الصفحة 276
لا يثمر العنب، وقد صدق النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وآله في السبطين ووالديهما: لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردي المولد. وكان السلف يبور أولادهم بحب علي عليه السلام فمن كان لا يحبه علموا أنه لغير رشدة (1). فلا تعجب من الدعي ومن كتابه القارص إلى الإمام السبط الحسن الزكي عليه السلام قد شفع إليه في رجل من شيعته. قال ابن عساكر: كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، فلما قدم زياد الكوفة واليا عليها أخافه وطلبه زياد فأتي الحسن بن علي فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن علي إلى زياد. أما بعد: فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإني قد أجرته فشفعني فيه. فكتب إليه زياد:

من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أما بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة كتبت إلي في فاسق لا يؤبه به، وشر من ذلك توليه أباك وإياك، وقد علمت أنك أدنيته إقامة منك على سوء الرأي ورضي منك بذلك، وأيم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإن أحب لحم إلي أن آكل منه اللحم الذي أنت منه، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق، والسلام (2)، ولما بلغ موته ابن عمر قال: يا ابن سمية! لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.

كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي عليه السلام - وفي لفظ البيهقي: يحرضهم على البرائة من علي كرم الله وجهه، فملأ منهم المسجد و

____________

(1) مرت تلكم الأحاديث وستأتي في مسند المناقب ومرسلها.

(2) تاريخ ابن عساكر 5: 418، شرح ابن الحديد 4: 7، 72.

الصفحة 277
الرحبة - فمن أبي ذلك عرضه على السيف. وعن المنتظم لابن الجوزي: إن زيادا لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهم أن يخرب دورهم، ويحمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البرائة من علي عليه السلام وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. فذكر عبد الرحمن بن السائب قال: أحضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئا في منامي وأنا جالس في الجماعة وقد خفقت، وهو إني رأيت شيئا طويلا قد أقبل فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعا فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب:

ما كان منتهيا عما أراد بنا * حتى تأتى له النقاد ذو الرقبة
فاسقط الشق منه ضربة ثبتت * لما تناول ظلما صاحب الرحبة (1)

قال الأميني: هلم معي نقرأ هذه الصحائف السوداء المحشوة بالمخازي وشية العار، المملوة بالموبقات والبوائق، فننظر هل في الشريعة البيضاء، أو في نواميس البشرية، أو في طقوس العدل مساغ لشئ منها؟ دع ذلك كله هل تجد في عادات الجاهلية مبررا لشئ من تلكم الهمجية؟ وهل فعل أولئك الأشقياء الأشداء في أيامهم المظلمة فعلا يربو مخاريق ابن هند؟ لا. وإنك لا تسمع عن أحد ممن يحمل عاطفة إنسانية ولا أقول ممن يعتنق الدين الحنيف فحسب يستبيح شيئا من ذلك، أو يحبذ مخزاتا من تلكم المخازي، وهل تجد معاوية وهذه جناياته من مصاديق قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. الآية؟ (2) فهل ترى ابن أبي سفيان خارجا عنهم؟ فليس هو من رسول الله صلى الله عليه وآله ولا ممن معه، ولا رحيما بهم، أو أن من ناواه وعاداه وسبه وآذاه وقتله وهتكه خارجون عن ربقة الاسلام؟

____________

(1) مروج الذهب 2: 69، المحاسن والمساوي للبيهقي 1: 39، قال المسعودي والبيهقي:

صاحب الرحبة هو علي بن أبي طالب، شرح ابن أبي الحديد 1: 286 نقلا عن ابن الجوزي.

(2) سورة الفتح 29.

الصفحة 278
فهو شديد عليهم وهم خيرة أمة محمد المسلمة، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا. فالحكم للنصفة لا غيرها.

كأن هاهنا نسيت ثارات عثمان وعادت تبعة أولئك المضطهدين محض ولاء علي أمير المؤمنين عليه السلام وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله، وحبهم لمن يحبه الله ورسوله، وطاعتهم لمن فرض الله طاعته، وودهم من جعل الله وده أجر الرسالة. فلم يقصد معاوية وعماله أحدا بسوء إلا هؤلاء، فطفق يرتكب منهم ما لا يرتكب إلا من أهل الردة والمحادة لله ولرسوله. فكان الطريد اللعين ابن الطريد اللعين مروان، وأزني ثقيف مغيرة بن شعبة، وأغيلمة قريش الفسقة في أمن ودعة، وكان يولي لأعماله الزعانفة الفجرة أعداء أهل بيت الوحي: بسر بن أرطاة، ومروان بن الحكم، ومغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وعبد الله الفزاري، وسفيان بن عوف، والنعمان بن بشير، والضحاك بن قيس، وسمرة بن جندب، ونظرائهم، يستعملهم على عباد الله وهو يعرفهم حق المعرفة ولا يبالي بقول رسول الله صلى الله عليه وآله: من تولى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين (1). فكانوا يقترفون السيئات، ويجترحون المآثم بأمر منه ورغبة، ولم تكن عنده حريجة من الدين تزعه عن تلكم الجرائم، فأمر بالإغارة على مكة المكرمة وقد جعلها الله بلدا آمنا يأمن من حل بها وإن كان كافرا، ولأهلها وطيرها ووحشها ونباتها حرمات عند الله، وهي التي حقنت دم أبي سفيان ومن على شاكلته من حامل ألوية الكفر والالحاد، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يرعاها كل الرعاية يوم الفتح وغيره، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلا بكل جميل، وكان صلى الله عليه وآله يقول:

إن هذا بلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها (2).

____________

(1) مجمع الزوائد 5: 211.

(2) صحيح البخاري: باب لا يحل القتال بمكة 3: 168، صحيح مسلم 4: 109.

الصفحة 279
وقال صلى الله عليه وآله وسلم إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله فقولوا له: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب (1).

وأمر ابن هند بالاستحواذ على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وإخافة أهلها والوقيعة فيهم واستقراء من يوجد فيها من شيعة علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وللمدينة المنورة في الاسلام حرمتها الثابتة، ولنبيه صلى الله عليه وآله فيها قوله الصادق: المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا (2) أو آوى حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل (3).

وقوله صلى الله عليه وآله: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء (4).

وقوله صلى الله عليه وآله: لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء (5).

وقوله صلى الله عليه وآله: أللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف (6).

وقوله صلى الله عليه وآله: من أراد أهل هذه البلدة بسوء (يعني المدينة) أذابه الله كما

____________

(1) صحيح البخاري: باب لا يعضد شجر الحرم 3: 167.

(2) قال القاضي عياض: معنى قوله: من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا. الخ. من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه.

(3) صحيح البخاري 3: 179، صحيح مسلم 4: 114، 115، 116، مسند أحمد 1: 81، 126، 151، ج 2: 450، سنن البيهقي 5: 196، سنن أبي داود 1: 318.

(4) صحيح البخاري 3: 181.

(5) صحيح مسلم 4: 113 (6) صحيح مسلم 4: 117، سنن أبي داود 1: 318، واللفظ لمسلم.

الصفحة 280
يذوب الملح في الماء. وفي لفظ سعد: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله. الخ (1).

وقوله صلى الله عليه وآله: المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (2).

وقوله صلى الله عليه وآله: أيما جبار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء. وفي لفظ: من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء (3).

وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه الطبراني برجال الصحيح: أللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. (4) وقوله صلى الله عليه وآله: من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا (5).

وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه النسائي: من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله (6). وفي لفظ ابن النجار: من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وقوله صلى الله عليه وآله: من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي. أخرجه أحمد في مسنده 3: 354 بالإسناد عن جابر بن عبد الله: إن أميرا من أمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر: لو تنحيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابناه أو أحدهما: يا أبت! وكيف أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخاف. الحديث.

____________

(1) صحيح مسلم 4: 121، 122.

(2) صحيح البخاري 3: 178، سنن البيهقي 5: 197.

(3) وفاء الوفاء للسمهودي 1: 31.

(4) وفاء الوفاء 1: 31 وصححه.

(5) وفاء الوفاء 1: 31، فيض القدير 6: 40.

(6) وفاء الوفاء 1: 31.

الصفحة 281
قلت: الأمير المشار إليه هو بسر بن أرطاة كما في وفاء الوفاء للسمهودي 1: 31 وصحح الحديث.

وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه الطبراني في الكبير: من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل. وفاء الوفاء 1: 32.

نعم: إن بسرا لم يلو إلى شيئ من ذلك وإنما أوتمر بما سول له معاوية من هتك الحرمات بقتل الرجال، وسبي النساء، وذبح الأطفال، وهدم الديار، وشتم الأعراض ، وما رعي لرسول الله صلى الله عليه وآله إلا ولا ذمة في مجاوري حرم أمنه، وساكني حماه المنيع فخفر ذمته كما هتك حرمته، واستخف بجواره، وآذاه بإباحة حرمه حرم الله تعالى، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (1) وإن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة (2) فيالها من جرأة تقحم صاحبها في المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله ودينه القويم.

كما أن يزيد كان يحذو حذو أبيه في جرائمه الوبيلة وشن الغارة على أهل المدينة المشرفة، وبعث مسلم بن عقبة الهاتك الفاتك إلى هتك ذلك الجوار المقدس بوصية من والده الآثم قال السمهودي في وفاء الوفاء 1: 91.

وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء: سمعت أشياخ المدينة يتحدثون: إن معاوية رضي الله عنه لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته. فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم فرجع فحرض الناس على يزيد وعابه و دعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه فبلغ ذلك يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة. الخ.

وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف 5: 43 بلفظ أبسط من لفظ السمهودي.

____________

(1) سورة التوبة: 61.

(2) سورة الأحزاب: 57.

الصفحة 282

معاوية
وحجر بن عدي وأصحابه

إن معاوية استعمل مغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين فلما أمره عليها دعاه وقال له: أما بعد: فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * وما علم الانسان إلا ليعلما

وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ويصلح رعيتي، ولست تارك إيصاءك بخصلة: لا تقهم عن شتم علي وذمه. والترحم على عثمان والاستغفار له، و العيب على أصحاب علي والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم، والاستماع منهم. فقال المغيرة: قد جربت وجربت و عملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي رفع ولا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم. ثم قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملا على الكوفة سبع سنين وأشهرا وهو من أحسن شئ سيرة وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: بل إياكم فذم الله ولعن ثم قام وقال: إن الله عز وجل يقول: كونوا قوامين بالقسط شهداء الله، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم. فيقول له المغيرة: يا حجر! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك، يا حجر! ويحك اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضب السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا، ثم يكف عنه ويصفح، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته. اللهم ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا، وحقن دمائنا، وقتل مظلوما (1)، اللهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبيه والطالبين

____________

(1) هذه كلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان كما فصلنا القول فيها في الجزء الثامن والتاسع.

الصفحة 283
بدمه. ونال من علي بن أبي طالب عليه السلام ولعنه ولعن شيعته، فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه وقال: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الانسان!

مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك قد حبستها عنا ولم يكن ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئا. وأكثروا في مثل هذا القول، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا: علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة و يجتري عليك في سلطانك هذه الجرأة؟ فيوهن سلطانك، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية، وكان أشدهم له قولا في أمر حجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا أحب أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك و أشقى، ويعز في الدنيا معاوية، ويذل يوم القيامة المغيرة.

ثم هلك المغيرة سنة 51 فجمعت الكوفة والبصرة لزياد (ابن سمية) فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة ووجه إلى حجر فجاءه، وكان له قبل ذلك صديقا فقال له:

قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده، فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومؤدة، وإني أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي، وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك، ولك عندي في كل يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشية، إنك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك، وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك، وتشط عندي دمك، إني لا أحب التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجة، اللهم اشهد. فقال حجر: لن يرى الأمير مني إلا ما يحب وقد نصح وأنا قابل نصيحته. ثم خرج من عنده.


الصفحة 284
ولما ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي (1) فقام في الناس وخطبهم ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وكان زياد يقيم ستة أشهر في الكوفة وستة أشهر في البصرة فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه، وإنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتى القصر فدخله ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر قد فرق شعره وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فصعد المنبر وخطب وحذر الناس وقال: أما بعد: فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وامنوني فاجترؤا على الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشئ إن لم أمنع باحة الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان.

ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة فسبوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى؟ أبدانكم عندي وأهواءكم مع هذا الهجاجة المذبوب (2). وفي الكامل: أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق. و الله ليظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته:

انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: إنه ليس معك رجل معه سيف غيري فما يغني سيفي؟ قم فألحق بأهلك يمنعك قومك. فقام وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجل من

____________

(1) تاريخ ابن عساكره: 421.

(2) في لفظ الطبري: الهجهاجة الأحمق المذبوب.

الصفحة 285
الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيد الله بن موعد الأزدي، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه، وأخذ عمودا من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة.

مضى حجر وأبو العمرطة إلى دار حجر واجتمع إليهما ناس كثير ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان إلى جبانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حجر فيأتوه به، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبانة كندة فأخذوا كل من وجدوا، فأثنى عليهم زياد فلما رأى حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم؟

لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وما أحب أن تهلكوا، فخرجوا فأدركهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حجر طريقا إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال: له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبكى بناته فقال حجر: بئسما أدخلت على بناتك إذا قال: والله لا تؤخذ من داري أسيرا ولا قتيلا وأنا حي، فخرج حجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحرث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له: إن الشرط تسأل عنك في النخع.

وسبب ذلك أن أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حجر بن عدي. فقالت:

هو في النخع. فخرج حجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعن كل نخلة لك وأهدم دورك، ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربا إربا. فاستمهله فأمهله ثلاثا واحضر قيس بن يزيد أسيرا فقال له زياد: لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفين وإنك إنما قاتلت مع حجر حمية وقد غفرتها لك ولكني ائتني بأخيك عمير. فاستأمن له منه على ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريح فأثقله حديدا وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلك مرارا فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلى قد أمنته على دمه ولست أهريق له دما، ثم ضمنه وخلى سبيله.


الصفحة 286
مكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له ليأخذ له من زياد أمانا حتى يبعث به إلى معاوية فجمع محمد جماعة منهم جرير بن عبد الله، وحجر بن يزيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية فأجابهم فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد فلما رآه قال:

مرحبا بك أبا عبد الرحمن! حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس. على أهلها تجنى براقش. فقال حجر: ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وإني لعلى بيعتي. فقال:

هيهات هيهات يا حجر! أتشج بيد وتأسو بأخرى؟ وتريد إذا أمكننا الله منك أن نرضى؟

كلا والله لأحرصن على قطع خيط رقبتك. فقال: ألم تؤمني حتى أتى معاوية فيرى في رأيه؟ قال: بلى، إنطلقوا به إلى السجن، فلما مضى به قال: أما والله لولا أمانه ما برح حتى يلقط عصبه. فأخرج وعليه برنس في غداة باردة فحبس عشر ليال، وزياد ماله غير الطلب لرؤس أصحاب حجر.

عمرو بن الحمق

خرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل فأتيا جبلا فكمنا فيه وبلغ عامل ذلك الرستاق يقال له: عبيد الله بن أبي بلتعة خبرهما فسار إليهما في الخيل فخرجا إليه، فأما عمرو فكان بطنه قد استسقى فلم يكن عنده امتناع. وأما رفاعة فكان شابا قويا فوثب على فرس له جواد وقال لعمرو:

أقاتل عنك؟ قال: وما ينفعني أن تقتل؟! أنج بنفسك. فحمل عليهم فأفرجوا له حتى أخرجه فرسه وخرجت الخيل في طلبه وكان راميا فلم يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه، وأخذ عمرو بن الحمق فسألوه من أنت؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضر عليكم. فسألوه فأبى أن يخبرهم فبعث به ابن أبي بلتعة إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي فلما رأى عمرا عرفه وكتب إلى معاوية بخبره فكتب إليه معاوية: إنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص كانت معه وإنا لا نريد أن نعتدي عليه فأطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان.

فأخرج فطعن تسع طعنات فمات في الأولى منهن أو في الثانية وبعث برأسه إلى معاوية فكان رأسه أول رأس حمل في الاسلام.


الصفحة 287
قال الأميني: هذا الصحابي العظيم (عمرو بن الحمق) الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة (1) محكوم عليه عند القوم وغيرهم بالعدالة وكون أقواله وأفعاله حجة لولا أن عدالة الصحابة تمطط إلى أناس معلومين بالخلاعة والمجون كمغيرة بن شعبة، والحكم بن أبي العاص، والوليد بن عقبة، وعبد الله بن أبي سرح، وزياد بن أبيه، وأغيلمة قريش من الشباب الزائف ممن جرت المخازي إليهم الويلات، وتتقلص عن آخرين أنهكتهم العبادة، وحنكتهم الشريعة، وأبلتهم الطاعة كعمرو بن الحمق، وحجر بن عدي، وعدي بن حاتم، وزيد وصعصعة ابني صوحان، ولداتهم.

أنا لا أدري ما كان المبرر للنيل من عمرو وقتله؟ وأي جريمة أوجبت أن يطعن بالطعنات التسع اللاتي أجهزت عليه أولاهن أو ثانيتها؟ أما واقعة عثمان فكانت الصحابة مجمعين عليها بين سبب ومباشر كما قدمناه لك في الجزء التاسع ص 69 - 169 فلم لم يؤاخذوا عليها واختصت المقاصة أناسا انقطعوا إلى ولاء مولانا أمير المؤمنين ولاء الله وولاء رسوله صلى الله عليه وآله؟ ولم يجهز معاوية الجيوش ولا بعث البعوث على طلحة والزبير وهما أشد الناس في أمر عثمان وأوغلهم في دمه؟! ومن ذا الذي أودي بعثمان غير معاوية نفسه في تثبطه عن نصره وتربصه به حتى بلغ السيف منه المحز (2)؟ ولماذا كان يندد ويهدد ويؤاخذ أهل المدينة وغيرهم بأنهم تخاذلوا عن نصرته ولا يفعل شيئا عن ذلك بنفسه المتهاونة عن أمر الرجل؟ نعم: كانت تلكم الأفاعيل على من يوالي عليا صلوات الله عليه، فهي منكمشة عمن يعاديه ويقدمهم ابن آكلة الأكباد.

هل لمعاوية أن يثبت إن هلاك عثمان كان بطعنات عمرو؟ وهؤلاء المؤرخون ينصون على أن المجهز عليه هو كنانة بن بشر التجيبي، وقد جاء في شعر الوليد بن عقبة:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

وقال هو أو غيره:

علاه بالعمود أخو تجيب * فأوهى الرأس منه والجبينا (3)

____________

(1) كذا وصفه الإمام السبط الحسين عليه السلام فيما مر من كتاب له إلى معاوية.

(2) راجع الجزء التاسع ص 150 - 153.

(3) الأنساب للبلاذري 5: 98، تاريخ الطبري 5: 132.

الصفحة 288
وأخرج الحاكم في المستدرك 3: 106 بإسناده عن كنانة العدوي قال: كنت فيمن حاصر عثمان قال: قلت: محمد بن أبي بكر قتله؟ قال: لا، قتله جبلة بن الايهم رجل من أهل مصر. قال: وقيل: قتله كبيرة السكوني فقتل في الوقت. وقيل: قتله كنانة بن بشر التجيبي، ولعلهم اشتركوا في قتله لعنهم الله، وقال الوليد بن عقبة:

ألا إن خير الناس بعد نبيهم * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

وفي الاستيعاب 2: 477، 478: كان أول من دخل الدار عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دعها يا بن أخي والله لقد كان أبوك يكرمها. فاستحى وخرج، ثم دخل رومان به سرحان رجل أزرق قصير محدود عداده في مراد وهو من ذي أصبح معه خنجر فاستقبله به وقال: على أي دين أنت يا نعثل؟! فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان ابن عفان وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين قال: كذبت وضربه على صدغه الأيسر فقتله فخر.

وقال: اختلف فيمن باشر قتله بنفسه فقيل: محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص. وقيل بل حبسه محمد بن أبي بكر وأسعده غيره، وكان الذي قتله سودان بن حمران وقيل: بل ولي قتله رومان اليمامي. وقيل: بل رومان رجل من بني أسد بن خزيمة. وقيل: بل إن محمد بن أبي بكر أخذ بلحيته فهزها وقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن أبي سرح، وما أغنى عنك ابن عامر فقال له: يا ابن أخي! أرسل لحيتي فوالله إنك لتجبذ لحية كانت تعز على أبيك وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني. فيقال: إنه حينئذ تركه وخرج عنه. ويقال: إنه حينئذ أشار إلى من كان معه فطعنه أحدهم وقتلوه. والله أعلم.

وأخرج أيضا ما رويناه عن المستدرك بلفظ: فقال محمد بن طلحة فقلت لكنانة:

هل ندى محمد بن أبي بكر بشئ من دمه؟ قال: معاذ الله دخل عليه فقال له عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي وكلمه بكلام فخرج ولم يند بشئ من دمه. قال: فقلت لكنانة: من قتله؟ قال: قتله رجل من أهل مصر يقال له: جبلة بن الايهم ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول:

أنا قاتل نعثل.


الصفحة 289
وذكر المحب الطبري في رياضه 2: 130 ما أخرجه أبو عمر في (الاستيعاب) من استحياء محمد بن أبي بكر وخروجه من الدار ودخول رومان بن سرحان وقتله عثمان.

فقال: وقيل: قتله جبلة بن الايهم. وقيل: الأسود التجيبي وقيل: يسار بن غلياض.

وأخرج ابن عساكر في حديث ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 175: وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب حمارا ويكنى بأبي رومان. وقال قتادة: اسمه رومان. وقال غيره: كان أزرق أشقر. وقيل: كان إسمه سودان بن رومان المرادي. وعن ابن عمر قال:

كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا. إلخ.

وقال ابن كثير في تاريخه 7: 198: أما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا لا يصح (1) عن أحد من الصحابة إنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله لكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم.

ثم أي مبرر لابن هند في أمره بإتمام الطعنات التسع بعد الطعنة المودية به؟ وهل في الشريعة تعبد بأن يفعل بالمقتص منه مثل ما فعله بمن يقتص له؟ أو يكتفى بما هو المقصود من القصاص من إعدام القاتل؟ ولعل عند فقيه بني أمية مسوغا لا نعرفه أضف إلى ذلك حمل رأسه من بلد إلى بلد، وهو أول رأس مطاف به في الاسلام (2).

قال النسابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب [المحبر] ص 490: ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي وكان شيعيا ودير به في السوق. وكان عبد الرحمن بن أم الحكم أخذه بالجزيرة. وقال ابن كثير: فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد - وكانت في سجنه - فألقي في حجرها. فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيبتموه عني طويلا ثم أهديتموه إلي قتيلا، فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقلية.

____________

(1) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع فتعرف الصحيح من السقيم وتقف على جلية الحال في القضية.

(2) معارف ابن قتيبة 127، الاستيعاب 2: 404، الإصابة 2: 533 وقال: ذكره ابن حبان بسند جيد، تاريخ ابن كثير 8: 48

الصفحة 290
نعم: هذه الأفاعيل إلى أمثالها من نماذج فقه أمه آكلة الأكباد الذي سوغ لها ما فعلت بعم النبي الأعظم سيد الشهداء حمزة سلام الله عليه، واقتص أثر أبيه يزيد بن معاوية فيما ارتكبه من سيد شباب أهل الجنة الحسين السبط صلوات الله عليه، فقتله و آله وصحبه الأكرمين أشنع قتلة وطيف برؤوسهم الكريمة في الأمصار على سمر القنا فأعقبهما خزاية لا يغسلها مر الدهور، وشية قورن ذكرها بالخلود.

على إنه لو كان هناك قصاص فهو لأولياء الدم وهم ولد عثمان، وإن لم يكن هناك ولي أو إنه عجز عن تنفيذ الحكم فيقوم به خليفة الوقت فإنه ولي الدم وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو يومئذ وقبله مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام فهو موكول إليه، وكان عمرو ابن الحمق في كنفه يراه ويبصر موقفه وخضوعه له، فلو كان عليه قصاص أجراه عليه و هو الذي لم تأخذه في الله لومة لائم، وساوى عدله القريب والبعيد، وكانت يده مبسوطة عند ذاك، وعمرو أخضع له من الظل لديه، ومعاوية عندئذ أحد أفراد الأمة - إن صدق إنه أحد أفرادها - لا يحويه عير ولا نفير، ولا يناط به حكم من أحكام الشريعة، غير أنه قحمه في الورطات حب الوقيعة في محبي علي أمير المؤمنين عليه السلام والله من ورائه حسيب.

صيفي بن فسيل

وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون منه ويأخذ من قدر عليه منهم فجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له: إن امرءا منا يقال له: صيفي بن فسيل من رؤس أصحاب حجر وهو أشد الناس عليه فبعث إليه فأتي به فقال له زياد: يا عدو الله! ما تقول في أبي تراب؟ فقال: ما أعرف أبا تراب. قال: ما أعرفك به؟ أما تعرف علي بن أبي طالب ؟ قال: بلى. قال: فذلك أبو تراب. قال: كلا ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: أيقول لك الامير: هو أبو تراب، وتقول أنت: لا؟ قال: أفإن كذب الأمير أردت أن أكذب، وأشهد له بالباطل كما شهد؟ قال له زياد: وهذا أيضا مع ذنبك، علي بالعصا فأتي بها فقال: ما قولك في علي؟ قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين. قال: إضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض. فضرب حتى لصق بالأرض ثم قال: أقلعوا عنه، إيه ما قولك في علي؟! قال: والله لو شرحتني

الصفحة 291
بالمواسي والمدي ما قلت إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال: إذا والله تضربها قبل ذلك، فأسعد وتشقى. قال: ادفعوا في رقبته. ثم قال: أوقروه حديدا واطرحوه في السجن، ثم قتل مع من قتل من حجر وأصحابه.

قال الأميني: ما أكبرها من جناية على رجل يقول: ربي الله ويدين بالرسالة ويوالي إمام الحق، وليس عليه ما يجلب التنكيل به كما فعله ابن سمية بإيعاز من ابن آكلة الأكباد إلا الخضوع لولاية أمر الكتاب بها والرضوخ لها، وقد أكدته السنة في نصوصها المتواترة.

وهل الامتناع عن لعن من أمر الله باتباعه وطهره وقدسه يسوغ الضرب والحبس والقتل؟ أنا لا أدري. وإن ابن الزانية ومن ركزه على ولاية الأمصار لعليمان بما ارتئاه، لكن احتدام بغضهما لصاحب الولاية الكبرى حداهما إلى أن يلغا دم من أسلم وجهه لله وهو محسن. وإلى الله المنتهى.

قبيصة بن ضبيعة

بعث زياد إلى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب شرطته شداد بن الهيثم فدعا قبيصة في قومه وأخذ سيفه فأتاه ربعي بن حراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير فأراد أن يقاتل فقال صاحب الشرطة: أنت آمن على دمك و مالك، فلم تقتل نفسك؟ فقال له أصحابه: قد أومنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك؟

قال: ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة والله لئن وقعت في يده لا أفلت منه أبدا أو يقتلني. قالوا: كلا فوضع يده في أيديهم فأقبلوا به إلى زياد فلما دخلوا عليه قال زياد: وحي عسى تعزون على الدين، أما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الأمراء. قال: إني لم آتك إلا على الأمان. قال: فانطلقوا به إلى السجن وقتل مع من قتل من أصحاب حجر.

عبد الله بن خليفة

بعث زياد بكير بن حمران الأحمري إلى عبد الله بن خليفة الطائي وكان شهد مع حجر فبعثه في أناس من أصحابه فأقبلوا في طلبه فوجدوه في مسجد عدي بن حاتم