الصفحة 197
تكون لها أي عبرة، فدحضا لدعوة الباطل، وسحقا لشره الاستعباد.

وكان ابن هند الجاهل بنفسه - والانسان على نفسه بصيرة - برى نفسه أحق بالخلافة من عمر كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر قال:

دخلت على حفصة ونسوانها تنطف قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيئ. فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية (2) قال: من يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال خبيب بن مسلمة فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الاسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال خبيب: حفظت وعصمت؟

أين كان ابن عمر عن هذه العقلية التي حفظ بها وعصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحق بعد إجماع الأمة المسلمة عليها، ولم يخش أن يقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم؟ ففرق الجمع، وشق عصا المسلمين، وسفكت دماء زكية، والله من ورائهم حسيب.

ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخاة لمعاوية بل ينبأنا التاريخ عن إنه لم يك يتحاشا عن أن يعرفه الناس بالرسالة ويقبلونه نبيا بعد نبي العظمة، روى ابن جرير الطبري بالإسناد: إن عمرو بن العاص أوفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو: انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا سلموا عليه بالخلافة فإنه أعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم، فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف، فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له: ابن الخياط. فدخل وقد تعتع فقال: السلام عليك يا رسول الله!

____________

(1) في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق ج 6: 141.

(2) قال ابن الجوزي: كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. راجع فتح الباري 7: 323.

الصفحة 198
فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة. (1)

ولعل هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممن تولى معاوية بعد وفاته. قال شمس الدين النياء المقدسي (2) في كتاب " أحسن التقاسيم في معرفة الأقالم " ص 399: وفي أهل اصفهان بله وغلو في معاوية ووصف لي رجل بالزهد والتعبد فقصدته وتركت القافلة خلفي وبت عنده تلك الليلة وجعلت أسائله إلى أن قلت: ما قولك في (الصاحب) (3) فجعل يلعنه ثم قال: إنه أتانا بمذهب لا نعرفه. قلت وما هو؟ قال: يقول: معاوية لم يكن مرسلا: قلت: وما تقول أنت؟ قال: أقول كما قال الله عز وجل: لا نفرق بين أحد من رسله، أبو بكر كان مرسلا، وعمر كان مرسلا، حتى ذكر الأربعة ثم قال: ومعاوية كان مرسلا. قلت: لا تفعل، أما الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكا. فجعل يشنع علي وأصبح يقول للناس: هذا رجل رافضي فلو لم تدرك القافلة لبطشوا بي، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة.

هب إن القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون لكن هذا الذي يدعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلا كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور؟ أو يسكن روعتهم فيرجعوا إلى حق المقام لولا أن معاوية لم يكن له في مبوأه ذلك ضالة إلا الحصول أعلى الملوكية الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة؟ لأنه لا يبلغ أمنيته إلا بها فلا يبالي أسلم عليه بالربوبية أو الرسالة أو إمرة المؤمنين وقد حاول إرغام ابن النابغة فيما توسمه منه في مقتبله ذلك، فبلغ ما أراد فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الأمر أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.

يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل، ولم يشنع على من يسلم عليه بالرسالة، غير أنه لم يرقه أن يذكر نبي الاسلام بالرسالة، ويزريه بذكر اسمه وهو يعلم أن

____________

(1) راجع تاريخ الطبري 6: 184، تاريخ ابن كثير 8: 140.

(2) أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة 336، والمتوفى نحو 380.

(3) هو الوزير الشيعي الوحيد الصاحب بن عباد المترجم له في الجزء الرابع ص 42 ط 2.

الصفحة 199
العظمة لا تفارقه، والرسالة تلازمه، ذكر الحفاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (1) أن معاوية قال: أرأيت هاشما؟ قال: نعم والله طوالا حسن الوجه يقال:

إن بين عينيه بركة. قال: فهل رأيت أمية؟ قال نعم رأيته رجلا قصيرا أعمى يقال: إن في وجهه شرا أو شؤما. قال: أفرأيت محمدا؟ قال: ومن محمد؟ قال: رسول الله. قال: أفلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله؟ (2)

التحكيم لماذا؟

إن آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدء الأمر، وإن تستر بها آونة على الأغبياء، وتترس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى حين سولت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس، فأول تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يدعوهم - منذ أول ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة - (3) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعد ومحكمات القرآن ونصوصه، لولا أن ابن النابغة وصاحبه يسيران على الأمة غدرا ومكرا، وعلى إمام الحق خيانة وظلما، غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة، ومظاهر العدوان، بين دهاء ابن العاصي وحمارية الأشعري، بين قول أبي موسى لابن العاصي: لا وفقك الله غدرت وفجرت، (4) إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى:

وإنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا (5) فوئد الحق، وأودي بالحقيقة، بين شيطان

____________

(1) أحد المعمرين قد أتى عليه من السن يوم استقدمه معاوية ستون وثلثمائة سنة ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام، ومترجمو الصحابة، في معاجمهم.

(2) تاريخ ابن عساكر 3: 103، أسد الغابة 1: 115.

(3) راجع ما أسلفناه في هذا الجزء صفحة 276.

(4) وفي لفظ ابن قتيبة: مالك؟ عليك لعنة الله، ما أنت إلا كمثل الكلب. وفي لفظ ابن عبد ربه: لعنك الله، فإن مثلك كمثل الكلب.

(5) الإمامة والسياسة 1: 115، كتاب صفين ص 628 ط مصر، العقد الفريد 2: 291 ، تاريخ الطبري 6: 40، مروج الذهب 2: 22، كامل الأثير 3: 144، شرح ابن أبي الحديد 1: 198.

الصفحة 200
وغبي، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين! إن الخلافة هي المتوخاة لكل منهما، ولذلك انعقد التحكيم، وبه كان يلهج خطباء العراق وأمرائهم عند النصح للأشعري، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحق، وبلج الاصلاح. فمن قول ابن عباس للأشعري:

إنه قد ضم إليك داهية العرب: وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، واعلم يا أبا موسى! أن معاوية طليق الاسلام، وإن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي، ويوجره (1) ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم: أن لعمرو مع كل شيئ يسرك خبا يسوءك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين.

[شرح ابن أبي الحديد 1: 195]

ومن قول الأحنف بن قيس له: ادع القوم إلى طاعة علي. فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبوا، ويختار من قريش الشام من أحبوا. (2)

ومن قول شريح بن هانئ للأشعري: إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقا، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا، والرجاء منك يأسا، ثم قال:

أبا موسى رميت بشر خصم * فلا تضع العراق فدتك نفسي
واعط الحق شامهم وخذه * فإن اليوم في مهل كأمس
وإن غدا يجئ بما عليه * كذاك الدهر من سعد ونحس

____________

(1) وجره الدواء أو جره إياه: جعله في فيه. أوجره الرمح، طعنه. ووجره: أسمعه ما يكره.

(2) الإمامة والسياسة 1: 99، وفي ط 112، نهاية الإرب 7: 239، شرح ابن أبي الحديد 1: 196.

الصفحة 201

ولا يخدعك عمرو إن عمرا * عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها * مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب * كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للاسلام فردا * سوى عرس النبي، وأي عرس؟ (1)

ومن قول معاوية لعمرو بن العاص: إن خوفك العراق فخوفه بالشام، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن، وإن خوفك عليا فخوفه بمعاوية.

ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية: أرأيت إن ذكر عليا وجاءنا بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه، ما أقول؟ فقال معاوية: قال ما تريد وترى. [الإمامة والسياسة 1: 99، وفي ط 113].

قال الأميني: هذه صفة الحال، ومصاص الحقيقة، ومن نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب كل منهما الخلافة، وإثباتها لصاحبه، ودونه تحقق الخلع والتثبيت، وعليه وقع التحكيم حقا أو باطلا، ولم يكن السامع يجد هنالك قط من دم عثمان ركزا، ولا عن ثاراته ذكرا، وإنما تطامنت النفوس على تحري الخلافة فحسب، و لقصر النزاع على الخلافة محيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمام عليه السلام عن صحيفة الصلح.

فلقد تمخضت لك صورة الواقع من أمنية معاوية الباطلة في كل من هذه العناوين الستة المذكورة المدرجة تحت:

1 - حديث الوفود.

2 - أنباء في طيات الكتب.

3 - تصريح لا تلويح.

4 - فكرة معاوية لها قدم.

5 - مناظرات وكلم.

6 - التحكيم لماذا.

____________

(1) الإمامة والسياسة 1: 99، وفي ط 113، كتاب صفين 614، 615 ط مصر، شرح ابن أبي الحديد 1: 195.

الصفحة 202
فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه البات بقصر النزاع بين الإمام عليه السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفا ضحية لشهواته ومطامعه، وهو يحسب أنه لا يوافيه مناقش في الحساب، أو ناظر إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان، وكأنه لا يخجل إن جاثاه منقب، أو واقفه مجادل، كما أنه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة، وأن الله سبحانه لبالمرصاد.

ونختم البحث بكلمة الباقلاني، قال في " التمهيد " ص 231: إن عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز، لأنه متعبد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه، وقد يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد، وذلك رأي كثير من الفقهاء، وقد يكون ممن يرى ذلك، ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثان، فعقد الأمر له على ألا يقيم الحد إلا على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممن عقده ورضي به.

وعلى أنه إذا ثبت أن عليا ممن يرى قتل الجماعة بالواحد، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليهم، ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنهم بغاة عليه، وممن لا يجب استخراج حق لهم، دون أن يدخلوا في الطاعة، ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن قتل قتلة عثمان لا يؤدي إلى هرج عظيم، وفساد شديد، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه، وإن تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه، وتقصي الحق فيه، أولى وأصلح للأمة، وألم لشعثهم، وأنفى للفساد والتهمة عنهم.

هذه أمور كلها تلزم الإمام في إقامة الحدود، واستخراج الحقوق، وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حد من حدود الله، والعمل فيه برأي الرعية، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط، فوجب اطراح هذه الرواية (1) لو صحت، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك لكان هذا

____________

(1) يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم: بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان.

الصفحة 203
خطأ منهم، غير أنه لم يكن بقادح في صحة إمامته، لأن العقد له قد تقدم هذا العقد الثاني، وهذه الشريطة لا معتبر بها، لأن الغلط في هذا من الإمام الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. الكلام.

حجج داحضة

استرسل ابن حجر في تدعيم ما منته به هواجسه اقتصاصا منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية، والاعتذار عنه بما ركبه من الموبقات، وتصحيح خلافته بإسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق ص 129 - 131 بما تنتهي خلاصة ما لفقه إلى أمرين: أحدهما القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية و نزاع مع خليفة الوقت، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلفة (1) وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة، وجماعة من البدريين (2) ولفيف من المهاجرين والأنصار، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم بإحسان، وهو يحسب أن شيئا من هذه التلفيقات يبرر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجلية من الكتاب والسنة، وأن الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجا دون أن يلحقه أي حوب كبير، وأسدل عليه ستارا عما اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبوية، ولم يعلم أنه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهم أمام النص، ويتهجم على أحكام الدين الباتة وطقوسه النهائية، بلغ الرجل أن الاجتهاد جائز على الضد من اجتهاد المجتهدين وما تعقل أنه غير جائز على خلاف الله ورسوله.

وقصارى القول إنه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به (3) ضابط للاجتهاد يتم طرده وعكسه، وإنما يمطط مع الشهوات والأهواء، فيعذر به خالد بن

____________

(1) قال ابن مزاحم: أصيب بصفين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا، وأصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا. كتاب صفين ص 643، وذكره ابن كثير في تاريخه 7: 274 وقال:

قاله غير واحد، وزاد أبو الحسن بن البراء: وكان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريا. وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن الشحنة في روضة المناظر هامش الكامل 3: 191، وصاحب تاريخ الخميس في ج 2: 277.

(2) راجع ما مر في الجزء التاسع ص 359 ط 1.

(3) نظراء الشيخ على القاري، والخفاجي في شرحي الشفا 3: 166.

الصفحة 204
الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة شيخها الصالح وزعيمها المبرور، وفضائحه من قتل الأبرياء والدخول على حليلة الموئود غيلة وخدعة. (1)

ويعذر به ابن ملجم (2) المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم على ما انتهكه من حرمة الاسلام، وقتل خليفة الحق وإمام الهدى في محراب طاعة الله الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتى نواحيه، واحتفت به النفسيات الكريمة جمعاء، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ما قاله من كثير طيب عداه الحصر، وكبى عنه الاستقصاء، و هو قبل هذه كلها نفس النبي الطاهرة في الذكر الحكيم.

قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب: أهل السير لا تدافع عنهم أن عليا أمر بقتل قاتله قصاصا ونهى أن يمثل به، ولا خلاف بين أحد من الأمة أن ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه على صواب وفي ذلك يقول عمروا بن حطان:

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني أفكر فيه ثم أحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا

سنن البيهقي 8: 58، 59.

ويبرر به عمل أبي الغادية (3) الفزاري قاتل عمار الممدوح على لسان الله ولسان رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن الصحيح الثابت قوله صلى الله عليه وآله له: تقتلك الفئة الباغية. وقد مر في ج 9 ص 21 ويبرأ به ساحة عمرو بن العاصي (4) عن وصمة مكيدة التحكيم وقد خان فيها أمة محمد صلى الله عليه وآله وكسر شوكتها وقد قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيه وفي صاحبه - الشيخ المخرف:

ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله

____________

(1) راجع الجزء السابع ص 156 - 168 ط 1.

(2) راجع الجزء الأول ص 323 ط 2.

(3) راجع الجزء الخامس ص 328 ط 2.

(4) راجع تاريخ ابن كثير 7: 283.

الصفحة 205
منهما ورسوله وصالح المؤمنين.

ويحبذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية (1) من البوائق والطامات من استئصال شأفة النبوة وقتل ذراريها، وسبي عقائلها، التى لم تبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلا أن يلعنه ويتبرأ منه.

ويقدس به أذيال المتقاعدين (2) عن بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له، فماتوا ميتة جاهلية ولم يعرفوا إمام زمانهم.

وينزه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة في الجزء 6، 7، 8، 9 بأعذار عنهم لا تقل في الشناعة عن جرائرهم. إلى أمثال هذه مما لا يحصى.

نعم: هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد، فلا يصاخ إلى مفعوله، لوقوف الميول والشهوات سدا دون ذلك، فلا يدرء به التهمة عن المؤلبين على عثمان وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار، وأعيان المجتهدين، الذين أخذوا الكتاب والسنة من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، فهم عند ابن حزم المبرر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم:

فساق ملعونون محاربون سافكون دما حراما عمدا (3) وعند ابن تيمية: قوم خوارج مفسدون في الأرض، لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة، وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون (4) وعند ابن كثير: أجلاف أخلاط من الناس، لا شك أنهم من جملة المفسدين في الأرض، بغاة خارجون على الإمام، جهلة متعنتون خونة ظلمة مفترون (5) وعند ابن حجر: بغاة كاذبون ملعونون معترضون لا فهم لهم بل ولا عقل (6).

ولو كان للاجتهاد منتوج مقرر فلم لم يتبع في إرجاء أمير المؤمنين عليه السلام أمر المتهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنة

____________

(1) راجع تاريخ ابن كثير 8: 223، ج 13: 10 فيه قول أبي الخير القزويني: إنه إمام مجتهد.

(2) راجع مستدرك الحاكم ج 3: 115 - 118.

(3) الفصل لابن حزم 4: 161.

(4) منهاج السنة 3: 189، 206.

(5) تاريخ ابن كثير 7: 176، 186، 187.

(6) الصواعق المحرقة ص 67، 68، 129.

الصفحة 206
فشنت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفين وكان من ذيولها وقعة الحروريين، فلم يتبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبي، وأقضى الأمة بنص من الصادق المصدق، لكنما اتبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله بن عمر في قتله لهرمزان و بنت أبي لؤلؤة وإهدار ذلك الدم المحرم من غير أي حجة قاطعة أو برهنة صحيحة، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من - المتجمهرين على عثمان؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه البات، أيعطي دية المقتول من بيت المال لأنه أودي به بين جمهرة المسلمين لا يعرف قاتله كما فعله في أربد الفزاري (1) أو أنه يراهم من المجتهدين " وكانوا كذلك " الذين تأولوا أصابوا أو أخطأوا، أو أنه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات، وما هنالك من إرجاف وتعكير يقلقان السلام والوئام، حتى يتمكن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقة المشروعة، فعلى أي من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمام عليه السلام به فلا حرج عليه ولا تثريب، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه أبى للقوم إلا أن يتبع الحق أهوائهم، وماذا نقموا عليه صلوات الله عليه من تلكم المحتملات! حتى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرائها تطايرت الرؤس، وتساقطت الأيدي، وأرهقت نفوس بريئة، وأريقت دماء محترمة، فبأي اجتهاد بادروا إلى الفرقة، وتحملوا أوزارها، ولم تتجل لهم حقيقة الأمر ولباب الحق، لكنهم ابتغوا الفتنة، وقلبوا له الأمور، ألا في الفتنة سقطوا.

ومن أعجب ما يترائى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية: إنه يبيح سب علي أمير المؤمنين عليه السلام وسب كل صحابي احتذى مثاله، ويجوز لأي أحد كيف شاء وأراد لعنهم، والوقيعة فيهم، والنيل منهم، في خطب الصلوات، والجمعات، والجماعات، و على صهوات المنابر، والقنوت بها، والاعلان بذلك في الأندية والمجتمعات، والخلا والملا، ولا يلحق لفاعلها ذم ولا تبعة، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ، وإن كان هو من حثالة الناس، وسفلة الأعراب، وبقايا الأحزاب، البعداء عن العلوم والمعارف.

وأما علي وشيعته فلا حق لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم، والوقيعة في خصمائهم،

____________

(1) راجع كتاب صفين ص 106، شرح ابن أبي الحديد 1: 279.

الصفحة 207
ومبلغ إسفافهم إلى هوة الضلالة على حد قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (1) وليس لأحدهم في الاجتهاد في ذلك كله نصيب، ولو كان ضليعا في العلوم كلها، فإن أحد منهم نال من إنسان من أولئك الظالمين فمن الحق ضربه وتأديبه، أو تعذيبه وإقصاءه، أو التنكيل به وقتله، ولا يأبه باجتهاده المؤدي إلى ذلك صوابا أو خطأ، وعلى هذا عمل القوم منذ أول يوم اسس أساس الظلم والجور، وهلم جرا حتى اليوم الحاضر راجع معاجم السيرة والتاريخ فإنها نعم الحكم الفصل، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق ص 132 قال في لعن معاوية: وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فله فيه أسوة، أي أسوة بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة، فلا يلتفت لذلك، ولا يعول عليه، فإنه لم يصدر إلا من قوم حمقى جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم في أي واد هلكوا، فلعنهم الله وخذ لهم، أقبح اللعنة والخذلان، وأقام على رؤسهم من سيوف أهل السنة، وفي حججهم المؤيدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة الأعيان. إنتهى.

أتعلم من لعن ابن حجر؟ وإلى من تتوجه هذه القوارص؟ انظر إلى حديث لعن رسول الله صلى الله عليه وآله معاوية، وأحاديث لعن علي أمير المؤمنين، وقنوته بذلك في صلواته، و لعن ابن عباس وعمار ومحمد بن أبي بكر، ودعاء أم المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة، و آخرين من الصحابة، إقرأوا حكم.

الاجتهاد ماذا هو؟

ومما يجب أن يبحث عنه في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد الذي توسعوا فيه حتى سفكت الدماء من أجله وأبيحت، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم، وغيرت الأحكام من جرائه، وكاد أن يكون توسعهم فيه أن يرد الشريعة بدءا إلى عقب، ويفصم عروة الدين، ويقطع حبله.

ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمنة لتبديل السنن المتبعة التي لا تبديل لها؟

وهل هو من منح الله سبحانه على رعاء الناس ودهمائهم، فيتقحمونه كيف شاء لهم الهوى؟

____________

(1) سورة النساء: 148.

الصفحة 208
أو أن له أصولا متبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنة، أو تأول صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النص، أو أنه اتسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزى إليه كل أرنب، وثعلب، وتحراه كل بوال على عقبيه أو أعرابي جلف جاف؟ أنا لا أكاد أن أسوغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد. وإنما المتسالم عليه بينهم ما يلي:

قال الآمدي في [الإحكام في أصول الأحكام] 4: 218: أما الاجتهاد، فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة، ولهذا يقال: إجتهد فلان في حمل حجر البزارة، ولا يقال: إجتهد في حمل خردلة.

وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشئ من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.

وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد، وله شرطان: الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى: وما يجب له من الصفات، ويستحقه من الكمالات، وأنه واجب الوجود لذاته، حي، عالم، قادر، مريد، متكلم، حتى يتصور منه التكليف؟ وأن يكون مصدقا بالرسول، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات، والآيات الباهرات، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محققا، ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام، متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصل، بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة، لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني: أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها، على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها، وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها، وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل، والصحيح والسقيم، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأن يكون عارفا بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكامية، عالما باللغة والنحو، ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي، وفي النحو

الصفحة 209
كسيبويه والخليل، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات، بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة، والتضمين، والالتزام، والمفرد والمركب، والكلي منها والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطئ والاشتراك، والترادف والتباين، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة، والتنبيه والايماء، ونحو ذلك مما فصلناه.

ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله.

وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل، فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة، وما لا بد منه فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها، مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة، بالغا رتبة الاجتهاد فيها، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر، ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها، لا أدري.

وأما ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيا. فقولنا " من الأحكام الشرعية " تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها. وقولنا " دليله ظنيا " تمييز له عما كان دليله منها قطعيا، كالعبادات الخمس ونحوها، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها، لأن المخطئ فيها يعد آثما، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده آثما. ا هـ.

وقال الشاطبي في الموافقات 4: 89 ما ملخصه: الاجتهاد على ضربين: الأول:

الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله.

فلا بد من هذه الاجتهاد في كل زمان، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما إنه غير ممكن عقلا.


الصفحة 210
وأما الضرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمى بتنقيح المناط، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى.

الثاني المسمى بتخريج المناط، وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط، فكأنه أخرج بالبحث، وهو الاجتهاد القياسي.

الثالث: وهو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان: أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص، كتعين نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك. والضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه، فكأن المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر. وتحقيق خاص من ذلك العام.

إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والاضافات، واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الانسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.

وأما الثاني: فهو كالخادم للأول، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما للأول، وفي استنباط الأحكام ثانيا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط. فلذلك جعل شرطا ثانيا، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة.

هذا هو الاجتهاد عند الأصوليين وأما الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على رد الفرع إلى الأصل، واستنباطه منه، والتمكن من دفع ما يعترض المقام من نقد ورد، وإبرام ونقض، وشبه وأوهام.


الصفحة 211
قال الآمدي في الأحكام 1: 7: الفقه في عرف المتشرعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.

وقال ابن نجيم في البحر الرائق 1: 3: الفقه اصطلاحا على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعا للأصوليين: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية بالاستدلال.

وفي الحاوي القدسي: إعلم أن معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع، وفي الشريعة الوقوف الخاص وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها، ودلالاتها، ومضمراتها، و مقتضياتها، والفقيه اسم للواقف عليها.

وقال: الفقه قوة تصحيح المنقول، وترجيح المعقول، فالحاصل: إن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم.

وأما استمداده فمن الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة، وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، وأما تعامل الناس فتابع للاجماع، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس، وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين.

وقال ابن عابدين في حاشية البحر 1: 3: في تحرير الدلالات السمعية لعلي بن محمد بن أحمد بن مسعود نقلا عن التنقيح: الفقه لغة هو الفهم والعلم، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال.

وقال ابن قاسم الغزي في الشرح 1: 18: الفقه هو لغة الفهم، واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

وقال ابن رشد في مقدمة المدونة الكبرى ص 8: فصل الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه: أحدها كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. والثاني: سنة نبيه عليه السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته، وأمرنا باتباع سنته فقال عز وجل: وأطيعوا الله والرسول. وقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. وقال: واذكرن ما يتلى في بيوتكن. من آيات الله والحكمة. والحكمة