الصفحة 193
اللفظ بالبداء في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لانها كشفت لهما عن علم متجدد ظهر لهما كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه والنهي عن الذبح بعد الامر به.

قال: أفتقول: إن الله تعالى أراد الذبح لما أمر بن أم لم يرده؟ واعلم أنك إن قلت: انه لم يرده، دخلت في مذاهب المجبرة لقولك: إن الله تعالى أمر بما لا يريده، كذلك إن قلت: انه أراده، دخلت في مذاهبهم أيضا من حيث أنه نهى عما أراده فما خلاصك من هذا؟

فقلت له: هذه شبهة يقرب أمرها، والجواب عنها لازم لنا جميعا لتصديقنا بالقصة وإقرارنا بها، وجوابي فيها: أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الاجزاء، ثم قد تسمى الافعال التي في مقدمات الذبح مثل القصد والاضجاع وأخذ الشفرة ووضعها على الحلق ونحو ذلك ذبحا مجازا واتساعا، ونظير هذا أن الحاج في الحقيقة هو زائر بيت الله تعالى على منها ما قررته الشريعة من الاحرام والطواف والسعي، وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حوائجه من قبل أن يتوجه إليه أنه حاج اتساعا ومجازا.

فأقول: إن مراد الله تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم عليه السلام من ذبح ولده، إنما كان مقدمات الذبح من الاعتقاد أولا والقصد ثم الاضجاع للذبح، وترك الشفرة على الحلق، وهذه الافعال الشاقة التي ليس بعدها غير الاتمام بتفرقة أجزاء الحلق، وعبر عن ذلك بلفظ الذبح، ليصح من إبراهيم عليه السلام الاعتقاد له والصبر على المضض فيه الذي يستحق جزيل الثواب عليه، ولو فسر له في الامر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح، ولا كان ما أمر به شاقا يستحق عليه المدح والثناء، والمدح لعظيم الاجر، والذي نهى الله تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة، وهو الذي لم تبق غيره، ولم تتعلق الارادة قط به، فقد صح بهذا أن الله تعالى لم يأمر بما لا يريد ولا نهى عما أراد، والحمد لله.


الصفحة 194
قال الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه، وليس هذا هو البداء.

فقلت له: أما في ابتداء الامر فما ظن إبراهيم عليه السلام إلا أن المراد هو الحقيقة، وكذلك كان ظن ولده إسماعيل عليه السلام، فلما انكشفت بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه، كان ظاهره بداء لمشابهته لحال من يأمر بالشئ وينهي عنه بعينه في وقته، وليستسلمه على ظاهر الامر دون باطنه فلم يرد ما ذكرت شيئا (1).

(795)
الكراجكي وجماعة

قال: حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعمائة مجلسا فيه جماعة ممن يحب استماع الكلام، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم، فقال: كيف يصح لكم القول: بالقول والاعتقاد بأن الله لا يجوز عليه الظلم مع قولكم: انه سبحانه يعذب الكفار في يوم القيامة بنار الابد عذابا متصلا غير منقطع؟ وما وجه الحكمة والعدل في ذلك، وقد علمنا أنه هذا الكافر وقع منه كفره في مدة متناهية وأوقات محصورة، وهي مبلغ عمره الذي هو مائة سنة في المثل وأقل أو أكثر؟ فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟ وإلا زعمتم أن عذابه متناه كعمره ليستمر لكم القول بالعدل وتزول مناقضتكم لما تنفون عن الله تعالى من الظلم.

الجواب: فقلت له: سألت، فافهم الجواب، اعلم أن الحكمة لما اقتضت الخلق والتكليف وجب أن يرغب العبد فيما أمره به من الايمان بغاية الترغيب، وبزجر عما نهي عنه من الكفر بغاية التخويف والترهيب، ليكون ذلك أدعى

____________

(1) كنز الفوائد: ص 103 - 105.

الصفحة 195
له الى فعل المأمور به وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه، وليس غاية الترغيب إلا الوعد بالنعيم الدائم المقيم، ولا يكون غاية التخويف والترهيب إلا التوعيد بالعذاب الخالد الاليم، وخلف الخبر كذب والكذب لا يجوز على الحكيم، فبان بهذا الوجه أن تخليد الكافر في العذاب الدائم ليس بخارج عن الحكمة، ولا القول به مناقض الادلة.

فقال صاحب المجلس: قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنا نظن بقية في السؤال تطلع نفوسنا الى أن نسمع عنها الجواب، وهي أن الحال قد اقتضت الى ما ينفرد منه العقل، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة يكون مستحقا على ذنوب حدها متناهية محصورة.

فقلت له: أجل، إن الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره يعذب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، وهذا هو السؤال بعينه، وفي مراعاة ما أجبت به عنه بيان أن العقل لا يشهد به ولا ينفرد منه على أنني آتي بزيادة في الجواب مقنعة في هذا الباب:

فأقول: إن المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نعم المعصي بها، ولذلك عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه، وجلت جناية العبد على سيده لجليل إنعام السيد عليه، فلما كانت نعم الله تعالى أعظم قدرا وأجل أثرا من أن توفى بشكر أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الانعام الموافق لمصالح الانفس والاجسام، كان المستحق على الكفر به وجحده إحسانه ونعمه هو غاية الالام، وغايتها الخلود في النار.

فقال رجل ينتمي الى الفقه كان حاضرا: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين هما أجلى وأبين مما ذكرت. قال له السائل: وما هما؟

قال: أما أحدهما: فهو أن الله سبحانه كما ينعم في القيامة من وقعت منه الطاعة في مدة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياسا على ذلك أن

الصفحة 196
يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناه بعذاب دائم غير منقص ولا متناه.

قال: والجواب الاخر: أنه خلد الكفار في النار لعلمه أنهم لو بقوا أبدا لكانوا كفارا. فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحسانا مفرطا، إما لمغايظتي بذلك أو لمطابقتهما ركاكة فهمه.

فقال لي صاحب المجلس: ما تقول في هذين الجوابين ؟

فقلت: اعفني عن الكلام، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية. فأقسم علي وناشدني.

فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه، وقياسه في الشرع، فأما اصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته، ولو كانت له في ذلك بضاعة لا شتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر، فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب فقد سبه، من أن فساد هذين الجوابين لا يكاد يخفى عمن له أدنى تحصيل:

أما الاول منهما: وهو مماثلته بين إدامة الثواب والعقاب فإنه خطأ في العقل والقياس، وذلك أن مبتدئ النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان الطاعة إن لم يكن ما يفعله مستحقا كان تفضلا، ولا يقال للمتفضل المحسن: لم تفضلت وأحسنت؟ ولا للجواد المنعم: لم جدت وأنعمت، وليس كذلك المعذب على المعصية في تقدير زمان زايد على زمانها، لان ذلك إن لم يكن مستحقا كان ظلما، تعالى الله عن الظلم فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين لازمة، والمسألة مع هذا الجواب عما يوجب التخليد قائمة، والعقلاء مجمعون على أن من أعطى زايدا على فعله أكثر من مقدار أجره فليس له قياسا على ذلك أن يعاقب عمرا على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.

وأما جوابه الثاني: فهو وإن كان قد ذكره بعض الناس لاحق بالاول في

الصفحة 197
السقوط، لانه لو كان تعذيب الله عزوجل للكافر بعذاب الابد إنما هو لانه علم منه أنه لو بقي أبدا كان كافرا لكان إنما عذبه على تقدير كفر لم يفعله، وهذا هو الظلم في الحقيقة الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، لان العبد لا يفعل الكفر إلا مدة محصورة.

وقد اقتضى هذا الجواب: أن تعذيبه الزائد على مدة كفره هو عذاب على ما لم يفعله، ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدئ خلقا ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره ويكلفه إذا علم منه أنه لو أبقاه وأقدره وكلفه كان كافرا جاحدا لانعمه، وقد أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه، وهو كالاول بعينه في العذاب للعلم بالكفر قبل وجوده لا على ما فعله وإحداثه، وقبحها يشهد العقل به ويدل عليه تعالى الله عن إضافة القبيح إليه. فاعلم (فعلم) أنه لا يعتبر في الجواب عن هذا السؤال بما أورده هذا الحاكي عن الشافعي وأن المصير إلى ما قدمناه من الجواب عنه أولى والحمد لله.

فلما سمع المتفقه طعني فيما أورده، وقولي أن الشافعي ليس من أهل العلم بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة، ظهرت أمارات الغضب في وجهه، وتعذر عليه نصرة ما جاء به، كما تعذر عليه وعلى غيره ممن حضر القدح فيما كنت أجبت به، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديث ابتداء لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل كانوا يصفونه بالمعرفة وينسبونه إلى الاصطلاح بالفلسفة، فلما استقر به المجلس، حكوا له السؤال وبعض ما جرى فيه من الكلام.

فقال الرجل: هذا سؤال يلزم الكلام فيه، ويجب على من أقر بالشريعة طلب جواب عنه صحيح يعتمد عليه، ثم سألوني الرجوع الى الكلام والاعادة لما سلف لي من الجواب ليسمع ذلك الرجل الحاضر، فقلت له: ألا سألتم الفقيه إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه

الصفحة 198
الحاكي عن الشافعي؟

قالوا: قد تبين لنا فساد ما كان أجاب به، ولا حاجة بنا الى اشغال الزمان بإعادته قلت: فأنا مجيبكم الى الكلام، وسالك غير الطريقة الاولى في الجواب لعل ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس، وأقرب الى سكون النفس إن وجدت منكم مع الاستماع حسن إنصاف.

قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.

فقلت: كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب الله عزوجل لمن مات وهو كافر بالعذاب الدائم الذي تقدير زمانه لا ينحصر، وقد كان وقع من العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي المنحصر؟

والجواب عن ذلك: إن العذاب المجازى به على المعصية كائنة ما كانت لا كلام بيننا في استحقاقه، وإنما الكلام في اتصاله وانقطاعه، فلا يخلو المعتبر في ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه، والمعصية في نفسها وعظمها من صغرها، فلو كان مدة هي المعتبرة وكان يجب تناهي العذاب لاجل تناهيها في نفسها لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها بحسبها وقدرها حتى لا يتجاوزها ولا يزيد عليها.

وهذا حكم يقضى الشاهد بخلافه، ويجمع العقلاء على فساده، فكم قد رأينا فيما بيننا معصية وقعت في مدة قصيرة كان المستحق من العقاب عليها يحتاج إلى أضعاف تلك المدة، ورأينا معصيتين تماثل في القدر زمانهما واختلف زمان العقاب المستحق عليهما، كعبد شتم سيده فاستحق من الادب على ذلك أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبدا مثله وإن كان زمان الشتمين متماثلا، فالمستحق عليهما من الادب والعقاب يقع في زمان غير مماثل، ولو لم يكن في هذا حجة إلا ما نشاهده من هجران الوالد أياما كثيرة لولده على فعل وقع في ساعة

الصفحة 199
واحدة منه مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله، بل لو لم يكن فيه إلا جواز حبس السيد فيما بيننا لعبده زمانا طويلا على خطيئته، وكذلك الامام العادل لمن (1 (يرى من رعيته لكان فيه كفاية في وضوح الدلالة، وليس يدفع الشاهد إلا مكابر معاند، فعلم بما ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر زمانها، ولا يجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها، ووجب أن يكون المرجع إليها نفسها فبعظمها يعظم المستحق عليها سواء طال الزمان أو قصر، اتصل أم انقطع، وجد فكان محققا، أو عدم فكان مقدرا والحمد لله.

فلما سمع القوم مني هذا الكلام، وتأملوا ما تضمنه من الافصاح والبيان، وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان لم يسعهم غير الاقرار للحق والاذعان والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان، والحمد لله الموفق للصواب وصلاته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين (2).

(796)
الكراجكي وبعض العامة

قال: اجتمعت بدار العلم في القاهرة مع رجل من فقهاء العامة سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم، فقال: ما تقول في القياس؟ وهل تستجيزه في مذهبك أم ترى أنه غير جائز؟

فقلت له: القياس قياسان: قياس في العقليات وقياس في السمعيات، فأما القياس في العقليات فجائز صحيح، وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.

قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف؟ قلت: الواجب أن يكون حدهما واحدا غير

____________

(1) هكذا في الاصل والظاهر أنه (لما).

(2) كنز الفوائد: ص 141 - 144.

الصفحة 200
مختلف. قال: فما هو؟ قلت: القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس هذا هو الحد الشامل لكل قياس، وله بعد هذا شرايط لابد منها، ولا يقاس شئ على شئ إلا بعلة تجتمع بينهما.

قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته والقياس الذي أحلته. قلت: بل بينهما فروق وإن شملهما الحد.

قال: وماهي؟ قلت: منها: أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك، بل يقولون: هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار.

ومنها: أن العلة في القياس في العقليات لا تكون إلا معلومة، وهي عندهم في السمعيات مظنونة غير معلومة.

ومنها: أنها في العقليات لا تكون الا شيئا واحدا، وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.

قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟

قلت: الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى عزوجل، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور واتفق في المختلف، وورد الحظر لشئ والاباحة مثله، بل ورد الحكم في الامر العظيم صغيرا وفي الصغير بالاضافة إليه عظيما، واختلف ذلك كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس، وإذا كان هذا سبيل المشروعات علم أنه لا طريق الى معرفة شئ من أحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر العالم بمصالح العباد، وأنه ليس للقائسين فيه مجال.

فقال أحد الحاضرين: فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المبائن للقياس.

قلت: هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال، ولكني اورد منه طرفا

الصفحة 201
لموضع السؤال:

فمنه: أن الله عزوجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط وليس هو بانجس منهما، وأكثر العامة يروون أن طاهر. وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام وأسقط عنها قضاء ما تركته من الصلاة، وهي أوكد من الصيام. وفرض في الزكاة أن يخرج من الاربعين شاة شاة ولم يفرض في الثمانين شاتين، بل فرضهما بعد كمال المائة والعشرين، وهذا خارج عن القياس.

ونهانا عن التحريش بين بهيمتين، وأباحنا اطلاق البهيمة على ما أضعف منها في الصيد. وجعل للرجل أن يطأمن الاماء ما ملكته يمينه ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها. وأوجب الحد على من رمى غيره بفجور وأسقطه عن من رماء بالكفر وهو أعظم من الفجور، وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزنا عليه إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود.

وهذا كله خارج عن سنن القياس، وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمان أنه قال: سألت سعيد بن المسيب، فقلت: كم في اصبح المرأة؟ قال: عشر من الابل. قلت: كم في اصبعين؟ قال: عشرون قلت: كم في ثلاث؟ قال:

ثلاثون. قلت: كم في أربع؟ قال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعرابي أنت؟ قلت: بل عالم مثبت أو جاهل متعلم. قال: هي السنة يا ابن أخ، ونحو ذلك مما لو ذهبت الى استقصائه لطال الخطاب، وفيما أوردته كفاية لذوي الالباب.

قال السائل: فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا، ولم يكن في الضرورات التي هي اصولها مستمرا ولا صحيحا، فما تنكر أن يكون كذلك الحكم في السمعيات، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحا، وإن لم يكن في اصولها المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا.

فقلت: أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف

الصفحة 202
القياس مما ذكرناه، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها، ولسنا نجد اصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس، وإنما امتنع القياس فيها لانها اصول لا اصول لها، فوضح الفرق بينهما، ومما يبين لك ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت به اصول الشرعيات، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف اصول العقليات التي هي الضرورات، فلا طريق الى الجمع بينهما.

قال: فما تنكر على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الاصول في السمعيات وفروعها فنص لنا على الاصول وعرفنا بها، وأمرنا بقياس الفروع عليها ضربا من التعبد والتكليف ليستحق عليه الاجر والثواب.

قلت: هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعباد، لان القياس لابد فيه من استخراج علة يحمل بها الفروع على الاصل ليماثل بينهما في الحكم، والاحكام الشرعية لو كانت مما توجيه العلل لم يجز في المشروعات النسخ، وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل، وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة، والظنون غير موصلة إلى اثبات ما تعلق بمصالح الخلق، ولا مؤدية الى العلم بمراد الله تعالى من الحكم، ولو فرضنا جواز تكليف العباد القياس (1) في السمعيات لم يكن بد من ورود السمع بذلك إما في القرآن أو في صحيح الاخبار، وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه خلقه.

قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الاخبار، قال الله عزوجل:

(فاعتبروا يا اولي الابصار) فأوجب الاعتبار وهو الاستدلال والقياس، وقال:

(فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فأوجب بالمماثلة

____________

(1) هكذا في الاصل والظاهر انها (بالقياس).

الصفحة 203
المقايسة. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أرسل معاذا الى اليمن قال له: بماذا تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال:

بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله -؟ قال اجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله - صلى الله عليه وآله - لما يرضاه الله ورسوله. وروي عن الحسن بن علي عليهما السلام:

أنه سئل فقيل له: بماذا كان يحكم أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال: بكتاب الله، فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن لم يجد رجم فأصاب، وهذا كله دليل على صحة القياس والاخذ بالاجتهاد واظن والرأي.

فقلت له: أما قول الله عزوجل: (فاعتبروا يا اولي الابصار) فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف، لان الله تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ما يستدل به على حق رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن الله تعالى أمده بالتوفيق ونصره وخذل عدوه، وأمر الناس باعتبار ذلك ازدادوا (1) بصيرة في الايمان، وليس هذا بقياس في المشروعات، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الاحكام.

وأما قوله سبحانه: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس، وإنما تعبد الله سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علمناه من نص الله تعالى، ولو كان حكمها قياسا لكان إذا حكمها في جزاء النعامة بالبدنة لقد قاسا، مع وجود النص بذلك، فيجب أن يتأمل هذا.

وأما الخبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الاحاد التي لا يثبت بها الاصول المعلومة في العبادات على أن رواة خبر معاذ مجهولون وهم في لفظه أيضا

____________

(1) هكذا في الاصل والظاهر (ليزدادوا).

الصفحة 204
مختلفون، ومنهم من روى أنه لما قال: اجتهد رأيي قال له: لا احب أن أكتب إليك كذا، ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله:

(أجتهد رأيي): أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.

وأما ما رويته عن الحسن عليه السلام من حكم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ففيه تصحيف ممن رواه، والخبر المعروف أنه قال: (فإن لم يجد في السنة شيئا رجز فأصاب) يعني بذلك القرعة بالسهام، وهو مأخوذ من الرجز والفال، والقرعة عندنا من الاحكام المنصوص عليها وليست بداخلة في القياس. فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الايات والاخبار.

فقال أحد الحاضرين: إذا لم يثبت للقايسين نص في إيجاب القياس، فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار، فقد تساويا في هذه الحال.

فقلت له: قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات وما يستغني به متأمليه عن إيراد ما سواه. ثم إن الامر بخلاف ما ظننت، وقد تناصرت الادلة بحظر القياس من القرآن وثابت الاخبار، قال الله عزوجل:

(ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون) ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل، وقال سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه الى الله ولا إلى رسوله صلى الله عليه وآله، وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره، وهو المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده وكذب وصفه بلسانه، فقال سبحانه:

(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا) ونحن نعلم أن القياس معول على الظن دون العلم، والظن مناف

الصفحة 205
للعلم، ألا ترى أنهما لا يجتمعان في الشئ الواحد؟! وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس.

وأما المروي في ذلك من الاخبار فمنه قول رسول الله صلى الله عليه وآله:

(ستفترق امتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على امتي قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام). وقول أمير المؤمنين عليه السلام: إياكم والقياس في الاحكام، فإنه أول من قاس ابليس. وقال الصادق جعفر بن محمد: إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس قد جعل الله تعالى للقرآن أهلا أغناكم عن جميع الخلائق، لا علم إلا ما أمروا به، قال الله تعالى:

(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إيانا عنى. وجميع أهل البيت عليهم السلام أفتوا بتحريم القياس. وروي عن سلمان الفارسي - رحمه الله - أنه قال:

ما هلكت امة حتى قاست في دينها. وكان ابن مسعود يقول: هلك القائسون.

وفي هذا القدر من الاخبار غنى عن الاطالة وإلاكثار.

وقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الامم، فقالوا فيهم بالرأي فأضلوهم. وقال ابن عيينة:

فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة، وأبو حنيفة بالكوفة، وعثمان البني بالبصرة، وأفتوا الناس وفتنوهم، فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الامم.

فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت والحمد لله (1).

(797)
الشيعة وبعض المعتزلة

قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة: إن أمركم معشر الشيعة لعجيب، ورأيكم

____________

(1) كنز الفوائد: ص 293 - 297.


الصفحة 206
طريف، لانكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار وعيون الأتقياء الأبرار الذين سبقوا إلى الإسلام، واختصوا بصحبة الرسول، وقطعت أعذارهم الآيات وصدقوا بالوحي، وانقادوا إلى الأمر والنهي، وجاهدوا المشركين، ونصروا رسول رب العالمين، وجب أن يحسن بهم الظنون، ويعتقد فيهم الاعتقاد الجميل، فزعمتم أنهم خالفوا الرسول - صلى الله عليه وآله - وعاندوا أهله من بعده، واجتمعوا على غصب حق الإمام، وإقامة الفتنة في الأنام، واستأثروا في الخلافة إلى الترأس على الكافة، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل، فالتعجب فيكم طويل.

قال الشيعة: أما المؤمنون من أصحابه الأخيار والعيون من الأتقياء الأطهار، فمن هذه الأمور بريئون، ونحن عن ذمهم متنزهون، وأما من سواهم ممن ظهر زللهم وخطأهم، فإن الذم متوجه إليهم، وقبيح فعلهم طرق القول عليهم، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد فعلوا أمثاله، ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه، وتحققت أنك وضعت تعجبك في غير موضعه، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه، فاحتشمت من خصمك، ورددت التعجب إلى نفسك، وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعصمتهم وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة بين رجلي ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله طلبا لقتله، وهم الذين كانوا يضحكون خلفه إذا صلى بهم، ويتركون الصلاة معه، وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم، حتى نزل القرآن يهتف بهم، وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر وكرهوا رأيه في الجهاد، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب، ونزل فيهم (كما أخرجك ربك من بيتك، بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).

وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي صلى الله عليه وآله بمكة القتال

الصفحة 207
وينازلونه في الجهاد منازلة، ويرون أن الصواب خلاف ما تعبدوا به في تلك الحال من الكف والامساك، فلما حصلوا في المدينة وتكاثر معهم الناس ونزل عليهم فرض الجهاد وامروا بالقتال كرهوا ذلك، وطلبوا التأخير من زمان إلى زمان، ونزل فيهم: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال - يعني ببدر - إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) فيما اتصل بهذه الآية من الخبر عن أحوالهم والابانة عن زللهم.

وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية حتى نزل فيهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).

وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر، وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).

وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله وخبثت نياتهم فظنوا أن الامر بخلاف ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله، إذ نزل فيهم: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا).

وهم الذين نكثوا عهد رسول الله، ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر، ونزل فيهم: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا).

وهم الذين انهزموا يوم حنين وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للاعداء،

الصفحة 208
ولم يبق معه إلا أمير المؤمنين عليه السلام وتسعة من بني هاشم، ونزل فيهم:

(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين).

وأمثال ذلك مما يطول شروحه به الذكر (1).

وهم الذين قال الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).

وهم الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله، لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لأتبعتموه (2)، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا.

وهم الذين قال صلى الله عليه وآله لهم: ألا لاعرفنكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.

وهم الذين قال لهم: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة، وأنه سيجاء برجال من امتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي فيقال:

إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم.

وهم الذين قال لهم: بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا فتفرق بكم الطرق فاناديكم: ألا هلموا إلى الطريق فينادي مناد من ورائي: انهم بدلوا بعدك فأقول: ألا سحقا ألا سحقا.

وهم الذين قال لهم عند وفاته: جهزوا جيش اسامة ولعن من تخلف عنه فلم يفعلوا.

وهم الذين قال: ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي فلم يفعلوا وقال أحدهم: دعوه فانه يهجر ولم ينكر الباقون عليه هذا مع اظهارهم

____________

(1) هكذا في الاصل والظاهر: (مما يطول بشرحه الذكر).

(2) هكذا في الاصل والصحيح (لا تبعتموهم)

الصفحة 209
الاسلام واختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، ورؤيتهم الآيات وقطع أعذارهم بالمعجزات.

فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب، وأولانا بأن يتعجب منه، من أضاف إلى هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء وهذه أحوالهم؟! فسكت المعتزلي متفكرا كأنه ألقمه الشيعي حجرا (1).

(798)
كثير و عبد الملك

كان (كثير بن عبد الرحمان الشاعر المشهور) يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده، وكان رافضيا شديد التعصب لال أبي طالب، حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء: أن كثيرا دخل يوما على عبد الملك، فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحدا أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك أخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني، قال: نعم (2)...

(799)
ابن الحنفية ورجل

قيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان أبوك يقحمك المهالك ويولجك المضايق دون أخويك الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه (3).

(800)
أبو العيناء وابن ثوابة

دخل (أبو العيناء) على ابن ثوابة عقيب كلام جرى بينه وبين ابي الصقر

____________

(1) كنز الفوائد: ص 331 - 333.

(2) وفيات الاعيان: ج 3 / 266.

(3) وفيات الاعيان: ج 3 / 312.

الصفحة 210
أربى ابن ثوابة عليه فيه.

فقال (أبو العيناء) له، بلغني ما جرى بينك وبين أبي الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب، إلا أنه لم يجد عزا فيضعه ولا مجدا فينقصه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكله، وسهل دمك أن يسفكه.

فقال ابن ثوابة: وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدي؟

فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعود على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع أنسابهم ويعظم أوزارهم.

فقال ابن ثوابة: وما تساب اثنان إلا غلب الامهما. فقال أبو العيناء: وبها غلبت أبا الصقر بالامس، فاسكته (1).

(801)
أبو العيناء والمتوكل

دخل (أبو العيناء) على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين، فقال له: ما تقول دارنا هذه؟

فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وانت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه.

ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره.

فقال له: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن اخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض وقلبك علي غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم اميز بين هذين

____________

(1) وفيات الاعيان: ج 3 / 468.

الصفحة 211
هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء.

فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك. فقال: يا أمير المؤمنين قد مدح الله تعالى وذم، فقال: (نعم العبد إنه أواب) وقال عزوجل: (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) وقال الشاعر [ من الطويل ].

إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا * ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه * وشق لي الله المسامع والفما

قال: فمن أين أنت؟ قال: من البصرة.

قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها اجاج وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم (1).

(802)
الشريف والسيرافي

ذكر أبو الفتح ابن جني (النحوي) في بعض مجاميعه: أن الشريف الرضي المذكور احضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جدا لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو، وقعد معه يوما في حلقته، فذاكره بشئ من الإعراب على عادة التعليم.

فقال له: إذا قلنا: (رأيت عمرو) (عمر ظ) فما علامة النصب في عمرو (عمر ظ)؟ فقال له الرضي: بغض علي.

فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره (2).

(803)
مقاتل والمنصور

روي: أن أبا جعفر المنصور كان جالسا، فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد

____________

(1) وفيات الاعيان: ج 3 / 468، ونقل بعضا منها في الاذكياء لابن الجوزي: ص 85.

(2) وفيات الاعيان: ج 4 / 45، والكنى والالقاب: ج 2 / 312.