إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أو ترى ذلك يتم؟ قال: نعم. فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان (1) وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال:
ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك، وترى ونرى. فودعه ورجع إلى أصحابه فقالوا: مه. قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد، وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا. وتمثل:
وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم عشرة ويقال: أكثر من عشرة. وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثم قال لموسى:
بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفا. قال: لقد هان عليهم دينهم، وقيل:
أرسل أربعين رجلا وجعل عليهم ابنه عروة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا أمير المؤمنين!
كبرت سنك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علما، وحد لنا حدا ننتهي إليه.
____________
(1) ألا مسائل المغيرة عن أن هذا الشقاق والخلاف وسفك الدماء المحرمة في عدم الاستخلاف هل كان يعلمها رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فلماذا ترك أمته سدى ولم يستخلف كما زعمه هو والسياسيون من رجال الانتخاب الدستوري؟.
قالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرا عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربعمأة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصا، وقال لهم: ما ننظر ما قدمتهم له ويقضي الله ما أراد. والأناة خير من العجلة فرجعوا، وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضوع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، و قد خبرتهما منك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف: إن أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وإنه يتخوف نفرة الناس، ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الاسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فألق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له: رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتم لك، لا تعجل فإن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة. فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال. وما هو؟ قال:
لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه ابنه، وألقي أنا يزيد فأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك، يستشيرك في البيعة له، وإنك تتخوف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه، و إنك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة على الناس، ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت مما تخاف من أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش، وتقول بما ترى، ويقتضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذكر ذلك له فكف عن كثير مما كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتوءدة وأن لا يعجل، فقبل منه، فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد، إن ديني إذن لرخيص وامتنع. (1)
____________
(1) تاريخ الطبري 6: 169، 170، كامل ابن الأثير 3: 214، 215.
بيعة يزيد في الشام
وقتل الحسن السبط دونها
لما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق بإحضار منه وكان فيهم الأحنف بن قيس دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري فقال له: إذا جلست على المنبر وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر " يزيد " وقل فيه الذي يحق له عليك من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله ويدعوه إلى يزيد.
ثم خطب معاوية فتكلم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية:
أين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، و يزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك، ثم اعص أمر من يأمرك، لا يغررك من يشير عليك ولا ينظر لك وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة، إن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا.
فغضب الضحاك فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراق، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرا، لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا إبليس لهم ربا، واتخذهم إبليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا يضروه، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين! في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟
هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غير الذكر العصبة، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق! على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيكم وصهره، يسلم لكم العاجل، ويربحوا من الآجل.
ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فأثنى على يزيد وحث معاوية إلى بيعته فقام معاوية فقال:
أيها الناس: إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا، بهم يستعد وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعا أوجفوا، وإن استغني عنهم أرجفوا، ثم يلقحون الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، أن لووا عروة أمر حنفوا، وإن دعوا إلى غي أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين، ولا بمقلعين، ولا متعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحل بهم قوارع أمر جليل، تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع (2) فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر. (3)
فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة.
ثم قام الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين! أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة،
____________
(1) فر عن الأمر: بحث عنه.
(2) الفقع بالفتح والكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة.
(3) النذر: الانذار. قال تعالى: فكيف كان عذابي ونذر.
قال الأميني: لما حس معاوية بدء إعرابه عما رامه من البيعة ليزيد أن الفئة الصالحة من الأمة قط لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكي سلام الله عليه باقية من الحياة، على أنه أعطى الإمام مواثيق مؤكدة ليكون له الأمر من بعده، وليس له أن يعهد إلى أي أحد، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر، وجعل ما عهد له تحت قدميه، قال أبو الفرج: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيئ أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سما فماتا منه. (2)
وسيوافيك تفصيل القول في أن معاوية هو الذي قتل الحسن السبط سلام الله عليه.
عبد الرحمن بن خالد (3)
في بيعة " يزيد "
خطب معاوية أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام إنه كبرت سني وقرب أجلي وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم، وإنما أنا رجل منكم فرؤا رأيكم.
فاصفقوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه، ثم إن عبد الرحمن مرض فأمر معاوية طبيبا عنده يهوديا يقال له: ابن أثال. وكان عنده مكينا، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات، ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا هو وغلام له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلا من عند معاوية فهجم عليه ومعه قوم هربوا عنه فقتله المهاجر. وفي الأغاني: إنه قتله خالد بن المهاجر فأخذ وأتي به معاوية فقال له: لا جزاك الله من زائر
____________
(1) الإمامة والسياسة 1، 138 - 142.
(2) مقاتل الطالبين ص 29.
(3) أدرك النبي صلى الله عليه وآله قال أبو عمر في الاستيعاب: كان من فرسان قريش وشجعانهم كان له فضل وهدى حسن وكرم إلا أنه كان منحرفا عن علي عليه السلام. وقال ابن حجر في الإصابة: كان عظيم القدر عند أهل الشام.
قال أبو عمر بعد ذكر القصة: وقصته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره.
قال الأميني: وقعت هذه القصة سنة 46 وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد....
سعيد بن عثمان
سنة خمس وخمسين
سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال: إن بها عبيد الله بن زياد (2) فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه، وقدمت علي هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا. فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور: ولست بلائم لنفسي في التشمير، وأما فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما فضل أمك على أمه فما ينكر امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين! ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره وقد عتب عليك لي فأعتبه. (3)
وفي لفظ ابن قتيبة: فلما قدم معاوية الشام أتاه سعيد بن عثمان بن عفان، وكان شيطان قريش ولسانها قال: يا أمير المؤمنين! على م تبايع ليزيد وتتركني؟ فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه، وأنا خير منه، وإنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي. فضحك معاوية وقال: يا ابن أخي أما قولك: إن أباك خير من أبيه. فيوم من
____________
(1) الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن:، الأغاني 15: 13: تاريخ الطبري 6: 128 واللفظ لأبي عمر.
(2) سار إلى خراسان في أخريات سنة 53 وأقام بها سنتين كما رواه الطبري في تاريخه 6: 166، 167.
(3) تاريخ الطبري 6: 171، تاريخ ابن كثير 8: 79، 80.
لا يعدم يزيد مزكيا ما دمت له، وما كنت لأرضى ببعض حقي دون بعض، فإذا أبيت فاعطني مما أعطاك الله. فقال معاوية: لك خراسان؟ قال سعيد: وما خراسان؟ قال:
إنها لك طعمة وصلة رحم. فخرج راضيا وهو يقول:
فلما انتهى قوله إلى معاوية أمر يزيد أن يزوده وأمر إليه بخلعة وشيعه فرسخا (1)
قال ابن عساكر في تاريخه 6: 155: كان أهل المدينة يحبون سعيدا ويكرهون يزيد، فقدم على معاوية فقال له: يا ابن أخي ما شيئ يقوله أهل المدينة؟ قال: ما يقولون؟
قال: قولهم:
قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية؟! والله إن أبي لخير من أبي يزيد، ولأمي خير من أمه، ولأنا خير منه، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد، ووصلناك فما قطعناك، ثم صار في يديك ما قد ترى فحلاتنا عنه أجمع. فقال له: أما قولك. الحديث.
____________
(1) الإمامة والسياسة 1: 157.
كتب معاوية في بيعة يزيد
كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك.
فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس: أصاب ووفق، وقد أجبنا أن يتخير لنا فلا يألو. فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر " يزيد " فقام مروان فيهم وقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان! وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل.
فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: والذي قال لوالديه اف لكما. الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو به و لكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله (1)
وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر، وابن الزبير، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة، و الأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راع مسؤل عن رعيته فانظر من تولي أمر أمة محمد فأخذ معاوية بهر (2) حتى جعل يتنفس في يوم شات ثم وصله وصرفه. وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا، ثم إن
____________
(1) راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن ص 252، 253 ط 1.
(2) البهر: انقطاع النفس من الاعياء.
فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله و مخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضا فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
وقام رجل من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف. فتفرق الناس يحكون قول الأحنف، وكان معاوية يعطي المقارب، ويداري المباعد ويلطف به، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه (1)
صورة أخرى
قالوا: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلا يسيرا أن بايع ليزيد بالشام، وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة يبايعوا ليزيد.
____________
(1) العقد الفريد 2: 302 - 304، الكامل لابن الأثير 3: 214 - 216.
ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير ممن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج حتى أتى سدة معاوية وقد أذن للناس، فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتى خلى عن الباب، ثم دخل مروان ودخلوا معه حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده، قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إن الله عظيم خطره، لا يقدر قادر قدره، خلق من خلقه عبادا جعلهم لدعائم دينه أوتادا، هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر بهم الظلم وألف بهم الدين، وشدد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف عنا أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام منا الأود، ونستشار في القضية، ونستأمر في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستخيرة، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال، وتجلس بأسوأ الرجال، يؤكل جزورها ونمق أحلابها، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها؟ وأيم الله لولا عهود مؤكدة ومواثيق معقدة لأقمت أود وليها، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظرا وإن لهم على مناوأتك وزرا.
فغضب معاوية من كلامه غضبا شديدا ثم كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثم قال: إن الله قد جعل لكل شيئ أصلا، وجعل لكل خير أهلا، ثم جعلك في الكرم مني محتدا والعزيز مني والدا، اخترت من قروم قادة،، ثم استللت سيد سادة، فأنت
فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة.
كتاب معاوية إلى سعيد
إن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ويكتب إليه بمن سارع ممن لم يسارع، فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة، وأخذهم بالعزم والشدة، وسطا بكل من أبطأ عن ذلك، فأبطأ الناس عنها إلا اليسير لا سيما بني هاشم فإنه لم يجبه منهم أحد، وكان ابن الزبير من أشد الناس إنكارا لذلك، وردا له، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية:
أما بعد: فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء لا سيما أهل البيت من بني هاشم، فإنه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره، وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسلام.
فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس، وإلى عبد الله بن الزبير، وإلى عبد الله بن جعفر، والحسين بن علي رضي الله عنهم كتبا وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها وكتب إلى سعيد بن العاص:
____________
(1) قايس بين هذه الإطرائات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى الله عليه وآله لذلك الطريد بن الطريد الوزغ بن الوزغ، اللعين بن اللعين. ونحن لو أعطينا لمعاوية حق المقام لقلنا: مكره أخوك لا بطل.
قال الأميني: يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم. نعم: والحق أن للحسين و لأبيه وأخيه قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة إلا معاوية وأذنابه الذين قلبوا عليهم ظهر المجن بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم، بعد أن حليت الأيام لهم درتها، فضيعوا تلك القرابة، وأنكروا ذلك الحق العظيم، وقطعوا رحما ماسة إن كان بين الطلقاء وسادات الأمة رحم.
كتاب معاوية إلى الحسين عليه السلام:
أما بعد: فقد انتهت إلي منك أمور لم أكن أظنك بها رغبة عنها، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتق الله، ولا تردن هذه الأمة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
فكتب إليه الحسين رضي الله عنه:
أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور لم تكن
____________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 144 - 146.
(2) من قصيدة للأمير أبي فراس الشهيرة.
كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر:
كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إياك على من سواك، وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تشكر، وإن تأب تجبر، والسلام.
فكتب إليه عبد الله بن جعفر:
أما بعد: فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إياي على من سواي، فإن تفعل فبحظك أصبت، وإن تأب فبنفسك قصرت، وأما ما ذكرت من جبرك إياي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الاسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين؟ والسلام. الإمامة والسياسة 1: 147، 148.
وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير:
فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية:
____________
(1) مر بتمامه في هذا الجزء صفحة 160.
الإمامة والسياسة 1: 147، 148.
بيعة يزيد في المدينة المشرفة
حج معاوية في سنة 50، واعتمر في رجب سنة 56 وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقية الصحابة ووجوه الأمة، غير أن المؤرخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصلوها تفصيلا.
الرحلة الأولى
قال ابن قتيبة: قالوا: استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر فلما جلسوا تكلم معاوية فقال: الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإني قد كبر سني ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أدعى فأجيب، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما، فردوا على أمير المؤمنين خيرا يرحمكم الله.
فتكلم عبد الله بن العباس فقال:
الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد.
أما بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جل ثناؤه وتقدست
فقام عبد الله بن جعفر فقال:
الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم يتخذ صاحبه ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن أخذ فيها بسنة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع الله، وعصي الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية! فإنك قد صرت راعيا ونحن الرعية، فانظر لرعيتك، فإنك مسئول عنها غدا، وأما ما ذكرت من ابني عمي. وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع، وأستغفر الله لي ولكم.
فتكلم عبد الله بن الزبير فقال:
الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنية، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية! وأنصف من نفسك، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي خلف حسنا وحسينا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.
فتكلم عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بدينه وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم: أما بعد: فإن هذه الخلافة
ليست بهرقلية، ولا قيصرية، ولا كسروية، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك