الثالث: أن هذا التقديم غير صحيح عند الكل، أما عندنا فإن المنقول: أن بلالا جاء يعلم بوقت الصلاة كان (1) النبي صلى الله عليه وآله مغموزا بالمرض، وكان علي مشغولا به صلوات الله وسلامه عليهما، فقال النبي: علي يصلي بالناس، فقالت عائشة لبلال: مر أبا بكر فليصل بالناس: فظن بلال أن ذلك الامر صادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فجاء واعلم أبا بكر بذلك فتقدم الناس وكبر، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وآله وسمع التكبير ورأى عليا عنده قال: من يصلي بالناس؟ فقيل له: أبو بكر فقال: أخرجوني الى المسجد، فقد حدث في الاسلام فتنة ليست هينة، فخرج صلى الله عليه وآله يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى وصل المحراب فنحى أبا بكر وصلى هو بالناس.
وأما عندكم فإنكم تدعون أن ذلك كان بأمر رسول الله، وهي دعوى باطلة من وجوه:
الاول: أن الاتفاق واقع على أن الامر الذي اخرج الى بلال: قل لابي بكر يصلي بالناس أو قل للناس: صلوا خلف أبي بكر، بل كان ذلك بواسطة بينهما، لان بلالا لم ييحصل له الاذن في ذلك الوقت بالدخول على النبي وهو على
____________
(1) الظاهر: وكان.
الثاني: انه لو كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله كما تزعمون لكان خروج النبي مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتوليه الصلاة بنفسه بعد صدور أمره بتقديمه مناقضة صريحة لا تليق بشأن من لا ينطق عن الهوى، لان الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس وقد رواه أهل السنة في كثير من مصنفاتهم.
الثالث: لو سلمنا جميع ذلك، يعني أن الامر من الرسول مشافهة، وأنه يدل على الامامة لكان خروج النبي في مرضه وعزله له مبطل (1) لتلك الامامة، لانه نسخها بنفسه فكيف يكون ما نسخة النبي بنفسه حجة على ثبوته؟! إن هذا منكم لعجيب غيرى، بل أقول: إن عزل النبي له بعد تقديمه كما زعمت إنما كان لاظهار نقصه عند الامة وعدم صلاحيته للتقيدم في شئ أصلا، فإن من لا يصلح أن يكون إماما للصلاة مع أنها عندكم أقل المراتب لصحة تقديم الفاسق فيها عندكم، كيف يصلح أن يكون إماما عاما ورئيسا مطلقا مطاعا لجميع الخلق؟
وإنما كان قصده عليه السلام إن كان الامر صدر منه أن يظهر نقصه، وإنه غير صالح للتقديم للناس ليكون ذلك حجة عليهم، ولئلا يكون لهم عذر غدا عند الله بجهلهم حال هذا الرجل، وما أشبه هذه القصة بإعطاء سورة براءة وعزله عنها وإنفاذه بالراية يوم خيبر فإن ذلك كله كان لاظهار نقصه، وبيان أنه لا يصلح لشئ من الاشياء، ولا لامر من الامور البتة، وأراد الله ورسوله إظهار نقصه
____________
(1) في نسخة: مبطلا.
والعجب منكم كيف تستدلون على إمامته بالصلاة التي عزل عنها، ولم يتمها بالاجماع، ولا تستدلون على إمامة علي عليه السلام باستخلاف النبي له على المدينة يوم غزاة تبوك المتفق على نقله عنه وحصوله منه عليه السلام لعلي وعدم عزله عنها بالاتفاق؟ فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة وعدم والوثوق والامانة عليها لاحد إلا لعلي عليه السلام دليل على إمامته وأنه القائم بالامر بعده في جميع اموره ومهماته، وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله عنها ثبت استخلافه على غيرها، إذ لا قائل بالفرق.
ولما وصلنا في المجادلة الى هذا الحد حضرت المائدة فانقطعت بحضورها المجادلة، وبعد أن شرعنا في الاكل عرضت لي فكرة الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
فقلت للشيخ الهروي: يا ملا اجازة، نعم، فقلت: ما تقول في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أهو صحيح أم لا؟ وذكرت له الحديث، فقال: بل صحيح متفق على صحته.
فقلت: فمن إمامك اذن؟
فقال: ليس الحديث على ظاهره، بل المراد بالامام القرآن وتقديره من مات ولم يعرف امام زمانه الذي هو القرآن مات ميتة جاهلية.
فقلت: إذن يلزم أن يكون تعلم القرآن واجبا عينيا على كل مكلف وذلك لم يقل به أحد، ولو كان الامر كذلك لكان أغلب المسلمين يموتون على الجاهلية.
فقال: ليس القرآن كله، بل الفاتحة وسورة، لانهما شرط في صحة الصلاة
فقلت: إن النبي صلى الله عليه وآله أضاف الامام الى الزمان فقال:
(من مات ولم يعرف امام زمانه) فتخصيص الامام بالزمان دليل على اختصاص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته، ومع القول بأن (1) الفاتحة وسورة لا فائدة في هذا التخصص حينئذ، فلا يكون هذا التأويل مطابقا لمعنى الحديث.
فقال بعض الاشراف وجماعة الحاضرين من الطلبة: صدق الشيخ، ان هذه الاضافة في هذا الحديث تقتضي تخصيص أهل زمان بإمام تجب عليهم معرفته، ومن مات قبل معرفته مات جاهليا والتأويل بالفاتحة وسورة ينافي ذلك، لانهما واجبتان على أهل كل زمان.
فانقطع الهروي، ثم رجع فقال: أنا وأنت في الامامة سواء في هذا الزمان، وكل منا لا أمام له.
فقلت: حاشا لله ليس الامر كما زعمت، بل أنا لي إمام في زماني هذا أعتقد إمامته وأعرفه حق معرفته وقامت لي الادلة على ذلك، وأنت لست كذلك فيما (2) أنا وأنت سواء.
فقال: إن إمامك الذي تعتقده لا تشاهده ولا تعرف مكانه، ولا تنتفع به في دينك، ولا تأخذ عنه فتأويك، فكان الامر في وفيك سواء.
قلت: كل، إن الحديث لم يتضمن وجوب معرفة مكان الامام ولا وجوب أخذ الفتاوى عنه شخصيا، إنما تضمن وجوب معرفته وأنا بحمد الله قد عرفته، وقامت لي الادلة القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتباعه، وأنا أرجو في وقت ظهوره ملاقاته لي ولسائر الامة، هذا الذي وجب علي بمقتضى الحديث،
____________
(1) في نسخة: المراد.
(2) في نسخة: فما.
فقال: أنا في طلبه وتحصيلي معرفته، وقد ذكر لي أن في اليمين رجلا يدعي الامامة وأنا اريد الوصول إليه لاعرفه وأتبعه إن كانت دعواه صحيحة.
فقلت له: اذن أنت لا إمام لك فأنت جاهلي ولا يصح لك أن تتبع هذا المدعي إلا أن تترك مذهبك وترجع الى غيره، لان هذا المدعي ليس من أهل السنة، بل هو من الزيدية فإن كنت من الزيدية صح لك ذلك، وإن كنت من أهل السنة فأهل السنة لا يعتقدون وجود الامام في كل وقت ولا يوجبون وجوده على كل حال، فسكت ولم يرد جوابا، وفرغ الحاضرون من الاكل ورفعت المائدة وودعنا الحاضرون وتفرقوا وخرج الهروي في جملتهم.
المجلس الثاني:
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجة فاتفق أن السيد محسن - أدام الله ايامه - خرج من المنزل وكنت معه بقصد زيارة الامام الرضا عليه السلام وزيارة الاخوان في ذلك اليوم الشريف، فجئنا وزرنا الامام الرضا عليه السلام، وبعد الفراغ من زيارته دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي مجاورة للحضرة الشريفة وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنون، فقصدناهم إليها للسلام عليهم ومعايدتهم، فدخلنا وكان رجل مدرس اسمه الملا غانم فوجدناه جالسا في المدرسة ومعه جماعة من أهل العلم وغيرهم من عوام أهل مشهد وغيرهم ووجدنا الملا الهروي معهم، فسلمنا على الحاضرين وعلى الهروي وجلسنا معهم، فخاضوا في الاحاديث والحكايات والمذكرات في العلم فجرى بينهم أشياء كثيرة.
فقلت: الذي عليه علماء أهل البيت عليهم السلام أنه لا يصح نسبته إلى أبيه ولا إلى امه، لانه عندهم ليس ولدا شرعيا، والنسب عندهم إنما يثبت بالنكاح الصحيح والشبهة دون الزنا.
فقال: يلزمكم أن لا يكون محرما، فيحل له نكاح ام واخته ويحل للاب نكاح ابنته من الزنا! وهذا لا يقوله أحد من الاسلام.
فقلت له: إنه ولد لغة لا شرعا، ونحن نقول بالتحريم المذكور من حيث اللغة فالتحريم عندنا يتبع الشرع.
فقال: هذا خبط في البحث، لانكم مرة تقولون: أنه ولد تحكمون له مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت: ليس ذلك مناقضة، بل اثبتنا له أحكام الاولاد من حيثية ونفيناها عنه من حيثية اخرى، ولا محالية في اختلاف الاحكام باختلاف الحيثيات.
فقال: وأي حاجة لكم الى هذه التمحلات؟ ولم لم يتبع اللغة دائما؟ لانه عند أهل اللغة ولد حقيقة والشرع إنما جاء باللغة.
فقلت: ليس الشرع تابعا للغة دائما، فإن الالفاظ اللغوية وإن كانت على لفظها في اصطلاح الشرع إلا أنها في المعانيي مغايرة لها فإن الصلاة لغة:
الدعاء، والزكاة لغة: النمو، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك، لان المعنى منهما غير المعنى اللغوي، فإن الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء والنمو.
ومع ذلك فإن مذهبنا مبني على الاحتياط، فإن تحريم الوطء والنظر وما يتبع النسب من نظر أحكام الى اللغة اخذ بالاحوط وموضع الوفاق، ونفي
فعندها أعرض عن المجادلة في هذه المسألة، ثم أقبل الى كتاب كان معي وقال: ما هذا الكتاب معك؟
فقلت: هذا مصنف الشيخ جمال الدين بن المطهر الحلي من مشايخ الامامية وعلمائهم، يسمى كتاب نهج الحق وكشف الصدق، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الامامية وأهل السنة، وقد ذكر فيه حديثا نقله عن صحيح مسلم احب أن أذكره لك قال: ما هذا الحديث؟
فقلت: ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم من الاحاديث، أتنكره؟
فقال: لا، بل جميع ما اشتمل عليه من الاحاديث فإني أعترف بصحته.
فقلت: روى مسلم في صحيحه والحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عبد الله بن العباس قال: لما احتضر النبي - صلى الله عليه وآله - وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال النبي - صلى الله عليه وآله -: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقال عمر: إن النبي قد اشتد عليه الوجع وأن الرجل ليهجر، فاختلف الحاضرون عند النبي - صلى الله عليه وآله -
فقال: هذا حديث صحيح، ولكن أي طعن فيه على عمر؟
فقلت: الطعن عليه من وجهين:
الاول: أنه سوء أدب منه ومن الجماعة الموافقين له في حق النبي صلى الله عليه وآله في ردهم عليه مراده وعدم قبولهم أوامره ورفع أصواتهم فوق صوته حتى تأذى بذلك وقال لهم: قوموا عني تبرما منهم، وقد قال تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2) وقال تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (3) وقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول) (4) ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه، بل قابله بالشتم في وجهه وقال: إن نبيكم ليهجر أي يهذي، وقد قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي) (5).
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله لما أراد إرشادهم وحصول الالفة بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنص الرسول منعه عمر وحال بينه وبين مراده، وهو مأمور بتوقيره واتباع أوامره، وقد قال تعالى: (وما كا لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
____________
(1) الحديث متواتر من الفريقين وقد ذكرنا مصادره في مكاتيب الرسول تحت عنوان (الكتاب الذي لم يكتب).
(2) الحشر: 7.
(3) الحجرات: 1.
(4) الحجرات: 2.
(5) النجم: 3.
ولهذا كان عبد الله بن العباس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه خديه، ويقول: يوم الخمسين وما يوم الخميس وكان يقول دائما: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كتابة الكتاب.
فقال: أما قوله: إن الرجل ليهجر مسلم، وأما قولكم: إن هذه اللفظة شتم فغير مسلم، أما اولا: فلان عمر لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر وعظم شأنه ما يمنعه عن ذلك، ولكن إنما أخرجها على مقتضى خشونة طبعه و قوة غريزته، وقد وكان موصوفا بخشونة الطبع. وأما ثانيا: فلان قوله: إن نبيكم ليهجر مشتق من هجر يهجر مهاجرة فيكون معناه إن نبيكم ليهاجر، وأما قولكم: إنه منع النبي عن كتابة الكتاب، وقدم بين يديه، ورده عن مراده، فإنه اجتهاد منه ويسوغ لمثله الاجتهاد، فإنه لما رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئا في ذلك الاجتهاد فإن الخطأ في الاجتهاد غير معاقب عليه ولا يصح ذم فاعله، لانه أقصى تكليفه.
فقلت: إن هذا الاعتذار غير مجد وهذا الجواب غير مسموع، لانه لا يسمن ولا يغني من جوع.
أما أولا: فلان قولك: إن هذه اللفظة غير شتم دليل على قلة معرفتك بلغة العرب وعدم اطلاعك على الاصطلاحات في مخاطباتهم، فإن ما هو دون هذه اللفظة شتم ولو قابل أحدهم أحدا بما دون هذه اللفظة لجرت الى القتال وإراقة الدماء، فكيف يقابل بهذه اللفظة سيد المرسلين وخاتم النبيين؟! ولا ألومك أيها الشيخ على عدم فهمك الشتم من هذه اللفظة فإنك لست بعربي، وأما
____________
(1) الاحزاب: 36.
وأما قولك: إن قوله: أن نبيكم ليهجر مشتق من هجر يهجر مهاجرة فيكون معناه أن نبيكم ليهاجر، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى.
أما من جهة اللفظ فإن الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد، ولما وصلت في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك الملا المدرس هذه اللفظة فقال له: ليس هكذا الاشتقاق، بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإن ذلك على غير القياس، ووإذا كان معناها ذلك فلا تحتمل إلا الهجر الذي هو الهذيان، ويرد عليك ما قاله الشيخ، فاعترف بالخطأ في ذلك.
ثم عدت فقلت: وأما غلطك من جهة المعنى فإن قولك: ان النبي ليهاجر كلام لا فائدة فيه، لان المهاجرة قد انقطعت والنبي في تلك الحالة غير متصور
وأما الثاني: فإن قولك: إنه إنما منع من الكتاب على مقتضى اجتهاده فقول ضعيف جدا:
أما أولا: فلان الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأما ثانيا: فلان الاجتهاد لا يسوغ مع وجود صاحب الشريعة لان فرض الجميع مع الحضور عنده التقليد لقوله والامتثال لامره بدليل قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1).
وأما ثالثا: فلان الاجتهاد لا يعارض النص كما قرر في الاصول، فهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وآله نص يقضي وجوب اتباع أمره في الاتيان بالكتاب، فكيف يصح أن يخالف نصه وأمره ويعارض الاجتهاد؟!
فإن النص يفيد القطع والاجتهاد لا يفيد إلا الظن والظن لا يعارض اليقين، فكيف يسوغ لعمر أن يترك اليقين القطعي المتلقى ممن لا ينطق عن الهوى ويده ويهمله ويمنع منه ويعمل باجتهاده؟ إن ذلك لضلال مبين، وقلة احترام للشرع، وهتك لحرمة الدين، ومع ذلك لم يقتصر على مجرة المنع والرد حتى تكلم بالشتم وتوصل الى المنع من أقبح الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره وباطنه، ومع ذلك تقول: إن ذلك اجتهاد! فأي اجتهاد يسوغ في هذا الموضع؟
وأي قول يسمع في رد كتاب يأمر النبي صلى الله عليه وآله به ليحصل به صلاح الامة وعدم وقوع الاختلاف بينها؟
وأما قولك: أنه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين فقول مخالف للمعقول والمنقول، لان أمر النبي صلى الله عليه وآله: إما أن يكون فسادا أو صلاحا،
____________
(1) الحشر: 7.
فقال: الذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الاشياء الواقعة بين هؤلاء الذين هم في محل التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت، بل الذي ينبغي حملها على الوجه الجميل كما قيل: إن بعض الناس سمع أعرابيا يقول مخاطبا الله تعالى في سنة جدب:
فقال السامع: أنه لا أب له ولا ولد، فأخرجها على أحسن مخرج فينبغي لمن سمع مثل هذا القائل وأمثاله أن يحملها مثل ما حمل عليه لفظ الاعرابي.
وأما قولك: إن الاجتهاد لا يعارض النص، وأن عمر لا يسوغ له الاجتهاد في هذا المحل فإن ذلك على غير هذه الحالة التي كان عليها النبي، فإنه هذه الحالة حالة الاحتضار والنبي مغلوب بالمرض حتى أنه كان يغمى عليه مرة ويفيق اخرى فاحتمل عمر أن يكون أمره بالكتاب في حالة غاير حالة الصحة، فساغ له الاجتهاد والنظر حينئذ فأداه اجتهاده الى الحكم بأن ذلك منه حال كونه مغلوبا بالمرض.
فقلت: الذي ينبغي لاهل الدين والصلاح أن لا يحرفوا الكلم عن مواضعه، وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محل غير ظاهرها، فلا يمكن حملها
والعجب منكم كيف تحملون ظواهر الايات التي فيها عتاب الانبياء عليهم السلام على ترك الاولى على ظواهرها وتحكمون عليهم بالمعاصي والخطأ مع دلالة العقل على وجوب تنزيهم عن ذلك مع وجود المحامل لو اظهر تلك الايات، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره منكر ومرتبته أقل من مراتب الانبياء بأضعاف، بل بينه وبينهم كما بين الارض والسماء على غير ظاهره وتمنعون جواز حمله على ظواهره مع أن كلامه لامحل له وتتركون العمل بظاهره بغير دليل واضح ولا تأويل بين؟! وهلا ساويتم بينه وبين الانبياء الذين هم محل التعظيم، وما ذاك إلا من قلة إنصافكم وكثرة ستركم للحق وشدة تسرعكم الى التعمية بإيراد الشبه.
ومن أغرب ما تذهبون إليه حملكم للايات القرآنية التي ظاهرها يدل على أن ما يقع في الكون من خير أو شر كله من الله تعالى ولا تؤولونها مع أن لها محملا، والعقل ينزه الباري جل وعلا عما نسبتم إليه من إلجائه العبد الى المعاصي وتعذيبه عليها، فإذا قرأتم قوله تعالى: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) (1) أو (قل كل من عند الله) (2) حكمتم بأن جميع أفعال العباد منه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
____________
(1) النحل: 93.
(2) النساء: 78.
____________
(1) النجم: 3.
فعندما سمع هذا الكلام قال مظهرا للغيظ والغضب: إن وقوع هذه اللفظة منه قلة حياء وسوء أدب لانكم أيها العرب موصوفون بقلة الحياء وسوء الادب ولا خطيئة عليه، لانه ترك الادب في ذلك وهو أمر مندوب.
فقلت: الحمد الله، فإنك قد اعترفت بأن هذه اللفظة صدرت منه لقلة أدبه وادعيت أن العرب موصوفون بقلة الادب، فأقول:
أما قلة الادب فهو وصف قد اتصف به هو دون غيره، وذلك وصمة عليه لا تمحى وعيب يعاب به، لان من صحب النبي مدة عشرين سنة مع ماكان عليه النبي من الاخلاق الكريمة والشيم المرضية والاداب الشرعية والعقلية، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وقال عليه السلام:
(إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) وقد جمعها الله في قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف) فكيف هذا المصاحب للنبي هذه المدة لم يتأدب بأدب هذا النبي الكريم الذي صحبه وعاشره هذه المدة؟ وكيف يسوغ لك مع قولك: إنه عظم الشأن وأنه من أتباع النبي وخواصه أن تصفه بقلة الادب؟ وما ذاك إلا لقلة مبالاته بالدين، وأن اتباعه للدين إنما كان لنيل الخظوظ الدنيوية، فلو كان اتباعه للدين لكان كالمتدينى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وآله وتأدبوا بآدابه وعملوا بسنته واتبعوا طريقته وسلكوا آثاره، فلما اعترفت لصاحبك بقلة الادب ووصفته بهذه الصفة علم أنه لم يكن من جملة هذه
وكان في المجلس حيدري (1) فلما سمع مقالتي وتروى جوابي أنبهر به عقله فقال:
(والله رأس ميفوت شيخ عرب أكر مرد بصحبة پيغمبر كردم بيست سال وأدنى أدب خرميسون) يعني صدق الشيخ العربي إذا كان رجل يصحب رسول الله عليه السلام عشرين سنة وهو بلا أدب يكون حمارا.
فضحك الحاضرون جميعا، وخجل الشيخ الهروي.
ثم قلت: وأما قولك أيها الملا: إن العرب موصوفون بقلة الادب فأنا استعلم منك ما تريد بالادب، أتريد به الاداب الشرعية أم الادب التي هي اصطلاح العجم واختراعهم، فإن أردت الثاني فنعم نحن لانتأدب بما لا يأمر الشرع به ولا نعمل بما يخالف الشرع، وإن اردت الاول فغير مسلم، لان العرب أعرف بالشرايع من العجم، لان الشريعة نزلت بلغة العرب وهم أقرب إلى صاحبها وأكثر صحبة له والعجم إنما أخذوا الشريعة منهم، فكيف يسوغ لك أن تصف العرب بقلة الادب مع انهم أصل الادب وفرعه، ومنهم تعلمت العجم الادب، ومع ذلك فإنك لم تصحب العرب ولم تجالسهم ولم تطلع على أخلاقهم لانك ما أتيت قط إلى بلاد العرب، فكيف يسوغ الان أنت تصفهم بهذا الوصف مع علمك بذلك أن كلامك في حقهم غيبة لا تسوغ من مثلك.
فخجل وافحم وكان جميع الحاضرين في المجلس عليه، ثم قلت:
إن قلة الادب تحصل في كثير من العرب وكثير من العجم لا في كل هؤلاء ولا في كل هؤلاء، فإن الاشخاص تتفاوت في الاخلاق والطبايع، ولكن من جملة من هو موصوف بقلة الادب صاحبك الذي اعترفت له بقلة الادب والحمد لله الذي أثبت له قلة الادب لكثرة ترديد هذه اللفظة بشهادتك.
____________
(1) لعل المقصود بالحيدري هو من ينتسب الى احدى شعب الصوفية.
فقلت مغتاظا لكثرة ترديد هذه الجملة مع اعترافه أنها خير حجة: إنه ما اجتهد ولكنه كفر.
فقال بحنق: أقم الدليل على كفره.
فقلت: ذلك لانه شتم النبي صلى الله عليه وآله متعمدا، ومن شتم النبي فهو كافر لقوله: (من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله فقد أكبه الله على منخريه في النار) وأي كفر أبلغ من هذا؟
فقال: وأين شتم النبي؟
فقلت: في هذه اللفظة وهي قوله: إن نبيكم ليهجر، فإن يهجر بمعنى يهذي ومن قال لصاحبه ذلك في وجهه فقد شتمه في عادات العرب وفي محاوراتهم.
فقال: لا نسلم إن هذه اللفظة شتم.
فقلت: أنت لا تعرف كلام العرب، ولكن انظر في الكتب العربية، واسأل العرب حتى تعرف منهم ومن كتبهم أن هذه اللفظة شتم.
فقال: لا ينبغي من مثلك مع جلالته وعظيم مرتبته في العلم أن يتسرع الى الحكم بكفر هذا الشخص لما اطلع منه على هذه اللفظة بل الذي ينبغي التوقف والتفكر والتروي الشهر والشهرين، بل السنة والسنتين فإن وجد لها محملا توقف وإن قام الدليل على أنها لا تحتمل غير الشتم حكم بذلك بعد تلك المدة.
فقلت: كأنك تعتقد أني لم أعرف هذه اللفظة ولم أنظر فيها إلا هذه الساعة، فإن كنت تظن ذلك مني فإنه ظن كاذب، فإن عمري اليوم يقارب الاربعين سنة وقد سمعت هذه اللفظة ونقلت لي أنها وقعت من هذا الرجل في حق النبي وأنا ابن عشر سنين، ونظرت فيها وناظرت فلم أجد لها محملا غير الشتم، وثبت عندي بالنظر الصحيح الناشئ عن البرهان الواضح الذي
فانقطع الهروي وقام السيد محسن من المجلس وأخذ بيدي وقال: قم، فقمت وكان قصد السيد فك المجلس خوفا علي لانه كان مشحونا بكثير من أهل السنة، فخاف السيد من وقوع الفتنة فنهضنا من بين الجماعة، وتفرق المجلس بعد أن ظهر لجميع الحاضرين الغلب عليه، والحمد لله وحده.
المجلس الثالث:
كان يوم الجمعة: اتفق أنه جاء يوما آخر الى المنزل لغرض كان له مع السيد وكان يوم جمعة، وكنت مع السيد محسن في المنزل ولم يكن معنا أحد، فخلوت معه فجلست.
وقال: إن هذا اليوم المجلس خال من الناس واريد أن أبحث معك في هذه الخلوة. فقلت: تكلم بما تريد.
فقال: ابحث لي عن أحوال الخلفاء وما كانت صفتهم وما كانوا عليه من الطريقة وما تعتقده عنهم لاناظرك في ذلك.
فقلت: أما الخليفة الاول فقد ظهر لك من طريقته وصفته أنه توصل الى التقدم على المسلمين وأخذ الخلافة من آل الرسول بالتسرع الى ذلك والتوصل إليه بما عرفت من الخديعة والمكر والحيل والتغلب، وتحلى بحلية لم يحله الله فيها ولا رسوله ويكفيك في ذلك تركه النبي على حال مصيبة الموت ولم يحضره ولا اشتغل بتجهيزه، ولا عظمت عنده تلك المصيبة ولا جلت لديه تلك الرزية،
____________