نعم: كان يصافقه على مخاريقه حثالة من طغام الشام الذين حدتهم النهمة والشره وهملج بهم المطامع والشهوات، فما قيمة اجتهاد يكون هذا أحد مبادئه؟!
القياس
المعتبر من القياس عند أئمة السنة والجماعة أن يكون المناط منصوصا عليه في الكتاب والسنة، أو مخرجا عنهما بالبحث والاستنباط إما بنوعه أو بشخصه (1) ولم نجد في اختيارات معاوية شيئا من تلكم المناطات في المقيس عليه منصوصة أو مستنبطة يصح القياس في المقيس ويجوز التعويل عليها، نعم: كانت عنده أقيسة جاهلية أراد تطبيق أحكام الاسلام بها.
أي اجتهاد هذا؟!
لعلك إلى هنا عرفت معنى الاجتهاد الصحيح وحقيقته ومبانيه عند أئمة الاسلام من رجالات الفقه وأصوله، والمسك باليد بعد معاوية عن كل ذلك بعد المشرقين، فهلم معي نقرأ صحيفة مكررة من أفعال هذا المجتهد الطاغية وتروكه التي اجتهد فيها ويرى أبناء حزم وتيمية وكثير وحجر ومن لف لفهم أن الرجل لم يلحقه ذم وتبعة من تلكم الهفوات، بل يحسبونه مأجورا فيها لكونه مجتهدا مخطأ.
ألا تقول أي اجتهاد جوز على هذا المجتهد أو أوجب عليه وعلى كل مسلم بأمره - رضي بذلك أم أبى - سب مثل مولانا أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه والقنوت بلعنه في الصلوات، والدعاء عليه وعلى الإمامين السبطين (2) والصلحاء الأخيار معه؟!
هل اجتهد هذه الأحدوثة من آية التطهير والمباهلة أو من المئات النازلة في علي عليه السلام؟
أو من الآلاف من السنة الشريفة المأثورة عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله من فضائله ومناقبه؟
أو من الإجماع المعقود على بيعته واتخاذه خليفة مفترضة طاعته؟ ولئن تنازلنا عن
____________
(1) راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء تحت عنوان: الاجتهاد ماذا هو.
(2) راجع الجزء الثاني ص 101. 102، 132، 133 ط 2.
وهل هناك قياس يخرج ملاكه من مبادئ الاجتهاد الثلاثة التي قامت بسيف علي عليه السلام واعتنقتها الأمة ببأسه، وعرفتها ببيانه، يسوغ للرجل ما تقحم فيه؟ نعم:
كانت تراث وإحن بين القبيلتين - أبناء هاشم وبني أمية - منذ العهد الجاهلي، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كل من الفئتين المتخاصمتين من الأخرى كيفما وقع، وأينما أصاب، وريثما انتهز الفرصة من تمكن من الانتقام، سواء حمل المنكوب شيئا من الظلامة أو لا، فيقتل غير القاتل، ويعذب غير المجرم، ويؤاخذ غير الجاني، شنشنة جاهلية ثبت عليها الجاهلون، واستمروا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الاسلام، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية " المجتهد في أعماله واجتهاده ".
أي اجتهاد يسوغ له دؤبه على لعن الإمام المفدى على صهوات المنابر، وفي أدبار الصلوات، حتى غير سنة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه، وكان يوبخ الساكتين عن لعنه بملأ فمه وصراحة لهجته؟ فبأي كتاب أم بأية سنة أو إجماع أو قياس كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية؟
أي اجتهاد يحتم عليه استقراء كل من والى عليا أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم، وتشريدهم، والتنكيل بهم، وتعذيبهم بأشد العذاب، ولم يرقب فيهم ذمة الاسلام ولا إليه، ولم يراع فيهم حرمة الصحبة وصونها؟ أو يساعده على ذلك شيئ من الآي الكريمة؟ أو أثارة من السنة الشريفة؟ أو إجماع من أهل الدين؟ وأين هم؟! [وهم كلهم مناوئوا معاوية ومنفصلون عن آرائه] أو أن هناك قياس خرج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث؟
أي اجتهاد يبيح له قذف علي عليه السلام بالإلحاد والغي والبغي والضلال والعدوان و الخبث والحسد إلى طامات أخرى؟ أو تحسب أنك تجد حجة على شيئ من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم؟ أو من تضاعيف السنة النبوية؟ أو من معاقد إجماع الأمة؟
والأمة على بكرة أبيها تعلم أن شيئا من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تكتسح
أي اجتهاد يحبذ له المسرة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكي إمامي الهدى صلوات الله عليهما، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ويري لصاحبه قتل علي عليه السلام من لطف الله وحسن صنعه، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله؟
وأنت جد عليم بأن فقه الكتاب الكريم في منتئ عن هذه الشقوة، كما أن السنة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة، ودع عنك معقد إجماع الأمة النائي عن هذه الفظاظة، و ملاكات الشريعة منصوصة ومستنبطة البائنة لتلك الصلافة. نعم: قياس الجاهلية الأولى يضرب على وتره ويغنى في وتيرته.
أي اجتهاد يرخص هتك حرمات مكة والمدينة، وشن الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليا عليه السلام ويشرع نذر قتل نساء ربيعة لحب رجالهم أمير المؤمنين وتشيعهم له عليه السلام؟!.
أي اجتهاد يحلل مثلة من قتل تحت راية علي عليه السلام يوم صفين، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره؟! كما فصلنا القول فيه في الجزء الثالث.
أي اجتهاد يمنع إمام الحق وآلافا من المسلمين عن الماء المباح، ويعطي لمعاوية حق القول: بأن هذا والله أول الظفر، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه، أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه؟! (1)
أي اجتهاد يجوز بيع الخمر وشربها، وأكل الربا، وإشاعة الفحشاء، وقد حرمها كتاب الله وسنة نبيه، ويتلوهما الإجماع والقياس.؟!
أي اجتهاد يحث الناس بإعطاء الإمارة والولايات وبذل القناطير المقنطرة لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبي الأقدس وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم؟!
أي اجتهاد يراق به دم من سكت عن لعن علي ولم يتبرأ منه ولو كان من جلة الصحابة ومن صلحاء أمة محمد كحجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق؟
أي اجتهاد يؤدي إلى خلاف ما ثبت من السنة الشريفة، ويصحح إدخال ما
____________
(1) كتاب صفين ص 182، شرح نهج البلاغة 1: 328.
أي اجتهاد يغير دين الله وسنته لمحض مخالفته عليا عليه السلام كما مر ص 205.
أي اجتهاد ينقض به حد من حدود الله لاستمالة مثل زياد بن أمه وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان، والولد للفراش وللعاهر الحجر؟!
أي اجتهاد يحابي خلافة الله ليزيد السكير المستهتر، ويستحل به دماء من تخلف عن تلك البيعة الغاشمة؟!
أي اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين علي عليه السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق؟!
أي اجتهاد تدعم به الشهادات المزورة والفرية والإفك والكذب وقول الزور و النسب المختلقة والمكر والخديعة لنيل الأماني الوبيلة المخزية؟!
أي اجتهاد يجوز إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته وعترته، وإيذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان وفي مقدمهم سيدهم وفي الذكر الحكيم قوله تعالى: الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا. وجاء عن الصادع الكريم: من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل (1) وقوله عن جبريل عن الله تعالى:
من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. ومن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب.
وقوله: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي. وقوله: من أهان لي وليا فقد استحل محاربتي. وقوله: من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة. وقوله: من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة (2).
أي اجتهاد يري صاحبه نقض الإل وحنث العهد، من السهل الهين في جميع موارده ومصادره؟!
أي اجتهاد يجابه به سنة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والازدراء والضرطة؟
____________
(1) راجع الحاوي للفتاوى 2: 47.
(2) راجع الحاوي للفتاوى 1: 361 - 324.
أي اجتهاد يفسد البلاد، ويضل العباد، ويشق عصا المسلمين، بالشذوذ عن الجماعة، وخلع ربقة الاسلام عن البيعة الحقة، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الأمة من أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته؟!.
إلى غير هذه من اجتهادات باطلة، وآراء سخيفة تافهة، ليس لها في مستوى الصواب مقيل، ولا لها في سوق الدين اعتبار يعذر صاحبه، وكلها مبائنة للكتاب، مضادة مع السنة الثابتة الصحيحة، ونقض للاجماع الصحيح المتسالم عليه، والقياس الذي نص في المقيس عليه على ملاك الحكم في أي من الكتاب والسنة، أو إنه مستنبط بالاجتهاد والتظني فيهما.
وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحري الحق؟! أللهم إنها ميول وأهواء ومطامع وشهوات تزجي بصاحبها إلى هوات المهالك، وهل هذا يضاهي شيئا من اجتهاد المجتهدين؟!
على أن جملة من المذكورات مما لا مساغ للاجتهاد فيه، ولا يتطرق إليه الرأي والاستنباط، لأن الحكم فيها ملحق بالضروريات من الدين، ومما لا يسع فيه الخلاف ، فمن حاول شيئا من ذلك فقد حاول دفاعا للضروري من الدين، واستباح محظورا ثابتا من الشريعة، كمن يستبيح قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتهاده، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شق المرائر، واستمراء جرع الحتف المبير.
من هو هذا المجتهد؟
أهو ابن آكلة الأكباد - نكس الله رايتها - الهاتك لحرمات الله، المعتدي على حدوده، المجرم الجاني؟.
يحسب أبناء حزم وتيمية وكثير ومن لف لفهم إنه مجتهد مأجور، ويقول ابن حجر: إنه خليفة حق، وإمام صدق.
هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم بل نقول بما قاله المقبلي (1) في كتابه " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء المشايخ " ص 365: ما كان علي رضي الله عنه
____________
(1) الشيخ صالح بن مهدي المتوفى 1108.
وآخر يحط من قدره الرفيع، أبعدهم ضلالا الخوارج الذين يلعنونه على المنابر، ويرضون على ابن ملجم شقي هذه الأمة، وكذلك المروانية، وقد قطع الله دابرهم، وأقربهم ضلالا الذين خطأوه في حرب الناكثين، والله سبحانه يقول: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله. فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي من تصدق؟
مع أنهم بغوا بغيا محققا بعد استقرار الأمر له، ولا عذر لهم، ولا شبهة إلا الطلب بدم عثمان، وقد أجاب رضي الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال: يحضر وارث عثمان ويدعي ما شاء، واحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أو كما قال فإن تصح هذه الرواية، وإلا فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدنى الناس من المتمسكين بالشريعة، وأما أنه يقطع قطيعا من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة وأكثر، بل قيل: إنهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق، فيقتلهم عن بكرة أبيهم، والقاتل واحد، أربعة، عشرة، قيل: هما اثنان فقط. وذكره في الصواعق أيضا، فهذا ما يعتذر به عاقل، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلة باطلة، خلا أن طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن يلحق بهم من تلك الدرجة التي يقدر قدرها من الصحابة، لا يشك عاقل في شبهة غلطوا فيها، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم.
وأما معاوية والخوارج فمقاصدهم بينة، فإن لم يقاتلهم علي فمن يقاتل؟ أما الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلا ضال، وأما معاوية فطالب ملك، اقتحم فيه كل داهية، وختمها بالبيعة ليزيد، فالذي يزعم أنه اجتهد فأخطأ، لا نقول: اجتهد وأخطأ.
لكنه إما جاهل لحقيقة الحال مقلد، وإما ضال اتبع هواه، أللهم إنا نشهد بذلك.
ورأيت لبعض متأخري الطبريين في مكة رسالة ذكر فيها كلاما عزاه لابن عساكر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن معاوية سيلي أمر الأمة، وأنه لن يغلب، وأن عليا
ولا يبعد نحو هذا ممن سل سيفه على علي والحسن والحسين وذريتهما، والراضي كالفاعل كما صرحت به السنة النبوية، إنما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الإجماع من جماعة المتسمين بالسنة بأن معاوية هو الباغي، وأن الحق مع علي، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر علي بعد ما ذكر، وكذلك الحسن السبط رضي الله عنهما، وترى هؤلاء الذين ينقمون على علي قتاله البغاة يحسنون لمن سن لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالأربعة الراشدين رضي الله عنه وعنهم، مع أن سب علي فوق المنابر وجعله سنة تصغر عنده العظائم. وفي جامع المسانيد في مسند أم سلمة رضي الله عنها: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: معاذ الله. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني. الكلام.
ولعلك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرة هذا المجتهد الجاهل الضال تأخذ لك مقياسا لمبلغ علمه، وقسطه المتضاءل من الاجتهاد في أحكام الله، وإنه منكفى عنه، فارغ الوطاب، صفر الأكف عن أي علم ناجع، أو عمل نافع، بعيدا عن فهم الكتاب، والتفقه في السنة، والالمام بأدلة الاجتهاد.
نعم: لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته، وإنما له أضراب ونظراء سبقوه أم لحقوه في الرأي الشائن، والاجتهاد المائن، ممن صحح القوم بدعهم المحدثة، وآرائهم الشاذة عن الكتاب والسنة بالاجتهاد، تترسوا في طاماتهم بأنهم مجتهدون (1)
ولعلك تعرف مكانة هذا المجتهد " خليفة الحق وإمام الصدق " من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله إياه وأباه وأخاه. ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه، ومن دعاء أم المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.
ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وولده السبط الزكي أبي محمد سلام الله عليه، والعبد الصالح محمد بن أبي بكر، إلى لعن رسول الله صلى الله عليه وآله المخزي، ومن لعن
____________
(1) يوجد جمع من أولئك المجتهدين في غضون أجزاء كتابنا هذا.
ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سمع غناء وأخبر بأنه لمعاوية وعمرو بن العاصي: أللهم أركسهم في الفتنة ركسا، أللهم دعهم إلى النار دعا.
ومن قوله صلى الله عليه وآله وقد رآه مع ابن العاصي جالسين: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير.
ومن قوله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. المعاضد بالصحيح الثابت من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. وفي صحيح: فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر.
ومن قوله صلى الله عليه وآله: يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت وهو على غير سنتي فطلع معاوية (1)
ومن قول أمير المؤمنين له: طالما دعوت أنت وأولياءك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين ونبذتموه وراء ظهوركم. وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ومن قوله عليه السلام: إنك دعوتني إلى حكم القرآن، ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن، ولا حكمه تريد.
ومن قوله عليه السلام: إنه الجلف المنافق، الأغلف القلب، المقارب العقل.
ومن قوله عليه السلام: إنه فاسق مهتوك ستره.
ومن قوله عليه السلام: إنه الكذاب إمام الردى، وعدو النبي، وإنه الفاجر ابن الفاجر، وإنه منافق ابن منافق يدعو الناس إلى النار. إلى كلمات أخرى مفصلة في هذا الجزء.
ومن قول أبي أيوب الأنصاري: إن معاوية كهف المنافقين.
ومن قول قيس بن سعد الأنصاري: إنه وثن ابن وثن، دخل في الاسلام كرها وخرج منه طوعا، لم يقدم إيمانه، ولم يحدث نفاقه.
ومن قول معن السلمي الصحابي البدري له: ما ولدت قرشية من قرشي شرا منك.
____________
(1) كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 247.
هذا مجتهدنا الطليق عند أولئك الأطايب، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأولين العارفين به على سره وعلانيته، المطلعين على أدوار حياته طفلا ويافعا وكهلا وهما، وأنت بالخيار في الأخذ بأي من النظريتين: ما سبق لله ولرسوله وخلفائه و أصحابه المجتهدين العدول، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسفين الناحتين للرجل أعذارا هي أفظع من جرائمه.
الأمر الثاني
ثاني الأمرين اللذين ينتهي إليهما دفاع ابن حجر عن معاوية قوله في الصواعق ص 130: فالحق ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وإنه بعد ذلك خليفة حق وإمام صدق، كيف؟ وقد أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لمعاوية أللهم اجعله هاديا مهديا.
وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
أللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمر قال قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاوية! إذا ملكت فأحسن.
فتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بأن الله يجعله هاديا مهديا، و الحديث حسن كما علمت فهو مما يحتج به على فضل معاوية، وأنه لا ذم يلحقه بتلك الحروب لما علمت أنها مبنية على اجتهاد، وإنه لم يكن له إلا أجر واحد، لأن المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه، ولا ذم يلحقه بسبب ذلك لأنه معذور، ولذا كتب له أجر.
ومما يدل لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلم ذلك، ويوقى العذاب، ولا شك أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب، فعلمنا منه أنه لا عقاب على معاوية فيما فعل من
____________
(1) مر تفصيل هذه كلها في هذا الجزء
وتأمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر معاوية بأنه يملك وأمره بالاحسان، تجد في الحديث إشارة إلى صحة خلافته، وإنها حق بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها، فإن أمره بالاحسان المترتب على الملك يدل على حقية ملكه وخلافته وصحة تصرفه ونفوذ أفعاله من حيث صحة الخلافة لا من حيث التغلب، لأن المتغلب فاسق معاتب لا يستحق أن يبشر، ولا أن يؤمر بالاحسان فيما تغلب عليه، بل إنما يستحق الزجر والمقت و الإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله، فلو كان معاوية متغلبا لأشار له صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، أو صرح له به، فلما لم يشر فضلا على أن يصرح إلا بما يدل على حقيقة ما هو عليه علمنا أنه بعد نزول الحسن له خليفة حق وإمام صدق. هـ
(هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية)
قال الأميني: إن الكلام يقع على هذه الروايات من شتى النواحي ألا وهي:
1 - النظر إلى شخصية معاوية، وتصفح كتاب نفسه المشحون بالمخازي، ثم نعطف النظر في أنه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبا لأقل منقبة له يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فضلا عن هذه النسب المزعومة؟ أو: لا؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق مما لا يكاد أن يجامع شيئا من المديح والاطراء أو أن تعزى إليه حسنة، ولا أحسب أنك تجد من أيام حياته يوما خاليا عن الموبقات من سفك دماء زاكية، وإخافة مؤمنين أبرياء، وتشريد صلحاء لم يدنسهم إثم، ولا ألمت بساحتهم جريرة، ومعاداة للحق الواضح، ورفض لطاعة إمام الوقت والبغي عليه وقتاله إلى جرائم جمة يستكبرها الدين والشريعة، ويستنكرها الكتاب والسنة، ولا يتسرب إلى شيئ منها الاجتهاد كما مر بيانه.
2 - من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما روي وصح عن رسول الله
فإنك متى نظرت إليها، واستشففت حقايقها دلتك على أن رجل السوء - معاوية - جماع المآثم والجرائم، وإنه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله ومن احتذى مثاله من خلفائه الراشدين، وأصحابه السابقين الأولين المجتهدين حقا المصيبين في اجتهادهم.
3 - أنا وجدنا نبي الرحمة صلى الله عليه وآله ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله، والحث على مناوئته، وتعريف من لاث به بأنهم الفئة الباغية، وإنهم هم القاسطون، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنين عليه السلام على أن يناضله، ويكتسح معرته، ويكبح جماحه، وقد علم صلى الله عليه وآله إنه سيكون الخليفة المبايع له، الواجب قتله، وإنه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أي اجتهاد نظراء حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وأصحابهما، وكثير من البدريين، وجمع كثير من أهل بيعة الرضوان، رضوان الله عليهم.
فهل من المعقول إنه صلى الله عليه وآله يرى لمعاوية والحالة هذه قسطا من الفضيلة؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين؟ ويوقع الأمة في التهافت بين كلماته المعزوة إليه هذه، وبين ما صارح به وصح عنه صلى الله عليه وآله مما أو عزنا إليه. وزبدة المخض إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة، ولكن القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم من طلاء مبهرج.
4 - ما قاله الحفاظ من أئمة الحديث وحملة السنة من إنه لم يصح لمعاوية منقبة، وسيوافيك بعيد هذا نص عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة.
5 - النظر في إسناد ومتن ما جاء به ابن حجر، وعلا عليه أسس تمويهه على الحقايق، وبه طفق يرتأي معاوية خليفة حق، وإمام صدق.
الرواية الأولى:
أما ما أخرجه الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعا، أللهم
ورجال الاسناد كلهم شاميون وهم: أبو سهر الدمشقي. 2 - سعيد بن عبد العزيز الدمشقي. 3 - ربيعة بن يزيد الدمشقي 4 - ابن أبي عميرة الدمشقي. وتفرد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسنه، وابن حجر حرف كلمة الترمذي حرصا على إثبات الباطل، فما ثقتك برواية تفرد بها شامي عن شامي إلى شامي ثالث إلى رابع مثلهم أيضا، ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنة علم بها، ولم يك يومئذ يتحرج الشاميون من الافتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة، على حين إن أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن، ومن ورائهم النزعات الأموية السائقة لهم إلى الاختلاق، لتحصيل مرضاة صاحبهم. فهناك مرتكم الأباطيل والروايات المائنة.
على أن هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاري الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول: باب مناقب معاوية. وإنما عبر عنه بباب ذكر معاوية. وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينص على عدم صحة شيئ من فضائل معاوية. ومن الحفاظ: النسائي، والحاكم النيسابوري، والحنظلي، والفيروز آبادي، وابن تيمية، والعجلوني وغيرهم، وقد أطبقوا جميعا على أنه لم يصح لمعاوية حديث فضيلة، ومساغ كلماتهم يعطي نفي ما يصح الاعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها، فإنهم يقذفون الحديث بأقل مما ذكرناه في هذا المقام، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام " كحسنات معاوية " لا عزوا إليها عند نفيهم العام.
وإن مفاد الحديث لمما يربك القارئ ويغنيه عن التكلف في النظر إلى إسناده
____________
(1) هذا لفظ الحديث في جامع الترمذي 13: 229.
أو هل ترى إن الدعاء المستجاب كهذا يقصد به هذا النوع من الاجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرجل وأفعاله؟ حتى أنه لا يرى مصيبا في واحد منها، وهل يحتاج تأتي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرسالة؟ فمرحبا بمثله من اجتهاد معذر، وهداية لا تبارح الضلال.
ثم من الذي هداه معاوية طيلة أيامه، وأنقذه من مخالب الهلكة؟! أيعد منهم ابن حجر بسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية؟!
أم ضحاك بن قيس الذي أمره بالغارة على كل من في طاعة علي عليه السلام من الأعراب، وجاء بفجايع لم يعهدها التاريخ؟!
أم زياد بن أبيه أو أمه الذي استحوذ على العراق، فأهلك الحرث والنسل، وذبح الأتقياء، ودمر على الأولياء، وركب نهابير لا تحصى؟! أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه، وفعل من الجنايات ما فعل؟!
أم مروان بن الحكم الطريد اللعين وابنهما الذي كان لعنه عليا أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة أعوام إحدى طاماته؟!
أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبار الطاغي الذي كان يبالغ في شتم علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبغضه إياه؟!
أم مغيرة بن شعبة أزنى ثقيف الذي كان ينال من علي عليه السلام ويلعنه على منبر
أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الري، وكان يكثر سب علي عليه السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه؟!
أم سفيان بن عوف الذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن، فقتل خلقا، و نهب أموالا، ثم رجع إليه؟!
أم عبد الله الفزازي الذي كان أشد الناس على علي عليه السلام، ووجهه إلى أهل البوادي فجاء بطامات كبرى؟!
أم سمرة بن جندب الذي كان يحرف كتاب الله لإرضائه، وقتل خلقا دون رغباته لا يحصى؟!
أم طغام الشام وطغاتها الذين كانوا يقتصون أثر كل ناعق، وانحاز بهم هو عن أي نعيق فأوردهم المهالك؟!
أهذه كلها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب؟ أللهم، لا. ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وآله - العياذ بالله - قوله: أللهم اجعله ضالا مضلا. لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات.
ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيب من الصدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحق كأبي أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ولما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله على حربه وقتاله، ولما عرف فئته بالبغي والقسط.
ولو كان السلف الصالح يرى شيئا زهيدا من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب لما كانوا يعرفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضلال والاضلال.
وللسيد العلامة ابن عقيل كلمة حول هذه المنقبة المزيفة ونعما هي قال في النصايح الكافية ص 167: وها هنا دلالة على عدم استجابة الله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحة الحديث من حديث صحيح أخرجه مسلم عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.
الرواية الثانية:
أللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب.
في إسنادها الحارث بن زياد، وهو ضعيف مجهول كما قاله ابن أبي حاتم، عن أبيه، وابن عبد البر، والذهبي، كما في ميزان الاعتدال 1: 201، وتهذيب التهذيب 2: 142، ولسان الميزان 2: 149. وهو شامي غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام.
وإن متنه لفي غنى عن أي تفنيد فإن المراد به إما علم الكتاب كله أو بعضه، و نحن لم نجد عنده شيئا من علم الكتاب فضلا عن كله، فإن أعماله وتروكه مضادة كلها لمحكمات الذكر الحكيم، من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله بإيذاء أهل بيته وصلحاء أمته، ولا سيما صنوه وخليفته المفروض طاعته الذي هو نفسه، ومطهر عن أي رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز.
ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثما لمحض ولائهم من قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله.
ومن القتل الذريع للصلحاء الأبرار، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة، وميوله وأهواءه.
ومن الكذب الصراح، وكل فرية وبهت وإفك وقول زور، طفح الكتاب بتحريمها النهائي.
ودع عنك بيع الخمر وشربها، وأكل الربا، وتبديل سنة الله التي لا تبديل لها
متى ما خالفت خطته السيئة، وتعديه حدود الله، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم