخلافة، فأجاب السائلين بذكر المترشحين للخلافة، فهل كان هو نفسه أو زميله الخليفة الاول منزهين عن هذه العيوب أو أمثالها، وإذا كانت العيوب المذكورة مانعة عن استخلافهم فكيف استخلف أبو بكر عمر مع إباء الكثير عن استخلافه إياه وذكرهم معايبه؟ نعم يجب كون خليفة المسلمين مطهرا من الارجاس والقذارات الاخلاقية والصفات الرذيلة ولكن...
(756)
عقيل ومعاوية
بلغني أن معاوية قال لعمرو بن العاص: إن الناس قد رفعوا أعينهم ومدوا أعناقهم إلى بني عبد المطلب، فلو نظرنا إلى رجل منه فيه لوثة فاستملناه، فقال عمرو: عندك عقيل بن أبي طالب. فلما أصبح واجتمع الناس، دخل عليه عقيل فقال له:
يا أبا يزيد أنا خير لك أم علي؟
قال: أنت خير لنا من علي، وعلي خير لنفسه منك.
فضحك معاوية. فضحك عقيل.
فقال له: ما يضحكك يا أبا يزيد؟
قال: أضحك أني كنت أنظر إلى أصحاب علي يوم أتيته فلم أر معه إلا المهاجرين والأنصار وأبناءهم، والتفت الساعة فلم أر إلا أبناء الطلقاء وبقايا الاحزاب.
قال: فإنه والله عم هذا.
قال عقيل: صدق والله أمير المؤمنين، فهل قرأتم في كتاب الله تعالى:
(وامرأته حمالة الحطب) فهي والله عمة معاوية.
فقال معاوية: الحق بأهلك، حسبنا مالقينا من أخيك.
قال له عقيل: أما والله لقد تركت مع علي الدين والسابقة وأقبلت إلى دنياك، فما اصبت دينه ولا نلت من دنياك طائلا، فأعطاه وأكثر له.
قال فدعا معاوية عمرو بن العاص فقال: ويحك يا عمرو، هذا الذي زعمت أنه أهوج بني عبد المطلب.
قال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين، ما علمت منه إلا ما تعلم، فقال معاوية في ذلك:
فرجع عقيل إلى علي فأخبره الخبر، فقال: كان في نفس معاوية شئ فما
(757)
عبد الله بن معاوية مع الوليد
مفاخرة بين عبد الله والوليد ونحن نذكرها هنا وان كان عبد الله يرمى بالزندقة وسوء السيرة في الدين، وإذا أردت الوقوف على ترجمته فعليك بمقاتل الطالبين وتاريخ إصبهان لابي نعيم وهامش الموفقيات وابن أبي الحديد:
ج 7 / 135 وج 8 / 122 وج 15 / 272 وغيرها) لما فيه من الفوائد وإن كان لعله خارج عن شرط الكتاب:
جلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان مجلسا في زمان هشام بن عبد الملك (187 ظ)، والوليد يومئذ ولي عهد، وحضر معه في المجلس عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فتمازحا ساعة، وتذاكرا الشعر وأيام العرب، حتى أفضى بهما الحديث إلى أن قال الوليد بن يزيد لعبدالله بن معاوية:
هل لك يا أبا معاوية إلى المنافرة والمفاخرة في مجلسنا هذا بكلام يحسن إن روي ويعذب إن حكي؟
فقال عبد الله بن معاوية: فخري فخرك وذكري ذكرك، وما لاحد منا على صاحبه فضل، ولست آمن أن يخرجنا ذلك إلى مالا نحبه ولا نريده.
فقال الوليد: نشدتك بالله أن يعرض هذا في نفسك، فإنه غير كائن.
قال: فافتخر الوليد مبتدئا فقال: أنا ابن يزيد السيد العميد من أناف، ففاق شرفه، وكرم أصله وطرقه، وسهل بابه وكفه، واشتد من الضيم أنفه، هو
____________
(1) الموفقيات: ص 334 - 336 وقد مرت هذه في ج 1 ص 234 - 242 بروايات مختلفة يحتمل أن يكون الاختلاف من الرواة أو لتعدد القضية في أزمنة متعددة.
ثم لمروان بقية قريش، وتالي القرآن، سما للملك فذلل صعبه، ورد من كل رئيس شغبه، ونفس عن كل مكروب كربه، وأيد الله بالنصر حزبه، وورث الامامة والخلافة عقبه، كان يستظل بظله، ويفي بعهده، ويحيي المال من حله ويضعه في أهله، ويعرف في سبله.
ثم للحكم الماجد العلم، كان لا تخمد نيرانه، ولا تذم جفانه، ولا تؤمن أضغانه، ولا يقدر شأنه.
ثم لابي العاص الكريم المحل والعراص، كان يصدر عن رأيه، ويوثق برأيه، ويعاش بحبائه، ويؤمن بغنائه، ويقتاس على نبائه.
ثم لامية الذي ولي كل علية، ولد القروم فأنجب، وغالى بالحمد فارغب، وزوق عليه المجد وطنب، وأورى زنده وأثقب، وبدل ماله فأنهب.
ثم لعبد شمس فارج كل لبس، لياذ قريش إذا حصلوا، وحليمها إذا جهلوا، وجبلها إذا زلزلوا، وزعيمها إذا احتفلوا، ورشيعها إذا أمحلوا وافتخروا
____________
(1) أرتج الباب: أغلقه إغلاقا وثيقا.
(2) ارتتج على الخطيب: استغلق عليه الكلام.
ثم لقريع الانام معاوية بن أبي سفيان، من أثمن في المكارم جوهره، ثم غطى الفاخر مفخره، وبذ أخيار الناس خيره، وزهابه سريره ومنبره، طبعت على الحلم سجيته، وكملت أخلاقه ومروته، واستوت علانيته وسريرته، ورضيت بسياسته رعيته، وحبر الاشراف عطيته، من طلب فأدرك بثأره وشمر للحرب بأنصاره [ وأخذ الامر من أقطاره ].
ثم لصخر معدن النبل والفخر، مفزع قومه إذا رهبوا، وغياثهم إذا أجدبوا، ومدرهم إذا خطبوا، وفارسهم إذا ركبوا، ميسر كل عسير، ورئيس كل كبير، وبدر كل منير.
ثم لحرب منفس كل كرب، قائد قومه في الحقائق، وعصمتهم في الوثائق، وحاميهم في المضايق، يعلو على المنازع في خصامه، وتثبت قدمه في مقامه، وتؤثر أمثال كلامه، ويزدحم الناس على طعامه وتتحدث المواسم بأيامه (1).
فلما فرغ الوليد قال لعبدالله: تكلم، فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
أنا عبد الله بن معاوية بن عبد الله، أنا ابن البدور الزواهر، والبحور الزواخر، والغيوث المواطر، والليوث الهواصر، الذين برز في الجاهلية شأوهم، وأناف على كل بناء بناؤهم، وكان خير الاباء آباؤهم، أنا ابن الفروع الزكية، والمصابيح المضيئة، والاشياخ الرضية، الهداة المهدية، ضربوا بأسيافهم عل
____________
(1) انظر إلى هذا الزنديق السكير الشريب الفاجر، كيف يفتخر بالمنافقين والكفرة، واللئام الفجرة بالاكاذيب، ويأتي بالمكارم والفضائل وصفا لابائه الدناة السفلة ذوي الرذائل مرحبا بقلة الحياء والصلف الموروثين فيه.
أخرجنا الله من أكرم طينة، واصطفانا من الجواهر المكنونة، واختصنا بالوحي والدينونة، وجعل لنا السنن المسنونة، ينزل وحي الله في أبياتنا، ويمليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على آبائنا وامهاتنا، تحل الملائكة بعقواتنا، فلنا كل فضل معدود وسناء محمود، ونحن زين كل مشهود، وغرة كل طارف ومتلود، منا خيرة الله المصطفى ورسوله المجتبى وامينه المرتضى والمؤثر بسدرة المنتهى صلى الله عليه وآله.
ومنا حمزة أسد الله وأسد رسوله، وحامية المسلمين، وآفة المشركين، وسيد شهداء العالمين، كان في الجاهلية مهيبا، ولماله وهوبا، وفي الاسلام سباقا خطيبا، وعلى الاعداء اباء صليبا.
ومنا على ذو السوابق الباسقة، والمناقب الفائقة، الذي ليست كسابقته سابقة، أقدم قريش سبقا، وأعلمهم علما، وأجودهم فهما، وأرحمهم حلما، وأكرمهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله نفسا، وأفضلهم ولدا وعرسا، وخيرهم محتدا وجنسا، أصدق العرب بأسا واشدهم مراسا.
ومنا العباس المفضل بسريرته، المستمر لمريرته، المتحبب إلى عشيرته، كهف قريش إذا استكهفوا، ورؤوفهم إذا استرافوا، وعدلهم إذا استنصفوا.
ومنا ابنه عبد الله، حبر الاحبار، وبر الابرار، العالم بكل مشكلة، والقائم بكل معضلة.
ثم أنا ابن معاوية، وارث كل فضيلة، ومصطنع كل جميلة، ومفرج كل جليلة، ومسيل كل جزيلة.
ثم لعبدالله مشتري الحمد بنواله، والمؤثر على نفسه بماله، والمروي الظماء بسجاله، من أنجد ذكره وغار، وغمر جوده البحار، وعم عطاؤه الامصار، سلك
ثم لجعفر الطيار مع الحسان، والمصارع للاقران والمظهر للبرهان، والقائم بطاعة الرحمان، أشبه الناس بنبيه خلقا وخلقا، وأقدمهم في الاسلام سبقا، وأحقهم بكل سناء حقا.
ثم لابي طالب مدرة قريش إذا حشدوا، ورئيسهم إذا عقدوا، وعميدهم إذا اعتمدوا، وفارج كربهم إذا جهدوا، ولد الكرام وولده، وأشبه أباه، وأشبهه بنوه.
ثم لعبد المطلب الواري الزناد، الرفيع العماد، المرغم للاعادي، القائل بالسداد، محتفر زمزم خير الحفائر، وساقي الحجيج فيه بالمفاخر، جمع قريشا بعد ما تفرقوا، وقادهم حتى استوسقوا، وبذهم حين نطق ونطقوا.
ثم لهاشم مطعم الناس في الشتاء والاصياف، ومحل الوفود والاضياف، وملجأ كل هارب ومضاف، والسابق إلى غايات الاشراف، أطعم قريشا حتى أسنتت، وجاد بماله حين أمسكت، وساهم المهمة لما أضلعت، وقهر بناؤه بناءها لما ابتنت.
فأنا خير العالمين أشياخا، وأكرمهم أرومة وأسناخا، واعزهم سيدا بذاخا، وأخصبهم محلة ومناخا، عليهم تنزل الانباء، وبهم ولفت قريش الاحياء (1)، واقر بفضلها الاملاء، وأذعنت الرؤساء، أنا ابن الاعلام للاعلام، وابن سادة الاسلام، ومعدن النبوة والاحكام، وأكرم الاسلام أسلافنا، وأطهر الاطراف أطرافنا، وأعز الاحلاف أحلافنا، يضمحل الفخر عند فخرنا، وينسى كل ذكر مع ذكرنا، ويصغر كل قدر عند قدرنا.
قال: فلما فرغا من كلامهما تفرقا (2).
____________
(1) وفي ب (وبهم دانت لقريش الاحياء).
(2) الموفقيات لابن بكار: ص 563 - 569.
(758)
الاحنف ومعاوية
وفي العقد: أن معاوية أمر الاحنف يشتم عليا فأبى، فقال: اصعد وانصف، فقال:
إن عليا ومعاوية كل منهما ادعى بغي الاخر عليه، اللهم العن الفئة الباغية (2).
(759)
أبو الطفيل وعمر بن عبد العزيز
أتاه - أي عمر بن عبد العزيز - أبو الطفيل عامر بن واثلة، وكان من أصحاب علي عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين، لم منعتني عطائي؟ فقال له: بلغني أنك صقلت سيفك وشحذت سنانك ونصلت سهمك وغلفت قوسك، تنتظر الامام القائم حتى يخرج، فإذا خرج وفاك عطاءك. فقال: إن الله سائلك عن هذا، فاستحيى عمر من هذا وأعطاه (2).
(760)
العباس وعثمان
عن عبد الله بن عباس قال: ما سمعت من أبي شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره، ولا سألته عن شئ من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه، فأنا عنده ليلة ونحن نتعشى إذ قيل: هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب، فقال: ائذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء معه، فلما رفع قام من كان هناك، وثبت أنا، فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال: أما
____________
(2) الصراط المستقيم: ج 3 / 72.
(2) تاريخ اليعقوبي: ج 3 / 52.
قال ابن عباس: فحمد أبي الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا ابن اختي، فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلي، وما علي وحده قال فيك، بل غيره، فلو أنك اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا، فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.
قال عثمان: فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم، قال: أفأذكر لهم ذلك عنك؟ قال: نعم وانصرف.
فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال أبي: ائذنوا له، فدخل فقام قائما ولم يجلس، وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك، فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه الاول فأقبل علي أبي وقال: يا بني ما إلى هذا من أمره شئ (1)...
(761)
فاطمة الصغرى وأهل الكوفة
عن زيد بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:
خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ردت من كربلاء فقالت:
الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده واؤمن به،
____________
(1) الموفقيات: ص 611.
اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصية علي بن أبي طالب عليه السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله، وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم! ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب الضريبة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب للاسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى طريق مستقيم.
أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه صلى الله عليه وآله على كثير من خلقه تفضيلا، فكذبتمونا، وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا، كأنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم، قرت بذلك عيونكم وفرحت به قلوبكم اجترأ منكم على الله ومكرا مكرتم، والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل (2) بما اصبتم من دمائنا، ونالت أيدكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب
____________
(1) الذحل: الثأر.
(2) الجذل: الفرح.
تبا لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم (1) بما كسبتم، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم، أو أية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رجل مشيتم إلينا، تبغون محاربتنا؟! قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدكتم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان واملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.
تبا لكم يا أهل الكوفة، كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، وذحوله لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عترة النبي الطيبين الأخيار وافتخر بذلك مفتخر فقال:
فقالت: بفيك أيها القائل الكثكث (2) ولك الأثلب (3) إفتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك، وإنما لكل امرئ ما قدمت يداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله (4).
(762)
رجل من الشيعة مع بعض المخالفين
قال بعض المخالفين بحضرة الصادق عليه السلام لرجل من الشيعة:
____________
(1) يستحتكم: يستأصلكم.
(2) الكثكث: دقاق التراب.
(3) الاثلب: دقاق الحجر.
(4) الاحتجاج: ج 2 / 27 - 28.
قال: أقول فيهم القول الجميل الذي يحط الله به سيئاتي ويرفع به درجاتي.
قال السائل، الحمد لله على ما أنقذني من بغضك، كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة.
فقال الرجل: ألا من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله.
قال: لعلك تتأول ما تقول، فمن أبغض العشرة من الصحابة؟
فقال: من أبغض العشرة من الصحابة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فوثب فقبل رأسه فقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل اليوم.
قال: أنت في حل وأنت أخي.
ثم انصرف السائل.
فقال له الصادق عليه السلام: جودت لله درك لقد عجبت الملائكة من حسن توريتك...
(763)
مؤمن الطاق وزيد
عن علي بن الحكم عن أبان قال: أخبرني الاحول أبو جعفر محمد بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق: أن زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختف، قال: فأتيته، فقال لي:
يا أبا جعفر ما تقول: إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟
قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه.
____________
(1) الاحتجاج: ج 2 / 131.
قال: قلت: لا أفعل، جعلت فداك.
قال: فقال لي: أترغب جعلت فداك.
قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟
قال: فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله تعالى في الارض حجة فالمخلف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله في الارض حجة فالمتخلف عنك والخارج معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من حر النار، قال: إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به.
قال: قلت له: من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني فإن قبلته نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.
ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم أفضل أم الانبياء؟ قال: بل الانبياء.
قلت: يقول يعقوب ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمه، وكذا أبوك كتمك، لانه خاف عليك.
قال: فقال: أما والله لئن قلت ذلك فقد حدثني صاحبك بالمدينة أني اقتل واصلب بالكناسة، وإن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي (1).
(764)
حنظلة مع أهل الكوفة
قال: وجاء حنظلة بن سعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام
____________
(1) الاحتجاج: ج 2 / 140 - 141، وقد مر في ج 1 ص 336 بنحو آخر.
وفي المناقب: فقال له الحسين: يا ابن سعد، إنهم قدت استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليشتمونك وأصحابك حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليشتمونك وأصحاب، فكيف بهم الان وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟
قال: صدقت جعلت فداك، أفلا نروح إلى ربنا فنلحق بإخواننا؟
فقال له: رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لا يبلى.
فقال: السلام عليك يا بن رسول الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك، وجمع بيننا وبينك في جنته.
فقال: آمين آمين (1).
(765)
عمار وعثمان
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وعمار يعملون مسجدا فمر عثمان في بزة له يخطر، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ارجز به فقال عمار:
ومن تراه عاندا معاندا عن الغبار لا يزال حائدا قال: فأتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما أسلمنا لتشتم أعراضنا وأنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفتحب أن تقال؟ فنزلت
____________
(1) البحار: ج 45 / 23.
(766)
ميثم وابن زياد
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم قال: أتى ميثم التمار دار أمير المؤمنين عليه السلام، فقيل له: أنه نائم، فنادى بأعلى صوته: انتبه أيها النائم، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك، فانتبه أمير المؤمنين عليه السلام: فقال: أدخلوا ميثما، فقال: صدقت وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتقطعن النخلة التي بالكناسة، فتشق أربع قطع فتصلب أنت عى ربعها، وحجر بن عدي على ربعها، ومحمد بن أكثم على ربعها، وخالد بن مسعود على ربعها (2).
قال ميثم: فشككت في نفسي، وقلت: إن عليا ليخبرنا بالغيب، فقلت له:
أو كائن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي ورب الكعبة كذا عهده إلي النبي صلى الله عليه وآله، قال، فقلت: لم يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال:
ليأخذنك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيدالله بن زياد. قال: وكان عليه السلام يخرج إلى الجبانة، وأنا معه فيمر بالنخلة فيقول لي: يا ميثم إن لك ولها شأنا من الشأن.
قال: فلما ولي عبيد الله بن زياد الكوفة، ودخلها تعلق علمه بالنخلة التي بالكناسة فتمزق، فتطير من ذلك، فأمر بقطعها فاشتراها رجل من النجارين، فشقها أربع قطع.
____________
(1) الكشي: ج 1 ص 31 ونقله ص 32 برواية اخرى فراجع.