وسألني فضيلته عن صاحب السماحة السيد محمد باقر الصدر مؤلف كتاب:
" فلسفتنا " (1) قائلا:
هل إنه يخص مؤلف هذا الكتاب (2).
فقلت نعم: إنه من عائلة الصدر ومن بنى عمومته،
فقال فضيلته:
إنني استفدت كثيرا من كتاب " فلسفتنا " وطالعته أكثر من مرة. فلو أنك تقيم معنا بمصر وتطبع هذا الكتاب فإني مستعد للقيام بتدريسه هنا على طلابي في الجامعة فأجبته:
لا يمكنني البقاء هنا على الدوام وبصورة مستمرة.
وبعد أن أتم فضيلته حديثه تركت الكتاب عنده ليطلع عليه ويكتب التقديم له واستأذنته وانصرفت.
وهذا نص التقديم الذي تفضل به سيادته:
____________
(1) السيد محمد باقر الصدر من مراجع التقليد للشيعة الإمامية في العالم الإسلامي، ومن كبار المفكرين في الحقل الإسلامي في هذا العصر له، عدة مؤلفات مطبوعة منها: " فلسفتنا "، " اقتصادنا " جزآن " فدك في التاريخ " وترجمة هذه الثلاثة إلى اللغة الفارسية وطبعت في عام 1972 و 73 و 77 م في طهران، وقم - وله: " بحوث في شرح العروة الوثقى " صدر منها ثلاثة أجزاء " الفتاوى الواضحة " وله " الأسس المنطقية للاستقراء "، " المدرسة الإسلامية " جزآن وطبع طباعة أنيقة في بيروت أخيرا " المعالم الجديدة للأصول "، " غاية الفكر في علم الأصول "، " البنك اللاربوي في الإسلام " وغيرها وقد تكرر طبع هذه الكتب في لبنان والعراق وإيران.
(2) أراد به: مؤلف كتاب " الشيعة وفنون الإسلام ".
أما بعد فمنذ بضعة أعوام خلت كتبت رسالة صغيرة بعنوان:
(بين الشيعة وأهل السنة) ضمنتها أملا كبيرا، ورغبة ملحة، في أن يتلاقى الشيعة وأهل السنة، عند مبادئ الأخوة والمحبة، والمودة والمصافاة، ونبذ ما غرسه أعداء الفريقين في النفوس من عوامل الفرقة والشقاق.
ودعوت إلى أن ينظر كل فريق إلى جهة نظر الفريق الآخر، نظرة العالم يبحث عن الحق، ويدرك أن الحق أحق أن يتبع.
وقلت: أنه إذا كان الأثر الذي كنا توارثناه عن سلفنا الصالح قد أكد ضرورة الحصر على الحق أين وجد. وأعلن:
إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها ولو من فم كافر.
وأوضح: أن العاقل لا يعرف الحق بالرجال، وإنما يعرف الحق بالدلائل والبراهين، فإذا عرفه عرف به أهله، فقد أصبح لزاما علينا - نحن الجيل - أن نحرص على الحق، وأن نأخذ أنفسنا به، وأن نجند أنفسنا للدعوة إليه، وأن نجتمع حوله، غير ناظرين إلى ما دعانا إليه وعرفنا به، اللهم إلا نظرة إكبار وإعظام وإجلال.
ومن المسلم به لديهم أيضا ضرورة احترام كل واحد من الباحثين لوجهة نظر الآخرين في المسائل المتحملة لضروب من العراك الفكري، حتى أنهم ليختلفوا ويكونون في ذات الوقت أصدقاء وأحباء وأصفياء. ورحم الله من يقول:
" اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ".
ولقد رفع الإسلام راية السماحة عالية، فقال في كتابه الكريم:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن).
وإذا كان الإنسان يحب لنفسه أن يستمتع بالحرية، فيقول، ويعلن ما يهديه إليه بحثه وتفكيره، فلا يليق به أن ينكر على إنسان مثله حقه في أن يقول ويعلن ما يهديه إليه بحثه وتفكيره كذلك.
وحسب المسلمين فخارا أنهم اجتمعوا على أصول دينهم لم يختلفوا فيها:
فالألوهية في أسمى مكان من التقديس في نفوس المسلمين.
وعقيدة البعث، والإقرار بالنبوة، وحاجة البشر إليها، وختامها بسيد ولد آدم " محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) ".
وصدق القرآن الكريم، وما صح منه حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
كل أولئك يحتل من نفوس جميع المسلمين مكانة لا تطاولها قداسة أي دين آخر في نفوس أتباعه.
قلت ذلك وأكثر من ذلك في رسالتي " بين الشيعة وأهل السنة " رغم أني لم أقل في هذه الرسالة كل ما أحب أن أقوله، نظرا لظروف الطبع وقت ذاك.
وإذا فاتني أن أخوض في هذا المجال، وأن أعرض لموضوع الكتاب عرضا تحليليا اتكالا على همة المتخصصين الذين أطمع في أن يتناولوا الكتاب بكل ما هو جدير به من عناية واهتمام، فما أحب أن يفوتني أن أقول كلمة ما أراها إلا متابعة لما جاء في رسالتي " بين الشيعة وأهل السنة " تلكم هي أن المؤلف (رضي الله عنه) يدعي سبق الشيعة في تأسيس العلوم الدينية والعربية ويقدم بين يدي دعواه أدلة تبررها، ويدور كتابه حول بسط هذه الدعوى، وإيضاح أدلتها.
والناس أمام هذه الدعوى فريقان.
فريق المتعلمين: وهؤلاء لا يهتمون بواضع العلوم ومؤسسيها، وإنما الشيعة وحدهم، أو هم أهل السنة وحدهم، أو هؤلاء وهؤلاء.
وفريق العلماء: وهؤلاء كما يهتمون بالعلوم ذاتها، يهتمون بنشأتها ومنشئيها والأطوار التي تواردت عليها إذ أن العلوم لها نشأة كنشأة عظماء الرجال، لهذا كان لها تاريخ عظماء الرجال كذلك.
إن كتاب " الشيعة وفنون الإسلام " جهد مشكور قام به صاحبه (رضي الله عنه) مساهمة منه في المهمة المنوطة بأعناق علماء الإسلام تلكم هي التاريخ لعلوم الإسلام، وما تستتبعه من علوم أخرى، فلا ينبغي أن يقابل هذا الجهد الجبار بنظرة سطحية تعتمد على عدم المبالاة وعدم الاكتراث. لا ينبغي أن يقال مثلا: " هذه عصبية " أو " هذا تحد " أو نحو ذلك من أساليب القول التي يحتمي بها من لا يريد أن يجشم نفسه مشقة البحث والنظر.
نعم لا ينبغي أن يقال هذا ولا شئ منه، لأنه لا داعي للعصبية، ولا داعي للتحدث لأن الشيعة كأهل السنة مسلمون.
واختلافهم مع أهل السنة إنما هو في مسائل لا ترتقي إلى مستوى الأصول.
وإذن فهم أخوة مسلمون، وسبقهم في بعض العلوم إنما هو كسبق الأخ لأخيه، إن أثار تنافسا وحماسا، فإنه لا يثير خصومة، ولا عداء.
وإذن فلا مناص من إحدى اثنين:
أما أن نطأطئ الرأس إجلالا واحتراما، لما بذل المؤلف من جهد، ولما انتهى إليه من نتائج
وإما أن نقابل الجهد بجهد مثله. ونتقدم بما نظفر به من نتائج مؤيدة بأدلة سليمة مقبولة.
وأني أتوجه إلى الله جلت قدرته راجيا أن يطهر النفوس مما علق بها من شوائب، وأن يملأها بمعاني الحقب، والتعاطف، والتآخي، وأن يعيد للمسلمين وحدتهم، وأن يفقههم في دينهم، ويبصرهم بعاقبة أمرهم، ويوفقهم للاهتداء بهدى الإسلام في سلوكهم ومعاملاتهم، ولتبليغ دعوة دينهم إلى خلق الله كافة مبرهنين
وفي هذا المقام يحلو لي أن أشير إلى مفخرة من مفاخر المسلمين، بحق أن نعتز بها ونفاخر، تلكم هي: كتب السيد " محمد باقر الصدر " التي ما أظن أن الزمن قد جاء بمثلها في مثل الظروف التي وجدت فيها.
لقد أنتجت عبقريته الفذة الكتب الآتية.
" فلسفتنا " و " اقتصادنا ".
تلكم الكتب التي تعرض عقيدة الإسلام، ونظم معاملاته، عرضا تبدو إلى جانبها الآراء التي تشمخ بها أنوف الكفرة والملاحدة من الغربيين وأذنابهم ممن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء، وكأنها فقاقيع قد طفت على سطح الماء ثم لم تلبث أن اختفت وكأنها لم توجد.
ألا فليقرأ هذه الكتب أولئكم الذين حشو رؤوسهم بهراء من القول، وزيف من الخيال، ليتطهروا بطهور الحق من رجس الباطل، وليبصروا نور الوجود، بعد ما ضلوا في بيداء العدم، وليجدوا أنفسهم بعد أن فقدوها.
ألا فليقرأ هذا الكتب شباب الإسلام المخدوع ببريق المدنية الكاذبة، وكيف يتيسر لهم قراءتها، وقد شغلوا بالهزل عن الجد، وبالباطل عن الحق، لأن الهزل والباطل قد اقتحما عليهم عقولهم وقلوبهم في غفلة من الجد والحق.
ألا فليتعرف على هذه الكتب المربون ليقوموا بها نفوسا قد أعوجت، وقلوبا قد اظلمت، وعقولا قد أقفزت وأجدبت حتى هانت الدنيا على أصحابها فسخروا منها لأنهم لم يحسوا لها طعما، ولم يعرفوا لها قدرا، فساءت أحوالهم وانحرف بهم سلوكهم وضلت عنهم آمالهم، وأصبحوا بحالة تستوجب أن يخلقوا خلقا جديدا.
كتبه سليمان دنيا
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف
القاهرة في العشرين من رمضان عام 1386 هـ
الموافق: أول يناير عام 1967 م
- 21 -
الدكتور حامد حفني داود
أستاذ كرسي الأدب العباسي بجامعة الجزائر
ورئيس قسم الأدب العربي بجامعة عين شمس
وفي خلال رحلاتي إلى القاهرة لطبع ونشر آثار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير والعقائد والحديث والفقه والأخلاق، طبعت: " تفسير القرآن الكريم " للسيد عبد الله شبر، " وسائل الشيعة ومستدركاتها " خمس مجلدات في الفقه والحديث المروي عن أهل بيت رسول الله و " عبد الله ابن سبأ " الشخص الخيالي الموهوم الذي الصقه السنة بالشيعة (2) " عقائد الشيعة " " أصل الشيعة وأصولها " في الأصول والفروع عند الإمامية و " الوضوء في الكتاب والسنة " و " المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي ".
وكنت لا أفارق هذا الأستاذ الفاضل ليلا ولا نهارا وأحببته لله تعالى لوفور عقله ولأخلاقه الإسلامية السامية ثم لتمسكه بالدين وقيامه بما يرضي الله فيما يكتب وينشر، وأكثر أحاديثي معه كانت تدور حول أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم وما جرى عليهم، وقد عرفني سيادته إلى كثير من الأساتذة والكتاب كالدكتور شوقي
____________
(1) له مكتب في 2 شارع دار الكتب وهو صاحب زنكغراف النصر كما تقدم في رقم " 2 " ضمن محادثاتنا مع الأستاذ الشيخ محمود أبو رية رحمه الله في أوائل هذا الكتاب.
(2) تقدم رأى الدكتور طه حسين عن عبد الله بن سبأ بأنه شخصية خيالية أوجدها خصوم الشيعة للطعن بهم انظر حديثنا معه برقم (14).
سألني الدكتور حامد وقال:
هل أنتم - أي الشيعة - تأخذون بأقوال عامة الصحابة؟ قلت: لا.
قال: لماذا؟ قلت: لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قرن آله مع القرآن وأمرنا باتباعهم - كما سيأتي - وأهل البيت أدرى بما فيه ونحن مأمورون بالأخذ عنهم لقوله تعالى: (ما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). ومع ذلك فلا تمتنع الشيعة عن الأخذ من الصحابة الأبرار الذين يتمسكون بأهداب أهل البيت الأطهار.
وإليك بعض الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل أهل بيته الأطهار (عليهم السلام) وقد ألقيتها على مسامع الأستاذ الدكتور حامد حفني داود حفظه الله.
وقلت: الشيعة متمسكة بالكتاب والسنة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (1) وعن أبي سعيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي (2).
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون " (3).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرني - ربي - بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قال؟
____________
(1) حديث الثقلين متواتر ذكره أصحاب الصحاح والمسانيد في كتبهم وقد تقدم ذكره.
(2) الصواعق المحرقة ص 144، ينابيع المودة ص 308.
(3) ينابيع المودة طبعة استانبول ص 435.
إنك يا علي منهم، إنك يا علي منهم.
أخرجه صدر الحفاظ الكنجي وقال:
هذا سند مشهور عند أهل النقل وقد سألت بعض مشائخي عن هذا السائل من هو؟ فقال: هو علي، قلت:
من الثلاثة الباقون: فقال: هم: الحسن، والحسين، وفاطمة.
ثم قال الكنجي:
قلت في هذا الخبر دلالة على عناية الله عز وجل بهم صلوات الله عليهم، وأمر الله سبحانه يقتضي الوجوب، فإذا كان الأمر للرسول فيما لا يقتضي الخصوص دل على وجوبه على الأمة واقتضاء الوجوب دلالة على محبة الحق عز وجل بمتابعة الرسول بدليل قوله عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (1).
وعن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله حرم الجنة على من ظلم أهل بيتي، أو قاتلهم، أو أغار عليهم، أو سبهم " (2).
وقال ابن حجر: أخرج أحمد مرفوعا: من أبغض أهل البيت فهو منافق (3).
وقال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) النساء: الآية 145.
وقال: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) النساء: الآية 140.
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا علي أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله،
____________
(1) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ص 33.
(2) ذخائر العقبى ص 20، ينابيع المودة ص 277 طبعة استانبول.
(3) الصواعق المحرقة ص 106، ذخائر العقبى ص 18.
وعن المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويريبني ما رابها " (2).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة: " إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك " (3).
وعن أبي ثعلبة الخشني قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قدم من غزوة أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه " (4).
وأخرج الترمذي: من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" علي وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم " (5).
وعن المساور الحميري عن أمه قالت: دخلت على أم سلمة فسمعتها تقول:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا يحب عليا منافق، ولا يبغضه مؤمن " (6).
وقال ابن قتيبة تحت عنوان: " كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب "
____________
(1) ينابيع المودة: ص 495 طبعة استانبول.
(2) الإصابة: 4 / 378، أسد الغابة: 5 / 532، خصائص النسائي: ص 35.
(3) الإصابة: 4 / 378، أسد الغابة: 5 / 532.
(4) الإستيعاب بهامش الإصابة: 4 / 328، 4 / 378، أسد الغابة: 5 / 532.
(5) الإصابة: 4 / 378.
(6) سنن الترمذي 5 / 635.
والذي نفس عمر بيده، لتخرجهن أو لأحرقنها على من فيها (1).
فقيل له: يا أبا حفص إن فاطمة في الدار قال: وإن...
فوقفت فاطمة على بابها وقالت:
لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقا.
فأتى عمر أبا بكر فقال له:
ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة.
فقال أبو بكر لقنفذ - وهو مولى له - إذهب فادع لي عليا قال:
فذهب إلى علي فقال ما حاجتك:
فقال: يدعوك خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع، فأبلغ الرسالة.
قال: فبكى أبو بكر طويلا:
فقال عمر: الثانية. أن لا تمهل المتخلف عنك بالبيعة.
فقال: أبو بكر لقنفذ: عد إليه فقل له:
أمير المؤمنين يدعوك لتبايع. فجاءه قنفذ فأدلى ما أمر به. فرفع علي صوته
____________
(1) وتأييدا لقول عمر هذا ما ورد في كنز العمال: 3 / 139 من حديث قال فيه عمر لفاطمة
وأيم الله ما ذلك بما نعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندكم أن أمرتهم أن يحرق عليهم الباب وقال
المتقي الهندي بعد ذكره لهذا الحديث: أخرجه ابن أبي شيبة.
المؤلف
فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا.
ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها:
يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها، وبكاءها انصرفوا باكين، وكانت قلوبهم تتضرع، وأكبادهم تنفطرو بقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليا فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له بايع:
فقال: إن أنا لم أفعل.
قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك.
قال إذا تقتلون عبدا لله، وأخا رسوله.
قال عمر: أما عبدا لله فنعم، وأما أخا رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم.
فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك.
فقال: لا أكرهه على شئ، ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فلحق علي بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصيح، ويبكي، وينادي، يا ابن أم إن القوم استضعفوني، وكادوا يقتلوني. الحديث (1).
عمر والإمام علي
وقال الكاتب المصري الأستاذ الورداني: تعايش الإمام علي مع عمر كما تعايش مع أبي بكر من قبل تعايش المغلوب على أمره الإيجابي في مواجهة الواقع
____________
(1) الإمامة والسياسة: 1 / 12 - 13 الطبعة الأخيرة عام 1368 هـ. القاهرة.
وإذا كانت هناك ضغوط على الإمام في عصر أبي بكر فإن الضغوط عليه في عصر عمر أشد لأن عمر كما بينا سابقا هو رأس كله. وكان هو الرجل الثاني في السلطة أيام أبي بكر إن لم يكن هو الحاكم الحقيقي ولم يكن أبو بكر سوى ظل له.
فإذا ما تسلم عمر السلطة وهو ما كان يخطط له فلا بد وأن تكون له سياسة أكثر شدة في مواجهة آل البيت والإمام علي بحكم كونه يمثل جماعة ضغط فاعلة لها وزنها الشرعي والجماهيري وهي جديرة بالحكم. فضلا عن اعتقاده بأحقيتها بإمامة المسلمين..
وأمر آخر يبرر موقف عمر المتشدد والعدائي من آل البيت هو قناعته بضآلة قدراته العلمية والقيادية أمام قدرات الإمام علي..
يقول عمر عن نفسه - بعد أن كثرت أخطاؤه في الفتيا وقراراته التي تصطدم بأحكام الإسلام -:
كل الناس أفقه من عمر.. (1).
ويقول مقرا بضآلته العلمية أمام الإمام علي: ما من معضله ليس لها أبو الحسن... (2).
ويقول أيضا مبررا حجم الموقف الإيجابي الذي التزم به الإمام تجاهه حفاظا
____________
(1) أنظر قصة عمر مع امرأة حين صعد المنبر ينهي عن المغالاة في المهور حين قال:
أصابت امرأة وأخطأ عمر في الدر المنثور ج 1 / 133 / وتفسير قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا) في كتب التفسير.
(2) أنظر: مستدرك الحاكم ويروي الحاكم لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلا علي.
وكتب الحديث والتاريخ مليئة بالمواقف والممارسات والأحكام التي أصدرها عمر وتبين اصطدامها مع النصوص ومخالفتها لأحكام الإسلام مما يدل على ضآلة علمه وقلة فقهه وحاجته الماسة لمن يدعمه فقهيا.. (2).
فهو قد حرم متعة الحج ومتعة النساء.. (3).
وجعل الثلاث طلقات في مكان واحد طلقة بائنة بينونة كبرى لا تحل بعدها الزوجية حتى تنكح زوجا غيره.. (4)
وشرعه لصلاة التراويح جماعة ولا جماعة في نفل.. (5).
وجعل التكبير في صلاة الجنائز أربعا بعد أن كان خمسا.. (6).
____________
(1) أنظر: الإستيعاب هامش الإصابة ج 39. والرياض النضرة ج 2 / 194.
(2) أنظر: النص والاجتهاد للسيد شرف الدين. ومعالم المدرستين ج 2 للسيد مرتضى العسكري. وانظر لنا: فقه الهزيمة فصل الرجل...
(3) أنظر: صحيح مسلم والبخاري يتبين لك أن زواج المتعة كان معمولا به على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد أبي بكر وشطر من عهد عمر حتى حرمها بقولة: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء...) أنظر سنن البيهقي وكتب التفسير. وانظر كتاب المتعة وأثرها في الاصلاح الاجتماعي بيروت. وانظر كتابنا زواج المتعة حلال.
(4) أنظر صحيح مسلم وسنن البيهقي ومسند أحمد وكتب التفسير ويذكر أن الأزهر وأهل السنة عموما يطبقون رأى عمر هذا ويلتزمون به ويفتون على أساسه اليوم.
(5) كانت صلاة التراويح تصلى مثنى مثنى في البيوت على عهد الرسول وعهد أبي بكر حتى جاء عمر فجمع الناس ليصلونها جماعة وكان يقول:
إنها بدعة ونعمة البدعة.
أنظر البخاري ومسلم كتاب الصلاة.