الصفحة 457
عليه وآله: (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) حديث اتفق عليهخ الفريقان، فقد منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده لم ينقله معه أحد وهو قوله: إن النبي قال: (نحن معاشر الانبياء لا نورث) فهذا الحديث كذب لان الله تعالى قال: (وورث سليمان داود) (1) وقال تعالى حاكيا عن زكريا: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) (2) والمراد إرث المال، لانه قال بعده: (واجعله رب رضيا) لانه لو أراد إرث النبوة لم يحتج إلى كونه رضيا، لان الوارث للنبوة لا يكون إلا كذلك وقال تعالى:

(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الاثنيين) (3) وهو عام في حق النبي وغيره، ثم لم يقنعه ذلك حتى منعها من فدك والعوالي وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أعطاهما لفاطمة في حياته لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) (4) واستغلتهما فاطمة في حياة أبيها فرفع يدها عنهما فكلمته في الارث وفيهما وقالت: كيف ترث أباك ولا أرث أبي؟ ثم قالت: وهذه نحلتي من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها؟ فطالبها بالبينة وهو غير مشروع، لان القابض منكر والبينة على المدعي.

ثم إنها أتت بعلي أمير المؤمنين والحسن والحسين وهو يعلم أنهما سيدا شباب أهل الجنة وام أيمن شهودا على النحلة فرد شهادتهم عنادا للشرع وتبطيلا للاحكام وبغضا لال الرسول، كل ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحدا إنكارها لان ذلك قد اتفق على نقله الفريقان، ولهذا ماتت وهي ساخطة عليه

____________

(1) النمل: 16.

(2) مريم: 6.

(3) النساء: 11.

(4) الاسراء: 26.

الصفحة 458
وعلى، وحلفت أن لا يكلماها، وأوصت أن لا يصليا عليها مع قول النبي في حقها: (يا فاطمة إن الله يسخط لسخطك ويرضى لرضاك).

ومن هذا حاله في أهل البيت كيف يؤمن على غيرهم، أو كيف يصلح أتباعه وتقليده وجعله واسطة بينه وبين خالقه وله أحوال غير ذلك لو نروم تعدادها لا تسع الخطاب وقل منك الجواب؟

وأما الخليفة الثاني: فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي ثم ولي الخلافة وأظهر البدع وعمل بضد الصواب، فمنع المتعة الثابت حلها في الشرع المحمدي كتابا وسنة وإجماعا وقد أمر الله بها ورسوله، واتفق الكل في نقلها في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزمان أبي بكر وبرهة من خلافته ثم منع منها مخالفا للقرآن والسنة والاجماع، وقام وقعد في توطيد الامر لابي بكر حتى توعد اناسا ممن تخلف عنه بالضرب والقتل وأراد إحراق بيت فاطمة لما امتنع علي وبعض بني هاشم من البيعة وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينا، وضربها قنفذ بالسيف عن أمره حتى أنها ماتت وألم السياط وأثرها بجنبها وغير ذلك من الاشياء المنكرة.

فقال: إن ذلك من رواياتكم وطرقكم فلا يقوم بها حجة على غيركم.

فقلت: أما الارث وفدك والعوالي فقد رواه منكم الواقدي وموفق بن أحمد المالكي وكثير من أهل السير، وأما حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم، وأما حديث الاحراق والضرب وإجهاض الجنين فبعضه مروي عنكم وهو الزم على الاحراق رواه الطبري والواقدي وابن قتيبة، ثم عدت:

فقلت: وأما الخليفة الثالث، فما كان عليه من المنكرات وعمى المقبحات فمشهور لا يحتاج الى بيان، فإنه ضرب ابن مسعود وأحرق مصحفه، ونفى أبا ذر الى الربذة، ورد الحكم بن العاص بعد نفي النبي له، وقوله له: (لا تجاورني حيا

الصفحة 459
ولا ميتا) فنفى من قربه النبي صلى الله عليه وآله وأدناه وقرب من أبعده النبي ونفاه، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي صلى الله عليه وآله في نفيه الحكم فقال عند وصوله الى المدينة: ما نفيت إلا بغيا وعدوانا!! واستعمل في ولايته أقاربه بني امية الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور، ويكفيك في ذلك أن المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدين وخالف بما فعله الخلفاء المتقدمين، فقتلوه في بيته ولم ينكر ذلك عليهم أحد من الصحابة وكان علي حاضرا في المدينة يشهد الواقعة، فلو كان قتله غير جائز لوجب على علي المدافعة عنه ومن جاز قتله ولم يصح الدفاع عنه فهو غير مسلم، فاختر أيهما شئت: اما أن يكون علي عليه السلام ترك المدافعة عنه مع وجوبها، أو تركها لعدم جوازها.

فقال: يمكن أن يكون ترك الدفاع عنه تقية.

فقلت: هذا الكلام غير مسموع، أما أولا: فلان عليا عليه السلام كان في تلك الحالة كثير الحالة كثير الاتباع قليل الاعداء، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه، ولم يكن هناك أحد يعدلون به وكان قوله مسموعا عندكم.

وأما ثانيا: فلانه ترك بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفن، فهلا كان أمر بدفنه في هذه المدة، وما ذاك إلا لانه غير مستحق الدفن.

وأما ثالثا: فلانه كان الخليفة بعد قتله، فلم ترك أمر قاتليه لوارثيه ولم يقتل به من قتله مع تمكنه من ذلك؟

فقال: إني احب أن تترك البحث الى غيرهم من بقية الخلفاء.

فقلت: إنهم الاساس، فلا يصح العدول عنهم حيت يتحقق عندكم ما كانوا عليه وقد وضحت لك طريقهم.

ثم إني اسهل عليك الطريق: ألم تعتقد أن عليا في غاية ما يكون من الصفات المحمودة والعدالة المطلقة وأنه ليس لطاعن إليه سبيل؟ فقال: بلى.


الصفحة 460
قلت: إن ذلك ثبت عن علي عليه السلام نقلا متواترا لا يختلف فيه ويكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء والمدرسين وما ذكره في الخطبة الموسومة بالشقشقية برواية ابن عباس وغيره.

فقال: إني لم أسمعها.

فقلت: أتحب أن اسمعكها؟ فقال: نعم.

فقلت: ذكر السيد الرضي - رحمه الله تعالى - في نهج البلاغة مرفوعا الى ابن عباس أنه قال: كنت مع علي عليه السلام برحبة الجامع في الكوفة فتذاكرنا في الخلافة ومن تقدم عليه فيها، فتنفس الصعداء وقال:

أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا حتى مضى الاول لسبيله فأدلى بها الى فلان بعده ثم تمثل بقول الاعشى:

شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقلها في حياته إذ عقدها لاخر بعد وفاته لشدما تشطر اضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم... وحكيتها إلى آخرها.

فقال: ومن يعرف من أصحابنا أن هذه من لفظ علي عليه السلام؟

فقلت: هنا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحح هذه

الصفحة 461
الخطبة، وروى أنها من كلام علي وشرحها وتكلم على من قال: أنها من لفظ السيد الرضي بكلام يعلم منه أنها من كلام علي عليه السلام وقال: إن كلام الرضي لا يقع هذا الموقع ولا يبلغ هذا الحد، فقال: إن مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي علي عليه السلام وأثبتوها في مصنفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا.

ثم إنه لما لم يسععه إنكارها واعترف بصحتها وانها من كلام علي عليه السلام حمل الشكايات الواردة فيه منه عليه السلام من الصحابة على أنه إنما شكى على ترك كان الاولى والاحق بالخلافة منهم لفضله عليهم، فلما عدلوا عن الافضل الاحق الى من لا يجاريه في فضل ولا يوازنه في شرف ولا يقاربه في سؤدد وعلم صح له أن ينفث (1) بالشكوى والتظلم على هذا الوجه لا على الغصب (2) والجور.

واعترض عليه بأن ذلك غير مسموع لانه نسبهم الى أخذ حقه وسمى فعلهم لذلك نهبا حتى قال: (تراثي نهبا) وعين تراثه الخلافة، لانها إرثه من الرسول عليه السلام، وهكذا شرح ابن ابي الحديد هذه اللفظة فقال: وعنى بالارث هنا الخلافة لانها إرثه من النبي صلى الله عليه وآله.

ثم إن العدول عن الاولى إن كان لمصلحة لم يصح لعلي الشكايته منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين، وإن كان عدولا عن الاولى لمجرد التشهي فيكون مردودا هذا مع أن العذر إنما يتصور على رأي من يقول بتفضيل علي على الثلاثة وهم الاقل، وأما القائلون بتفضيل المشايخ الثلاثة فما عذرهم مع أنهم الاكثر والسواد الاعظم فأول الامرين لازم: اما الطعن عليهم بأنهم أخذوا حقه

____________

(1) المصدر: (أن ينفت).

(2) في المصدر: (الغضب).

الصفحة 462
ظلما، واما الطعن على علي عليه السلام لتظلمه ممن ليس لهم ذنب.

فقال: ابن أبي الحديد هذا ليس منا بل من الشيعة.

فقلت له: هذا يدل على عدم اطلاعك وعلمك بأحوال الرجال، فان ابن أبي الحديد مشهور بالاعتزال وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم، وله مصنفات حكى فيها مذهبا واشعار كذلك فاعترف بعد ذلك بأنه معتزلي.

ثم قال: دعني حتى أتروى في هذه الخطبة فأخذت له نهج البلاغة وأخرجت الخطبة منه فجعلتها نصب عينيه فطالع فيها ساعة.

ثم قال: إني لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرد هذا اللفظ.

فقلت: أنت مكابر معاند للحق.

ثم إنه قال: فما ظنك في مثل هذا الشيخ فخر الدين الرازي وأثير الدين الابهري وجار الله العلامة الزمخشري وسعد الدين التفتازاني والسمرقندي والاصفهاني وغيرهم من العلماء والمدرسين الذين ملات مصنفاتهم الافاق وشاع ذكرهم في جميع الابصار أكلهم على ضلال؟ فلولا أن لهم دلائل ثابتة وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة، ولكن لما ثبت عندهم صحة خلافتهم بالادلة القطعية والبراهين الساطعة اعتقدوا ذلك، وأثبتوه في مصنفاتهم وقرروه لاتباعهم وتلاميذهم، وإنما أخذ العلم عنهم وعن مصنفاتتهم فكيف أترك طريقتهم مع اعتقادي بصدقهم وعدالتهم واستفادتي من علومهم، واسلك طريق من لا أعرف صحة قوله ولا أعتقد عدالته ولا ثبت عندي علمه؟

فقلت له: إذن أنت مقلدهم قد خرجت من حيز الاستدلال وانزلت نفسك منزلة الجهال فلا كلام لنا مع مثلك إن كنت مقلدا، وإلا لو كنت من أهل الاستدلال فكيف تتركه؟ وقد حث الله عليه وأمر به في قوله تعالى:


الصفحة 463
(فأتوني بكتاب من قبل هذا أو اثارة من علم ان كنتم صادقين) (1) وكيف رضيت بحيز التقليد وقد ذمه الله تعالى وذم فاعليه، ووبخ متبعيه لقولهم: (انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون) (2) وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) (3) فكيف تترك الاستدلال المأمور به وترجع الى تقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنص الكتاب؟

أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه؟

فقال: التقليد في مثل هذه المسألة جائز، لان مسألة الامامة من الفروع لا من الاصول ويصح التقليد بالفروع، فأنا اقلد فيها وأترك الاستدلال فإن كان ما أذهب إليه حقا فقد أصبت، وإن كان باطلا فاللوم على من سبقني من العلماء والمبرزين.

فقلت: لا يصح لك ذلك.

أما أولا: مسألة الامامة ليست من الفروع بل هي من أعظم اصول الدين وأجل أركان الايمان، لانها قائمة مقام النبوة في حفظ الشريعة وانتظام امور العالم وبقاء النوع الانساني في معاشه ومعاده، والنبوة من الاصول اتفاقا فكذا ما يقوم مقاما من غير فرق، والعجب ممن يقول: انها من الفروع ويعتذر عن الذي ترك النبي جنازة في بيته بأنه خاف على الناس الضلالة ورأى الارجح أن ينصب نفسه للخلافة عن حضور مصيبة النبي، فإن كانت من الفروع فالفرع لا يكون أرجح وأهم من صاحب الشريعة.

وأما ثانيا: فلو أنا سلمنا أنها من الفروع لم يصح لمثلك التقليد فيها، لان

____________

(1) الاحقاف: 4.

(2) الزخرف: 23.

(3) البقرة: 166.

الصفحة 464
التقليد في الفروع إنما يصح لمن لا يتمكن من الاستدلال ولا يقدر على الاجتهاد ولا يتمكن من إقاماة الدليل، فمن كان بهذه الصفة يسوغ له التقليد بعجزه عن الاستدلال، لان التكليف بغير المقدور قبيح عقلا، وأما مع قدرة المكلف على الاستدلال وتمكنه من الاجتهاد فلا يسوغ له التقليد في الاصول ولا في الفروع بل يجب عليه الاجتهاد وإجالة النظر والاستدلال بالبراهين والامارات، وأنت قادر على الاجتهاد متمكن من البراهين والحجج، فلا يسوغ لك التقليد، ومع ذلك فقد قام لك البرهان الجلي والدليل الواضح على بطلان خلافة هؤلاء الثلاثة فيجب عليك المصير إليه، لانه لم يعرض له ما ينقصه ولا يعارضه.

فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما ينقصه أو يعارضه؟ فكيف تتركه وترجع الى التقليد؟ إن هذا لم يقل به أحد ولا يرتضيه عاقل ولا يعارضه عالم لغيره، فكيف يسوغه لنفسه التي هي أعز شئ عليه؟

إني أقول: لو فرضنا أنك من المقلدين فكيف رجحت تقليد هؤلاء المشايخ الذين عددتهم دون من عداهم من أمثالهم، فترجيحك هؤلاء على غيرهم هو عين العمل بالعناد والترجيح بلا مرجح وهو ظاهر الفساد، فإن في أهل مذهبنا من العلماء والمصنفين والمدرسين مثل من ذكرت إن لم يكونوا أعظم منهم بدرجات كالامام نصير الدين الطوسي المسمى بالمحقق، وسمي فخر الدين بالمشكك وكذلك السيد المرتضى علم الهدى الذي أفحكم كل من ناظره في جميع العلوم والشيخ أبي الفضل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان، والشيخ أبي جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامة والخاصة بالفضل وعلوا الكعب والشيخ ابن المطهر الحلي الذي سارت مصنفاته في جميع الامصار، والسيد شريف الحسيني الذي درس في جميع بلاد العجم، وركن الدين الجرجاني ونصير الدين الكاشي وغيرهم من علماء العرب والعجم، فإن مصنفاتهم قد

الصفحة 465
ملات البلدان وذكرهم قد شاع في سائر الامصار، وقد أبطلوا في مصنفاتهم جميع الادلة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالجوابات المسكتة، وصنفوا في الامامة مصنفات ضخمة ذكروا فيها أدلة كثيرة على صحة إمامة علي عليه السلام بعد النبي بلا فصل وأبطلوا إمامة اغيره، حتى أن الشيخ جمال الدين بن المطهر وضع كتابا سماه كتاب الالفين، ذكر فيه ألفي دليل منها ألف دليل على إمامة علي وألف دليل على بطلان إمامة غيره، فما الذي أوجب الترجيح لتقليدك اولئك دون هؤلاء؟

فسكت ولم يجبني عن ذلك بشئ ثم قال: ابحث لي عن سيرة الخلفاء بعد علي واترك البحث في هؤلاء المتقدمين عليه.

فقلت: أول ما أبحث لك في معاوية وأسألك عما تعتقده فيه؟

فقال: أعتقد أنه موحد مسلم سادس الاسلام وخال المؤمنين وأنه خليفة من خلفاء المسلمين لا يجوز وصمه ولا الطعن عليه بحال من الاحوال.

فقلت: كيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنه حارب عليا عليه السلام وقاتله، وخالف بين المسلمين حتى قتل بينهم خلق كثير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله، حربك يا علي حربي وسلمك سلمي، حديث اتفق على نقله الكل أو تنكره أنت؟

فقال: لا انكره فقلت: إذن حرب علي حرب رسول الله وحرب رسول الله كفر بالاجماع، فحرب علي كذلك بمقتضى الحديث.

فقال: إن حربه له كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب، وقد أداه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم على صاحبه ولا إثم.

فقلت: لقد أبطلت وأحلت لانك تترك أنت الاجتهاد في الاستدلال على

الصفحة 466
إثبات الخليفة بعد رسول الله عليه السلام وترجع إلى التقليد وتقول: إن مسألة الامامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد، وتسوغا لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نص النبي صلى الله عليه وآله على أن حربه مثل حربه مع أنه في تلك الحالة إمام واجب الاتباع بالاجماع. إن هذا إلا خبط وقلة حياء في ايراد الشبهة التي تعلم أنها ليست حجة.

ثم قلت له: أليس علي خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان عندكم بالاجماع من أهل الحلل والعقد؟ فقال: بلى.

فقلت: أليس معاوية قد خالف الاجماع من الامة وعمل على خلافها وقد تقرر في الاصول: أن الاجتهاد لا يعارض الاجماع، فكيف ساغ لمعاوية الاجتهاد في القتال المؤدي الى الفساد والاختلاف بين امة محمد صلى الله عليه وآله وحصول القتل العظيم ونهب الاموال حتى قتل في تلك الحرب عمار بن ياسر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: (عمار جلدة ما بين عيني تقتله الفئة الباغية) حديث نقله كل الامة، ولما قتل قال أهل الشام: نحن الفئة الباغية بنص الرسول لانا القاتلون لعمار، فقال معاوية مجاوبا لهم بالتمويه وتستير الحق: إنما قتله من جاء به إلينا!! فأوهمهم بهذه الشبهة أن الفرقة الباغية أهل العراق، فلما سمع ابن عباس اعتذار معاوية قال: قاتل الله معاوية وأبعده يلزم من قوله أن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي قتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر واحد، لانه هو الذي جاء بهم الى الكفار، وكيف اعتذر بهذا العذر؟!

ومع ذلك فيكف يسوغ له سب علي وشتمه على المنبر وعلى رؤوس الاشهاد حتى استمر على ذلك بنو امية برهة من الزمن الى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه؟

فكيف يسوغ له ذلك والنبي صلى الله عليه وآله يقول: (من سب عليا

الصفحة 467
فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله 9 الحديث. وهل يصح له أن يجتهد في ذلك؟

فما عذره أو عذر من يعذره غدا عند الله تعالى؟ أو ليس أنه سب من مدحه الله وأوجب حقه ونزهه عن الخطأ وفضله وكان أساس الاسلام بسيفه، ونظام الامة بتدبيره وأحكام الشريعة بعلومه، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) حديث اتفق على نقله الكل؟

ثم قلت له: ما أظن أن عالما مثلك يقف على مثل هذه هذه الاحوال ثم يتوقف أو يخالطه شك في معاوية، أليس الشيخ سعد الدين التفتازاني لما وقف على هذه الاحوال وتحققها تبرأ منه وسبه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان، فكيف تمدحه أنت أو تتوقف في وصمه؟!

فقال: لا شك أن ملعون يجب على كل مسلم التبري منه لقتله الحسين عليه السلام.

فقلت: بل وقتل الانصار يوم الحرة وضرب الكعبة بالمناجيق حتى هدمها، وحكميت له القضيتين.

فقال: إني لا أشك في لعنه.

فقلت: إن خلافته مسببة عن أبيه فكان العصيان والفسق والفساد الحاصل منه كله مسببا عن أبيه، وكانا نظيرين فإن الاب سم الحسن والابن قتل الحسين، فتعجب من قصة الحسن.

فقلت: إنها قصة ثابتة عند أهل السير والاحاديث، وحكيتها له وذكرت له ماكان السبب فيها فوافق على البراءة منه ولعنه.

فقلت: إن خلافته مسببة عن عثمان، لانه هو الذي استعمله على الشام فبقي متغلبا عليها منعا لعلي عن التصرف فيها، والسبب في ذلك عثمان حيث

الصفحة 468
استعمل على الاسلام من يعلم فسقه، بل كفره حتى حصل وهتك الاسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين ما قد حصل.

ثم بل أقول: إن قتل الحسين مسبب عن عمر بن الخطاب. فقال: فقال: أقم لي الدليل على ذلك.

فقلت: الدليل واضح والحق لائح، فإنه لولا قضية الشورى التي ابتدعها عمر وتعدى في ابتداعها وأدخل عثمان فيها وجعل الامر لعبد الرحمن بن عوف وأمر بقتل من يخالف الذي فيه عبد الرحمن لم يتوصل عثمان الى الخلافة أصلا ولا كانت الامة رضيت به مع وجود علي عليه السلام، لانه لا يوازنه في فضل ولا يماثله في سبق ولا يضاهيه في علم ولا يقاربه في سؤود وشرف، فكانت خلافته مسببة عن الشورى التي هي بنص عمر، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان، لانه جعله واليا على الشام، ولولا عثمان لم يصل معاوية إلى امارة الشام، لانه دخليل في الاسلام وكونه من الطلقاء المؤلفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير، وخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين والانصار وهدم الكعبة بنص معاوية ومبايعة أهل الشام وبذله عليها الاموال فكان قتل الحسين عليه السلام مسببا عن عمر.

وأنا أروي لك حديثا تعرف منه صحة ذلك. فقال: وما هو؟

فقلت: إن عبد الله بن عمر لما قتل الحسين عليه السلام أنكر ذلك على يزيد واستعظمه، فكتب عبد الله بن عمر الى يزيد: أما بعد فقد عظمت الرزية وحلت المصيبة وحدث في الاسلام حدث عظيم ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام. فكتب إليه يزيد: أما بعد، يا أحمق فإنا جئنا الى بيوت متجددة وفرش ممهدة ووسائد منضدة فقاتلنا عليها، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن يكن لغيرنا فأبوك أول من سن هذا وأثر واستأثر بالحق على أهله، والسلام.

فسكت عبد الله بن عمر عن جداله، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله!


الصفحة 469
فقال: هذا ظلم من يزيد لعنه الله لعمر (1) فإن عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم أن الامر يصل الى يزيد، ولو فرض أنه علم أنه يصل إليه لم يعلم انه يعمل مثل عن يزيد.

فقلت: إن عمر وإن لم يكن نص على معاوية فإنه نص على الشورى التي كانت سببا لخلافة عثمان، وعثمان كان سببا في تولية معاوية، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد، لان سبب السبب سبب.

فقال: إنه لم يكن سببا تاما، بل كان جزء السبب.

فقلت: الحمد لله قد اعترفت بأنه جزء العلة، وجزء العلة علة لتوقف التأثير عليه، فقد صار عمر جزء من العلة وجزء العلة التامة في قتل الحسين عليه السلام باعترافك.

فاعترف وسكت ثم قال: ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العباس.

فقلت: إن البحث عن هؤلاء الفروع لا فائدة فيه بل الفائدة في البحث عن هذه الاصول، لان خلافة اولئك مسببه عن هؤلاء ومع ذلك فإني أقول:

ما تقول في هذا الامام المدفون بخراسان الذي اسمه علي بن موسى الرضا عليه السلام الذي أنت تزوره وتتبرك بساحته صباحا ومساء وتتقرب إلى الله بزيارته؟

فقال: وما أقول فيه: انه من ذرية الرسول واجب المودة والمحبة من جميع الاسلام، وانه من أهل الله وخاصته الذين صفاهم واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والشرف.

فقلت: ما تقول في أبيه الامام موسى بن جعفر عليهما السلام؟

____________

(1) الظاهر أنه: لا عمر.

الصفحة 470
فقال: كما قلت في ابنه.

فقلت: فما تقول في خليفة حبس الاول ودس إليه السم حتى قتله، وخليفة قتل الابن أيضا بالسم بعد الاعتراف بفضله والمبايعة له بولاية العهد؟

فقال: ومن ذلك وهذا؟

فقلت: الخليفة الاول هارون لرشيد فإنه حبس الامام موسى بن جعفر عليه السلام في حبس السندي بن شاهك مدة من الزمان وأعطاه السم، فدسه إليه في الحبس وقد ثبت ذلك في الاخبار الصحيحة، والخليفة الثاني ولده المأمون فإنه قد اشتهر عند الكل أنه كان يعظم الرضا وعقد له ولاية العهد بعده، ثم إنه بعد ذلك قتله بالسم ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف منهم إلا قليل.

فقال لي: اريد أن تريني ذلك في مصنفات العلماء.

فقلت: من علمائنا أم علمائكم؟ فقال: اريد من الطرفين.

فقلت: اما من طريقنا فكثير، مثل كتاب ارشاد المفيد وكتاب عيون الاخبار لابن بابويه القمي وكتاب كشف الغمة للاربلي وغيرها، وكان بالاتفاق في بيت السيد كتاب عيون الاخبار فأوقفته على قصة الامام الكاظم مع الرشيد في بيت السيد كتاب عيون الاخبار فأوقفته على قصة الامام الكاظم مع الرشيد وما جرى عليه من الامور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما أخافوا منهم حتى تفرقوا في البلاد، وما حبس منهم حتى ماتوا في السجون والاغلال.

فانكر عليه غاية الانكار، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحة قولي.

وأما من طريقكم فلم يحضرني الان شئ من كتبكم.

فقال السيد محسن: بل عندي كتاب يسمى كتاب العاقبة من مصنفات بعض الشافعية فلعل فيه شئيا من ذلك.

فقلت: هات الكتاب، فجاء به، ففتشناه فوجدناه يشتمل على ذكر عواقب