الحضرميان وقتلهما على التشيع
قال النسابة أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي المتوفى 245 في كتابه [المحبر] ص 479: صلب زياد بن أبيه مسلم بن زيمر و عبد الله بن نجي الحضرميين، على أبوابهما أياما بالكوفة وكانا شيعيين وذلك بأمر معاوية. وقد عدهما الحسين بن علي رضي الله عنهما على معاوية في كتابه إليه: (ألست صاحب حجر والحضرميين اللذين كتب إليك ابن سمية أنهما على دين علي ورأيه، فكتبت إليه من كان على دين علي ورأيه فاقتله وامثل به، فقتلهما ومثل بأمرك بهما؟ ودين علي وابن عم علي الذي كان يضرب عليه أباك - يضربه عليه أبوك - أجلسك مجلسك الذي أنت فيه. ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين (2) اللتين بنا من الله عليك بوضعها عنكم.
قال الأميني: هلموا معي يا أهل دين الله! هل اعتناق دين علي عليه السلام مما يستباح به دم مسلم، وتستحل المثلة والتنكيل المحظورة في الشريعة المطهرة، الممنوع عنها ولو بالكلب العقور؟ أليس دين علي هو دين محمد صلى الله عليه وآله الذي صدع به عن الله تعالى؟ نعم هو كذلك لكن معاوية حايد عن الدين القويم ولا يقيم له وزنا ما، ولا يكترث لمغبة هتكه، ولا يتريث عن الوقيعة فيه.
مالك الأشتر
ومن الصلحاء الذين قتلهم معاوية بغير ذنب أتاه مالك بن الحارث الأشتر النخعي لله در مالك وما مالك؟ لو كان من جبل لكان فندا، ولو كان من حجر لكان صلدا، على مثل مالك فليبك البواكي، وهل موجود كمالك؟ أشد عباد الله بأسا، وأكرمهم حسبا، كان أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، حسام صارم، لا نابي الضريبة، ولا كليل الحد، حكيم في السلم، رزين في الحرب ذو رأي أصيل، وصبر جميل.
____________
(1) شرح ابن أبي الحديد 1: 350.
(2) كان للقريش في الجاهلية رحلتان كل عام: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام. وكان أبو سفيان يرءس العير التى تردد بين مكة والشام.
كتب علي عليه السلام إلى مالك وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد: فإنك ممن استظهرته على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأشد الثغر المخوف، وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها خوارج وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للأشياء، فأقدم علي لننظر في ذلك فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك. والسلام.
فأقبل مالك إلى علي حتى دخل عليه فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها وقال: ليس لها غيرك، اخرج رحمك الله، فإني لم أوصك، اكتفيت برأيك، واستعن بالله على ما أهمك، فاخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة. فخرج الأشتر من عند علي فأتى رحله فتهيأ للخروج إلى مصر وأتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية علي الأشتر، فعظم ذلك عليه وقد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت فاحتل له بما قدرت عليه. فخرج الرجل حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فقال: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج.
فتزل عنده فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سما فسقاه إياها، فلما شربها مات، وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إن عليا وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه. فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر فقام معاوية خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد: فإنه كانت لعلي يمينان قطعت إحداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر، وقطعت
____________
(1) راجع في بيان هذه الجمل كلها إلى ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 37 - 41 ط 1.
وفي لفظ ابن قتيبة في العيون 1: 201: فقال معاوية لما بلغه الخبر: يا بردها على الكبد! إن لله جنودا منها العسل. وقال علي: لليدين وللفم.
وفي لفظ المسعودي في المروج 2: 39: ولى علي الأشتر مصر وأنفذه إليها في جيش فلما بلغ ذلك معاوية دس إلى دهقان وكان بالعريش (2) فأرغبه وقال: أترك خراجك عشرين سنة فاحتل للأشتر بالسم في طعامه. فلما نزل الأشتر العريش سأل الدهقان:
أي الطعام والشراب أحب إليه؟ قيل: العسل. فأهدى له عسلا وقال: إن من أمره وشأنه كذا وكذا، ووصفه للأشتر وكان الأشتر صائما فتناول منه شربة فما استقرت في جوفه حتى تلف، وأتى من كان معه على الدهقان ومن كان معه. وقيل: كان ذلك بالقلزم والأول أثبت. فبلغ ذلك عليا فقال: لليدين وللفم. وبلغ ذلك معاوية فقال: إن لله جندا من العسل.
قال الأميني: هاهنا تجد معاوية كيف لا يتحوب من ذلك الحوب الكبير قتل العبد الصالح الممدوح بلسان رسول الله وخليفته مولانا أمير المؤمنين عليه السلام (3). وإنه وأهل الشام فرحوا فرحا شديدا، بموت ذلك البطل المجاهد (4) لمحض أنه كان يناصر إمام وقته المنصوص عليه والمجمع على خلافته، ولا غرو فإنه كان يسر ابن هند كل ما ساء ملة الحق وأئمة الهدى وأولياء الصلاح، وما كان يسعه أن يأتي بطامة أكبر من هذه لو لم يكن في الاسلام للنفوس القادسة أي حرمة، وللأئمة عليهم السلام ومناصريهم أي مكانة، حتى لو كان معاوية مستمرا على ما دؤب عليه إلى أخريات عهد النبوة من الكفر المخزي فلم يحده الفرق من بارقة الاسلام إلى الاستسلام، فما جاء زبانيته الكفرة يومئذ بأفظع من هذه وأمثالها يوم قتلوا خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله لمناصرتهم إياه، وحبهم ذوي قرباه، ودفاعهم عن ناموس أهل بيته الأكرمين.
____________
(1) تاريخ الطبري 6: 54، كامل ابن الأثير: 3: 152.
(2) هي مدينة كانت أول عمل مصر من ناحية الشام على ساحل بحر الروم.
(3) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 37 - 41.
(4) تاريخ ابن كثير: 7: 312.
محمد بن أبي بكر
ومن صخايا ملك معاوية العضوض، وذبايح حكومته الغاشمة، وليد حرم أمن الله، وربيب بيت العصمة والقداسة: محمد بن أبي بكر.
بعث معاوية عمرو بن العاص إلى مصر في ستة آلاف رجل، ومحمد بن أبي بكر عامل أمير المؤمنين عليها، فخرج عمرو وسار حتى نزل أداني أرض مصر فاجتمعت العثمانية إليه فأقام بهم وكتب إلى محمد بن أبي بكر:
أما بعد: فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فاخرج منها فإني لك من الناصحين، والسلام.
وبعث إليه عمرو بكتاب كتبه معاوية إليه أيضا وفيه:
أما بعد: فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وإنا لا نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا، ولا أسوأ له عيبا، ولا أشد عليه خلافا منك، سعيت عليه في الساعين ، وسفكت دمه في السافكين، ثم أنت تظن أني عنك نائم أو ناس لك، حتى تأتي فتأمر على بلاد أنت فيها جاري، وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي، ويرقبون قولي، ويستصرخوني عليك، وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك تستسقون دمك، ويتقربون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا الله عهدا ليمثلن بك، ولو لم يكن منهم إليك ما عدا قتلك ما حذرتك ولا أنذرتك، ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك الله من القصاص أبدا أينما كنت والسلام.
فطوى محمد كتابيهما وبعث بهما إلى علي، وكتب إلى معاوية جواب كتابه:
أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمرا لا اعتذر إليك منه، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفني المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم فأجتاحكم في الوقيعة، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في
وكتب إلى عمرو بن العاص:
أما بعد: فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يا ابن العاص! زعمت أنك تكره أن يصيبني منك طفر وأشهد أنك من المبطلين، وتزعم أنك لي نصيح وأقسم أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري وندموا على اتباعي فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين، وتوكلنا على الله رب العرش العظيم والسلام.
فأقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال:
أما بعد: معاشر المسلمين والمؤمنين! فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضلالة، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود، عباد الله! فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله، انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله مع كنانة بن بشر.
فانتدب مع كنانة نحو من ألفي رجل وخرج محمد في ألفي رجل، واستقبل عمرو ابن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا من كنانة شرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يقر بها بعمرو بن العاص، ففعل ذلك مرارا فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن حديج السكوني فأتاه في مثل الدهم (1) فأحاط بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه ونزل أصحابه وكنانة يقول: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين، فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمه الله.
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه لما بلغهم قتل
____________
(1) الدهم: العدد الكثير. وجيش دهم. أي: كثير.
أسقوني من الماء؟ قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرة أبدا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر فيسقيك الله الحميم والغساق. قال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك وإلى من ذكرت إنما ذلك إلى الله عز وجل يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وضرباؤك ومن تولاه، أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا، قال له معاوية: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلك فطال ما فعل ذلك بأولياء الله، وإني لأرجو هذه النار التي تحرقني بها أن يجعلها الله علي بردا وسلاما كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، إن الله يحرقك ومن ذكرته قبل وإمامك يعني معاوية وهذا - وأشار إلى عمرو بن العاص - بنار تلظى عليكم كلما خبت زادها الله سعيرا.
قال له معاوية: إني إنما أقتلك بعثمان. قال له محمد: وما أنت وعثمان؟ إن عثمان عمل بالجور ونبذ حكم القرآن وقد قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. فنقمنا ذلك عليه فقتلناه وحسنت أنت له ذلك ونظراؤك، فقد برأنا الله إن شاء الله من ذنبه وأنت شريكه في إثمه وعظم ذنبه وجاعلك على مثاله. قال: فغضب
وفي النجوم الزاهرة 1: 110: وقيل: إنه قطع رأسه وأرسله إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به وهو أول رأس طيف به في الاسلام.
صورة أخرى
وجه معاوية عمرو بن العاص في سنة ثمان وثلاثين إلى مصر في أربعة آلاف، ومعه معاوية بن حديج، وأبو الأعور السلمي، واستعمل عمرا عليها حياته فالتقوا هم ومحمد بن أبي بكر وكان عامل علي عليها بالموضع المعروف بالمسناة فاقتتلوا حتى قتل كنانة بن بشر، وهرب عند ذلك محمد لإسلام أصحابه إياه وتركهم له، فاختبأ عند رجل يقال له: جبلة بن مسروق، فدل عليه، فجاء معاوية بن حديج وأصحابه فأحاطوا به، فخرج إليهم محمد بن أبي بكر فقاتل حتى قتل، فأخذه معاوية بن حديج وعمرو بن العاص فجعلوه في جلد حمار وأضرموه بالنار، وذلك بموضع في مصر يقال له: كوم شريك.
وقيل: إنه فعل به ذلك وبه شيئ من الحياة، وبلغ معاوية قتل محمد وأصحابه فأظهر الفرح والسرور. وبلغ عليا قتل محمد وسرور معاوية فقال: جزعنا عليه على قدر سرورهم، فما جزعت على هالك منذ دخلت هذه الحرب جزعي عليه، كان لي ربيبا وكنت أعده ولدا، كان بي برا، وكان ابن أخي (2) فعلى مثل هذا نحزن وعند الله نحتسبه (3).
قدم عبد الرحمن الفزاري على علي عليه السلام من الشام وكان عينه بها وحدثه: إنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشراء من قبل عمرو بن العاص تترى يتبع بعضها بعضا بفتح مصر وقتل محمد وحتى أذن بقتله على المنبر، وقال: يا أمير المؤمنين! قلما رأيت
____________
(1) تاريخ الطبري 6: 58 - 61، الكامل لابن الأثير 3: 154، تاريخ ابن كثير 7: 313، 314، النجوم الزاهرة 1: 110.
(2) كان محمد بن أبي بكر أخا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأمه.
(3) مروج الذهب 2: 39، تاريخ ابن كثير 7: 314.
وروى شعبة وابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أتي عمرو بن العاص بمحمد بن أبي بكر أسيرا فقال: هل معك عهد؟! هل معك عقد من أحد؟! قال: لا فأمر به فقتل، وكان علي بن أبي طالب يثني على محمد بن أبي بكر ويفضله لأنه كانت له عبادة واجتهاد (2).
وقال ابن حجر: قيل: إنه اختفى في بيت امرأة من غافق آواه فيه أخوها، وكان الذي يطلبه معاوية بن حديج، فلقيتهم أخت الرجل الذي كان آواه وكانت ناقصة العقل فظنت إنهم يطلبون أخاها فقالت: أدلكم على محمد بن أبي بكر على أن لا تقتلوا أخي؟ قالوا: نعم. فدلتهم عليه، فقال: احفظوني لأبي بكر. فقال معاوية: قتلت ثمانين من قومي في دم عثمان وأتركك وأنت صاحبه؟! تهذيب التهذيب 9: 80.
قال الأميني: إن أمثال هذه الفظايع والفجايع لبمقربة من مغازي ابن العاصي وأذنابه، ومن مرضات ابن آكلة الأكباد الذين لم يبالوا بإراقة الدماء الزاكية منذ بلغوا أشدهم، ولا سيما من لدن مباشرتهم الحرب في صفين إلى أن اصطلوا نار الحطمة فلم يفتأوا والغين في دماء الأخيار الأبرار دون شهواتهم المخزية.
وهب أن محمدا نال من عثمان ما حسبوه، فعجيب أن ينهض بثاره مثل معاوية
____________
(1) تاريخ الطبري 6: 62، كامل ابن الأثير 3: 155.
(2) الاستيعاب 2: 235، تهذيب التهذيب 9: 81.
وكان يألب عليه حتى الراعي في غنمه في رأس الجبل (1) وهلا ساق معاوية ذلك الحشد اللهام إلى عائشة الرافعة عقيرتها بين جماهير الصحابة: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر. وأمثالها من الكلم القارصة (2) وإلى طلحة والزبير وكانا أشد الناس عليه، وطلحة هو الذي منع عنه الماء في حصاره، ومنع الناس عن تجهيزه، ومنعه أن يدفن إلا في حش كوكب جبانة اليهود. إلى فظايع مر تفصيلها في الجزء التاسع 92 - 111، وقال الشهرستاني في الملل والنحل ص 25: كان أمراء جنوده: معاوية عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وعبد الله بن عامر عامل البصرة، وعبد الله بن أبي سرح عامل مصر، وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه.
نعم: هؤلاء قتلوه لكن معاوية لا يريد المقاصة إلا من أولياء علي عليه السلام فيستأصل شأفتهم تحت كل حجر ومدر، ويستسهل فيهم كل شقوة وقسوة، وليس له مع أضداد علي عليه السلام أي مقصد صحيح، وإلا فأي حرمة لدم أجمعت الصحابة على سفكه؟
واحتجت عليه بآي الذكر الحكيم كما مر تفصيله في الجزء التاسع ص 164 - 168، 205 لو لم يكن اتباع القوم بالصحابة والاحتجاج بما قالوا وعملوا واعتبارهم فيهم العدالة جميعا تسري مع الميول والشهوات، فيحتجون بدعوى إجماعهم على خلافة أبي بكر (ولم يكن هنالك إجماع) ولا يحتجون به في قتل عثمان (وقد ثبت فيه الإجماع).
وهب أن محمد بن أبي بكر هو قاتل عثمان الوحيد من دون أي حجة ولا مبرر له وهو المحكوم عليه بالقصاص، وفي القصاص حياة، فهل جاء في شريعة الاسلام قصاص
____________
(1) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 136 - 140.
(2) راجع ما مر في الجزء التاسع ص 78 - 86.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين.
نظرة في مناقب ابن هند
لعلك إلى هاهنا عرفت معاوية، وأنه أي رجل هو، وأنه كيف كانت نفسياته وملكاته، وأن رجلا كمثله لا يتبوأ مقعده إلا حيث تنيخ شية العار، وفي مستوى السوءة والبوائق، وأن أي فضيلة تلصقه به رواة السوء وتخط عنه الأقلام المستأجرة فهو حديث إفك نمقته الأهواء والشهوات، ولا يقام له في سوق الاعتبار وزن، ولا في مبوأ الحق مقيل، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
أليس معاوية هو صاحب تلكم الموبقات والجرءة على الله وعلى الاسلام ونبيه و كتابه وسنته. سنة الله التي لا تبديل لها؟!
أليس هو الهاتك حرمات الله والمصغر قدر أوليائه، والمريق دمائهم الزكية، و الدؤوب على الظلم والجور بإزهاق النفوس البريئة من غير جرم؟ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (1).
أليس هو من آذى الله ورسوله في الصالحين من رجالات الأمة وعدول الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان، المحرمة دماؤهم وأقدارهم وحرماتهم بزجهم إلى أعماق السجون، وإبعادهم عن عقر دورهم وإخافتهم؟ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (2).
أليس هو من آذى رسول الله في أهل بيته بإثارة الحرب على صنوه ونفسه وخليفته حقا؟ وكان من واجبه أن يخضع له ويتحرى مرضاته، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (3).
____________
(1) سورة النساء: 96.
(2) سورة الأحزاب: 58، 59.
(3) سورة التوبة: 63.
أليس هو السباق الأول في المآثم الجمة المخزية؟ أول من باع الخمر وشربها من الخلفاء؟ والخمر وشاربها وبايعها ومشتريها ملعون ملعون.
أول من أشاع الفاحشة في الملأ الاسلامي؟ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. (سور النور: 20).
أول من أحل الربا وأكله؟ وأحل الله البيع وحرم الربا، والذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وآكل الربا وموكله ملعون بلسان النبي صلى الله عليه وآله أول من أتم الصلاة في السفر تقديسا لأحدوثة ابن عمه؟!.
أول من أحدث الأذان في صلاة العيدين؟!.
أول من رأى الجمع بين الأختين إحياء لما ذهب إليه عثمان؟!
أول من غير السنة في الديات وأدخل فيها ما ليس منها؟!.
أول من ترك التكبير في الصلوات عند كل هوي وانتصاب وهي سنة ثابتة؟!
أول من ترك التلبية وأمر به خلافا لعلي أمير المؤمنين عليه السلام العامل بسنة الله و رسوله؟!
أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد لإسماع الناس سب علي عليه السلام؟ وقد صح عن نبي الاسلام: من سب عليا فقد سبه، ومن سبه فقد سب الله.
أول من عصى ربه بترك حدوده وإقامة سنته؟ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (سورة النساء: 19).
أول من نقض حكم العاهر، وأحيى طقوس الجاهلية، وخالف دين محمد صلى الله عليه وآله والولد للفراش وللعاهر الحجر؟!.
أول من تختم باليسار؟ فأخذ المراونة بذلك إلى أن نقله السفاح إلى اليمين
أول من سن سب علي عليه السلام وقنت به وجعله سنة جارية في خلفه الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وشوه خطب المنابر بذلك الحادث المخزي؟!.
أول من بغى على إمام وقته وحاربه وقاتله وقتل أمة كبيرة من صلحاء الصحابة البدريين وأهل بيعة الشجرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟!.
أول من أعطى المال لوضع الحديث وتحريف كتاب الله وكلمته الطيبة عن مواضعها؟!
أول من اشترط البرائة عن علي عليه السلام على من بايعه في خلافته الغاشمة أو في ملكه العضوض؟!
أول من حمل إليه رأس الصحابي العادل عمرو بن الحمق وأدير به في البلاد؟!
أول من قتل عدول الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان من عيون الأمة و عبادها ونساكها لمحض ولائهم سيد العترة، وقد جعله الله أجر رسالة نبيه الخاتم صلى الله عليه وآله؟!
أول من قتل نساء كل من والى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وذبح صبيانهم، ونهب أموالهم، ومثل قتلاهم وشتت شملهم، وفرق جمعهم، واستأصل شأفتهم، ونفاهم عن عقر دورهم، وأبادهم تحت كل حجر ومدر؟!
أول من عبثت به رعيته، وسن العمل بالشهادات المزورة، وسلط رجال الشر والغي والجور على صلحاء أمة محمد صلى الله عليه وآله؟!
أول من هم بنقل منبر رسول الله صلى الله عليه وآله عن المدينة المشرفة إلى الشام؟! ولما حرك المنبر خسفت الشمس فترك (2).
أول من بدل الخلافة الإسلامية إلى شر ملك وسلطة سوء؟!
أول من ملك وتجبر في الاسلام بلبس الحرير والديباج، وشرب في آنية الذهب والفضة، وركب السروج المحلاة بهما؟!
____________
(1) ربيع الأبرار للزمخشري باب 75.
(2) تاريخ ابن كثير 8: 45.
أول من هتك دين الله باستخلاف جروه الفاجر المستهتر التارك للصلاة؟!
أول من أشن الغارة على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله حرم أمن الله، وأخاف أهليها، وما رعى حرمة ذلك الجوار المقدس؟!
إلى جرائم وبوائق تجد الرجل فيها هو السابق الأول إليها؟! (1)
أصحيح أن مثل هذا الطاغية تصدر فيه كلمة إطراء من مصدر النبوة؟ أو يأتي عن نبي العدل والحق والصدق ما يوهم الثناء عليه؟ لا. لا يمكن ذلك. بل نبي العظمة أكبر من يبغض هذا الانسان وجرائمه، والرجل أشد أعداؤه صلى الله عليه وآله في جاهليته و إسلامه، ولو كان صلى الله عليه وآله ينطق بشئ من ذلك - وحاشاه - لكان أكبر ترويج للباطل و أهله، وأوضح ترخيص في المعصية، وأبين استهانة بالحق.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن علي ومعاوية؟ فقال: إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاؤا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيدا منهم لعلي (2).
وقال الحاكم: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب بن يوسف يقول: سمعت أبي يقول:
سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: لا يصح في فضل معاوية حديث (3).
ولما لم يجد البخاري حديثا يصح من مناقب معاوية فقال عند عد مناقب الصحابة من صحيحه: باب ذكر معاوية رضي الله عنه. فقال ابن حجر في فتح الباري 7: 83: أشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الاسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما. ا هـ.
وأما مسلم وابن ماجة فلما لم يريا حديثا يعبأ به في فضائل معاوية ضربا عن اسمه في الصحيح والسنن صفحا عند عد مناقب الصحابة. والترمذي لم يذكر له إلا حديث:
____________
(1) راجع أوائل السيوطي، وتاريخ الخلفاء له، ومحاضرة الأوائل للسكتواري.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 133، فتح الباري 7: 83، الصواعق ص 76.
(3) اللئالي للسيوطي 1 ص 220، فتح الباري 7: 83.
ودخل الحافظ النسائي صاحب السنن إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشئ من فضائل معاوية فقال: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يروى له فضائل؟
فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع فقال: أخرجوني إلى مكة فأخرجوه وهو عليل فتوفي بمكة مقتولا شهيدا (1).
وقال ابن تيمية في منهاجه 2: 207: طائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب.
وقال الفيروز آبادي في خاتمة كتابه (سفر السعادة) والعجلوني في كشف الخفاء ص 420: باب فضائل معاوية ليس فيه حديث صحيح.
وقال العيني في عمدة القاري: فإن قلت: قد ورد في فضله يعني معاوية أحاديث كثيرة. قلت: نعم، ولكن ليس فيها حديث صحيح يصح من طرق الاسناد، نص عليه إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما، فلذلك قال يعني البخاري: (باب ذكر معاوية) ولم يقل: فضيلة ولا منقبة.
وقال الشوكاني في (الفوائد المجموعة): اتفق الحفاظ على إنه لم يصح في فضل معاوية حديث.
نعم: إن الغلو في حب الرجل خلق له فضائل مفتراة تبعد جدا عن ساحة النبي الأقدس صلى الله عليه وآله أن يبوح بشئ منها، وإنما يد الافتعال نسجت له على نول ما نسجته لبقية الخلفاء مناقب تندى منها جبهة الانسانية، وألف محمد بن عبد الواحد أبو عمر غلام ثعلب جزءا في فضائل هذا الانسان المحشو رداؤه بالرذائل. قال ابن حجر في لسان الميزان 1: 374: إسحاق بن محمد السوسي ذاك الجاهل الذي أتى بالموضوعات السمجة في فضائل معاوية رواها عبيد الله السقطي عنه فهو المتهم بها أو شيخه.
____________
(1) تاريخ ابن كثير 11:، 124، سيوافيك تفصيل قصة النسائي.
1 - عن أنس مرفوعا: لا أفتقد أحدا من أصحابي غير معاوية بن أبي سفيان لا أراه ثمانين عاما، فإذا كان بعد ثمانين عاما يقبل إلي على ناقة من المسك الأذفر حشوها من رحمة الله، قوائمها من الزبرجد فأقول: معاوية؟ فيقول: لبيك يا محمد! فأقول: أين كنت من ثمانين عاما؟ فيقول: كنت في روضة تحت عرش ربي يناجيني وأناجيه. ويحييني وأحييه ويقول: هذا عوض مما كنت تشتم في دار الدنيا.
راجع الجزء الخامس ص 254 ط 1، 298 ط 2.
2 - عن أنس مرفوعا: هبط علي جبريل ومعه قلم من ذهب إبريز فقال: إن العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: حبيبي قد أهديت هذا القلم من فوق عرشي إلى معاوية ابن أبي سفيان فأوصله إليه ومره أن يكتب آية الكرسي بخطه بهذا القلم ويشكله و يعجمه ويعرضه عليك، فإني قد كتبت له من الثواب بعدد كل من قرأ آية الكرسي من ساعة يكتبها إلى يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بأبي عبد الرحمن؟ فقام أبو بكر الصديق ومضى حتى أخذ بيده وجاءا جميعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم السلام ثم قال لمعاوية: ادن مني يا أبا عبد الرحمن! ادن مني يا أبا عبد الرحمن! فدنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إليه القلم ثم قال له: يا معاوية؟ هذا قلم أهداه إليك ربك من فوق العرش لتكتب به آية الكرسي بخطك وتشكله وتعجمه وتعرضه علي فاحمد الله و اشكره على ما أعطاك، فإن الله قد كتب لك من الثواب بعدد من قرأ آية الكرسي من ساعة تكتبها إلى يوم القيامة. فأخذ القلم من يد النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه فوق أذنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أللهم إنك تعلم أني قد أوصلته إليه. ثلاثا. فجثا معاوية بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل يحمد الله على ما أعطاه من الكرامة ويشكره حتى أتى بطرس ومحبرة فأخذ القلم ولم يزل يخط به آية الكرسي أحسن ما يكون من الخط حتى كتبها وشكلها و عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاوية! إن الله قد كتب لك من الثواب بعدد كل من يقرأ آية الكرسي من كتبتها إلى يوم القيامة.