الصفحة 155

قال ميثم: فقلت لصالح ابني، فخذ مسمارا من حديد، فانقش عليه إسمي واسم أبي، ودقه في بعض تلك الاجذاع، قال: فلما مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من اهل السوق، فقالوا: يا ميثم انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق، ونسأله أن يعزله عنا ويولي علينا غيره، قال: وكنت خطيب القوم فنصت لي وأعجبه منطقي، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، تعرف هذا المتكلم؟ قال: من هو؟ قال: ميثم التمار الكذاب مولى الكذاب علي بن أبي طالب. قال: فاستوى جالسا فقال لي: ما تقول؟ فقلت: كذب أصلح الله الأمير، بل أنا الصادق مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقا، فقال لي: لتبرأن من علي ولتذكرن مساويه، وتتولى عثمان وتذكر محاسنه، أو لأقطعن يديك ورجليك ولأصلبنك. فبكيت فقال لي: بكيت من القول دون الفعل! فقلت: والله ما بكيت من القول ولا من الفعل، ولكن بكيت من شك كان دخلني يوم خبرني سيدي ومولاي، فقال لي: وما قال لك؟ قال: فقلت:

أتيت الباب فقيل لي: إنه نائم، فناديت أنتبه أيها النائم فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك. فقال: صدقت وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن فقلت: ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: يأخذ العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد قال: فامتلأ غيظا، ثم قال لي: والله لأقطعن يديك ورجليك والأدعن لسانك حتى اكذبك واكذب مولاك. فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم اخرج فأمر به أن يصلب، فنادى بأعلى صوته أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: فاجتمع الناس وأقبل يحدثهم بالعجائب قال: وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا ميثم التمار يحدث الناس عن علي بن أبي طالب، قال: فانصرف مسرعا، فقال: أصلح الله الأمير، بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه فإني لست آمن أن تتغير قلوب أهل الكوفة

الصفحة 156
فيخرجوا عليك قال: فالتفت إلى حرسي فوق رأسه فقال: اذهب فاقطع لسانه.

قال: فأتاه الحرسي فقال له: يا ميثم، قال: ما تشاء؟ قال: اخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه، قال ميثم، ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي، هاك لساني، قال: فقطع لسانه، فتشحط ساعة في دمه، ثم مات، وامر به فصلب.

قال صالح: فمضيت بعد ذلك بأيام فإذا هو قد صلب على الربع الذي دققت فيه المسمار.

(767)
أبو كهمس وابن أبي ليلى

عن أبي كهمس قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: شهد محمد بن مسلم الثقفي القصير عند ابن أبي ليلى بشهادة فرد شهادته؟ فقلت: نعم، فقال: إذا صرت إلى الكوفة فأتيت ابن أبي ليلى، فقل له: أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول: قال أصحابنا، ثم سله عن الرجل يشك في الركعتين الأوليين من الفريضة، وعن الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله؟ وعن الرجل يرمي الجمار بسبع حصيات فتسقط منه واحدة كيف يصنع؟ فإذا لم يكن عنده منها شئ فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام الله منك، وأعلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟

قال أبو كهمس: فلما قدمت أتيت ابن أبي ليلى قبل أن أصير الى منزلي، فقلت له: أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول قال أصحابنا. قال هات: قال: قلت: ما تقول في رجل شك في الركعتين الاوليين

____________

(1) الكشي: ج 1 ص 298.

الصفحة 157
من الفريضة؟ فأطرق ثم رفع رأسه إلي فقال: قال أصحابنا، فقلت: هذا شرطي عليك ألا تقول قال أصحابنا. فقال: ما عندي فيها شئ.

فقلت له: ما تقول في الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله؟

فأطرق ثم رفع رأسه فقال: قال أصحابنا، فقلت: له هذا شرطي عليك.

فقال: ما عندي فيها شئ.

فقلت: رجل رمى الجمار بسبع حصيات، فسقطت منه حصاة كيف يصنع؟ فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: قال أصحابنا، فقلت: أصلحك الله هذا شرطي عليك، فقال: ليس عندي فيها شئ.

فقلت: يقول لك جعفر بن محمد: ما حملك أن رددت شهادة رجل أعرف منك بأحكام الله وأعرف بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟

فقال لي: ومن هو؟ فقلت، محمد بن مسلم الطائفي القصير.

قال: فقال: والله إن جعفر بن محمد قال لك هذا؟ قال: فقلت: والله إنه قال لي جعفر هذا.

فأرسل إلى محمد بن مسلم، فدعاه فشهد عنده بتلك الشهادة، فأجاز شهادته (1).

(768)
الحسن بن موسى مع الاعرابي

عن الحسن بن موسى بن جعفر قال: كنت عند أبي جعفر - يعني محمد بن علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام - بالمدينة وعنده علي بن جعفر وأعرابي

____________

(1) الكشي: ص 163 - 164.

الصفحة 158
من أهل المدينة جالس، فقال لي الاعرابي: من هذا الفتى؟ وشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام، قلت: هذا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا سبحان الله، رسول الله قد مات منذ مائتي سنة وكذا سنة، وهذا حدث كيف يكون؟

قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي علي بن أبي طالب، وعلي وصي رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.

قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي يبدأني ليكون حدة الحديد بي قبلك. قال: قلت: يهنئك، هذا عم أبيه، قال:

فقطع له العرق.

ثم أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض، فقام علي بن جعفر عليه السلام فسوى له نعليه حتى لبسهما (1).

(769)
عمار وعائشة

في كامل الجزري: قال عمار لعائشة بعد الجمل: ما ابعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك؟ فقالت عائشة: والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك (2).

(770)
زينب وعائشة

عن ذكوان مولى ام سلمة عن زينب بنت أبي سلمة قالت: كنت يوما عند

____________

(1) الكشي: ص 429 - 430.

(2) بهج الصباغة: ج 7 / 79.

الصفحة 159
عائشة ابنة أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وآله، فإني لعندها إذ دخل رجل معتم عليه أثر السفر، فقال: قتل علي بن أبي طالب عليه السلام - فقالت عائشة:

إن تك ناعيا فلقد نعاه * نعي ليس في فيه التراب

ثم قالت: من قتله؟ قالوا: رجل من مراد. قالت: رب قتيل الله بيد رجل من مراد.

قالت زينب: فقلت: سبحان الله يا ام المؤمنين، أتقولين مثل هذا لعلي في سابقته وفضله؟ فضحكت، وقالت: بسم الله إذا نسيت فذكريني (1).

(771)
الفصل مع قريش

إن أبا بكر لما بويع افتخر تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجل الانصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش وخصوصا يا بني تيم، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها ذونكم، ولو طلبنا هذا الامر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا وحقدا علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهى إليه.

وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا:

ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن
ما فيه ما فيهم لا يمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن
ماذا الذي ردهم عنه فتعلمه * ها أن ذا غبننا من أعظم الغبن

____________

(1) الموفقيات لابن بكار: ص 131، وقد مضى في ج 2 ص 377 عن مقاتل الطالبيين برواية اخرى.

الصفحة 160
قال الزبير: فبعث إليه علي فنهاه وأمره ألا يعود، وقال: سلامة الدين أحب إلينا من غيره (1).

(772)
الفضل وعمارة

روى أبو جعفر الطبري قال: كان عمارة بن عقبة بن أبي معيط مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان، لم يهجه علي عليه السلام ولم يذعره، وكان يكتب إلى معاوية بالاخبار سرا.

ومن شعر الوليد لاخيه عمارة يحرضه:

إن يك ظني في عمارة صادقا * ينم ولا يطلب بذحل ولاوتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق فالقصر
تمشى رخي البال مستشزر القوى * كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

قال: فأجابه الفضل بن العباس:

أتطلب ثأرا منه ولا له * وما لابن ذكوان الصغور والوتر (2)
كما افتخرت بنت الحمار بامها * وتنسى أباها إذ تسامى اولو الفخر (3)
ألا إن خير الناس بعد نبيهم * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر (4)
وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر (5) (6)

____________

(1) الموفقيات: ص 580، وابن أبي الحديد: ج 6 / 21.

(2) في ذ: وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو.

(3) رواية الطبري: كما اتصلت بنت الحمار بامها... وتنسى أباها إذ تسامى اولي الفخر.

(4) الطبري: (بعد محمد) بدل (بعد نبيهم).

(5) بعده في الطبري:

فلو رأت الانصار ظلم ابن عمكم * لكانوا له من ظلمه حاضري النصر
كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله * وأن يسلمه للاحابيش من مصر

(6) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 / 115 - 116.

الصفحة 161

(773)
بين الأنصار وقريش

يذكر التاريخ لنا ما جرى بين الانصار والمهاجرين من المفاوضات والحوار بعد أن تم الامر لابي بكر، وهنا للشيعة مواقف، وها نحن نذكرها كلها من الموفقيات للزبير بكار:

قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الانصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عوف الزهري، قال: لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الانصار على بيعته، ولام بعضهم بعضا، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه، وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.

وكان أشد قريش على الانصار نفر فيهم وهم سهيل بن عمرو أحد بني عامر ابن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان، وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله ثم دخلوا في الاسلام، وكلهم موتور قد وتره الانصار:

أما سهيل بن عمرو، فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر، وأما الحارث بن هشام، فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر، وهو فار عن أخيه. وأما عكرمة ابن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد وفي أنفسهم ذلك.

فلما اعتزلت الانصار تجمع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال: يا معشر قريش، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الانصار، وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب، وعلي في بيته لو شاء ردهم، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم، فوالله إني لارجو ا لله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم.


الصفحة 162
ثم قام الحارث بن هشام فقال: إن يكن الانصار تبوأت الدار والايمان من قبل، ونقلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دورهم من دورنا فآووا ونصروا، ثم ما رضوا حتى قاسمونا الاموال وكفونا العمل، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف، وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الاولى بهم والمظنون معهم.

ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الائمة من قريش) ما أنكرنا إمرة الانصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار، وقد عجلت الانصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الامر ولا أخرجناهم من الشورى وأن الذي هم فيه من فلتات الامورى، ونزغات الشيطان، وما لا يبلغه المنى، ولا يحمله الامل، أعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم، فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد ليصر الله هذا الامر فيه.

قال: وحضر أبو سفيان بن حرب فقال:

يا معشر قريش، إنه ليس للانصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها، وإلا فحسبهم حيث انتهى بهم، وايم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة لنضربنهم على الاسلام كما ضربوا عليه، فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش وتطيعه الانصار.

فلما بلغ الانصار قول هؤلاء الرهط، قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال:

يا معشر الانصار، إنما يكبر عليهم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من قوم كلهم موتور، فلا يكبرن عليكم إنما الرأي والقول مع الاخيار المهاجرين، فإن تكلمت رجال قريش

الصفحة 163
الذين هم أهل الاخرة مثل كلام هؤلاء فعند ذلك قولوا ما أحببتم وإلا فأمسكوا.

وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:

تنادى سهيل وابن حرب حارث * وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل
قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه * فأصبح بالبطحا أذل من النعل
فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم * أسيرا ذليلا لا يمر ولا يحلي
وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله * غداة لوا بدر فمرجله يغلي
وراكضنا تحت العجاجة حارث * على ظهر جرداء كباسقة النخل
يقبلها طورا وطورا يشمها * ويعدلها بالنفس والمال والاهل
اولئك رهط من قريش تبايعوا * على خطة ليست من الخطط الفضل
وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم * كأنا اشتملنا من قريش على ذجل
وكلهم ثان عن الحق عطفه * يقول: اقتلوا الانصار يا بئس من فعل
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف * صروف الليالي والبلاء على رجل
بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا * كقسمة أيسا الجزور من الفضل
ومن بعد ذاك المال أنصاف دورنا * وكنا اناسا لا نعير بالبخل
ونحمي ذمار الحي فهر بن مالك * ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل
فكان جزاء الفضل منا عليهم * جهالتهم حمقا وماذاك بالعدل

فبلغ شعر حسان قريشا، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه،

فقال: معشر الانصار خافوا ربكم * واستجيروا الله من شر الفتن
إنني أرهب حربا لا قحا * يشرق المرضع فيها باللبن
جرها سعد وسعد فتنة * ليت سعد بن عباد لم يكن
خلف برهوت خفيا شخصه * بين بصرى ذي رعين وجدن


الصفحة 164

ليس ما قدر سعد كائنا * ما جرى البحر وما دام حضن
ليس بالقاطع منا شعرة * كيف يرجى خير أمر لم يحن
ليس بالمدرك منها أبدا * غير أضغاث أماني الوسن

قال الزبير: لما اجتمع جمهور الناس لابي بكر أكرمت قريس معن بن عدي وعويم بن ساعدة، وكان لهما فضل قديم في الاسلام، فاجتمعت الانصار لهما في مجلس ودعوهما، فلما احضرا أقبلت الانصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك، فتكلم معن فقال:

يا معشر الانصار، إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته العاقبة، فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم، ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم، فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه.

قال الزبير: ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال:

يا معشر الانصار، إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم بأنفسكم، فاحمدوا الله على حسن البلاء، وطول العافية، وصرف هذه البلية عنكم، وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها، فوجدتها جاءت من الاماني والحسد، واحذروا النقم، فوددت أن الله صير إليكم هذا الامر بحقه فكنا نعيش فيه.

فوثبت عليهما الانصار، فأغلضوا لهما، وفحشوا عليهما، وانبرى لهما فروة بن عمرو فقال:، أنسيتم قولكما لقريش: (إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤكم بفتنتهم) هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى، قد تصرف الحية عن وجهها وسمها في نابها.

فقال معن في ذلك:

وقالت لي الانصار: إنك لم تصب * فقلت: أما لي في الكلام نصيب


الصفحة 165

فقالوا: بلى قل ما بدالك راشدا * فقلت: ومثلي بالجواب طبيب
تركتكم والله لما رأيتكم * تيوسا لها بالحرتين نبيب
تنادون بالامر الذي النجم دونه * ألا كل شئ ما سواه قريب
فقلت لكم قول الشفيق عليكم * وللقلب من خوف البلاء وجيب
دعوا الركض واثنوا من أعنة بغيكم * ودبوا فسير القاصدين دبيب
وخلوا قريشا والامور وبايعوا * لمن بايعوه ترشدوا وتصيبوا
أراكم أخذتم حقكم بأكفكم * وما الناس إلا مخطئ ومصيب
فلما أبيتم زلت عنكم إليهم * وكنت كأني يوم ذاك غريب
فإن كان هذا الامر ذنبي إليكم * فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب
فلا تبعثوا مني الكلام فإنني * إذا شئت يوما شاعر وخطيب
وإني لحلو تعتريني مرارة * وملح اجاج تارة وشروب
لكل امرئ عندي الذي هو أهله * أفانين شتى والرجال ضروب

وقال عويم بن ساعدة في ذلك:

وقالت لي الانصار أضعاف قولهم * لمعن، وذاك القول جهل من الجهل
فقلت: دعوني لا أبا لابيكم * فإني أخوك صاحب الحظر الفصل
أنا صاحب القول الذي تعرفونه * اقطع أنفاس الرجال على مهل
فإن تسكتوا أسكت وفي الصمت راحة * وإن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلي
وما لمت نفسي في الخلاف عليكم * وإن كنتم مستجمعين على عذلي
اريد بذاك الله لا شئ غيره * وما عند رب الناس من درج الفضل
وما لي رحم في قريش قريبة * ولا دارها داري ولا أصلها أصلي
ولكنهم قوم علينا أئمة * أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي
وكان أحق الناس أن تقنعوا به * ويحتملوا من جاء في قوله مثلي


الصفحة 166

لاني أخف الناس فيما يسركم * وفيما يسؤكم لا امر ولا احلي (1)

قال فروة بن عمرو - وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر وكان ممن جاهد مع رسول الله، وقاد فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيدا، وهو من أصحاب علي وممن شهد معه يوم الجمل - قال: فذكر معنا وعويما وعاتبهما على قولهما: (خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم):

ألا قل لمعن إذا جئته * وذاك الذي شيخه ساعده

بأن المقال الذي قلتما، خفيف علينا سوى واحده

مقالكم: إن من خلفنا * مراض قلوبهم فاسده
حلال الدماء على فتنة * فيا بئسما ربت الوالده
فلم تأخذا قدر أثمانها * ولم تستفيدا بها فائده
لقد كذب الله ما قلتما * وقد يكذب الرائد الواعده

قال الزبير: ثم إن الانصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما، ثم اجتمعت جماعة من قريش يوما وفيهم ناس من الانصار وأخلاط (2) من المهاجرين - وذلك بعد انصراف الانصار عن رأيها وسكون الفتنة - فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه فجاء إليهم فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد دعواه الامر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من الانصار علظيمة، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلوا حبل الاسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الائمة من قريش) ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا،

____________

(1) في المصدر: يسوء بدل يسؤكم.

(2) الاخلاط: القوم المختلطون.

الصفحة 167
وإن كانوا لم يسمعوها فماا هم كالمهاجرين، ولا سعد كأبي بكر، ولا المدينة كمكة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد، وانصرف إلى منزله وقد ظفر، فقال:

ألا قل لاوس إذا جئتها * وقل إذا ما جئت للخزرج (1)
تمنيتم الملك في يثرب * فأنزلت القدر لم تضج
وأخدجتم الامر قبل التما * م وأعجب بذا المعجل المخدج (2)
تريدون نتج الحيال العشا... * ر ولم تلقحوه فلم ينتج
عجبت لسعد وأصحابه * ولو لم يهيجوه لم يهتج
رجا الخزرجي رجاء السراب * وقد يخلف المرء ما يرتجي
فكان كمنح على كفه * بكف يقطعها أهوج

فلما بلغ الانصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان، وكان رجلا أحمرا قصيرا، تزدريه العيون، وكان سيدا فخما فأتى عمر وهو في جماعة من قريش، فقال:

والله يا عمر ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم وما كان الله ليخرجكم من الاسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبي صلى الله عليه وآله قال: (الائمة من قريش)، فقد قال: (لو سلك الناس شعبا، وسلك الانصار شعبا، لسلكت شعب الانصار)، والله ما أخرجناكم من الامر إذ قلنا: منا أمير ومنكم أمير، وأما من ذكرت، فأبوبكر لعمري خير من سعد، لكن سعدا في الانصار أطوع من أبي بكر في قريش، فأما المهاجرون والانصار، فلا فرق بينهم أبدا، ولكنك يا ابن العاص، وترث بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل

____________

(1) في المصدر: كلما بدل ما. ويحتمل أن يكون الصحيح (وقل ما إذا جئت للخزرج.

(2) يقال: اخدج الامر، إذا لم يحكمه، والمخدج: الناقص.

الصفحة 168
جعفر وأصحابه، ووترث بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد، ثم انصرف فقال:

فقل لقريش نحن أصحاب مكة * ويوم حنين والفوارس في بدر
وأصحاب احد والنضير وخيبر * ونحن رجعنا من قريظة بالذكر
ويوم بأرض الشام أرض جعفر * وزيد وعبد الله في علق يجري
وفي كل يوم ينكر الكلب أهله * نطاعن فيه بالمثقفة السمر
ونضرب في نقع العجاجة أرؤسا * ببيض كأمثال البروق إذا تسري
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف * صروف الليالي والعظيم من الامر
وقلنا لقوم هاجروا قبل: مرحبا * وأهلا وسهلا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وبيوتنا * كقسمة أيسار الجزور على الشطر
ونكفيكم الامر الذي تكرهونه * وكنا انا سانذهب العسر باليسر
وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وأهل أبا بكر لها خير قائم * وإن عليا كان أخلق بالامر
وكان هوانا في علي وإنه * لاهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
فذاك بعون الهل يدعو إلى الهدى * وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر
وهذا بحمد الله يهدي من العمى * ويفتح آذانا ثقلن من الوقر
نجي رسول الله في الغار وحده * وصاحبه الصديق في سالف الدهر
فلولا اتقاء الله لم تذهبوا بها * ولكن هذا الخير أجمع للصبر
ولم نرض إلا بالرضا ولربما * ضربنا بأيدينا إلى أسفل القدر

فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منها، وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن، وكان رسول الله استعمله، عليها، وكان له ولاخيه أثر قديم عظيم في الاسلام، وهما أول من أسلم من قريش،

الصفحة 169
ولهما عبادة وفضل، فغضب للانصار وشتم عمرو بن العاص، وقال:

يا معشر قريش، إن عمروا دخل في الاسلام حين لم يجد بدا من الدخول فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الاسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والانصار، والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، و ما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، وقد وصى رسول الله بهم وعزاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني.

(قلت: هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر وقال: لا ابايع إلا عليا، وقد ذكرنا خبره فيما تقدم) (1).

قال الزبير: وقال: خالد بن سعيد بن العاص في ذلك:

تفوه عمرو بالذي لا نريده * وصرح للانصار عن شنأة البغض
فإن تكن الانصار زلت فإننا * نقيل ولا نجزيهم القرض بالقرض
فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا * ولا تحملن يا عمرو بعضا على بعض
أتنسى لهم يا عمرو ما كان منهم * ليالي جئناهم من النفل والفرض
وقسمتنا الاموال كاللحم بالمدى * وقسمتنا الاوطان كل به يقضي
ليالي كل الناس بالكفر جهرة * ثقال علينا مجمعون على البغض
فساووا وآووا وانتهينا إلى المنى * وقر قرارانا من الامن والخفض

قال الزبير: ثم إن رجالا من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى عمرو بن العاص فقالوا له: إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والاسلام، فلا تدع الانصار وما قالت، وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد وفيه ناس

____________

(1) راجع شرح ابن أبي الحديد: ج 2 / 21 / 58 فله كلام في هذا اليوم، وج 6 / 41.

الصفحة 170
من قريش وغيرهم، فتكلم وقال:

إن الانصار ترى لنفسها ما ليس لها، وأيم الله لوددت أن الله خلى عنا وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما احب، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزنا هم عن كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف، فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم.

ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وندم على قوله للخؤلة التي بين ولد عبد المطلب وبين الانصار، ولان الانصار كانت تعظم عليا وتهتف باسمه حينئذ، فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلا أن يأمرنا فنفعل.

ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب وشتم عمروا وقال: (آذى الله ورسوله) ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضبا فقال: يا معشر قريش، إن حب الانصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة، وكره له قريشا فنقله إلى الانصار، ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الاموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون).

ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي، ساء به الواتر وسربه الموتور، فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت، وإنه من أحب الله ورسوله أحب الانصار فليكفف عمرو عنا نفسه.


الصفحة 171
قال الزبير: فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أيها الرجل أما إذا غضب علي فاكفف.

وقال خزيمة بن ثابت الانصاري يخاطب قريشا:

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا * وبينكم قد طال جل التماحك (1)
فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا * ولا خير فينا بعد فهر بن مالك
كلانا على الاعداء كف طويلة * إذا كان يوم فيه جب الحوارك
فلا تذكروا ما كان منا ومنكم * ففي ذكر ما قد كان مشي التساوك (3)

قال الزبير وقال علي للفضل: يا فضل انصر الانصار بلسانك ويدك، فإنهم منك، وإنك منهم، فقال الفضل:

قلت يا عمرو مقالا فاحشا * إن تعد يا عمرو والله فلك
إنما الانصار سيف قاطع * من تصبه ضبة السيف هلك
وسيوف قاطع مضربها * وسهام الله في يوم الحلك
نصروا الدين وآووا أهله * منزل رحب ورزق مشترك
وإذا الحرب تلظت نارها * بركوا فيها إذا الموت برك

ودخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به، وقال: وريت بك زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك وابعث به إلى الانصار، فلما بلغ ذلك الانصار، قالت: لا أحد يجيب إلا حسان الحسام، فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل فقال: كيف اصنع بجوابه، إن لم أتحرقوا فيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي، فقال له خزيمة بن ثابت: اذكر عليا وآله يكفك عن كل شئ فقال:

____________

(1) التماحك: اللجاج.

(2) كناية عن الشدة، والحارك: عظم على الظهر.

(3) التساوك: المشي الضعيف.

الصفحة 172

جزى الله عنا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة * مكانك هيهات الهزال من السمن
وأنت من الاسلام في كل موطن * بمنزلة الدلو البطين من الرسن
غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة * أمات بها التقوى وأحيابها الاحن
فكنت المرجى من لؤي بن غالب * لما كان منهم والذي كان لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه * وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن
فحقك مادامت بنجد وشيجة * عظيم علينا ثم بعد على اليمن

قال الزبير: وبعثت الانصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب فخرج الى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم: يا معشر قريش، إن الله جعل الانصار أنصارا فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الاسلام، ودفعه عن الحق، وأطفأ شرفه، وفضل غيره عليه، يقوم مقاما فاحشا فيذكر الانصار، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم، لان رسول الله قال لهم: (أزول معكم حيثما زلتم).

فقال المسلمون جميعا: رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولا صادقا.

قال الزبير: وترك عمرو بن العاص المدينة وخرج عنها حيت رضي عنه علي والمهاجرون (1).

(774)
يحيى مع الرشيد

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه، وعن غيره.

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 / 23 - 36، عن الموفقيات: ص 583 - 599.

الصفحة 173
إن الرشيد دعا بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - يوما، فجعل يذكر ما رفع إليه في أمره - وهو حينئذ في حبسه - وهو يخرج كتبا كانت في يده حججا له، فيقرؤها الرشيد وأطراف الكتب في يد يحيى، فتمثل بعض من حضر:

أني أتيح له حرباء تنضبه * لا يرسل الساق إلا مرسلا ساق

فغضب الرشيد من ذلك: وقال للمتمثل: أتؤيده وتنصره؟ قال: لا، ولكني شبهته في مناظرته واحتجاجه بقول هذا الشاعر.

ثم أقبل عليه فقال: دعني من هذا يا يحيى أينا أحسن وجها أنا أو أنت؟

قال: بل أنت يا أمير المؤمنين، إنك لأنصع لونا وأحسن وجها.

قال: فأينا أكرم وأسخى أنا أو أنت؟ فقال: وما هذا يا أمير المؤمنين، وما تسألني عنه أنت تجبى إليك خزائن الأرض وكنوزها، وأنا أتمحل معاشي من سنة إلى سنة.

قال: فأينا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنا أو أنت؟ قال: قد أجبتك عن خطتين، فأعفني من هذه. قال: لا والله. قال: بل فاعفني. فحلف بالطلاق والعتاق ألا يعفيه.

فقال يا أمير المؤمنين، لو عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه؟ قال: أي والله.

قال: فلو عاش فخطب إلي أكان يحل لي أن أزوجه؟ قال: لا.

قال: فهذا جواب ما سألت.

فغضب الرشيد، وقام من مجلسه، وخرج الفضل بن الربيع، وهو يقول:

لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملكه.

قالوا: ثم رده إلى محبسه في يومه ذلك (1).

____________

(1) مقاتل الطالبين: ص 472 - 474.