قال ميثم: فقلت لصالح ابني، فخذ مسمارا من حديد، فانقش عليه إسمي واسم أبي، ودقه في بعض تلك الاجذاع، قال: فلما مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من اهل السوق، فقالوا: يا ميثم انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق، ونسأله أن يعزله عنا ويولي علينا غيره، قال: وكنت خطيب القوم فنصت لي وأعجبه منطقي، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، تعرف هذا المتكلم؟ قال: من هو؟ قال: ميثم التمار الكذاب مولى الكذاب علي بن أبي طالب. قال: فاستوى جالسا فقال لي: ما تقول؟ فقلت: كذب أصلح الله الأمير، بل أنا الصادق مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقا، فقال لي: لتبرأن من علي ولتذكرن مساويه، وتتولى عثمان وتذكر محاسنه، أو لأقطعن يديك ورجليك ولأصلبنك. فبكيت فقال لي: بكيت من القول دون الفعل! فقلت: والله ما بكيت من القول ولا من الفعل، ولكن بكيت من شك كان دخلني يوم خبرني سيدي ومولاي، فقال لي: وما قال لك؟ قال: فقلت:
أتيت الباب فقيل لي: إنه نائم، فناديت أنتبه أيها النائم فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك. فقال: صدقت وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن فقلت: ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: يأخذ العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد قال: فامتلأ غيظا، ثم قال لي: والله لأقطعن يديك ورجليك والأدعن لسانك حتى اكذبك واكذب مولاك. فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم اخرج فأمر به أن يصلب، فنادى بأعلى صوته أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: فاجتمع الناس وأقبل يحدثهم بالعجائب قال: وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا ميثم التمار يحدث الناس عن علي بن أبي طالب، قال: فانصرف مسرعا، فقال: أصلح الله الأمير، بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه فإني لست آمن أن تتغير قلوب أهل الكوفة
قال: فأتاه الحرسي فقال له: يا ميثم، قال: ما تشاء؟ قال: اخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه، قال ميثم، ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي، هاك لساني، قال: فقطع لسانه، فتشحط ساعة في دمه، ثم مات، وامر به فصلب.
قال صالح: فمضيت بعد ذلك بأيام فإذا هو قد صلب على الربع الذي دققت فيه المسمار.
(767)
أبو كهمس وابن أبي ليلى
عن أبي كهمس قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: شهد محمد بن مسلم الثقفي القصير عند ابن أبي ليلى بشهادة فرد شهادته؟ فقلت: نعم، فقال: إذا صرت إلى الكوفة فأتيت ابن أبي ليلى، فقل له: أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول: قال أصحابنا، ثم سله عن الرجل يشك في الركعتين الأوليين من الفريضة، وعن الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله؟ وعن الرجل يرمي الجمار بسبع حصيات فتسقط منه واحدة كيف يصنع؟ فإذا لم يكن عنده منها شئ فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام الله منك، وأعلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟
قال أبو كهمس: فلما قدمت أتيت ابن أبي ليلى قبل أن أصير الى منزلي، فقلت له: أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول قال أصحابنا. قال هات: قال: قلت: ما تقول في رجل شك في الركعتين الاوليين
____________
(1) الكشي: ج 1 ص 298.
فقلت له: ما تقول في الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله؟
فأطرق ثم رفع رأسه فقال: قال أصحابنا، فقلت: له هذا شرطي عليك.
فقال: ما عندي فيها شئ.
فقلت: رجل رمى الجمار بسبع حصيات، فسقطت منه حصاة كيف يصنع؟ فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: قال أصحابنا، فقلت: أصلحك الله هذا شرطي عليك، فقال: ليس عندي فيها شئ.
فقلت: يقول لك جعفر بن محمد: ما حملك أن رددت شهادة رجل أعرف منك بأحكام الله وأعرف بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟
فقال لي: ومن هو؟ فقلت، محمد بن مسلم الطائفي القصير.
قال: فقال: والله إن جعفر بن محمد قال لك هذا؟ قال: فقلت: والله إنه قال لي جعفر هذا.
فأرسل إلى محمد بن مسلم، فدعاه فشهد عنده بتلك الشهادة، فأجاز شهادته (1).
(768)
الحسن بن موسى مع الاعرابي
عن الحسن بن موسى بن جعفر قال: كنت عند أبي جعفر - يعني محمد بن علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام - بالمدينة وعنده علي بن جعفر وأعرابي
____________
(1) الكشي: ص 163 - 164.
قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي علي بن أبي طالب، وعلي وصي رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي يبدأني ليكون حدة الحديد بي قبلك. قال: قلت: يهنئك، هذا عم أبيه، قال:
فقطع له العرق.
ثم أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض، فقام علي بن جعفر عليه السلام فسوى له نعليه حتى لبسهما (1).
(769)
عمار وعائشة
في كامل الجزري: قال عمار لعائشة بعد الجمل: ما ابعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك؟ فقالت عائشة: والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك (2).
(770)
زينب وعائشة
عن ذكوان مولى ام سلمة عن زينب بنت أبي سلمة قالت: كنت يوما عند
____________
(1) الكشي: ص 429 - 430.
(2) بهج الصباغة: ج 7 / 79.
ثم قالت: من قتله؟ قالوا: رجل من مراد. قالت: رب قتيل الله بيد رجل من مراد.
قالت زينب: فقلت: سبحان الله يا ام المؤمنين، أتقولين مثل هذا لعلي في سابقته وفضله؟ فضحكت، وقالت: بسم الله إذا نسيت فذكريني (1).
(771)
الفصل مع قريش
إن أبا بكر لما بويع افتخر تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجل الانصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش وخصوصا يا بني تيم، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها ذونكم، ولو طلبنا هذا الامر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا وحقدا علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهى إليه.
وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا:
____________
(1) الموفقيات لابن بكار: ص 131، وقد مضى في ج 2 ص 377 عن مقاتل الطالبيين برواية اخرى.
(772)
الفضل وعمارة
روى أبو جعفر الطبري قال: كان عمارة بن عقبة بن أبي معيط مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان، لم يهجه علي عليه السلام ولم يذعره، وكان يكتب إلى معاوية بالاخبار سرا.
ومن شعر الوليد لاخيه عمارة يحرضه:
قال: فأجابه الفضل بن العباس:
____________
(1) الموفقيات: ص 580، وابن أبي الحديد: ج 6 / 21.
(2) في ذ: وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو.
(3) رواية الطبري: كما اتصلت بنت الحمار بامها... وتنسى أباها إذ تسامى اولي الفخر.
(4) الطبري: (بعد محمد) بدل (بعد نبيهم).
(5) بعده في الطبري:
(6) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 / 115 - 116.
(773)
بين الأنصار وقريش
يذكر التاريخ لنا ما جرى بين الانصار والمهاجرين من المفاوضات والحوار بعد أن تم الامر لابي بكر، وهنا للشيعة مواقف، وها نحن نذكرها كلها من الموفقيات للزبير بكار:
قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الانصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عوف الزهري، قال: لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الانصار على بيعته، ولام بعضهم بعضا، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه، وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.
وكان أشد قريش على الانصار نفر فيهم وهم سهيل بن عمرو أحد بني عامر ابن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان، وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله ثم دخلوا في الاسلام، وكلهم موتور قد وتره الانصار:
أما سهيل بن عمرو، فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر، وأما الحارث بن هشام، فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر، وهو فار عن أخيه. وأما عكرمة ابن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد وفي أنفسهم ذلك.
فلما اعتزلت الانصار تجمع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال: يا معشر قريش، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الانصار، وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب، وعلي في بيته لو شاء ردهم، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم، فوالله إني لارجو ا لله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم.
ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الائمة من قريش) ما أنكرنا إمرة الانصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار، وقد عجلت الانصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الامر ولا أخرجناهم من الشورى وأن الذي هم فيه من فلتات الامورى، ونزغات الشيطان، وما لا يبلغه المنى، ولا يحمله الامل، أعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم، فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد ليصر الله هذا الامر فيه.
قال: وحضر أبو سفيان بن حرب فقال:
يا معشر قريش، إنه ليس للانصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها، وإلا فحسبهم حيث انتهى بهم، وايم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة لنضربنهم على الاسلام كما ضربوا عليه، فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش وتطيعه الانصار.
فلما بلغ الانصار قول هؤلاء الرهط، قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال:
يا معشر الانصار، إنما يكبر عليهم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من قوم كلهم موتور، فلا يكبرن عليكم إنما الرأي والقول مع الاخيار المهاجرين، فإن تكلمت رجال قريش
وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:
فبلغ شعر حسان قريشا، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه،
قال الزبير: لما اجتمع جمهور الناس لابي بكر أكرمت قريس معن بن عدي وعويم بن ساعدة، وكان لهما فضل قديم في الاسلام، فاجتمعت الانصار لهما في مجلس ودعوهما، فلما احضرا أقبلت الانصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك، فتكلم معن فقال:
يا معشر الانصار، إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته العاقبة، فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم، ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم، فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه.
قال الزبير: ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال:
يا معشر الانصار، إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم بأنفسكم، فاحمدوا الله على حسن البلاء، وطول العافية، وصرف هذه البلية عنكم، وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها، فوجدتها جاءت من الاماني والحسد، واحذروا النقم، فوددت أن الله صير إليكم هذا الامر بحقه فكنا نعيش فيه.
فوثبت عليهما الانصار، فأغلضوا لهما، وفحشوا عليهما، وانبرى لهما فروة بن عمرو فقال:، أنسيتم قولكما لقريش: (إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤكم بفتنتهم) هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى، قد تصرف الحية عن وجهها وسمها في نابها.
فقال معن في ذلك:
وقال عويم بن ساعدة في ذلك:
قال فروة بن عمرو - وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر وكان ممن جاهد مع رسول الله، وقاد فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيدا، وهو من أصحاب علي وممن شهد معه يوم الجمل - قال: فذكر معنا وعويما وعاتبهما على قولهما: (خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم):
بأن المقال الذي قلتما، خفيف علينا سوى واحده
قال الزبير: ثم إن الانصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما، ثم اجتمعت جماعة من قريش يوما وفيهم ناس من الانصار وأخلاط (2) من المهاجرين - وذلك بعد انصراف الانصار عن رأيها وسكون الفتنة - فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه فجاء إليهم فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد دعواه الامر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من الانصار علظيمة، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلوا حبل الاسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الائمة من قريش) ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا،
____________
(1) في المصدر: يسوء بدل يسؤكم.
(2) الاخلاط: القوم المختلطون.
فلما بلغ الانصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان، وكان رجلا أحمرا قصيرا، تزدريه العيون، وكان سيدا فخما فأتى عمر وهو في جماعة من قريش، فقال:
والله يا عمر ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم وما كان الله ليخرجكم من الاسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبي صلى الله عليه وآله قال: (الائمة من قريش)، فقد قال: (لو سلك الناس شعبا، وسلك الانصار شعبا، لسلكت شعب الانصار)، والله ما أخرجناكم من الامر إذ قلنا: منا أمير ومنكم أمير، وأما من ذكرت، فأبوبكر لعمري خير من سعد، لكن سعدا في الانصار أطوع من أبي بكر في قريش، فأما المهاجرون والانصار، فلا فرق بينهم أبدا، ولكنك يا ابن العاص، وترث بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل
____________
(1) في المصدر: كلما بدل ما. ويحتمل أن يكون الصحيح (وقل ما إذا جئت للخزرج.
(2) يقال: اخدج الامر، إذا لم يحكمه، والمخدج: الناقص.
فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منها، وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن، وكان رسول الله استعمله، عليها، وكان له ولاخيه أثر قديم عظيم في الاسلام، وهما أول من أسلم من قريش،
يا معشر قريش، إن عمروا دخل في الاسلام حين لم يجد بدا من الدخول فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الاسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والانصار، والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، و ما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، وقد وصى رسول الله بهم وعزاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني.
(قلت: هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر وقال: لا ابايع إلا عليا، وقد ذكرنا خبره فيما تقدم) (1).
قال الزبير: وقال: خالد بن سعيد بن العاص في ذلك:
قال الزبير: ثم إن رجالا من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى عمرو بن العاص فقالوا له: إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والاسلام، فلا تدع الانصار وما قالت، وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد وفيه ناس
____________
(1) راجع شرح ابن أبي الحديد: ج 2 / 21 / 58 فله كلام في هذا اليوم، وج 6 / 41.
إن الانصار ترى لنفسها ما ليس لها، وأيم الله لوددت أن الله خلى عنا وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما احب، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزنا هم عن كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف، فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم.
ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وندم على قوله للخؤلة التي بين ولد عبد المطلب وبين الانصار، ولان الانصار كانت تعظم عليا وتهتف باسمه حينئذ، فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلا أن يأمرنا فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب وشتم عمروا وقال: (آذى الله ورسوله) ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضبا فقال: يا معشر قريش، إن حب الانصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة، وكره له قريشا فنقله إلى الانصار، ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الاموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون).
ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي، ساء به الواتر وسربه الموتور، فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت، وإنه من أحب الله ورسوله أحب الانصار فليكفف عمرو عنا نفسه.
وقال خزيمة بن ثابت الانصاري يخاطب قريشا:
قال الزبير وقال علي للفضل: يا فضل انصر الانصار بلسانك ويدك، فإنهم منك، وإنك منهم، فقال الفضل:
ودخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به، وقال: وريت بك زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك وابعث به إلى الانصار، فلما بلغ ذلك الانصار، قالت: لا أحد يجيب إلا حسان الحسام، فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل فقال: كيف اصنع بجوابه، إن لم أتحرقوا فيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي، فقال له خزيمة بن ثابت: اذكر عليا وآله يكفك عن كل شئ فقال:
____________
(1) التماحك: اللجاج.
(2) كناية عن الشدة، والحارك: عظم على الظهر.
(3) التساوك: المشي الضعيف.
قال الزبير: وبعثت الانصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب فخرج الى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم: يا معشر قريش، إن الله جعل الانصار أنصارا فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الاسلام، ودفعه عن الحق، وأطفأ شرفه، وفضل غيره عليه، يقوم مقاما فاحشا فيذكر الانصار، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم، لان رسول الله قال لهم: (أزول معكم حيثما زلتم).
فقال المسلمون جميعا: رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولا صادقا.
قال الزبير: وترك عمرو بن العاص المدينة وخرج عنها حيت رضي عنه علي والمهاجرون (1).
(774)
يحيى مع الرشيد
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه، وعن غيره.
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 6 / 23 - 36، عن الموفقيات: ص 583 - 599.
فغضب الرشيد من ذلك: وقال للمتمثل: أتؤيده وتنصره؟ قال: لا، ولكني شبهته في مناظرته واحتجاجه بقول هذا الشاعر.
ثم أقبل عليه فقال: دعني من هذا يا يحيى أينا أحسن وجها أنا أو أنت؟
قال: بل أنت يا أمير المؤمنين، إنك لأنصع لونا وأحسن وجها.
قال: فأينا أكرم وأسخى أنا أو أنت؟ فقال: وما هذا يا أمير المؤمنين، وما تسألني عنه أنت تجبى إليك خزائن الأرض وكنوزها، وأنا أتمحل معاشي من سنة إلى سنة.
قال: فأينا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنا أو أنت؟ قال: قد أجبتك عن خطتين، فأعفني من هذه. قال: لا والله. قال: بل فاعفني. فحلف بالطلاق والعتاق ألا يعفيه.
فقال يا أمير المؤمنين، لو عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه؟ قال: أي والله.
قال: فلو عاش فخطب إلي أكان يحل لي أن أزوجه؟ قال: لا.
قال: فهذا جواب ما سألت.
فغضب الرشيد، وقام من مجلسه، وخرج الفضل بن الربيع، وهو يقول:
لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملكه.
قالوا: ثم رده إلى محبسه في يومه ذلك (1).
____________