الصفحة 36
المحبة، وعلى ترك العصبية، والترفع عن التنابز بالألقاب، والبعد عن سوء الظن فإن هذا من شأنه أن يطلق العنان للتفكير في حرية وهدوء والتماس للحقيقة دون خوف أو اضطراب أو بلبلة وألا يحول بين السني وانتفاعه برأي أخيه الشيعي، ولا بين الشيعي وانتفاعه برأي أخيه السني ما دام الجميع يصدرون عن أصل واحد.

إن المسلمين أمة واحدة لهم أصول تجمعهم، ومبادي قد اتفقوا عليها منذ أول يوم في تاريخ الإسلام، ولهم أهداف مشتركة في العالم، تدور حول الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أي حول اصطلاح العقيدة، والسلوك العملي للناس أفرادا كانوا أو شعوبا أو أمما فعليهم أن لا ينسوا ذلك، وألا يسمحوا لصغائر المسائل، والخلافات الفرعية بأن تفرقهم عنه، وتمزق شملهم دونه.

قلت لفضيلته: حقا إن الإسلام أمة واحدة، ولكن ما هي العوامل التي تحفظ لهم هذه الوحدة.

فأجاب فضيلته: إن أول هذه العوامل هو ما ذكرت لك من ترك العصبية والتماس الحق في تعاون وإنصاف.

فهذا شرط أول، وسيجر تحقيقه إلى تحقيق الشروط الأخرى، مثل استقبال الثقافة الإسلامية على أساس ثقافة واحدة، والانتفاع بما هنا وهناك دون نظر إلى كونه في هنا أو في هناك، فالكتب تنشر والرسائل تتبادل، والجامعات تتعارف، وتتبادل الطلاب والأساتذة... وهكذا.

ومثل العمل على التشاور والتزاور ودراسة المشكلات في جو أخوي، ومثل العمل علي تقوية الارتباط العاطفي بين المسلمين في مختلف الشعوب تحقيقا لما مثل به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

إن هذه العاطفة هي أهم الوشائج والروابط في بناء صرح الوحدة الإسلامية.


الصفحة 37
قلت لفضيلته: يعرف المسلمون أنكم من أقطاب جماعة التقريب فكيف تكونت هذه الجماعة وما الذي قمتم به نحو فكرتها، وما هي خطوتكم المقبلة في هذا الشأن.

فأجاب فضيلته: تكونت هذه الجماعة منذ أكثر من عشرة أعوام في مدينة القاهرة، وكان الذي دعا إليها وجاهد في سبيل تكوينها أخي سماحة الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي القمي العالم الشيعي الإيراني الجليل، وقد استقبلت هذه الدعوة عند توجيهها بروحين مختلفين، روح المعارضين لها الذين ينفرون من كل اصطلاح، ويخافون الإقدام على أية فكرة لم يألفوها ويتشككون في النوايا والمقاصد بغير حق، وهؤلاء المعارضين من يقول: إن هذه الجماعة تريد أن تجعل من السنيين شيعة، كان منهم من يقول: إنها تريد أن تجعل من الشيعيين سنة، وهكذا.

والروح الآخر هو روح المؤمنين الواثقين بدينهم البصيرين بقوا عده وأصوله الذين لا ينظرون إلى ظواهر الأمور فحسب، ولكن يتعمقون ويتدبرون ويعرفون تاريخ الأمة الإسلامية في حال تقدمها وتأخرها، وفي أوقات قوتها وضعفها ويدركون السر في ذلك حق الادراك - هؤلاء هم الصفوة من أهل العلم المؤمنين المجاهدين الصابرين ومنهم تألفت جماعة التقريب وكان لي شرف الإسهام في هذه الفكرة منذ أول يوم، وتلقيت دعوتها من المغفور له أستاذنا الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر الأسبق، وعرفت أن الشيخ المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق شيخي الأزهر الأسبقين أيضا كانا ينظران إليها بكثير من الأمل والارتياح والترحيب وقد التزمت أن أخص مجلتها " رسالة الإسلام " ببحوثي في تفسير القرآن الكريم التي نحوت بها نحوا جديدا في عرض السير القرآنية وبيان أهدافها ومناهجها وما لها من أساليب في الوصول إلى أغراضها وقد كان لهذا التفسير وقع عند إخواننا في مختلف الشعوب والطوائف الإسلامية، وكنت أتلقى كما كانت المجلة تتلقى كثيرا من الرسائل التي راق أصحابها منهج البحث في هذا التفسير وما يمتاز به

الصفحة 38
في دراسة هدفها الحق، وأسلوبها الوضوح، وأساسها الإنصاف، وما زالت هذه الفصول تنشر في أعداد " رسالة الإسلام " وأرجو أن أواليها في المستقبل ما استطعت إلى ذلك سبيلا إن شاء الله تعالى.

ولقد كنت طول حياتي مولعا بدراسة الفقه الإسلامي دراسة حرة أساسها الدليل والحجة، وأن أستخرج من كنوزه وذخائره ما ينفع الناس في عصرنا هذا، وما يلفت أنظارهم إلى عظمته وإلى يسره، وإلى رحمة الله به.

وقد استطعت أنا وكثير من إخواني في التقريب وفي الأزهر وفي الفتوى وفي لجان الأحوال الشخصية، وغير ذلك أن نرجح أقوالا وآراء في غير مذهب السنة مع أننا سنيون. وفي ذلك ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المصري في شئون الطلاق الثلاث، والطلاق المعلق وغير ذلك فإن هذا مستمد في مذهب الشيعة الإمامية والعمل الآن قائم عليه دون سواه.

والآن أجد من واجبي أن أدخل في كلية الشريعة من كليات الجامع الأزهر ما كنت أتوق إليه طول حياتي من دراسة الفقه على نحو خالص من العصبية المذهبية، لأهدف إليه إلى الوصول إلى الحكم السليم في كل شأن من شئون المسلمين، ولا سيما العملية منها، فقد آن لهذا الفقه الأكبر الدقيق العميق أن يلبس ثوبه الملائم له، وأن يعرض على الناس عرضا مناسبا للعصر، وأن يشعر كل مسلم بأنه حقا فقه الحياة، وقوام المسلمين. وأن يتقلب في مجال نظامه وتنسيقه وترتيبه مستمدا من ذلك الفقه القوي.

ويومئذ يقف الأزهر موقفه العظيم من المسلمين في مختلف طوائفهم وشعوبهم ومذاهبهم موقف المنصف الذي يقول الحق، ويهدي إلى الحق ويبعث النور وهاجا في العالمين كما ألف المسلمون منه في كثير من مراحل تاريخه العظيم.

وأخيرا سألنا فضيلة الأستاذ الأكبر:


الصفحة 39
ما هو مستقبل الدين الإسلامي بعد هذا التقدم الذي بهر العالم.

فأجاب فضيلته: إن الإسلام يثبت ويقوى دائما كلما قوي العلم وازدهر، وإن الإسلام هو الدين الذي وجه الناس إلى التفكير وإلى السير في الأرض وإلى معرفة خواص المخلوقات والانتفاع بما سخر الله فيها للإنسان، ذلك لأنه يعلم أن هذا هو السبيل الوحيد لمعرفة الله والإيمان بعظمة الله فكل من الدين الإسلامي والعلم يتبادلان المعونة والتأييد، فالدين الإسلامي يحث على العلم ويؤيده، والعلم يكشف من عظمة هذا الكون ما يؤيد عقيدة المؤمنين في عظمة خالقه وكمال مبدعه، صدق الله العظيم إذ يقول:

" ويري الذين أوتو العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ".

وما كثرت أوامر القرآن بحث الإنسان على النظر في ملكوت السماوات والأرض، ودراسة السنن الكونية إلا لكونها وسيلة لمعرفة الله، وتثبيت الإيمان به في قلوب المؤمنين.

فالعلم وسيلة لحفظ الإيمان، وصيانته من الضعف والتزلزل، لذلك أراني دائما فرحا بكل تقدم علمي ثقة بأن العلم يخدم الإيمان ونصيحتي إلى إخواني وأبنائي المسلمين ألا يبهرهم البريق الظاهر في الحقائق، وألا تلهيهم المادة عن الروح فإن الإمام مخلوق لا بد له في كل منهما ولا يصلح أمره إلا عليهما جميعا.

وأسأل الله تعالى أن يهب المسلمين من لدنه رحمة ويهيئ، لهم من أمر هم رشدا، إنه سميع الدعاء.

ونسأل الله سبحانه أن يطيل في حياتكم المباركة، ويمنحكم الصحة والعافية فإن

الصفحة 40
في قوتكم وعافيتكم قوة وعافية للمسلمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

محمود شلتوت           
عضو جماعتي كبار العلماء والتقريب



وقد أعلن: فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت فتوى في جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية وكانت مجلة رسالة الإسلام التي تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة قد نشرت الفتوى التاريخية في العدد الثالث من السنة الحادية عشر ص 227 عام 1379 هـ 1959 م

قال فضيلة الأستاذ الأكبر:

من بين ما تعني به كلية الشريعة في منهجها الجديد: دراسة الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية على الأسس التالية:

أولا - تكون الدراسة على مختلف المذاهب لا فرق بين سنة وشيعة.

ويعني بوجه خاص وجهة النظر الفقهي حكما ودليلا لكل من مذاهب السنة وهي الأربعة المعروفة والإمامية - الإثنا عشرية - والزيدية.

ثانيا - يستخلص الحكم الذي يرشد إليه الدليل دون التفات إلى كونه موافقا أو مخالفا لمذهب الأستاذ أو الطالب، حتى تتحقق الفائدة من المقارنة وهي وضوح الرأي الراجح من بين الآراء المتعددة وتبطل العصبيات المذمومة.

وفي أصول الفقه - يعني بوجه خاص ببيان المواضع الأصولية التي وقع الاختلاف فيها بين مذاهب السنة السابقة الذكر، مع بيان أسباب الخلاف.


الصفحة 41
وفي علم مصطلح الحديث ورجاله.

تشمل الدراسة ما اصطلح عليه السنة وما اصطلاح عليه الإمامية، والزيدية.

كما تشمل دراسة الرجال المشهورين وأصحاب المسانيد ومسانيدهم في كل من الفريقين هذا بالإضافة إلى التوسع في هذه الدراسة تفصيلا في الدراسات العليا بكلية الشريعة.

قيل لفضيلته:

إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مثلا.

فأجاب فضيلته:

1 - إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين بل نقول:

إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أي مذهب كان - ولا حرج عليه في شئ من ذلك.

2 - إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة (1). فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك،

____________

(1) قال الشيخ محمد الغزالي: وأعتقد أن فتوى الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شوط واسع في هذا السبيل، وهو استئناف لجهد المخلصين من أهل السنة وأهل العلم جميعا، وتكذيب لما يتوقعه المستشرقون من أن الأحقاد سوف تأكل هذه الأمة قبل أن تلتقي صفوفها تحت راية واحدة وهذه الفتوى في نظري بداية الطريق، وأول العمل.

بداية الطريق لتلاق كريم تحت عنوان الإسلام الذي أكمله الله جل شأنه... وبداية العمل للرسالة الجامعة التي تعني العزة للمؤمنين، والرحمة للعالمين.

أنظر: " دفاع عن العقيدة والشريعة " ص 257 طبعة مصر. الطبعة الرابعة القاهرة عام 1395 هـ. 1975 م ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة.

الصفحة 42
وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصودة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

وللأستاذ الأكبر محمود شلتوت مقدمة في قصة التقريب نشرتها مجلة رسالة الإسلام لجماعة التقريب في القاهرة في: المجموعة الثانية العدد 55 ص 194 وأوردها الأستاذ الكبير المغفور له الشيخ محمد محمد المدني في كتابه " دعوة التقريب " من:

مطبوعات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة عام 1966 م.

يستعرض الأستاذ الأكبر في هذه المقدمة المراحل التي مرت عليها قصة التقريب حتى اختمرت وظهرت فكرة قاطعة تجسدت فيها فتواه بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية - الاثنا عشرية - كسائر المذاهب الإسلامية الأخرى المعترفة.

وإليك مقتطفات من النصوص التي يتحدث فيها الأستاذ الأكبر عن هذه المراحل إذ يقول:

لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم، وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها، وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة، كان منها تلك الفصول المتتابعة في تفسير القرآن الكريم التي ظلت تنشرها مجلتها " رسالة الإسلام " قرابة أربعة عشر عاما حتى

الصفحة 43
اكتملت كتابا سويا أعتقد أنه تضمن أعز أفكاري، وأخلد آثاري، وأعظم ما أرجو به ثواب ربي، فإن خير ما يحتسبه المؤمن عند الله، هو ما ينفقه من الجهد الخاص في خدمة كتاب الله.

ولقد تهيأ لي بهذه الأوجه من النشاط العلمي أن أطل على العالم الإسلامي من نافذة مشرفة عالية وأن أعرف كثيرا من الحقائق التي كانت تحول بين المسلمين واجتماع الكلمة، وائتلاف القلوب على إخوة الإسلام، وأن أتعرف إلى كثير من ذوي الفكر والعلم في العالم الإسلامي، ثم تهيأ لي بعد ذلك وقد عهد إلي بمنصب مشيخة الأزهر أن صدرت فتواي في جواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين، ومنها مذهب الشيعة الإمامية " الاثنا عشرية " وهي تلك الفتوى المسجلة بتوقيعنا في دار التقريب التي وزعت صورتها الزنكغرافية بمعرفتنا والتي كان لها ذلك الصدى البعيد في مختلف بلاد الأمة الإسلامية، وقرت بها عيون المؤمنين المخلصين الذين لا هدف لهم إلا الحق والألفة ومصلحة الأمة.

وظلت تتوارد على الأسئلة، والمشاورات، والمجادلات في شأنها، وأنا مؤمن بصحتها، ثابت على فكرتها، أؤيدها في الحين بعد الحين، فيما أبعث بها من رسائل للمستوضحين أو أرد به على شبه المعترضين، وفيما أنشر من مقال ينشر، أو حديث يذاع، أو بيان أدعو به إلى الوحدة والتماسك، والالتفات حول أصول الإسلام، ونسيان الضغائن والأحقاد، حتى أصبحت والحمد لله حقيقة مقررة، تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة بعد أن كان المرجفون في مختلف عهود الضعف الفكري،. والخلاف الطائفي، والنزاع السياسي يثيرون في موضوعها الشكوك والأوهام بالباطل.

وها هو ذا الأزهر الشريف ينزل على حكم المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب

الصفحة 44
المذاهب المختلفة فيقرر دراسة فقه المذاهب الإسلامية سنيها وشيعيها دراسة تعتمد على الدليل والبرهان، وتخلو من التعصب لفلان أو فلان، كما أن أهتم في تكوين مجمع البحوث الإسلامية بأن يكون أعضاؤه ممثلين لمختلف المذاهب الإسلامية.

وبهذا تكون الفكرة التي آمنا بها، وعملنا جاهدين في سبيلها قد تركزت الآن وأصبحت رسالة الدار محل التقدير والتنفيذ.

وكنت أود لو أستطيع أن أتحدث عن الاجتماعات في دار التقريب حيث يجلس المصري إلى الإيراني، أو اللبناني أو الباكستاني، أو غير هؤلاء في مختلف الشعوب الإسلامية، وحيث يجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الإمامي والزيدي حول مائدة واحدة تدوي بأصوات فيها علم، وفيها أدب، وفيها تصوف، وفيها فقه، وفيها مع ذلك كله روح الأخوة وذوق المودة والمحبة، وزمالة العلم والعرفان.

وكنت أود لو أستطيع أن أبرز صورة كصورة الرجل السمح الزكي القلب العف اللسان.

رجل العلم والخلق المغفور له الأستاذ الأكبر: الشيخ مصطفى عبد الرازق، أو صورة كصورة الرجل المؤمن القوي الضليع في مختلف علوم الإسلام، المحيط بمذاهب الفقه أصولا وفروعا الذي كان يمثل الطود الشامخ في ثباته، والذي أفاد منه التقريب في فترة ترسيخ مبادئه أكبر الفائدة المغفور له أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم رضي الله عنه وأرضاه، أو صورة كصورة ذلك الرجل الذي حنكته التجارب، واحتضنته محامل العلم، والرأي المغفور له الأستاذ محمد علي علوبة، جزاه الله عن جهاده وسعيه خير الجزاء.

ولعلي أيضا كنت أستطيع أن أتحدث عن صور لكثيرين ممن وهبوا أنفسهم لهذه

الصفحة 45
الدعوة الإسلامية، ووقفوا عليها جهودهم، وآمنوا بالتقريب سبيلا إلى دعم المسلمين وإبراز محاسن الإسلام، وغير هؤلاء كثيرون ممن سبقونا إلى لقاء الله من أئمة الفكر في شتى البلاد الإسلامية الذين انضموا إلى التقريب، وبذلوا جهودهم لنشر مبادئه، وساجلناهم علما بعلم، ورأيا برأي، وتبادلنا وإياهم كثيرا من الرسائل والمشروعات والمقترحات وفي مقدمتهم المغفور له الإمام الأكبر: الحاج أقا حسين البروجردي أحسن الله في الجنة مثواه، أو المغفور لهما الإمامان: الشيخ الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي رحمهما الله.

ولقد ذهب هؤلاء إلى ربهم راضين مرضيين، وإن لنا لإخوة آمنوا بالفكرة، ولا يزالون يعملون في سبيل دعمها، وهم أئمة الإسلام، وأعلام الفكر في شتى الأقطار الإسلامية، أطال الله عليه أعمارهم وسدد في سبيل الحق خطاهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

حارب هذه الفكرة ضيقوا الأفق كما حاربها صنف آخر من ذوي الأغراض الخاصة السيئة ولا تخلو أية أمة من هذا الصنف من الناس

كما حاربها الذين يجدون في التفريق ضمانا لبقائهم وعيشهم

وحاربها ذوو النفوس المريضة، وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصة (1).

____________

(1) وقال الشيخ محمد الغزالي في كتابه: " دفاع عن العقيدة والشريعة ص 264 - 265 الطبعة الرابعة عام 1395 هـ 1975 م نشرته دار الكتب الحديثة بالقاهرة:

إنني آسف لأن بعض من يرسلون الكلام على عواهنه لا.

بل بعض ممن يسوقون التهم جزافا غير مبالين بعواقبها دخلوا في ميدان الفكر الإسلامي بهذه الأخلاق المعلولة فأساؤا إلى الإسلام وأمته شر، إساءة.

سمعت واحدا من هؤلاء يقول في مجلس علم: إن للشيعة قرآنا آخر يزيد وينقص عن قرآننا المعروف.

فقلت له: أين هذا القرآن؟

إن العالم الإسلامي الذي امتدت رقعته في ثلاث قارات ظل من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بعد أن سلخ من عمر الزمن أربعة عشر قرنا لا يعرف إلا مصحفا واحدا مضبوط البداية والنهاية معدود السور والآيات والألفاظ فأين هذا القرآن الآخر؟

ولماذا لم يطلع الإنس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل؟

لماذا يساق هذا الافتراء؟

ولحساب من تفتعل هذه الإشاعات وتلقى بين الأغرار ليسوء ظنهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم.

إن المصحف واحد يطبع في القاهرة فيقدسه الشيعة في النجف أو في طهران ويتداولون نسخه بين أيديهم وفي بيوتهم دون أن يخطر ببالهم شئ بتة إلا توقير الكتاب ومنزله - جل شأنه - ومبلغه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم الكذب على الناس وعلى الوحي.

ومن هؤلاء الأفاكين من روج أن الشيعة أتباع علي وأن السنيين أتباع محمد وأن الشيعة يرون عليا أحق بالرسالة، أو أنها أخطأته إلى غيره؟

وهذا لغو قبيح وتزوير شائن.

إن الشيعة يؤمنون برسالة محمد ويرون شرف علي في انتمائه إلى هذا الرسول وفي استمساكه بسنته.

وهم كسائر المسلمين لا يرون بشرا في الأولين والآخرين أعظم من الصادق الأمين ولا أحق منه بالاتباع، فكيف ينسب لهم هذا الهذر؟

الواقع إن الذين يرغبون في تقسيم الأمة طوائف متعادية لما لم يجدوا لهذا التقسيم سببا معقولا لجأوا إلى افتعال أسباب الفرقة، فاتسع لهم ميدان الكذب حين ضاق أمامهم ميدان الصدق.

الصفحة 46
هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات مفرقة لها أساليبها المباشرة وغير المباشرة في مقاومة أية حركة إصلاحية، والوقوف في سبيل كل عمل يضم شمل المسلمين ويجمع كلمتهم.

كنت أود لو أستطيع أن أبرز هذه النواحي كلها في قصة التقريب أكتبها بنفسي

الصفحة 47
وأتتبع تفاصيلها، كما لابستها وعشت ظروفها، ثم أتتبع مجلة " رسالة الإسلام " التي أدت أمانتها، وأحسنت سفارتها وكانت معرضا لآراء العلماء من كل فريق، يمدونها بالبحوث وينظرها كل منهم حريصا عليها، فتزدان بها مكتبة الشيعي كما تزدان بها مكتبة السني، وينهل من معارفها الغربي كما ينهل من معارفها الشرقي، ولكن حسبي أن أكتب هذه المقدمة مشيرا بها إلى بعض جوانب هذه القصة.

وإنا لنحمد الله سبحانه أن أصبحت فكرة التقريب نقطة تحويل في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي قديمه وحديثه وأنها أثرت تأثيرا بعيد المدى.

* * *

وإنا لنسأل الله النجح لهذه الدعوة حتى يعود للإسلام مجده وللمسلمين عزهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1) وفي إحدى رحلاتي إلى القاهرة زرت دار التقريب على عادتي قدم إلى أحد السادة في الدار " قصة التقريب ومعها الفتوى التاريخية في شأن المذاهب الإسلامية (2) وفي آخرها الفتوى موقعة بتوقيع الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت آثرنا نشر صورتها الزنكوغرافية وإليك نصها:

____________

(1) دعوة التقريب ص 10 طبع مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر بالقاهرة 1386 هـ 1966 م.

(2) طبعت في القاهرة عام 1379 هـ الموافق عام 1959 م.

الصفحة 48

وللأستاذ الأكبر الشيخ شلتوت تصدير لكتاب مجمع البيان في تفسير القرآن


الصفحة 49
لأمين الإسلام الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي طاب ثراه آثرنا نشره في هذا الكتاب لما فيه من مثالية في الدعوة إلى الله والحقيقة، وكلمة الحق، وإليك نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

".......... وشمرت عن ساق الجد، وبذلت غاية الجهد والكد، وأبهرت الناظر وأتعبت الخاطر، وأطلت التفكير وأحضرت التفاسير، واستمددت من الله سبحانه التوفيق والتيسير، وابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوي فصوصه وعيونه، من علم قراءته، إعرابه ولغاته، وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكر ما ينفرد به أصحابنا رضي الله عنهم من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع على وجه الاعتدال والاختصار، فوق الإيجاز ودون الإكثار، فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة، إذ لم يبق من العلماء إلا الأسماء، ومن العلوم إلا الذماء، وقدمت في مطلع كل سورة ذكر مكيها ومدنيها، ثم ذكر الاختلاف في عدد آياتها، ثم أقدم في كل آية الاختلاف في القراءات، ثم العلل والاحتجاجات، ثم ذكر العربية واللغات، ثم ذكر الإعراب والمشكلات، ثم ذكر الأسباب والنزولات، ثم ذكر المعاني والأحكام والتأويلات، والقصص والجهات، ثم ذكر انتظام الآيات، على أني قد جمعت في عربيته كل غرة لائحة، وفي إعرابه كل حجة واضحة، وفي معانيه كل قول متين،

الصفحة 50
وفي مشكلاته كل برهان مبين، وهو بحمد الله للأديب عمدة، وللنحوي عدة، وللمقرئ بصيرة، وللناسك ذخيرة، وللمتكلم حجة، وللمحدث محجة، وللفقيه دلالة، وللواعظ آلة.

بهذه العبارات الواصفة الكاشفة قدم الإمام السعيد، أمين الإسلام أبو علي، الفضل بن الحسن الطبرسي، كتابه الجليل الذي هو نسيج وحده بين كتب التفسير الجامعة، ولم أجد أحسن من هذه العبارات في وصف هذا الكتاب، وبيان منهجه، فآثرت أن أفسح المجال لها، وأن أجعلها أول ما يطالع القارئ، ولم يكن ذلك إلا بعد أن تنقلت في رحاب الكتاب من موضع إلى موضع، واختبرت واقعه في كثير مما يعد من مزالق الأقدام، ومتائه الأفهام، ومضائق الأقلام، فوجدته كما وصفه صاحبه، وعلمت أنه لم يتكثر بما ليس فيه، ولم يعد إلا بما يوفيه.

ولقد قلت: أن هذا الكتاب نسيج وحده بين كتب التفسير، وذلك لأنه مع سعة بحوثه وعمقها، له خاصية في الترتيب والتبويب، والتنسيق والتهذيب، لم تعرف لكتب التفسير من قبله، ولا تكاد تعرف لكتب التفسير من بعده: فعهدنا بكتب التفسير الأولى أنها تجمع الروايات والآراء في المسائل المختلفة، وتسوقها عند الكلام على الآيات سوقا متشابكا ربما اختلط فيه فن بفن، فما يزال القارئ يكد نفسه في استخلاص ما يريد من هنا وهناك حتى يجتمع إليه ما تفرق، وربما وجد العناية ببعض النواحي واضحة إلى حد الاملال، والتقصير في بعض آخر واضحا إلى درجة الاخلال.

أما الذين جاؤوا بعد ذلك من المفسرين، فلئن كان بعضهم قد أطنبوا، وحققوا وهذبوا، وفصلوا وبوبوا، إن قليلا منهم أولئك الذين استطاعوا مع ذلك أن يحتفظوا لتفسيرهم بالجو القرآني الذي يشعر معه القارئ، بأنه يجول في مجالات متصلة

الصفحة 51
لكتاب الله اتصالا وثيقا، وتتطلبها خدمته حقا، لا لأدنى ملابسة، وأقل مناسبة.

لكن كتابنا هذا كان أول - ولم يزل أكمل - مؤلف من كتب التفسير الجامعة استطاع أن يجمع إلى غزارة البحث، وعمق الدرس، وطول النفس في الاستقصاء.

هذا النظم الفريد، القائم على التقسيم والتنظيم، والمحافظة على خواص تفسير القرآن، وملاحظة أنه فن يقصد به خدمة القرآن، لا خدمة اللغويين بالقرآن، ولا خدمة الفقهاء بالقرآن، ولا تطبيق آيات القرآن على نحو سيبويه، أو بلاغة عبد القاهر، أو فلسفة اليونان أو الرومان، ولا الحكم على القرآن بالمذاهب التي يجب أن تخضع هي لحكم القرآن!.

ومن مزايا هذا التنظيم أنه يتيح لقارئ الكتاب فرصة القصد إلى ما يريده قصدا مباشرا، فمن شاء أن يبحث عن اللغة عمد إلى فصلها المخصص لها، ومن شاء أن يبحث بحثا نحويا اتجه إليه، ومن شاء معرفة القراءات دراية أو تخريجا وحجة عمد إلى موضع ذلك في كل آية فوجده ميسرا محررا، وهكذا

ولا شك أن هذا فيه تقريب أي تقريب على المشتغلين بالدراسات القرآنية، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي كان من أهم صوارف المثقفين فيه عن دراسة كتب التفسير ما يصادفونه فيها من العنت، وما يشق عليهم من متابعتها في صبر ودأب وكد وتعب.

فتلك مزية نظامية لهذا الكتاب، بجانب مزاياه العلمية الفكرية.

- 2 -

وهناك منهجان علميان في التأليف:

أحدهما: أن يستقبل المؤلف قراءه بما يراه هو، وما انتهى إليه بحثه واجتهاده، فيجعله قصاراه وهدفه، ويحطب في سبيله، ويجول في أوديته، دون أن يحيد عنه، أو

الصفحة 52
يجعل لقارئه سبيلا سواه.

وهذا منهج له مواطنه التي فيها، ومنها:

أن يكون المؤلف يقصد بكتابه أهل مذهب معين، فله أن يفرض اتفاقه وإياهم على أصول المذهب وقواعده، وأن يخاطبهم على هذا الأساس.

الثاني: أن يقصد المؤلف بكتابه كل قارئ لا قارئا مذهبيا يتفق وإياه فحسب، وهذا يدعوه إلى أن يعرض العلم عاما لا من وجهة نظر معينة فيأتي بما في كل موطن علمي من الآراء والأدلة، وله بعد ذلك أن يأخذ بما يترجح لديه، ولكن بعد أن يكون قد أشرك قارئه معه في التجوال بين الآراء، واستعراض مختلف وجهات النظر .

وهذا المنهج أعم فائدة، وأدنى إلى خدمة الحق والإخلاص للعلم، والكتب المؤلفة على أساسه أقرب إلى أن تكون " إسلامية عامة " ليست لها جنسية طائفية أو مذهبية.

بيد أن المؤلفين يتفاوتون في هذا النهج، فمنهم من يخلص له إخلاصا عميقا، فتراه يدور مع الحق أينما دار، يأخذ بمذهبه تارة، ويأخذ بغير هذا المذهب تارة أخرى وإذا عرض المذاهب المختلفة عرضها بأمانة ودقة، كأنه ينطق أصحابها ويسمع قراءه ما يقولون، دون أن يلوي القول، أو يحرف الكلم عن مواضعه، أو يغمز، أو يلمز صرفا عن الرأي وتهويلا عليه.

منهم من يكون إخلاصه للعلم دون ذلك، على مراتب أسوؤها ما يظهر فيه التعصب على مذهب الخصم، ونبزه بالألقاب، فترى السني مثلا ربما تحدث عن الشيعة فيقول:

قال الروافض، وترى الشيعي كذلك ربما تحدث عن السنة فيقول:


الصفحة 53
قال النواصب، بل ربما تجد الحنفي السني يتحدث عن الشافعية السنيين، فيقول:

قال الشويفعية وهكذا، وما كان هذا النبز ولا ذلك من ضرورات الحجاج، ولا من لوازم الجدال بالتي هي أحسن، الذي هو نصيحة القرآن حتى في شأن المجادلين من أهل الكتاب!.

وأريد أن أقول إن صاحب كتاب " مجمع البيان " قد استطاع إلى حد بعيد أن يغلب إخلاصه للفكرة العلمية على عاطفته المذهبية، فهو وإن كان يهتم ببيان وجهة نظر الشيعة فيما ينفردون به من الأحكام والنظريات الخلافية اهتماما يبدو منه أحيانا أثر العاطفة المذهبية، فإننا لا نراه مسرفا في مجاراة هذه العاطفة، ولا حاملا على مخالفيه، مخالفي مذهبه.

والواقع أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا المسلك فيما يتصل بأصول المذاهب ومسائلها الجوهرية نظرة هادئة متسامحة ترمي إلى التماس المعذرة، وتقدير ما يوجبه حق المخالف في أن يدافع عما آمن به، وركن إليه فليس من الإنصاف أن نكلف عالما مؤلفا بحاثة دراكة، أن يقف من مذهبه وفكرته التي آمن بها موقف الفتور، كأنها لا تهمه، ولا تسيطر على عقله وقلبه، وكل ما نطلبه ممن تجرد للبحث والتأليف وعرض آراء المذاهب وأصحاب الأفكار أن يكون منصفا مهذب اللفظ، أمينا على التراث الإسلامي، حريصا على أخوة الإيمان والعلم، فإذا جادل ففي ظل تلك القاعدة المذهبية التي تمثل روح الاجتهاد المنصف البصير:

" مذهبي صواب يحتمل الخطأ، غيري خطأ يحتمل الصواب ".

على أننا نجد الإمام الطبرسي في بعض المواضع.

يمر على ما هو من روايات مذهبه، ويرجح أو يرتضي سواء.

ومن ذلك أنه يقول في تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم).


الصفحة 54
وقيل في معنى الصراط المستقيم وجوه:

أحدها: أنه كتاب الله - وهو المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن علي (عليه السلام) وابن مسعود.

وثانيها: أنه الإسلام - وهو المروي عن جابر وابن عباس.

وثالثهما: أنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره - عن محمد بن الحنفية.

والرابع: أنه النبي صلى الله عليه آله وسلم والأئمة القائمون مقامه - وهو المروي في أخبارنا.

" والأولى حمل الآية العموم حتى ندخل جميع ذلك فيه: لأن الصراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به من التوحيد والعدل، وولاية من أوجب الله طاعته ".

فظاهر أن الرواية الأخيرة هي أقرب الروايات تناسبا مع مذهب الشيعة في:

" الأئمة " وهي المروية في أخبارهم، ولكن المؤلف مع هذا لا يعطيها منزلة الأولية في الذكر، ولا الأولوية في الترجيح، بل يعرضها، عرضا روائيا مع غيرها، ثم يحمل الآية على ما حملها عليه من العموم، وما أبرعه إذ يقول:

" وولاية من أوجب الله طاعته "! إن الشيعي والسني كليهما لا ينبوان عن هذه العبارة، فكل مؤمن يعتقد أن هناك من أوجب الله طاعته، وفي مقدمتهم الرسول وأولو الأمر، ووجه البراعة في ذلك أنه لم يعرض للفصل في مسألة " الولاية " و " الإمامة " هنا، لأن المقام لا يقتضي هذا الأمر، ولكنه مع ذلك أتى بعبارة يرتضيها الجميع، ولا ينبو عنها أي فكر.

على أنه - رحمه الله تعالى - متأثر مع ذلك إلى حد ما بما هو ديدن جمهرة المفسرين من إعطاء أسباب النزول أهمية خاصة، ذلك الأمر الذي يتعارض مع مجئ القرآن عاما خالدا شاملا لجميع الصور التي تدل عليها عباراته المنزلة من لدن حكيم خبير، على ما تقتضيه الدقة والأحكام، ولكن الإمام الطبرسي لا ينفرد بذلك

الصفحة 55
كما ألمعنا، وإنما هو أمر سرى إليه ممن قبله، وشاركه فيه من بعده، ولا شك أنهم لا يقصدون ما قد يفهمه غير الخاصة، من قصر معاني الآيات على موارد نزولها فإن العبرة - كما هي القاعدة المقررة - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

- 3 -

ومؤلف هذا الكتاب رجل بحاثة في مختلف العلوم، له تصانيف كثيرة تعد بالعشرات، ومنها ما هو في موضوعات مذهبية، شيعية.

ومما يلفت النظر أنه عنى بتفسير القرآن الكريم عناية خاصة، حتى جعلها أكبر همه، أعظم مجال لهمته، وقد كانت هذه العناية صادرة عن رغبة نفسية ملحة راودته منذ عهد الشباب، وريان العيش، كما يقول في مقدمة كتابه.

وكان كثير التشوق، شديد التشوف، إلى جمع كتاب في التفسير على طراز معين وصفه، وجعله هدفه، حتى هيأ الله له ذلك، وأعانه عليه، وقد ذرف على الستين، واشتعل الرأس منه شيبا، وناهيك برغبة تصاحب العمر، فلا تستطيع نوازع الشباب أن تنزعها، ولا مثبطات الكهولة والشيب أن تصرف عنها.

ثم ناهيك بمثل هذه الرغبة المتمكنة في نفس رجل علامة كهذا يتدبر وسائل تحقيقها عمرا طويلا ويتأتى لها ويتمرس بالتجارب العقلية، والوسائل العلمية حتى ينفذها في عنفوان فتوته العلمية، وقد استحصف عقله، واكتهل وعيه، وغزر محصوله، ووقف على الذروة من صرح العلم والفهم والبيان.

ولقد ذكر المؤرخون لسيرته أمرا عجبا، ذلك أنه ألف كتابه هذا المسمى " مجمع البيان "، جامعا فيه فرائد كتاب من قبله اسمه " التبيان " للشيخ محمد بن الحسن بن علي الطوسي، ولم يكن قد اطلع على تفسير الكشاف للزمخشري، فلما اطلع عليه