نظرة في اجتهاد معاوية
هاهنا حق علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية، ونناقش القائلين به في أعماله، أفهل كانت على شيئ من النواميس الأربعة: الكتاب. السنة. الإجماع. القياس؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب؟ وعند من درسه؟ ومتى زاوله؟ وقد كان عهده به منذ عامين (1) قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهل كان يميز بين محكماته ومتشابهاته؟ أو يفرق بين مجمله ومبينه؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه؟ أو أحاط خبرا بمطلقه ومقيده؟ أو عرف شيئا من ناسخه ومنسوخه، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه؟!.
إن ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئا من ذلك، على حين إنها تستدعي فراغا كثيرا لا يتصرم بالسنين الطوال فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم " الوثنية " وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد " الاسلام " فأذهب عنه هاتيك، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيلته، ويتبوأ في دماغه.
____________
(1) هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح كما في الاستيعاب، وكان ذلك في أخريات السنة الثامن الهجرة، ووفاة النبي صلى الله عليه وآله في أوليات سنة 11.
وليس من البعيد عنه أول رجل في الاسلام عند القوم الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادي والخواتيم والأشكال والنتايج حدا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديين منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوة منذ بذوغها، ولعلك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب ما يلمسك باليد يسيرا من هذه الحقايق.
وأنت إذن في غنى عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأولين الذين لا تعزب عنك أنبائهم في الفقه والحديث والكتاب والسنة، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أخريات أيامهم؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنية، متهالك في الظلم والعدوان، متفان في عادات الجاهلية، ترف عليه رايات العهارة وأعلام البغاء، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجس بها منذ آباءه الأولين.
نعم: المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون، وكانوا مراجع الأمة في مشكلات القرآن ومغازيه وتنزيله وتأويله كعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن - العباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
السنة.
وماذا تحسب أن يكون نصيب معاوية من علم الحديث الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وفعله وتقريره؟ لقد عرفنا موقفه منها قوله هو فيما أخرجه أحمد في مسنده 4: 99 من طريق عبد الله بن عامر قال: سمعت معاوية يحدث وهو يقول: إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان على عهد عمر. لماذا هذا التحذير عن الأحاديث بعد أيام عمر؟ ألان الافتعال والوضع كثرا بعده؟ أم لأن الصحابة العدول الموثوق بهم على عهد عمر وما قبله منذ تصرم العهد النبوي سلبت عنهم الثقة بعد خلافة عمر؟
فكأنهم ارتدوا - العياذ بالله - بعده كذابين وضاعين، ولازمه الطعن في أكثر الأحاديث وعدم الاعتداد بمدارك الأحكام، لأن شيئا كثيرا منها انتشر بعد ذلك الأجل، وما كانت الدواعي والحاجة تستدعيان روايتها قبل ذلك، على أن الجهل بتاريخ إخراجها، هل هو في أيام عمر أو بعدها؟ يوجب سقوطها عن الاعتبار لعدم الثقة برواتها وروايتها؟ ولم تكن الرواة تسجل تاريخ ما يروونه حتى يعلم أن أيا منها محاط بسياج الثقة، وأيا منها منبوذ وراء سورها.
وما خصوصية عهد عمر في قبول الرواية ورفضها؟ ألان الحقايق تمحضت فيه؟
ومن ذا الذي محضها، أم لأن التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم؟ ومن ذا الذي فعل ذلك؟ أم أن يد الأمانة قبضت على السنة عندئذ، وعضتها بالنواجذ حرصا عليها، فلم يبق إلا لبابها المحض؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات؟ ومتى بدلت السنن؟ ومتى غيرت الأحكام؟ راجع الجزء السادس وهلم جرا.
ولعل قول معاوية هذا في سنة الرسول صلى الله عليه وآله كاف في قلة اعتداده بها، أو أنه كان ينظر إليها نظر مستخف بها، وكان يستهين بقائلها مرة، ويضرط لها إذا سمعها مرة
وإن حداثة عهد معاوية بالاسلام وأخذه بالروايات بعد كل ما قدمناه، وما كان يلهيه عن الاصاغة إليها طيلة أيامه من كتابة وإمارة وملوكية، وإن حياته في دور الاسلام كلها كانت مستوعبة بظروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه، فمتى كان يتفرغ لأخذ الروايات وتعلم السنن؟ ثم من ذا الذي أخذ عنه السنة؟ والصحابة جلهم في منتأى عن مبائته " الشام " ولم يكن معه إلا طليقا أعرابيا، أو يمانيا مستدرجا، وهو يسيئ ظنه بجملة الصحابة المدنيين حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبوية ويقول بملأ فمه: إنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام (2) وعلى أثر ظنه السيئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأمراءه عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يظهر مما أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 486 من قول عبد الله بن عمرو بن العاص لما قاله نوف: أنت أحق بالحديث مني أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله: إن هؤلاء قد منعونا عن الحديث يعني الأمراء. وجاء في حديث: إن معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر فقال: لئن بلغني إنك تحدث لأضربن عنقك (3).
وعلى ذلك الظن أهدر دماء بقية السلف الصالح، وبعث بسر بن أرطاة إلى المدينة الطيبة فشن الغارة على أهلها، فقتل نفوسا بريئة، وأراق دماء زكية، واقتص أثره من بعده جروه يزيد في واقعة الحرة، ومن يشابه أبه فما ظلم.
نظرة في أحاديث معاوية
إن لنا حق النظر في شتى مناحي رواياته، لقد أخرج عنه أحمد في مسنده في الجزء الرابع ص 91 - 102 مائة وستة أحاديث وفيها من المكرر.
____________
(1) راجع تفصيل كل هذه فيما أسلفناه في هذا الجزء ص 281 - 284.
(2) راجع صفحة 319 من هذا الجزء.
(3) كتاب صفين لابن مزاحم ص 248.
2 - حديث تقصير شعر النبي بمشقص مكرر عشر مرات في ص 92، 95، 96، 97، 97، 97، 97، 98، 102، 102.
3 - حديث حكاية رسول الله صلى الله عليه وآله الأذان كرره سبع مرات في ص 91، 92، 93، 98، 98، 100، 100.
4 - حديث عقوبة شرب الخمر مكرر خمس مرات في ص 93، 95، 96، 97 101.
5 - حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر جاء في ص 96، 97، 97، 100.
6 - حديث كبة الشعر يوجد في ص 91، 94، 95، 101.
7 - حديث مناشدته عن أحاديث جاء في ص 92، 95، 96، 99.
8 - حديث صوم عاشوراء في ص 95، 96، 97.
9 - حديث حب الأنصار يوجد في ص 96، 100، 100.
10 - حديث من أحب أن يمثل له قياما في ص 91، 93، 100.
11 - حديث النهي عن لبس الذهب والحرير يوجد في ص 96، 100، 101.
12 - حديث منقبة المؤذنين في ص 95، 98.
13 - حديث إنما أنا خازن ص 99، 100.
14 - حديث العمري جائزة ص 97، 99.
15 - حديث سجدة السهو لكل منسي ص 100، 100.
16 - حديث التبعية في الركوع والسجود ص 92، 98.
17 - حديث النهي عن ركوب الخز والنمار ص 93، 93.
فالباقي من أحاديثه من غير تكرير سبعة وأربعون حديثا، وهل تسد هي فراغ الاستنباط في أحكام الدين لأي مجتهد؟ مع أن فيها ما ليس من الأحكام مثل رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر توفي كل منهم وهو ابن ثلاث وستين، وقوله: رأيت
ولقد آن لنا أن ننظر نظرة أخرى في غير واحد من متون أحاديثه فمنها:
1 - إن معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلا يقتلك؟ فقال:
ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. يعني: الإيمان قيد الفتك. كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح قال فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عز وجل. مسند أحمد 4: 92.
قال الأميني إنه ينم عن أن أم المؤمنين كانت تستبيح دم الرجل بما ارتكبه من - الجرائم والمآثم، وسفك دماء زكية، ونفوس مزهقة بريئة، حتى أنها كانت ترى من المعقول السائغ أن تقعد له رجلا فيقتله، فأقنعها بأنه في بيت أمان، وداخل في ذمتها، وأن ما بينه وبينها صالح، وأرجئ الموافاة للجزاء إلى يوم التلاقي بينه وبين الناس.
ويستشف من هذه إنه لم يكن عند معاوية درأ لما كانت أم المؤمنين تنقمه عليه، وإلا لكان للرجل أن يتشبث به في تبرير أعماله وتبرأة نفسه دون التافهات.
وإن تعجب فعجب اقتناع أم المؤمنين من معاوية بأن بينه وبينها صالح، وإن لم يكن صالحا بينه وبين الله، ولا صالحا بينه وبينها لأنه قاتل أخيها " محمد بن أبي بكر " وكان على عنق معاوية ذلك الدم الطاهر، وإن غضت الطرف عنه أختها لأن بينه وبينها صالح، كما إنها غضت الطرف عن دم حجر وأصحابه وهو من موبقات ابن آكلة الأكباد وطالما نقمت عليه ذلك وكانت توبخه، لكن برره ذلك الصالح بينهما بلا عقل ولا قود، وأما دم عثمان فما غضت عنه أم المؤمنين مهما لم يكن بينهما وبين علي عليه السلام صالح، وهل يحتج معاوية يوم القيامة في موقف العدل الإلهي متى خاصمه محمد وحجر وأصحابه و آلاف من الصلحاء الأبرار ممن سفك دمائهم بأن بينه وبين عائشة صالح؟ وهل يفيده هذا الحجاج؟ أنا لا أدري.
أما كان لعائشة أن تفحم الرجل بأن الإيمان لو كان قيد الفتك " وهو قيد الفتك " فلماذا لم يقيده؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين، وأعيان الأمة المسلمة، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن الله " مكة " ولا مجاورو بيت أمانه " المدينة " ولعل أم المؤمنين كانت تنظر إلى إيمان الرجل من وراء ستر رقيق ولم تجده إيمانا مستقرا - إن لم نقل
2 - عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا، قدمنا معه مكة فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟
فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قالا: فإن ابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا. مسند أحمد 4: 94.
قال الأميني: أنا لا أدري إن الشائنة ها هنا تعود إلى فقه معاوية؟ أم إلى دينه؟ حيث يتعمد الإتمام حيثما قصر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتخذته الأمة سنة متبعة وفيهم أبو بكر وعمر، وقد صح عن عبد الله مرفوعا: الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر.
لكن الرجل خالف الجميع، وجابه حكم الرسول صلى الله عليه وآله نزولا منه إلى رغبة مروان الطريد بن الطريد، وعمرو بن عثمان؟ صونا لسمعة ابن عمه عثمان مبتدع هذه الأحدوثة فإن كان هذا فقه الرجل في الحديث؟ فمرحا بالفقاهة، أو أن ذلك مبلغه من الدين؟
فبعدا له في موقف الديانة.
راجع الجزء الثامن ص 100 - 122، 269 ط 1.
3 - عن الهنائي قال: كنت في ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند معاوية، فقال معاوية: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قالوا: أللهم نعم.
إلى أن قال:
____________
(1) أخرجهما البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والطبراني وابن داود.
راجع فيض القدير 1: 270.
وفي لفظ:
قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني متعة الحج - قالوا: أللهم لا.
راجع المسند 4 ص 92، 95، 99.
قال الأميني: هذا معطوف على ما قبله، فإن حرص الرجل على إحياء البدع تجاه السنة النبوية الثابتة، أوقفه هاهنا موقف المكابر المعاند، فقد أسلفنا في الجزء السادس ص 184 - 191، 200 - 206: إن متعة الحج نزل بها القرآن الكريم ولم ينسخ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وآله نحبه، وكان عليها العمل أيام أبي بكر وصدرا من أيام عمر حتى منع عنها. وعليه فاقتصاص معاوية أثر ذلك المحرم " بالكسر " يجلب الطعن إما في فقهه هو وجهله بالسنة، أو في دينه، والجمع أولى، والثاني أقرب إليه.
4 - من طريق حمران يحدث عن معاوية قال: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر.
ج 4: 99، 100.
قال الأميني: عرفت - في الجزء السادس ص 170 - 173 - إن الصلاة بعد العصر كانت مطردة على العهد النبوي يصليها هو صلى الله عليه وآله ولم يكن يدعهما سرا ولا علانية، وما تركهما حتى لقي الله تعالى، وصلاهما أصحابه إلى أن منع عنها عمر، واحتجت الصحابة عليه بأنها سنة ثابتة، ولا تبديل لسنة الله، غير أن الرجل لم يصخ إلى قولهم، وطفق يمضي وراء أحدوثته، وجاء معاوية وقد زاد في الطنبور نغمة، وعزى إلى رسول الله النهي عنهما، وهل هذا مقتضى جهله بالسنة؟ أو مبلغه من الفقه والدين؟ فاسمع القول، واقض بالحق لك أو عليك.
5 - من عدة طرق عن معاوية مرفوعا: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه.
أخرجه في ج 4: 93، 95، 96، 97، 101.
6 - عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية وكان قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا. المسند 4: 99.
وقد جاء كما يأتي في الجزء الحادي عشر من كتاب له كتبه إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل و أحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار.
قال الأميني: هل هذان الحديثان اللذان رواهما معاوية حجة له أو عليه؟
والحقيقة جلية لا يخفيها ستار، فإنك جد عليم بالذي باء بإثم تلكم الدماء المهراقة منذ يوم صفين، وبعده ريثما تتاح له الفرص مع مهب الريح، وتحت كل حجر ومدر، وعلى الروابي والثنيات، وعدد الرمل والحصى، عند كل هاتيك دم مسفوك، ونفس مزهقة، وأوصال مفصولة، وحرمات مهتوكة وهل شيئ من تلكم البوائق يباح بآية من الكتاب؟ أو يبرر بسنة صحيحة؟ أو يحبذ بشئ من معاقد إجماع المسلمين؟
وهل هناك قياس ينتهي إلى شيئ من هذه المبادئ الاجتهادية؟ وهل معاوية يحسن شيئا منها أو يتقنها؟: وأين وأنى له الرأي والاجتهاد؟ أو هو مجرم جاهل، وباغ
وقبل هذه كلها استبشاره بدم الإمام المقدس الخليفة عليه وعلى الأمة جمعاء مولانا أمير المؤمنين، وسروره بذلك، وعده ذلك من لطيف صنع الله.
وما ظنك بمجرم يكون عنده دم الإمام السبط الزكي أبي محمد الحسن عليه السلام بدس السم إليه؟! وقد استبشر لما باء بإثمه، وناء بجرمه، فسيؤاخذ بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه كلها.
7 - من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعا: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.
المسند للإمام أحمد 4: 96.
قال الأميني: هاهنا نسائل أنصار معاوية وأوداءه عن أن أي موتة مات هو بها، وعن أي إمام مات وعلى عنقه بيعته؟ ومن الذي اخترم الرجل وقد طوقته ولايته؟ وهل كان هناك إمام يجب طاعته وبيعته بالنص والاجماع غير مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بارزه وكاشفه؟ وألقح دون مناوئته الحرب الزبون، ونازعه في أمر الخلافة، وخلع ربقة الاسلام من عنقه، أو يوم استبشر بقتل الإمام عليه السلام وهي الطامة الكبرى؟ و المصاب بها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله. أو يوم افتجعت به الصديقة الكبرى فاطمة بشظية قلبها الإمام السبط المجتبى بسم من معاوية مدسوس إليه؟ فهل بايعه يومئذ وهو خليفة
فهل كان معاوية طيلة هذه المدد في ذكر من روايته هذه؟ وهل علم أنه طوى تلكم السنين وليس في عنقه بيعة لإمام؟ وإنه لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة؟ (1) وإنه إن مات والحالة هذه مات ميتة جاهلية؟ أو إنه كان يرى من فقهه استثناءه من هذه الكلية التي لم يستثن منا الرسول صلى الله عليه وآله أحدا؟ أو إن جهله بالأحكام وبنفسه كان يطمعه في أن يكون هو الخليفة المبايع له، والمطاع بأمر الله ورسوله؟ وهيهات له ذلك، وهو طليق ابن طليق، ولم يؤهله لها علم ولا حنكة، ولا نص ولا إجماع، إلا شره منهم، وطمع زائغ، وحلوم مطاشة، أو أن الرجل كان لم يكترث لأن يموت ميتة جاهلية على ولاية سواع وهبل؟
لفت نظر:
إن حديث معاوية: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 218، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 259 من طريق عبد الله ابن عمر وزاد: ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له.
وهذا الحديث معتضد بألفاظ أخرى من طرق شتى منها:
قوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
أخرجه مسلم في صحيحه 6: 22، والبيهقي في سننه 8: 156، وابن كثير في تفسيره 1: 517، والحافظ الهيثمي في المجمع 5: 218، واستدل بهذا اللفظ شاه ولي الله في إزالة الخفاء 1 ص 3 على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوبا كفائيا.
وقوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهلية.
أخرجه أحمد في مسنده 3: 446، والهيثمي في المجمع 5: 223.
____________
(1) المحلى لابن حزم 9: 359.
ذكره التفتازاني في شرح المقاصد 2: 275 وجعله لدة قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في المفاد. وبهذا اللفظ ذكره التفتازاني أيضا في شرح عقائد النسفي المطبوع سنة 1302 غير أن يد الطبع الأمينة على ودايع العلم والدين حرفت من الكتاب في طبع سنة 1313 سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث. وحكاه الشيخ علي القاري صاحب المرقاة في خاتمة الجواهر المضية 2: 509، وقال في ص 457: وقوله عليه السلام في صحيح مسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. معناه: من لم يعرف من يجب عليه الاقتداء والاهتداء به في أوانه.
وقوله صلى الله عليه وآله: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية.
أخرجه مسلم في صحيحه 6: 21، والبيهقي في سننه 8: 156، وذكر في تيسير الوصول 3: 39 نقلا عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة.
وقوله صلى الله عليه وآله: من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية.
أخرجه مسلم في صحيحه 6: 21.
وقوله صلى الله عليه وآله: من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية.
ذكره أبو جعفر الاسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانية للجاحظ ص 29، و ذكره الهيثمي في المجمع 5: 224، 225 بلفظ: من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية. وبلفظ: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية.
وقوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس لإمام جماعة عليه طاعة مات ميتة جاهلية.
أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 219.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر، فإن من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات مات ميتة الجاهلية. شرح السير الكبير 1: 113.
هذه حقيقة راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها، ولا يتم إسلام مسلم إلا بالنزول لمؤداها، ولم يختلف في ذلك اثنان، ولا إن أحدا خالجه في ذلك شك، وهذا التعبير ينم عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وإنه في منتئى عن أي
فالحقيقة هاهنا مرددة بين أن الصديقة سلام الله عليها عزبت عنها ضرورية من ضروريات دين أبيها وهي أولاها وأعظمها وقد حفظته الأمة جمعاء حضريها وبدويها وماتت - العياذ بالله - على غير سنة أبيها، وبين أن لا يكون للحديث مقيل من الصحة وقد رواه الحفظة الاثبات من الفريقين وتلقته الأمة بالقبول، وبين إنها سلام الله عليها لم تك تعترف للمتقمص بالخلافة، ولا توافقه على ما يدعيه، ولم تكن تراه أهلا لذلك، وكذلك الحال في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
فهل يسع لمسلم أن يختار الشق الأول ويرتأي لبضعة النبوة ولزوجها نفس النبي الأمين ووصيه على التعيين ما يأباه العقل والمنطق ويبرأ منه الله ورسوله؟ لا، ليس لأحد أن يقول ذلك.
وأما الشق الثاني، فلا أظن جاهلا يسف إلى مثله بعد استكمال شرايط الصحة والقبول وإصفاق أئمة الحديث ومهرة الكلام على الخضوع لمفاده، وإطباق الأمم الإسلامية على مؤداه.
فلم يبق إلا الشق الثالث، فخلافة لم تعترف لها الصديقة الطاهرة وماتت وهي واجدة عليها وعلى صاحبها، ويجوز مولانا أمير المؤمنين التأخر عنها ولو آناما، ولم
____________
(1) صحيح البخاري كتاب المغازي ج 6: 197، صحيح مسلم كتاب الجهاد ج 5: 154.
8 - من طريق أبي أمية عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده: إن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينا هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة أو مرتين فقال: يا معاوية! إن وليت أمرا فاتق الله عز وجل وأعدل. قال: فما زلت أظن إني مبتلى بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت. المسند 4: 101.
قال الأميني: إن من المأسوف عليه أن الرجل نسي هذه الوصية النبوية في عهديه جميعا من الإمارة والملك العضوض، أو أنه كان يذكرها غير أنه لم يكترث لها فلم يدع شيئا من مظاهر العدل والتقوى إلا وتركه، ولا أمرا من موجبات الإثم والعدوان إلا وارتكبه، وإن البحث لفي غنى عن سرد تلك المآثم والجرائم، وقد كررنا بعضها في أجزاء هذا الكتاب، وفي حيطة سعة الباحث الوقوف عليها كلها.
فليته كان يذكر تلك الوصية الخالدة يوم تثبط عن نصرة عثمان حتى أودي به، ويوم كاشف إمام الوقت أمير المؤمنين عليه السلام بالحروب الطاحنة، وجابه ولاية الله الكبرى بكل ما كان يسعه عناده ومكائده، وناوء الصحابة العدول بالقتل والتشريد، واضطهد صلحاء الأمة بكل ما في حوله وطوله من إخافة وإرجاف وقتل ذريع وأخذ بالظنون والتهم، أو كان من العدل والتقوى شيئ من هذه؟ أو كان منهما بيع الخمر وشرابها وأكل الربا، واستلحاق زياد بأبي سفيان، واستخلاف يزيد؟ ولعلك أعرف بيزيد من غيرك كما أن مستخلفه كان أعرف به من كل أحد.
ولعل من أظهر مصاديق عدله وتقواه دؤبه على سب الإمام الطاهر، ولعنه على صهوات المنابر، وقنوته بذلك في صلواته - التي كانت تلعنه - وحمله الناس على ذلك بالحواضر الإسلامية وأوساطها طول حياته حتى كانت بدعة مخزية مستمرة في العهد الأموي كلها بعد أن اخترمته المنية.
فهل كان يتاح له أكثر وأشنع مما فعل؟.
9 - من غير طريق عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين، وفي لفظ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وفي بعض الألفاظ: وكان معاوية قلما خطب إلا ذكر هذا الحديث في خطبته. (1)
قال الأميني: كان من قضية هذا السماع ووعيه، والاكثار من روايته حتى أنه جاء مكررا في مسند أحمد ست عشر مرة، وما كان يخطب معاوية إلا وذكره، التأثر بمفاده، والتهالك في التفقه في الدين، والحرص على ما كان يسمعه أو يبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبادئ الفقه وغاياته، فما هذا الذي قهقره عن ضبط ما هنالك من حكم وأحكام؟ وأبعده عن مستقى السنة ذلك البون الشاسع الذي تركه أجهل خلق الله بأحكامه، عدا ما خالفه وباينه، من أحاديث كانت حجة عليه، بعيدا عن مغازيه وأعماله، وعدا طفائف لا يعود العالم بها فقيها في دينه، متبصرا في أمره، كل ذلك ينم عن أن الرجل لم يرد الله به خيرا ولا فقهه في دينه، وليس ذلك من ابن هند ببعيد.
10 - من طريق محمد بن جبير بن مطعم يحدث: إنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش، أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث إنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين.
قال الأميني: لقد غلط معاوية في فهم الحديث على تقدير صحته، فإن الذي ذكر عبد الله بن عمرو أن ذلك الكائن ملك، ولم ينص على أنه خليفة، وكم في الدهر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ملوك من غير قريش؟ ومن الجائز أن يكون ذلك الملك الموعود به من أصحاب الملك العضوض، فما رده به معاوية من أن الذين يجب أن يكونوا من قريش
____________
(1) المحلى لابن حزم 9: 359.
وإن تعجب فعجب إن الرجل يعد عبد الله بن عمرو من الجهال، وهو الذي جاء فيه عن أبي هريرة: إنه أكثر الناس حديثا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان يكتب الحديث، وفي لفظ أبي عمر: أحفظ حديثا. وقال: كان فاضلا حافظا عالما، قرأ الكتاب واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه فأذن له، وهو الذي أثنى عليه ابن حجر بغزارة العلم والاجتهاد في العبادة (1).
نعم: يقع معاوية في الرجل كمن ملأ إهابه علما، وشحن الطروس والسطور فقها وحديثا، ذهولا منه عن أن الأمة المنقبة حفظت عليه حديث عبادة بن الصامت من قوله له: إن أمك هند أعلم منك (2).
هذا معاوية ومبلغه من العلم بالسنة.
الإجماع
قد عرفت آنفا أن من مدارك الاجتهاد في الأحكام الشرعية ومبادئها: الإجماع ولعل أقسط تعاريفه ما قاله الآمدي في الإحكام 1: 280: إنه اتفاق جملة من أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقايع.
فهلم ولننظر إلى معاوية وأقواله وتقولاته وأعماله وجرائمه وفقهه، واجتهاده هل يقع شيئ منها في معقد من معاقد الإجماع؟ وأين أولئك الفقهاء، وأهل الحل والعقد في الفقه والدين الذين أصفقوا مع معاوية على ما عنده من بدع وتافهات؟ ومن كان منهم يومئذ ليطلوا سقطات معاوية الشاذة بالإجماع؟ وهل كان مبائة الفقهاء يومئذ في
____________
(1) الاستيعاب 1، 307، أسد الغابة 3: 233، الإصابة 2: 352، تهذيب التهذيب 5: 337.