الصفحة 121
هذا الموقف أحد سواه حتى جاء أبو بكر ففقهه بالآية. فقال: كأني أسمعها أول مرة.. (1).

إن موقف عمر ومن حالفه إنما يشير إلى أن هناك جبهة من الصحابة كانت ضد كتابة الوصية وموقف هذه الجبهة إنما ينبع من يقينها أن هذه الوصية ليست في صالحها. إذ لا يعقل أن ترفض أمة وصية نبيها في احتضاره وهي تعلم أنه خاتم الرسل. فإن عدم وجود رسل من بعده يجعل الحاجة لهذه الوصية أشد وأكثر مصيرية (2).

وقال الأستاذ أحمد حسين يعقوب المحامي تحت عنوان:

أسوء وداع لأعظم إمام عرفته البشرية

لم يصدف طوال التاريخ البشري أن يدعو ولي الأمر سواء كان خليفة، أو ملكا وهو مريض بالقسوة، والجلافة التي عومل بها رسول الله.

ولم يصدف أن اعترض المسلمون خليفة إذا أراد أن يكتب توجيهاته النهائية، أو يستخلف من بعده بل على العكس.

قال ابن خلدون في مقدمته:

إن الخليفة ينظر للناس حال حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم (3).

____________

(1) أنظر المحطة الثالثة.

(2) السيف والسياسة: ص 25 - 29.

(3) مقدمة ابن خلدون: ص 177، وكتابنا: الخطط السياسية ص 382.

الصفحة 122
لقد مرض أبو بكر مرضا شديدا قبل أن يموت، وقبل وفاته بقليل دعى عثمان ليكتب له توجيهاته النهائية، وأصغى المسلمون لأبي بكر ونفذوا توجيهاته النهائية بدقة، وعاملوه بكل احترام وتوقير، ولم يقل أحد منهم:

إن أبا بكر قد هجر، ولا قالوا:

حسبنا كتاب الله (1).

وعندما كتب أبو بكر توجيهاته النهائية كان عمر يقول:

أيها الناس: إسمعوا، وأطيعوا قول خليفة رسول الله... (2).

مقارنة بين موقف عمر وحزبه من أبي بكر وموقفهم من رسول الله!!

فهل لأبي بكر قيمة وقداسة عند عمر وحزبه أكثر من قيمة الرسول وقداسته!!!

أجب كما يحلو لك فإنه الواقع المر.

ثم انظر إلى موقف المسلمين عند طعن عمر، وأراد أن يكتب توجيهاته النهائية وقد اشتد به المرض أكثر مما اشتد برسول الله (3).

ومع هذا كتب عمر توجيهاته، وعهد للستة نظريا، وعهد لعثمان عمليا، وأمر بضرب عنق من يخالف تعليماته النهائية (4).

وصارت توجيهات أبي بكر وعمر شرعا سياسيا نافذا لم يقل أحد إن عمر قد

____________

(1) راجع: تاريخ الطبري: 3 / 429، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37 وتاريخ ابن خلدون: 2 / 85 وكتابنا: النظام السياسي ص 195.

(2) راجع: تاريخ الطبري: 1 / 138.

(3) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 1 / 21 - 22 والطبقات لابن سعد: 2 / 364 وكتابنا:

الخطط السياسية ص 367 - 368.

(4) راجع: الطبقات لابن سعد: 3 / 247 وأنساب الأشراف: 5 / 18 وتاريخ الطبري: 5 / 33.

الصفحة 123
هجر!! ولم يقل أحد: حسبنا كتاب الله.

إنما عومل عمر بكل تقديس واحترام ونقلت توجيهاته النهائية حرفيا كأنها كتاب منزل من عند الله وأكثر.

فهل لأبي بكر وعمر قداسة عند المسلمين أكثر من رسول الله، وبأي كتاب قد أنزل بأنهما أولى بالاحترام والطاعة من رسول الله؟!!

أجب كما يحلو فإنك لن تغير الحقيقة المرة!! (1).

وقال الدكتور محمد التيجاني السماوي:

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإننا نسمع الكثير عن عدل عمر الذي سارت به الركبان حتى قيل: " عدلت فنمت " وقيل: دفن عمر واقفا لئلا يموت العدل معه وفي عدل عمر حدث ولا حرج، ولكن التاريخ الصحيح يحدثنا بأن عمر حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة لم يتوخ سنة رسول الله ولم يتقيد بها، فقد ساوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين جميع المسلمين في العطاء فلم يفضل أحدا على أحد، واتبعه في ذلك أبو بكر مدة خلافته، ولكن عمر بن الخطاب اخترع طريقة جديدة وفضل السابقين على غيرهم.

وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين.

وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة.

وفضل العرب على سائر العجم.

وفضل الصريح على المولى (2).

____________

(1) الوجيز في الإمامة والولاية ص 170 - 171 (مخطوط).

(2) شرح ابن أبي الحديد 8 / 111.

الصفحة 124
وفضل مضر على ربيعة، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين (1).

وفضل الأوس على الخزرج (2).

فأين هذا التفضيل من العدل يا أولي الألباب.

ويسمع عن علم عمر بن الخطاب الكثير الذي لا حصر له حتى قيل أنه أعلم الصحابة، وقيل إنه وافق ربه في كثير من آرائه التي ينزل القرآن بتأييدها في العديد من الآيات التي يختلف فيها عمر والنبي.

ولكن الصحيح من التاريخ يدلنا على أن عمر لم يوافق القرآن حتى بعد نزوله، عندما سأله أحد الصحابة أيام خلافته فقال:

يا أمير المؤمنين إني أجنبت فلم أجد الماء فقال له عمر: لا تصل، واضطر عمار بن ياسر أن يذكره بالتيمم ولكن عمر لم يقنع بذلك وقال لعمار: إنا نحملك ما تحملت (3).

فأين علم عمر من آية التيمم المنزلة في كتاب الله وأين علمه من سنة النبي الذي علمهم كيفية التيمم كما علمهم الوضوء: وعمر نفسه يعترف بالعديد من القضايا بأنه ليس بعالم، بل بأن كل الناس أفقه منه حتى ربات الحجال وبقوله عدة مرات لولا علي لهلك عمر.

ولقد أدركه الأجل ومات ولم يعرف حكم الكلالة التي حكم فيها بأحكام متعددة ومختلفة كما يشهد بذلك التاريخ.

فأين هذا العلم يا أولي الأبصار؟

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 106.

(2) فتوح البلدان ص 437.

(3) تاريخ اليعقوبي: 2 / 106.

الصفحة 125
كذلك نسمع عن بطولة عمر، وشجاعته، وقوته الشئ الكثير حتى قيل أن قريش خافت عندما أسلم عمر، وقويت شوكة المسلمين بإسلامه.

وقيل: إن الله أعز الإسلام بعمر بن الخطاب.

وقيل: بأن رسول الله لم يجهر بدعوته إلا بعد إسلام عمر.

ولكن التاريخ الثابت الصحيح، لا يوقفنا على شئ من هذه البطولة والشجاعة، ولا يعرف التاريخ رجلا واحدا من المشاهير، أو حتى من العاديين الذين قتلهم عمر ابن الخطاب في مبارزة، أو في معركة كبدر، واحد، والخندق وغيرها بل العكس هو الصحيح.

فالتاريخ يحدثنا أنه هرب مع الهاربين في معركة أحد وكذلك هرب يوم حنين، وبعثه رسول الله لفتح مدينة خيبر فرجع مهزوما، وحتى السرايا التي شارك فيها كان تابعا غير متبوع، وآخرها سرية أسامة التي كان فيها مأمورا تحت قيادة الشاب أسامة بن زيد.

فأين دعوى البطولات والشجاعة من هذه الحقايق... يا أولي العقول؟

ونسمع عن تقوى عمر بن الخطاب ومخافته وبكائه من خشية الله الشئ الكثير، حتى قيل: أنه كان يخاف أن يحاسبه الله لو عثرت بغلة في العراق لأنه لم يعبد لها الطريق.

ولكن التاريخ الثابت الصحيح يحدثنا أنه كان فظا غليظا لا يتورع ولا يخاف فيضرب من يسأله عن آية من كتاب الله حتى يدميه بدون ذنب اقترفه، بل وتسقط المرأة حملها لمجرد رؤيته هيبة ومخافة منه.

ولماذا لم يتورع مخافة من الله عندما سل سيفه وهدد كل من يقول: بأن محمدا قد مات، وأقسم بالله أنه لم يمت، وإنما ذهب يناجي ربه كما فعل موسى بن عمران

الصفحة 126
وتوعد من يقول بموته بضرب عنقه (1).

ولماذا لم يتورع، ولم يخش الله سبحانه في تهديد حرق بيت فاطمة الزهراء بالنار إن لم يخرج المتخلفون فيها للبيعة (2). وقيل له: إن فيها فاطمة فقال: وإن، وتجرأ على كتاب الله، وسنة رسوله فحكم في خلافته بأحكام تخالف النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة.

فأين هذا الورع والتقوى من هذه الحقائق المرة المؤلمة يا عباد الله الصالحين؟

وإنما أخذت من هذا الصحابي الكبير الشهير كمثل واختصرت كثيرا لعدم الإطالة فلو شئت الدخول في التفاصيل لملأت كتبا عديدة، ولكن كما قلت:

إنما أذكر هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر.

والذي ذكرته هو نزر يسير يعطينا دلالة واضحة على نفسيات الصحابة وموقف العلماء من أهل السنة المتناقض، فبينما يمنعون على الناس فقدهم والشك فيهم، يروون في كتبهم ما يبعث على الشك والطعن فيهم.

وليت علماء السنة والجماعة لم يذكروا مثل هذه الأشياء الصريحة التي تمس كرامة الصحابة، وتخدش في عدالتهم إذن لأراحونا من عناء الإرتباك...

ولعمري إنه الحق الذي لا مفر منه لو يتحرر الإنسان عن تعصبه الأعمى، وكبريائه وينصاع للدليل الواضح (3).

وقال الكاتب المصري الأستاذ صالح الورداني: عن جيش أسامة.

____________

(1) تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير.

(2) الإمامة والسياسة.

(3) ثم اهتديت ص 94 - 97

الصفحة 127
كثرت الروايات التي تتحدث عن جيش أسامة في كتب السنن وكتب التاريخ.

إلا أن هذه الروايات على كثرتها لم تكشف لنا السر وراء إصرار الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) على بعث هذا الجيش إلى الخارج في مثل تلك الظروف التي كان يعيشها المجتمع المدني آنذاك وهو يترقب وفاة الرسول ما بين ساعة وأخرى..

لقد كان الرسول كثيرا ما يردد وهو على فراش المرض: أنفذوا بعث أسامة.

أنفذوا بعث أسامة.. (1).

إن إصرار الرسول على ضرورة تحقيق هذا الأمر يكشف لنا عدة حقائق:

الأولى: إن هناك قوى تقف في طريق تحرك هذا الجيش..

الثانية: إن تحرك هذا الجيش له أهميته القصوى بالنسبة لحركة الدعوة..

الثالثة: إن الرسول كان يتعجل خروجه..

الرابعة: ما هي حكمة تولية فتى صغير على كبار الصحابة في بعثة عسكرية هامة كهذه؟

يروي البخاري:

استعمل النبي أسامة فقالوا فيه..

فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وأنه أحب الناس إلي..

لماذا يقول الصحابة في أسامة. وماذا يقولون فيه..؟

هذا ما لم تخبرنا الرواية. إلا إن هناك رواية أخرى أكثر تفصيلا..

عن ابن عمر قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته. فقام رسول الله فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في

____________

(1) أنظر طبقات ابن سعد: 4 / 3.

الصفحة 128
إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي.

وإن هذا - أسامة - لمن أحب الناس إلي بعده.. (1).

والرواية الثانية تجلي لنا الموقف بصورة أكثر وضوحا وهو أن هناك طعنا في أسامة ورفضا لإمارته. وإن هذا الموقف كان قد اتخذ مسبقا من إمارة أبيه في غزوة مؤتة التي استشهد فيها..

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: أليس الطعن في إمارة أسامة يعد طعنا في أمر الرسول الذي عينه..؟

وهل هذا الموقف كان يتركز في أسامة بشخصه أم في أهداف البعثة؟ إن الأمر على ما يبدو يتجاوز المسألة الشخصية ويشير إلى أن هناك قضية أخرى أكبر من أسامة ومن بعثته.

وكعادة الروايات التي تروى في كتب السنن خاصة الصحيحين وتتعلق بمواقف الصحابة وتجاوزاتهم. فإنها تكون مبتورة المعنى أو لا تسمى الشخص أو لا تفصل الحدث..

والهدف من وراء ذلك هو محاولة التمويه على الحقيقة وعدم إثارة الشبهات حول شخصيات معينة حتى لا تهتز في أعين المسلمين.. وهو أمر يعود أولا وأخيرا إلى أمانة الراوي.

أنظر حديث عائشة: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه وهو مستند على رجلين أحدهما العباس ورجل آخر. وكان الرجل الآخر الذي لم تسمه عائشة هو علي.. (2).

____________

(1) البخاري باب بعث أسامة.

(2) البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، وانظر مسلم..

الصفحة 129
وانظر حديث أبو هريرة: حفظت وعاءين عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعاء بثثته. أما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم.. (1).

وانظر حديث ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجعه. فقال إئتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا ما شأنه أهجر. فذهبوا يردون عليه. فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث. قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.

وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها..

فالبخاري هنا لم يخبرنا من الذي قال عن الرسول: ما شأنه أهجر. وهي طعن في الرسول واتهامه بالتخريف والهلوسة.. ثم أنه لم يخبرنا عن الثالثة هل سكت عنها ابن عباس أم سكت عنها هو، وهو على ما يبدو من الرواية متأرجح بين أن يكون ابن عباس سكت عنها أو نسيها هو. كما فاته أن يذكر إن الذي طعن في الرسول وهو على فراش المرض هو عمر بن الخطاب..

ومثل هذا الأمر ينطبق على الروايات المتعلقة بجيش أسامة فقد ذكرت رواية البخاري: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه..

وفي الرواية الثانية فطعن الناس في إمارته..

ولم يخبرنا البخاري من الذين قالوا في أسامة ومن الذين طعنوا في إمارته من الصحابة..؟ إن مثل هذا الأمر يطابق النهي عن الخوض في خلافات الصحابة واعتبار ذلك من المحرمات ومن أصول العقيدة كما تنص على ذلك كتب العقائد.. (2).

____________

(1) البخاري، كتاب العلم.

(2) أنظر العقيدة الطحاوية والواسطية والعواصم من القواصم. وانظر لنا عقائد السنة وعقائد الشيعة باب الرجال.

الصفحة 130
فكلا الأمرين الهدف منهما التغطية على أحداث التاريخ التي تتعلق بالصحابة حتى لا تهتز صورتهم في أعين المسلمين وتفقد الثقة فيهم وتكون النتيجة هي خروج المسلمين عن خط أهل السنة وخط الحكام على ما سوف نبين.

ومن المعروف أن جيش أسامة كان فيه كبار الصحابة وعلى رأسهم أبي بكر وعمر عدا الإمام علي الذي أبقاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى جواره..

وهنا تتضح لنا معالم جديدة حول هذا الحدث.

ماذا كان يهدف الرسول من وراء تأمير فتى كأسامة على أبي بكر وعمر وكبار الصحابة ثم يصر على ضرورة خروجهم من المدينة في أسرع وقت. وهو الذي على فراش الموت. ومن الممكن أن يتوفاه الله في أية لحظة فلا يكون إلى جواره في المدينة أحد من الصحابة لعل هذا الأمر أثار الريب في نفوس الصحابة وجعلهم يتلكأون في الخروج محتجين بصغر سن أسامة.

ولعل جواب الرسول (صلى الله عليه وسلم): أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل يشير إلى شكه في موقفهم مذكرا لهم أن هذا الموقف اتخذتموه من قبل من أبيه زيد ولم يكن زيد صغير السن..؟

إذن هؤلاء القوم كانوا يضمرون في نفوسهم أمرا ويتحججون بحجج واهية كي لا يخرجوا من المدينة. ولكن لماذا يريدون البقاء في المدينة..؟

إن الجواب على هذا السؤال تكشفه لنا الرواية التي ذكرناها آنفا وهي رواية يوم الخميس حين طلب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده. فهاجوا وماجوا وطعن بعضهم في الرسول حتى يفوتوا عليه كتابة هذا الكتاب. فهذا الحدث قد كشف لهذه الطائفة التي يتزعمها عمر على ما يبدو وعلى ما سوف نبين أن الرسول يضمر شيئا يتعلق بالأمر من بعده. فمن ثم هم لا يريدون أن يفوتهم هذا الأمر.


الصفحة 131
ومما يؤكد هذا الظن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد كرر هذا الموقف في غزوة تبوك مع الإمام علي وصرح أمام الصحابة بمقالة فيه أثارت الريب في نفوسهم..

يروي البخاري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف عليا. فقال:

أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي.. (1).

ولعل الصحابة تذكروا هذا النص حين أمرهم بالخروج في بعث أسامة وأدركوا أن الأمر يحمل أبعادا أخرى تتعدى مسألة الخروج خاصة بعد أن رأوا الرسول قد استبقى عليا مع إصراره على خروجهم من المدينة.

إن بعث أسامة يكشف أمامنا قضية هامة وهي قضية التفضيل. تفضيل الصحابة على بعضهم. وتفضيل أبي بكر وعمر على الصحابة بل على الأمة. فإن هذا التفضيل لو كان حقيقة ما جعل رسول الله أسامة أميرا على أبي بكر وعمر وما استبقى عليا..

كما يكشف لنا من جهة أخرى أنه لو كان الرسول قد نص على استخلاف أبي بكر كما يقال ما وضعه على مقدمة الجيش بينما هو على فراش المرض الذي توفي فيه (2).

يقول ابن حجر: كان تجهيز أسامة قبل موت الرسول بيومين فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر. ودعا أسامة فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش.. فعقد الرسول لأسامة لواء بيده. وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ثم اشتد على الرسول وجعه: فقال انفذوا بعث أسامة. فتكلم

____________

(1) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي.

(2) ليست هذه المرة الأولى التي وضع فيها أبو بكر وعمر في هذا الموضع فقد سبق أن وضعهما الرسول (صلى الله عليه وسلم) تحت إمرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل. أنظر البخاري.

باب مناقب أبو بكر وشرح الرواية في فتح الباري ج 7.

الصفحة 132
في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي. فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف.. (1).

وقد أنكر ابن تيمية أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة. لكن ابن حجر رد عليه وأورد عدد من الروايات التي تبطل قوله.. (2).

وهنا يطرح أمامنا السؤال التالي: لماذا يحاول ابن تيمية نفي وجود أبو بكر وعمر في بعث أسامة..؟.

أليس وجودهما يعد امتثالا لأمر الرسول وهو شرف لهما..؟.

والطريف في هذا الأمر هو تجهيز أبو بكر للجيش بعد وفاة الرسول وبعثه إلى الروم.. يقول ابن حجر: ولما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله - أي أسامة - أن يأذن لعمر بالإقامة - في المدينة - فأذن.. تأمل.. (3).

لماذا عمل أبو بكر على استثناء عمر من جيش أسامة..؟.

لقد جهز أبو بكر الجيش امتثالا لأمر الرسول حيث أنه قد رفع شعارا مفاده إنما أنا متبع ولست بمبتدع.. وعمد إلى تقليد الرسول في كل مواقفه وممارساته.. فإذا كان هو كذلك فلماذا عمل على استثناء عمر. أليس ذلك مخالفة لسنة الرسول وأمره.

وهو قد استثنى نفسه بحكم تسلمه الخلافة فبأي حجة استثنى عمر؟؟.

هل يمكن أن نتهم أبو بكر بالسطحية في فهم النصوص إذ أن الغرض من بعث أسامة قد انتفى بوفاة الرسول واستخلافه. بينما هو يصر على خروجه ويستثني منه

____________

(1) فتح الباري ج 8 / 152 كتاب المغازي باب 87.

(2) المرجع السابق.

(3) أنظر منهاج السنة وهو رد على كتاب العلامة الحلي منهاج الكرامة في إثبات الولاية لآل البيت.. ط بيروت.

الصفحة 133
عمر. أم أن أبا بكر يحاول أن يموه على الهدف الحقيقي من بعثة أسامة؟

ولنترك القوم مع جيش أسامة على أبواب المدينة ينتظرون ويراقبون من بعد تطورات مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهم بموقفهم هذا قد تحايلوا على أمر الرسول: فلا هم نفذوا أمره ولا هم ظاهرون أمامه. وبدا وكأنهم يوهمون الرسول أنهم خرجوا..

هل مثل هذا السلوك يصح من أناس تخرجوا من مدرسة الرسول..؟ (1).

وقال الدكتور أحمد عز الدين المصري:

إن السلوك الذي سلكته القدوة في السقيفة من تجاهل لرأي الناس لأنهم رعاع، وغوغاء كما وصفهم بذلك عبد الرحمن بن عوف، وعدم اعتبار رأيهم، والاكتفاء برأي النخبة في حسم القضايا المصيرية، وعدم إعطاء كل فرد حقه في التعبير عن رأيه بحرية.

كل هذا ورثناه، وتشربته أنسجة مجتمعاتنا. سداها، ولحمتها، وانسكب في أصلابنا جيلا بعد جيل، فإذا بكل أمورنا تقررها طغمات تدير أنظمة، أو نخبات تقود أحزابا، ومنظمات، دون أخذ بما يجيش في نفوس القاعدة العريضة التي يقوم عليها بناء المجتمع.

إن ما حدث في السقيفة - إذا نظرنا بعين الخائضين في السياسة، وأردنا تقديمه إلى الناس في القرن العشرين - لا يمكن اعتباره إجراء سليما يتفق ومبادئ الإسلام السياسية لأنه لم يعط صوتا لكل مواطن بل أعطى صوتا لكل قبيلة حضرت، دون معاملة بقية القبائل.

والقوى السياسية الأخرى بنفس المعاملة، ومن ثم تجاهل القطاع الأعرض من الشعب وحرمهم حقهم في المشاركة في اتخاذ القرار، واختيار القادة.

____________

(1) فتح الباري ج 8 / باب 87 كتاب المغازي..

الصفحة 134
إننا إذا أخذنا بشروط الأهلية التي ذكرها كل من أبي بكر وعمر (رض) لمن ينبغي أن يكون في منصب القيادة بعد رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام. وجدنا أنها لم تكن تنطبق على أي منها قدر انطباقها على آل البيت.

فلقد قال أبو بكر (رض):

(وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحي من قريش وهم أوسط دارا ونسبا (1).

وقال أول من عبد الله في الأرض هم أولياؤه وعشيرته (2).

وقال عمر (رض):

العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.

من ذا ينازعنا سلطان محمد، وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف للإثم، أو متورط في هلكة (3).

فإن كانت هذه شروط الأهلية كان الأولى بالقيادة محمد وآل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام إذ لم يكن في العرب أوسط منهم دارا، ونسبا، وكانوا هم أولياؤه وعشيرته، وفيهم القيادة، وبيتهم مهبط الوحي، ومحف الملائكة.

ثم إن مقالة عمر (رض) بذاتها تثبت أن من نازع من هم بهذه المواصفات منصب القيادة فهو مدل بباطل، ومتجانف لإثم، ومتورط في هلكة.

أفلا ندرك ما في هذه العبارة من معان؟

إن مرشح الأنصار لم يكن بالشخصية التي يجمع عليها المسلمون آنذاك، كما لم

____________

(1) الطبري: 2 / 446، ابن هشام: السيرة النبوية: 4 / 339.

(2) الطبري: نفس الموضع.

(3) المصدر نفسه: 2 / 457.

الصفحة 135
تكن شروط الأهلية متوفرة في مرشح المهاجرين رغم ادعائهم هذه الصفات لأنفسهم ومع ذلك حسم الأمر في غياب الحزب الذي لو أعطى رئيسه الفرصة لترشيح نفسه ما نازعه أحد وهو: علي بن أبي طالب عليه سلام الله. كما صرح بهذا الصحابي الجليل المنذر بن الأرقم... (1).

وعلى هذا فيكون الإمام من آل البيت - وفق نظرية ابن خلدون - أمر تقتضيه السياسة، والعمران التي ذكرها.

بل إن الإمام في هذه الحالة يكون أكفأ وأقدر مما يجعل الدولة أرسخ، وأقوى.

لكن الرجل قدم نظرية ثم حاد عن الحق وهو يطيقها.

هكذا حسمت القيادة في غياب الأصلح مما أسفر عن شرخ كيان الأمة شرخا عانت منه الويلات على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، ولا زالت.

لأن عامة المهاجرين، وجل الأنصار ما كانوا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).

وفي رحلتي إلى القاهرة عام 1974 م كنت قد صحبت معي كتاب " فدك (3) " تأليف صاحب السماحة آية الله المغفور له السيد محمد حسن القزويني مؤلف كتاب " الإمامة الكبرى " (4) وكنت قد طلبت قبل عام 1974 م من فضيلة الأخ صديقنا

____________

(1) تاريخ اليعقوبي: 2 / 103.

(2) مشكلة القيادة في الحركة الإسلامية ص 13 - 14 مخطوط.

(3) طبع هذا الكتاب في القاهرة في مطبعة دار المعلم للطباعة عام 1396 هـ - 1976 م وطبع بالأوفست مرة ثانية وثالثة عام 1397 هـ - 1977 م.

(4) " الإمامة الكبرى والخلافة العظمى " يقع في ثمانية أجزاء وطبع الجزء الأول منه في النجف الأشرف - العراق بمساعي وجهود صديقنا صاحب الفضيلة العلامة الخطيب السيد مرتضى القزويني المقيم حاليا في أمريكا.

نسأل الله التوفيق له للسعي في طبع بقية أجزائه إن شاء الله وكان المؤلف قدس الله روحه قد ألف هذا الكتاب برغبة من أستاذه المحقق الخراساني ردا على كتاب " منهاج السنة " لعبد الحليم أحمد بن تيمية وكانت وفاة المؤلف في مدينة كربلاء - العراق يوم 26 رجب عام 1380 هـ.

الصفحة 136
الأستاذ الخطيب الشيخ باقر المقدسي أن يقوم بتحقيق الكتاب ولبى سيادته متفضلا هذا الطلب وكنت قد تركت هذا الكتاب عند أستاذنا الكبير عبد الفتاح عبد المقصود عام 1974 م ليطلع عليه ويكتب لي انطباعاته عنه لنصدرها به عند نشره ولبى سيادته هذا الطلب وجزاه الله عنا خير جزاء المحسنين.

وإلى القارئ الكريم نص ما كتبه:

1 - فدك

بسم الله الرحمن الرحيم

شاء لي الأخ الكريم: السيد مرتضى الرضوي أن أحوز شرف الإدلاء بكلمة " أكابد " تدبيجها لتكون بمثابة تقديم لهذا الكتاب الذي ما أراه في حاجة قط إلى تقديم..

وأقول: " أكابد " وأنا أعني ما أقوله، بكل ما تنطوي عليه حروف اللفظة من مضمون، لأن تناول موضوع " فدك " من قريب أو بعيد، هو معاناة حقة، تشق على المتناول أي مشقة، وكل مشقة.. وكيف لا وإن المتصدي له - ولأمثاله من أمهات المسائل التاريخية الإسلامية التي تنضح بالمبادئ، وتثير الجدل، ولا يتعذر أن تتفرق عندها الآراء شيعا - لأشبه بمن يحاول أن يجتاز هوة سحيقة متنقلا بين حافتيها على

الصفحة 137
خيط أدق من الشعرة، وأحد من الشفرة، لو أمن راكبه أن يقطعه فيهوى به من حالق لما سلم من نكاية الجروح!..

ولست أغالي.. فلي في هذا المجال تجربة قديمة، خرجت منها مغموزا في رأيي، مطعونا في عقيدتي، من رهط - سامحهم الله! - يرون في كل إعمال فكر، ونقاش حر، والتزام بمنطق العقل، في معالجة بعض الأحداث البانية لتاريخ الإسلام، خروجا عن الجادة السوية.. ولم تكن تهمتي يومئذ التي بي ألصقوها، ومن أجلها غمزوني وطعنوني، سوى أنني - في كتابي: " الإمام علي بن أبي طالب " - قد عمدت إلى استقراء الوقائع واستنبائها ما تكن من مغازيها. وإلى تحصيل أقوال الرجال الذين صنعوها أو أسهموا فيها، أو عايشوها..

فلما أن قادني البحث والتقصي إلى رأي ارتأيته في سلوك بضعة نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعاصريه، أقروا هم به، قبل المئات العديدة من السنين من تناولي إياه ونظري فيه، هاجمني من ذلك الرهط من الكتاب المحدثين من استهواه نزغ الهجوم، فشنأني شانئون، وتخرص متخرصون، ورماني رماة بالتطاول الآثم على مقام طائفة زائدة - كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابن العاص وغيرهم - من ذوي القدمة أو البلاء أو المكانة في المجتمع الإسلامي المتقدم، مشهود لهم - ولا أدري ممن - بالعصمة!.. ويشهد الله أنني، وإن عرضت لهم، لم أعرض بهم - وإن تناولت جوانب من حياة بعضهم، فتناولي لم يكن افتتانا عليهم، ولا هضما لهم أو لغيرهم من صانعي التاريخ الإسلامي إبان فجره.. إنما قد رسمت صورهم بريشة ناقد لا حاقد. وذكرت سيرهم مقرونة بالحق كما تبينته، وكما قادني إليه اجتهاد بحثي.. ما تأولت على أحد منهم غير رأيه. ولا تقولت غير قوله. ولا أخذتهم فرادى وجمعا إلا بالمعلوم المشهور من نصوص أحاديثهم ودعاواهم، وضروب فعالهم وسلوكهم التي حفظتها لنا بطون الأسفار.. فكيف ألام؟


الصفحة 138
وبأية حجة يحق علي أن أؤثم، وما من إثم اقترفته في حق أولئك " المعصومين! " يوجب التأثيم؟.

لئن كنت أشرت - ولا أنكر - إلى هنة في تصرف هذا الفرد منهم، أو تصرف ذاك، فإنني كما سبق القول، لم أكن إلا ناقلا عنهم ذكر بعض ما فعلوه أو قالوه، واعترفوا بفعله وبقوله، بالسلوك الصريح واللسان المبين، وهم في معرض اعتزاز وإدلال، أو بمقام تعليل وتدليل...

لكنه منطق الشنآن...

غير أنني الآن أتناسى ما كان، وأقتحم ما أرادني الأخ " الرضوي " على اقتحامه، فأجتاز الهوة من حافة إلى حافة، على ذلك الخيط الدقيق كالشعرة، الحديد كالشفرة، لعلي أستطيع أن أدلي بكلمة حق، يشرفني كل التشريف أن تتصدر صفحات هذا الكتاب الجليل، الذي يؤكد ذلك الحق الذي سلبته الزهراء..

لقد وجدتني وأنا أتأمل: كتاب " فدك " إنما كنت أتأمل حشدا من الأسانيد لإثبات ما ليس بحاجة إلى إثبات!!

ثم وجدتني أيضا أتساءل: كيف السبيل إلى مقدمة تليق بأن تتصدر صفحاته، وتطالع قارئه بما ينبغي أن يقال فيه؟.

إن التقديم لهذا الكتاب في حاجة إلى سعة كتاب!..

ولا عجب..

فليست تكفي بضعة أسطر، ولا بضع صفحات للتعرف به حق التعريف، وإلقاء ضوء على جوانبه يضعه تحت الأعين على هيئة تقترب به من نطاق التفهم الهادئ وفي إطار من حديث عقلي ميسر، يخاطب الذين ينكرون اتجاهه، أو يواكبونه على السواء..