الصفحة 212
إليه، وألح عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثر من السقوط عليه مرارا حتى أضجره.

فقال المنصور: انظروا من بالباب؟ فقيل له: مقاتل بن سليمان.

قال: علي به، فاذن له، فلما دخل عليه قال: هل تعلم لماذا خلق الله تعالى الذباب؟ قال: نعم ليذل به الجبابرة. فسكت المنصور (1).

(804)
نصير ومعاوية

كان والد موسى (صاحب فتح الاندلس) نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة، ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يخرج معه، فقال له معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافني عليها؟

قال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو؟

قال: الله عزوجل.

[ فقال: وكيف لا ام لك؟ قال: وكيف لا اعلمك هذا، فاغضض وامض؟

قال ]: فأطرق معاوية مليا، ثم قال: استغفر الله، ورضي عنه (2).

(805)
أبو العيناء وعبد الله بن سليمان

شكا (أبو العيناء) تأخر رزقه إلى عبد الله بن سليمان، فقال: ألم يكن كتبنا لك إلى فلان؟ فما فعل في أمرك؟

قال: جرني على شوك المطل. قال: أنت اخترته.

____________

(1) وفيات الاعيان: ج 4 / 341.

(2) وفيات الاعيان: ج 4 / 402.

الصفحة 213
قال: وما علي، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد فأخذتهم الرجفة، واختار رسول الله صلى الله عليه وآله ابن أبي سرح كاتبا فلحق بالكفار مرتدا، واختار علي أبا موسى فحكم عليه (1).

(806)
أبو دلف والمأمون

عن أبي الفضل الربعي عن أبيه قال: قال المأمون يوما وهو مغضب لابي دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:

إنما الدنيا أبو دلف * عند مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف * ولت الدنيا على أثره

فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور وقول غرور، وملق معتاف وطلب عرف، وأصدق منه ابن اخت لي حيث يقول:

دعيني أجوب الارض في طلب الغنى * فلا أكرخ الدنيا ولا الناس قاسم

فضحك المأمون وسكن غضبه (2).

(807)
وليد بن زيد وهشام

دخل الوليد بن زيد على هشام بن عبد الملك وعلى الوليد عمامة وشئ، فقال له الوليد: بكم أخذت عمامتك؟ قال: بألف درهم.

فقال هشام: عمامة بألف! يستكثر ذلك.

فقال الوليد: إنها لاكرم أطرافي يا أمير المؤمنين، وقد اشتريت جارية بعشرة

____________

(1) الاذكياء لابن الجوزي: ص 85.

(2) الاذكياء لابن الجوزي: ص 126، وقد مر في ج 2 ص 253 بنحو آخر.

(3) الظاهر أنه هشام.

الصفحة 214
آلاف لاخس أطرافك (1).

(808)
ابن عباس ومعن بن زائدة

كان معن بن زائدة يذكر عنه قلة دين، فبعث إلى ابن عباس بألف دينار وكتب إليه:

(بعثت إليك بألف دينار اشتريت بها دينك، فاقبض المال واكتب بالتسليم).

فكتب إليه: (قد قبضت، وبعتك بذلك ديني ما خلا التوحيد لعلمي بزهدك فيه) (2).

(809)
بهلول وهارون

علي بن ربيعة الكندي قال: خرج الرشيد إلى الحج، فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلولا المجنون على قصبة وخلفه الصبيان، وهو يعدو، فقال: من هذا؟ قالوا: بهلول المجنون. قال: كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع، فقالوا له: أجب أمير المؤمنين. فعدا على قصبته، فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال: كنت إليك بالاشواق قال:

لكني لم أشتق إليك. قال: عظني يا بهلول، قال: وبم أعظك هذه قصورهم وهذه قبورهم. قال: زدني فقد أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالا وجمالا، فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار، فظن الرشيد أنه يريد شيئا، فقال: قد أمرنا لك أن يقضى دينك، فقال يا أمير المؤمنين، لا يقضي الدين بدين، أردد الحق على أهله، وأقض دين نفسك من نفسك.

قال: فإنا قد أمرنا أن يجرى عليك فقال: يا أمير المؤمنين، أترى الله يعطيك

____________

(1) و (2) الاذكياء لابن الجوزي: ص 139.

الصفحة 215
وينساني؟ ثم ولى هاربا.

وري بإسناد آخر أنه قال للرشيد:

يا أمير المؤمنين، فكيف لو أقامك الله بين يديه، فسألك عن النقير والفتيل والقطمير، قال: فخنقته العبرة، فقال الحاجب: حسبك يا بهلول، فقد أوجعت أمير المؤمنين، فقال الرشيد: دعه، فقال بهلول: إنما أفسده أنت وأضرابك.

فقال الرشيد: اريد أن أصلك بصلة، فقال بهلول: ردها على من أخذت منه، فقال الرشيد: فحاجة، قال: أن لا تراني ولا أراك. ثم قال: يا أمير المؤمنين، حدثنا أيمن بن وائل عن قدامة بن عبداللله الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء لاضرب ولا طرد.

ثم ولى بقصبته وأنشأ يقول:

فعدك قد ملات الارض طرا * ودان لك العباد فكان ماذا
ألست تموت في قبر ويحوي * تراثك بعد هذا ثم ماذا (1)

(810)
بهلول والواثق

قال نعيم الخشاب: كتب بهلول الى الواثق (الخليفة العباسي): أما بعد، فإن المراء قد لعب بدينك، والاهواء قد أحاطت بك، ومقالات أهل البدع قد سلخت عنك عقلك، وابن أبي دؤاد المشؤوم قد بدل عليك كلام ربك اقرأ:

(فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى - الى قوله - فاعبدني)، أيكون هذا كلاما مخلوقا؟ فرماك الله بحجارة من سجيل مسمومة عند ربك (2) وما هو من الظالمين

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 77 - 78 تأليف حسن بن محمد بن حبيب النيسابوري المتوفى سنة 406.

(2) في المصدر (مسمومة) والصحيح: (مسومة).

الصفحة 216
ببعيد. ثم كتب عنوانه: من الخائف الذليل الى المخالف لكلام ربه تعالى (1).

(811)
بهلول وابن أبي دؤاد

قال سالم بن عطية: كتب بهلول الى ابن أبي دؤاد (2).

أما بعد فإنك قد ميزت كلام الله من الله، وزعمت أنه مخلوق، فإن يك ما ذكرت باطلا فرماك الله بقارعة من عنده، ويلك أكنت معه حين كلم موسى؟! فإن كنت رادا عليه فاقرأ: (عليها غبرة ترهقها قترة اولئك هم الكفرة الفجرة).

ثم كتب عنوانه: من الصادق المتواضع الى الكاذب المتجبر (3).

(812)
بهلول والخلعي

قال عبد الرحمان الهاشمي: لما ولي الخلعي على شرطة بغداد: وكان يرى برأي ابن أبي دؤاد (4) كتب إليه بهلول:

(أما بعد، فإن السماء بأكنافها ونور كواكبها وضياء شمسها وقمرها وصفوف ملائكتها والعرش والملائكة المقربين، وافحجب (5) المزدلفة بقدرة خالقها، والنار وزبانيتها، والجنة وسندسها، والارضين وجبالها، والجبال وكهوفها، والحيتان في بحارها، والوحش في قفارها، والجن في أقطارها، والطير

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 83.

(2) في المصدر (ابن أبي داود) والصحيح ما ذكرنا.

(3) عقلاء المجانين: ص 84.

(4) في المصدر (ابن أبي داود).

(5) كذا في المصدر.

الصفحة 217
في أوكارها، والسباع في وجارها والاشجار وثمارها يسبحون له في الغدو والاصال (1).

(813)
عليان وعبد الملك

قال عبد الملك بن أبجر: لقيت عليان المجنون، وكان اسمه عندي عليان، فقلت له: يا عليان.

فقال: لا إله الا الله قل خيرا يا ابن أبجر، ولد لأبي مولود قبلي فسماه محمدا ببركات رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ولدت فسماني عليا ببركات وصي رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن صغرني فقد صغر وصي رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن طيبت به للتصغير بي فما طيبت بك يا ابن أبجر، فجعلت لا اسميه إلا عليا أو كنيته (2).

(814)
عليان وحفص

قال حفص بن غياث القاضي: مررت في طاق السراجين، فإذا عليان جالس، فلما جزته سمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وحزن الاخرة فليتمن ما هذا فيه فو الله لقد تمنيت لو كنت مت قبل أن ألي القضاء (3).

(815)
عليان وأبو يوسف

قال الامام أبو يوسف القاضي - رحمه الله -: كنت مارا في طرقات الكوفة وإذا أنا بعليان المجنون، بصرني سلم علي وقال لي: أيها القاضي مسألة،

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 84.

(2) عقلاء المجانين: ص 86.

(3) المصدر نفسه.

الصفحة 218
قلت: هات.

قال: أليس قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا امم أمثالكم)؟ قلت: بلى.

قال: أليس قال الله عزوجل: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير)؟ قلت:

بلى.

قال: فما نذير الكلاب؟ قلت: لا أدري، فأخبرني قال: لا والله لا أقول إلا بمن رقاق من شواء، ونصف من فالوذج، فأمرت من جاء بها، ودخلت معه مسجدا فأكلها حتى أتى على آخرها.

فقلت: هات الجواب. فأخرج من كمه حجرا وقال: هذا نذير الكلاب (1).

(816)
عليان ورجل

قال الحسن الكوفي: قال رجل لعليان: أجننت؟ قال: أما عن الغفلة فنعم، وأما عن المعرفة فلا. قال: كيف حالك مع المولى؟ قال: ما جفوته مذ عرفته قال: ومذكم عرفته؟ قال: مذ جعل اسمي في المجانين (2).

(817)
عليان وموسى

قال زهير بن حرب: أمر الخليفة موسى الهادي بإحضار بهلول وعليان، فاحضرا، فلما دخلا عليه، قال لعليان:

أيش معنى عليان؟ قال عليان: وأيش معنى موسى أطبق؟

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 88.

(2) عقلاء المجانين: ص 86.

الصفحة 219
فغضب الهادي وقال: خذوا برجل ابن الفاعلة، فالتفت عليان الى بهول وقال: خذها إليك كنا اثنين فصرنا ثلاثة (1).

(818)
مجنون وأبو الهذيل

قال أبو الهذيل العلاف: رحلت من البصرة اريد العسكر فمررت بدير هرقل، فقلت: لادخلن هذا الدير لارى ما فيه، فإذا شيخ حسن اللحية في السلسلة، فأدمت النظر إليه، فلما رآني لا ارد بصري عنه قال لي: معتزلي أنت؟

قلت: نعم.

قال: أإمامي؟ قلت: نعم.

قال: تقول: القرآن مخلوق؟ قلت: نعم قال: كن أبا الهذيل العلاف.

قلت: أنا أبو الهذيل.

قال: أسألك؟ قلت: سل. قال: أخبرني عن الرسول صلى الله عليه وآله أليس هو أمين في السماء وفي الارض؟ قلت: بلى.

قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى؟ قلت: لا.

قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى؟ قلت: لا.

قال: فأخبرني عن رأيه أليس هو الذي لا يدخله زلل وشبهة، وهو المعصوم من الشبهة والريبة؟ قلت: بلى.

قال: فأخبرني عمن هو دونه من الخلق أليس يدخلهم في رأيهم الفساد والغفلة والهوى، وأنهم أضداد في كل شئ وإن كانوا أخيارا؟ قلت: بلى.

قال: فلاي علة لم يقم لهم علما ينصبه بقوله: هذا خليفتكم بعدي فلا تقتتلوا، لمن يفعل هذا الا لا يكون الاختلاف والفساد في امته؟ (2) قلت: معاد

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 91.

(2) كذا في الاصل في جميع النسخ التي رأيتها ولعل الصحيح: (فمن لم يفعل هذا أحبت أن يكون الاختلاف...).

الصفحة 220
الله أن يكون ذلك.

قال: فلم تركهم وألجأهم الى رأي من دونه في الصفة، إذا لم يحب الاختلاف والتشتت؟ فسكت فلم أدرما أقول له.

فقال: مالك لا تجيب ألا تحسن؟ ثم تركته وخرجت، فلما رآني موليا ناداني الشيخ: ارجع إلينا، فرجعت إليه.

فقال: أحسبك تريد الخليفة؟ قلت: نعم.

قال: ألا إن تصير الى الخليفة أقض لي حاجتي. فقلت: وماهي؟

قال: تكلم هذه الفاعلة امرأة صاحب الدير تطلقني. فكلمتها، فقالت:

عليه في هذا ضرر، فلما رآها غير مجيبة، قال: فسلها أن تستوطني، فسألتها، فأجابت، فانصرفت عنه متعجبا... (1)

(819)
ام سلمة وعثمان

أتت ام سلمة - رحمة الله عليها - عثمان بن عفان - رض - لما طعن الناس عليه فقالت:

يا بني مالي أرى رعيتك عنك مزورين، وعن ناحيتك نافرين، لا تعف سبيلا كان رسول الله صلى الله عليه وآله نهجها، ولا تقدح زندا كان أكباها، توخ حيث توخى صاحباك، فانهما ثكما لك الامر ثكما ولم يظلماه، لست بغفل فتعتذر، ولا بحلو فتعتزل، ولا تقول ولا يقال إلا لمظن، ولا يختلف إلا في ظنين، فهذه وصيتي إياك، وحق بنوتك قضيتها إليك، ولله عليك حق الطاعة وللرعية حق الميثاق.

فقال لها عثمان - رض -:

____________

(1) عقلاء المجانين: ص 169 - 171، وقد مر في ج 1 ص 290 قصة لابي الهذيل مع مجنون غير هذا فراجع.

الصفحة 221
يا امنا، قد قلت فوعيت، وأوصيت فاستوصيت، ان هؤلاء النفر رعاع غثرة تطأطأت لهم تطأتطأ الماتح الولاة، وتلددتهم تلدد المضطر، فأرانيهم الحق إخوانا، وأراهموني الباطل شيطانا، أجررت المرسون منهم رسنه، وأبلغت الراتع مسقاته، فانفرقوا علي فرقا ثلاثة،، فصامت صمتة أنفذ من صول غيره، وساع أطاعني شاهده ومنعني غائبه، ومرخص له في مدة رينت له على قلبه، فأنا منهم بين ألسنة حداد وقلوب شداد وسيوف حداد، عذيري منهم الله ألا منهم حليم سفيها ولا عالم جاهلا، والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون (1).

(820)
رجل والقاسم

قال: حدثنا رجل حضر مجلس القاسم بن المجمع وهو والي الأهواز قال:

حضر مجلسه رجل من بني هاشم فقال:

أصلح الله الأمير ألا أحدثك بفضيلة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قال: نعم إن شئت.

قال: حدثني أبي قال: حضرت مجلس محمد بن عائشة بالبصرة إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة فقال: يا أبا عبد الرحمان من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمان بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، فقال له: فأين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قال: يا هذا تستفتي عن أصحابه أم عن نفسه؟ قال: بل عن أصحابه. قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) فكيف أصحابه مثل نفسه (2).

____________

(1) محادثات النساء: ص 57.

(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 42.

الصفحة 222

(821)
عدي ومعاوية

روي: أن عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال:

يا عدي أين الطرفات؟ يعني بنيه طرفا وطارفا وطرفة. قال: قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب، إذ قدم بنيك وأخر بنيه. قال: بل ما أنصفت أنا عليا، إذ قتل وبقيت.

قال: صف لي عليا. فقال: إن رأيت أن تعفيني. قال: لا أعفيك.

قال: كان والله بعيد المدى وشديد القوى، يقول عدلا ويحكم فضلا، تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، يقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين يتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول:

(يا دنيا أإلي تعرضت أم إلي أقبلت؟ غري غيري لاحان حينك، قد طلقتك ثلاث لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير وخطرك يسير، آه من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس).

قال: فوكفت عينا معاوية ينشفهما بكمه، ثم قال: يرحم الله أبا لحسن كان كذا، فكيف صبرك عنه؟


الصفحة 223
قال: كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها ولا تسكن عبرتها. قال: فكيف ذكرك له؟

قال: وهل يتركني الدهر أن أنساه (1).

(822)
ابن عباس ومعاوية

قيل: ودخل ابن عباس على معاوية، فقال: يا ابن عباس صف لي عليا قال: كأنك لم تره؟

قال: بلى ولكني أحب أن أسمع منك فيه مقالا.

قال: كان أمير المؤمنين - رضوان الله عليه - غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن والطعام ما جشب، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا دعوناه وكان مع تقربته إيانا وقربه منا لا نبداه بالكلام حتى يتبسم، فإذا هو تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، أما والله يا معاوية، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم وهو يقول: يادنيا إياي تغرين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك بل زال زوالك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك حقير وعمرك قصير وخطرك يسير، آه آه من بعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد..

قال: فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء (2).

____________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 46 - 47، وقد مر قريب من هذه الالفاظ عن ضرار بن ضمرة، راجع في ج 1 ص 320 ولعل هذا تركيب من كلام عدي المذكور في صدر الكلام وقد مر في ج 2 ص 170 وما بعدها ومن كلام ضرار المتقدم ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا صدر عن عدي وقد روي مثله عن ابن عباس.

(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 46.

الصفحة 224

(823)
الأحنف وعائشة

عن الحسن البصري - رحمه الله -: أن الأحنف بن قيس قال لعائشة - رحمها الله - يوم الجمل: يا ام المؤمنين هل عهد عليك رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المسير؟ قالت: اللهم لا.

قال: فهل وجدتيه في شئ من كتاب الله جل ذكره؟

قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون.

قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا.

قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟ (1)

(824)
عبد الله وعمرو

قيل: واستأذن الحسن بن علي (بن أبي طالب عليه السلام) رضي الله عنه على معاوية وعنده عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص، فأذن له، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الافه العيي الذي كان بين لحييه عبلة.

فقال عبد الله بن جعفر: مه فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول، وتقصر دونها الوعول، ولا تبلغها السهام، فإياك والحسن إياك، فإنك لا تزال راتعا في لحم رجل من قريش، ولقد رميت فما برح سهمك، وقدحت فما أورى زندك.

فسمع الحسن عليه السلام الكلام، فلما أخذ الناس مجالسهم قال: يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس، أما والله لو شئت ليكونن بيننا

____________

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي: ص 50.

الصفحة 225
ما تتفاقم فيه الامور وتحرج منه الصدور، ثم أنشأ يقول:

أتأمر يا معادي عبد سهم * بشتمي والملا منا شهود
إذا أخذت مجالسها قريش * فقد علمت قريش ما تريد
قصدت إلي تشتمني سفاها * لضغن ما يزول وما يبيد
فمالك من أب كأبي تسامي * به من قد تسامي أوتكيد
ولا جد كجدي يا ابن هند * رسول الله إن ذكر الجدود
ولا ام كامي من قريش * إذا ما يحصل الحسب التليد
فما مثلي تهكم يا ابن هند * ولا مثلي تجاريه العبيد
فمهلا لا تهج منا امورا * يشيب لها معاوية الوليد (1)

(825)
الفرزدق وخالد

لقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان كثيرا ما يداعبه، وكان الفرزدق ذميما فقال له: يا أبا فراس، ما أنت بالذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن.

قال له: ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لابيها: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين) (2).

(826)
علي بن عبد الله وعبد الملك

قيل: كان علي بن عبد الله بن العباس - رضي الله عنه - عند عبد الملك بن مروان إذا فاخره عبد الملك، فجعل يذكر أيام بني امية، فبينا هو كذلك إذ نادى المنادي للاذان فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

____________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 83 - 84.

(2) العقد الفريد: ج 4 / 42.

الصفحة 226
فقال علي لعبد الملك:

تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

فقال عبد الملك: الحق في هذا أبين من أن يكابر (1).

(827)
أبو العيناء ورجل

قال: وقيل لأبي العيناء: ما بال العمى قد صار في صغاركم وكباركم حتى إنه يلحق الطفل منكم؟

فقال: نعم الطينة الملعونة، والدعوة المشؤومة، وذلك أنه سلم بعض الخلفاء رجلا من آل أبي طالب إلى جدنا الأكبر فقتله، ودعا عليه، فلحقتنا دعوته، فما تراه بنا فهو من تلك الدعوة (2).

(828)
أبو العيناء وأبو الحمار

اجتاز أبو العيناء ذات يوم فسمع غناء لم يعجبه، فسأل أبو العيناء عن صاحب الغناء فلما قيل له: إنه أبو الحمار قال: صدق الله: (إن أنكر الاصوات لصوت الحمير). وكان عما لمحمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل (3).

(829)
خالد بن صفوان (4) وإبراهيم بن مخرمة

قيل: كان أبو العباس يطيل السهر ويعجبه الصفاحة ومنازعة الرجال،

____________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 98.

(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 417.

(3) المصدر نفسه.

(4) قال الجاحظ في البيان: ج 1 ص 339: ومن الخطباء المشهورين في العوام والمقدمين في الخواص:

خالد بن صفوان الاهتمي، زعموا جميعا أنه زعموا جميعا أنه كان عند أبي العباس وكان من سماره وأهل المنزلة عنده.. وكان يقارض شبيب بن شيبة، راجع المعارف لابن قتيبة: ص 177.

الصفحة 227
فسهر ذات ليلة وعنده اناس من مضر وفهر وفيهم: خالد بن صفوان بن الاهتم التميمي وناس من اليمن فيهم: إبراهيم بن مخرمة الكندي. فقال أبو العباس:

هاتوا واقطعوا ليلتنا بمحادثتكم، فبدأ إبراهيم بن مخرمة وقال:

يا أمير المؤمنين، إن أخوالكم هم الناس وهم العرب الاول الذين دانت لهم الدنيا وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكا وأربابا، توارثوا الرئاسة كابرا عن كابر وآخرا عن أول، عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون بيت المجد ومآثر الحمد، منهم النعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومنهم من كان يأخذ كل سفينة غصبا ويحوي في كل نائبة نهبا، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس من شئ وإن عظم خطره وعرف أثره من فرس رائع وسيف قاطع أو مجن واق أو درع حصين أو درة مكنونة إلا وهم أربابها وأصحابها، إن حل ضيف أقروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر، فمن مثلهم يا أمير المؤمنين؟ البيت يمان والحجر يمان والركن يمان والسيف يمان.

فقال أبو العباس: ما أرى مضر تقول بقولك هذا، وما أظن خالدا يرضى بذلك. فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت المؤاخذة تكلمت. فقال أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحدا.

فقال خالد: يا أمير المؤمنين خاب المتكلم وأخطأ المتقحم إذ قال بغير علم ونطق بغير صواب، أو يفخر على مضر ومنها النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء من أهله بيته؟ وهل أهل اليمن يا أمير المؤمنين، إلا دابغ جلدا وقائد قردا وحائك بردا؟ دل عليهم الهدهد وغرقهم الجرذ وملكتهم ام ولد من قوم، والله يا أمير المؤمنين، ما لهم ألسنة فصيحة ولا لغة صحيحة ولا حجة تدل على كتاب ولا يعرف بها صواب، وإنهم منا لاحدى الخلتين إن حازوا ما قصدوا اكلوا وإن حادوا عن حكمنا قتلوا.


الصفحة 228
ثم التفت إلى الكندي فقال: أتفخر بأكرم الانام وخيرها محمد صلى الله عليه وآله وبه افتخر من ذكرت، فالمن من الله عزوجل عليكم إن كنتم أتباعه وأشياعه فمنا نبي الله المصطفى وخليفة الله المرتضى، ولنا السؤدد والعلى، وفينا الحلم والحجى، ولنا الشرف المقدم والركن المكرم والبيت المعظم، والجناب الاخضر والعدد الاكثر والعز الاكبر، ولنا البيت المعمور والمشعر المشهور والسقف المرفوع وزمزم وبطحاؤها وجبالها وصحراؤها وحياضها وغياضها وأحجارها وأعلامها ومنابرها وسقايتها وحجابتها وسدانة بيتها.

فهل يعدلنا عادل ويبلغ فخرنا قائل، ومنا أعلم الناس ابن عباس أعلم البشر الطيبة أخباره الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النور، ومنا الصديق والفاروق، ومنا أسد الله وسيف الله، ومنا سيد الشهداء وذو الجناحين، ومنا الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، بنا عرف الدين، ومن عندنا أتاكم اليقين، فمن زاحما زاحمناه، ومن عادانا اصطلمناه، ومن فاخرناه، ومن بدل سنتنا قتلناه.

ثم التفت الى الكندي وقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: أنا بها عالم. قال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين. قال: فما الميزم؟ قال: السن.

قال: فالشناتر؟ قال: الاصبع. قال: فالصنانير؟ قال: الاذان. قال: فما القلوب؟ قال: الذئب. قال: فما الزب؟ قال: اللحية. قال: أفتقرأ كتاب الله عزوجل؟ قال: نعم.

قال: فإن الله عزوجل يقول: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وقال: (بلسان عربي مبين) وقال جل ذكره: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، وقال عزوجل: (العين بالعين) ولم يقل: الجحمة بالجحمة، وقال: (جعلوا أصابعهم في آذانهم) ولم يقل: شناترهم في صنانيرهم، وقال: (السن بالسن) ولم يقل: الميزم بالميزم، وقال: (فأكله الذئب) ولم يقل: القلوب، وقال:


الصفحة 229
(لا تأخذ بلحيتي) ولم يقل بزبي.

وأنا سائلك يا ابن مخرمة عن ثلاث خصال فإن أنت أقررت بها قهرت وإن جحدتها كفرت وإن أنكرت قتلت؟ قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي الله المصطفى صلى الله عليه وآله؟ قال: اللهم نعم. قال: أتعلم أن فينا كتاب الله تعالى؟ قال: اللهم نعم. قال: أفتعلم أن فينا خليفة الله المرتضى؟ قال: اللهم نعم. قال: فأي شئ يعدل هذه الخصال؟

قال أبو العباسي اكفف عنه، فوالله ما رأيت غلبة أنكر منها، والله ما فرغت من كلامك يا أخا مضر حتى انه سيعرج بسريري الى السماء. ثم أمر لخالد بمائة ألف درهم (1).

(830)
خالد ورجل

قال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان ابن الأهتم.

قال: إن اسمك لكذب ما أنت بخالد، وإن أباك لصفوان وهو حجر، وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم.

فقال له خالد: من أي قريش أنت؟

قال: من بني عبد الدار من هاشم.

قال: لقد هشمتك هاشم، وأمتك امية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبدها وعبد ولدها، تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا (2).

(831)
الفرزدق وخلف

مر الفرزدق بالمربد فرأى خلف بن خليفة الشاعر، فقال للفرزدق: يا

____________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 94 - 96 وأوعز إليه في العقد الفريد: ج 3 / 46 وج 4 / 330.

(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 462 ويأتي ص 230 بنحو آخر.

الصفحة 230
أبا فراس من القائل:

هو القين وابن القين لاقين مثله * لقطع المساحي أو لقد الاداهم

فقال الفرزدق: الذي يقول:

هو اللص وابن اللص لالص مثله * لقطع جدار أو لطرد دراهم (1)

(832)
خالد ورجل

روي: أن خالد بن صفوان فاخر رجلا من بني عبدالدار الذين يسكنون اليمامة فقال له العبدي: من أنت؟ فقال: أنا خالد بن صفوان بن الاهتم.

فقال له العبدري: أنت خالد: (كمن هو خالد في النار) [ محمد / 15 ] وأنت ابن صفوان وقال الله عزوجل: (كمثل صفوان عليه تراب) [ البقرة / 264 ] وأنت ابن الاهتم والصحيح خير من الاهتم.

فقال له خالد بن صفوان: يا أخا بني عبدالدار، أتتكلم وقد هشمتك هاشم، وأمتك بنو امية، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك بنو جمح، فأنت عبد دارهم تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا.

فقام العبدري محموما (2).

(833)
رجل مع أبي بكر

روي عن ابن عباس أنه دخل على أبي بكر رجل فسلم وقال: عزمت بالحج فأتتني جارية وقالت لي: ابلغك رسالة وهي: إني امرأة ضعيفة وإني عائلة، وكان لأبي اريضة جعلها لي تعينني على دهري، فكنت أعيش منها وأنا (3) وزوجي

____________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 462.

(2) الامالي للسيد المرتضى: ج 1 / 295، وقد تقدم بنحو آخر ص 229.

(3) هكذا في الاصل والظاهر أن الواو زائدة.