أجلى البرهان
في نقد كتاب ابن روزبهان


بقلم             
السيد علي الحسيني الميلاني


بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.


أما بعد..

فقد كنت سجّلت سابقاً ملحوظات على كتاب ابن روزبهان في الردّ على نهج الحق للعلاّمة الحلّي رحمه اللّه تعالى، فلمّا عزمَتْ مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث على تحقيق كتاب دلائل الصدق لنهج الحقّ طلبت منّي تنظيم تلك الملحوظات وترتيبها، لتكون مقدّمةً له، فأجبتُ

الصفحة 6
الطلب أداءً لبعض ما وجب..

وكان عنوان ما كتبته: أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان، وهو يشتمل على مطالب تمهيدية في أُصول البحث والمناقشة، وفي علم الكلام، وفي خصوص الإمامة، ثمّ دراسات في مباحث الإمامة من كتاب ابن روزبهان، فأقول وباللّه التوفيق:

إنّ صاحب أيّة فكرة أو عقيدة أو رأي يرى من حقّه الطبيعي أن ينشرها بين الناس ويدعو الآخرين إليها..

إلاّ أنّ لتقدّمه ونجاحه في مشروع الدعوة هذه شروطاً، كما أنّ دعوته إلى فكره بحاجة إلى أدوات.. لا سيّما إذا كان في مقابل رأيه رأي آخر وله أتباع يدعون إليه.. فيقع الصراع العقيدي والفكري بين الجانبين، لأنّ كلاًّ منهما يدّعي الحقّ والصواب، ويحاول التغلّب على الآخر والسيطرة عليه فكرياً.

إنّ للتغلّب في ميدان الصراع العقيدي أُصولاً وأدوات تختلف عنها في ميدان الحرب والمواجهة العسكرية.. نوضّحها في ما يأتي:

عِلم الجَدَل:

لقد وضع العقلاء ـ وهم أصحاب الأفكار والآراء ـ حدوداً وقيوداً للصراع في هذا المجال، وأسّسوا للغلبة فيه أُسساً جعلوها المعيار والميزان للرضوخ لفكر أو لرفض فكر آخر... فكانت أساليب "الجدل" التي بُحث عنها ونقّحت مسائلها في كتب المنطق.

ولقد أحسنوا في اختيار هذا المصطلح لهذا العلم أو لهذه الصناعة،

الصفحة 7
لشدّة ارتباط المعنى اللغوي للكلمة بالغرض المنطقي منها..

قال الراغب الأصفهاني: "الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله، ومنه الجديل، وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل: الصقر المحكم البنية، والمجدل: القصر المحكم البناء.

ومنه: الجدال، فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه.

وقيل: الأصل في الجدال الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة"(1).

الجدال في القرآن:

ولقد أقرّت الأديان السماوية أُسلوب "الجدل" واتّخذه الأنبياء السابقون طريقاً من طرق الدعوة.. وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي..

وأما نبيّنا صلّى للّه عليه وآله وسلّم، ففي الوقت الذي أُرسل كما خاطبه اللّه عزّ وجلّ في الآية المباركة ( يَا أيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّـراً وَنَذِيـراً * وَدَاعِياً إلَى اللّهِ بِإذْنِهِ وَسِـرَاجاً مُنِيراً) (2) فقد حـدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له: ( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ)(3)، ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم، فقال بعد

____________

1- المفردات في غريب القرآن: 87 مادّة "جَدَل".

2- سورة الأحزاب 33: 45 و 46.

3- سورة النحل: 16: 125.


الصفحة 8
ذلك: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(1).

وفي الجملة، فإنّ الوظيفة الأوّلية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل اللّه، فإنْ كان هناك مَن تنفعة "الحكمة" فبها، وإنْ كان من عموم الناس فبالنصيحة والموعظة الحسنة، فإنْ وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله...

ولعلّ المقصود ـ هنا ـ أهل الكتاب، كما في الآية الأُخرى: ( وَلا تُجَادِلُوا أهْلَ الكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ) (2).

وعلى ضوء ما تقدّم فإن الجدال قد يكون حقّاً وقد يكون باطلا، قال تعالى: ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ )(3).

وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم اللّه سبحانه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم طريقة الاستدلال، ففي سورة يس مثلا: ( وَضَرَبَ لَـنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أنشَأهَا أوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَـلاّقُ العَلِيمُ * إنَّمَا أمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَـقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ )(4).

وفي سورة البقرة: ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ

____________

1- سورة النحل: 16: 125.

2- سورة العنكبوت 29: 46.

3- سورة الكهف 18: 56.

4- سورة يس 36: 78 ـ 83.


الصفحة 9
نَصَارَى تِلْكَ أمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )(1).

وفي سورة البقرة أيضاً: ( قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا المَوْتَ )(2).

وفي سورة المائدة: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَاُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ )(3).

وفي سورة المائدة أيضاً: ( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ اللّهِ وَأحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ... )(4).

وفي سورة الأنعام: ( قُلْ أنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا... )(5).

وفي سورة الأنبياء: ( أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُـنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا... أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي... )(6).

كما جاء في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات الأنبياء السابقين...

____________

1- سورة البقرة 2: 111.

2- سورة البقرة 2: 94.

3- سورة المائدة 5: 17.

4- سورة المائدة 5: 18.

5- سورة الأنعام 6: 71.

6- سورة الأنبياء 21: 21 ـ 24.


الصفحة 10
ففي قضايا إبراهيم عليه السلام... قال تعالى: (ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أنَا اُحْيِي وَاُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)(1).

وقال تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْء عِلْماً أفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(2).

وقال سبحانه وتعالى: (قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إلَى أنفُسِهِمْ فَقَالُوا إنَّكُمْ أنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * اُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُونَ)(3).

وفي قضايا نوح عليه السلام... قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنتُ عَلَى بَيِّـنَة مِنْ رَبِّي وَآتَـانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أنُلْزِمُكُمُوهَا وَأنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ... قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأكْثَرْتَ جِدَالَنَا... )(4).

وهكذا... في قضايا سائر الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.

____________

1- سورة البقرة 2: 258.

2- سورة الأنعام 6: 80.

3- سورة الأنبياء 21: 62 ـ 67.

4- سورة هود 11: 28 ـ 32.


الصفحة 11

الجدل بالحق: إقامة الحجّة المعتبرة:

ثمّ إنّه قد جاء التعبير عن "الجدال بالباطل" بـ "الجدال بغير سلطان" في قوله تعالى: ( إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ )(1) و"السلطان" هو "الحجّة" سمّيت به لسيطرتها وتسلّطها على القلوب(2).

ومنه يُفهم أنّ المراد من "الجدال بالحقّ"، هو "الجدال بالحجّة".

لكن "الحجّة" إنما يحصل لها "السلطان" على القلوب إذا كانت ( بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(3) فلذا أمر اللّه تعالى بذلك..

وفي هذا إشارة إلى آداب البحث والمناظرة والجدل..

لقد فُسّرت الكلمة بـ: الطريقة التي هي أصلح وأقرب للنتيجة والنفع(4).. وهو تفسير صحيح يتناسب مع المواضع المختلفة التي استعملت فيها الكلمة في القرآن الكريم..

قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ )(5).

____________

1- سورة غافر 40: 56.

2- انظر: المفردات في غريب القرآن: 244 مادّة "سلط".

3- سورة النحل 16: 125.

4- انظر ما يقرب من ذلك في: تفسير الكشّاف 2/435، تفسير البحر المحيط 5/549، تفسير الطبري 10/141.

5- سورة الأنعام 6: 152، سورة الإسراء 17: 34.


الصفحة 12
أي: بالطريقة التي هي أعود وأنفع له(1).

وقال تعالى: ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَـقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ )(2).

أي: بأنْ يتكلّموا مع المشركين بالطريقة التي لا تعود بالفائدة على الشيطان في تحصيل مقاصده من الوقيعة بين المؤمنين وبين المشركين(3)..

فاللّه سبحانه يريد من المؤمنين أن يكون جدالهم مقروناً بما يعينهم في إقامة الحجّة وإفحام الخصوم وظهور الحقّ على الباطل.

وتلّخص: إنّ الجدال المقبول شرعاً وعقلا هو: الجدال بـ: الحجّة المعتبرة، مع رعاية الآداب..

الحجّة المعتبرة: الكتاب والسُنّة:

و"الحجّة المعتبرة" عند المسلمين كافة هو "القرآن الكريم" و"السُنّة النبوية".. وهم في كلّ مسالة يقع الجدال بينهم فيها يرجعون إلى الكتاب والسُنّة، وهذا ما أمر به اللّه تعالى إذا قال:

(... فَإنْ تَـنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ )(4).

وقال: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(5).

____________

1- انظر: تفسير الطبري 5/393، مجمع البيان 4/183.

2- سورة الإسراء 17: 53.

3- انظر: تفسير البحر المحيط 6/49، تفسير الكشّاف 2/453.

4- سورة النساء 4: 59.

5- سورة النساء 4: 65.


الصفحة 13
وقال: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ )(1).

فكل "شيء" وقع التنازع فيه بين الأُمّة، وكل أمر "شجر" بينهم، يجب ردّه إلى "اللّه والرسول"، وما كان لأحد منهم "إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، بل "وربّك" إنّهم "لا يؤمنون" حتّى يحكّموا النبيّ، "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً" مما قضى "ويسلّموا تسليماً".

إنّ الرجوع إلى القرآن الكريم واضح لا لبس فيه، فالقرآن نزل بـ ( لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )(2)، فإن أمكن استظهار معنى اللفظ فيه ولو بمراجعة المعاجم اللغوية والكتب المعدّة لمعاني ألفاظه فهو.. وإلاّ وجب الرجوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المبعوث به إلى الأُمّة.

فالمسلمون يحتاجون إلى السُنّة النبوية المعتبرة، لكونها المصدر الثاني، ولكونها ـ أيضاً ـ المرجع لفهم ما أُغلق من ألفاظ القرآن، ومعرفة قيد ما أُطلق، أو المخصّص لِما ورد ظاهراً في العموم فيه، وهكذا..

فـ "الحجّة المعتبرة" في مقام "الجدل" هي "الكتاب والسُنّة".

أما "الكتاب" فلا ريب في حجّـيّته، والمسلمون متّـفقون على تصديقه، والاحتجاج به في الخصومات.

واتّفقوا أيضاً على حجّيّة "السُنّة" ووجوب تصديقها والاحتجاج بها، في كلّ باب، لكنّهم مختلفون في طريق ثبوتها.. كما هو المعلوم..

____________

1- سورة الأحزاب 33: 36.

2- سورة النحل 16: 103.


الصفحة 14
ومن هنا وجب على "المجادل" أن يحتجّ منها بما هو حجّة على الطرف الآخر..

وبعبارة أخرى، فإنّ احتجاج المسلمين بعضهم على بعض في المسائل المختلفة يدور في الأغلب مدار القرآن والسُنّة، أمّا القرآن فقد اتّفقوا على حجّيّته، وأمّا السُنّة فمنها ما اتّفقوا على تصديقه، فيكون مرجعاً في الخصومة، ومها ما اختلفوا فيه، وفي هذا القسم لابُدّ من أن يحتج كلُّ بما يصدّقه الآخر، وإلاّ لم تكن "حجّة معتبرة"، وهذا أمر مسلَّم به عند الكلّ، ونكتفي هنا بإيراد تصريح به من أحد مشاهير العلماء:

قال ابن حزم الأندلسي ـ في معرض الحديث عن احتجاج أهل السُنّة على الإمامية ـ:

"لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم، فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتجّ أو لم يصدّقه ; لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه"(1).

فهذه هي "الحجّة المعتبرة" عند "الجدال بالحقّ".

آداب المناظرة والجدل:

وأمّا الآداب التي يجب على الطرفين الالتزام بها ـ في الجدل المقصود

____________

1- الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/12.


الصفحة 15
منه تحرّي الحق والوصول إلى الحقيقة ـ مضافاً إلى الحجّة المعتبرة، تلك الآداب التي جاءت الإشراة إليها في القرآن الكريم ( بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(1)فأهمّها:

1 ـ أن يُدلي برأيه والحجّة المعتبرة عنده بكلّ رفق وسكينة ووقار.

2 ـ أن يختار لمطلبه الألفاظ الواضحة والعبارات الجميلة.

3 ـ أن يجتنب السبب والشتم.

4 ـ أن يجتنب الأساليب الملتوية، والخروج عن البحث، بما يشوّش على الخصم فكره.

5 ـ أن لا يتصرّف في كلام الخصم بزيادة فيه أو نقصان، ولا ينسب إليه شيئاً لا يقول به أو حجّةً لا يعتبرها.

هذا إذا كان البحث والجدل بالكتابة.

وأما إذا كان بالقول، فيضاف إليها آداب أُخرى، كأن لا يقاطعه كلامه، وأن لا يرفع صوته إلاّ بالمعروف..

هذا، وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الجدل قد يكون بالحقّ، وقد يكون بالباطل، والجدل بالحقّ هو إقامة الحجّة المعتبرة عند الطرفين أو عند الطرف الآخر، مع رعاية الآداب والأخلاق السامية.

ولم نكن ـ في البحث الذي عرضناه على ضوء آيات القرآن الكريم ـ بصدد التحقيق عن أنّ "علم الجدل" هو "علم المناظرة" أو أنّ الأوّل هو العلم الباحث عن طريق التي يُقتدر بها على إبرام ونقض حجّة الخصم،

____________

1- سورة النحل 16: 125.


الصفحة 16
والثاني هو العلم الباحث عن آداب المناظرة والبحث، فإن العلماء اختلفوا في هذا المطلب، لكنه لا يعنينا الآن.. كما إنّا لم نفرّق هنا بين "الجدل" وبين "الاحتجاج" وبين "المناظرة"، فليتنبّه إلى ذلك.

علم الكلام:

قد أشرنا إلى أنّ "علم الجدل" لا يختصُّ بمطلب دون غيره، أو مسألة دون أُخرى، فإنّه علم يستعمل في شتّى المسائل الخلافية، من فقه وحديث وفسلفة واقتصاد وسياسة... وغيرها من العلوم، إذ يقيم كلّ ذي رأي حجّته المعتبرة على دعواه وا يتبنّاه، ثمّ يتناظران طبق القواعد المقرّرة والاُصول المؤسَّسة، حتّى يتميّز الحقّ عن الباطل، والصواب من الخطأ.

ومن المعلوم التي كثر الجدل في مسائلها وما يزال هو: "علم الكلام".

تعريف علم الكلام وفائدته:

والظاهر أن لا اختلاف كبير بين العلماء في تعريف علم الكلام، وفائدته، والغرض من وضعه وتأسيسه.

  • قال القاضي عضد الدين الإيجي(1):

    ____________

    1- هو عضد الدين، أبو الفضل، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي الشيرازي الشافعي، القاضي، وُلد بإيج من نواحي شيراز بعد السبعمئة، عالم بالأُصول والمعاني والبيان والنحو والفقه وعلم الكلام، له مصنّفات منها:

    الرسالة العضدية في الوضع، جواهر الكلام، الفوائد الغياثية، شرح مختصر ابن الحاجب، المواقف في علم الكلام.

    توفّي مسجوناً بقلعة دريميان سنة 756هـ.

    انظر: طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ 10/46 رقم 1369، الدرر الكامنة 2/196 رقم 2279، معجم المؤلّفين 2/76 رقم 6756، الأعلام 3/295.


    الصفحة 17
    "الكلام: علم يقتدر معه إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُبة".

    قال: "وفائدته أُمور:

    الأوّل: الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان.

    الثاني: إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجّة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجّة.

    الثالث: حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.

    الرابع: أن يبنى عليها العلوم الشرعية فإنّه أساسها.

    الخامس: صحّة النيّة والاعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل".

    قال:

    "وغاية ذلك كلّه: الفوز بسعادة الدارين"(1).

  • وقال سعد الدين التفتازاني(2):

    ____________

    1- المواقف في علم الكلام: 7 ـ 8.

    2- هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد اللّه التفتازاني، وُلد بتفتازان ـ قرية كبيرة من نواحي نَسَا، وراء الجبل، من مدن خراسان ـ سنة 712، وقيل: 722 هـ ; من أئمة العربية والبيان والمنطق، عالم بالفقه والأُصول والتفسير والكلام، له مؤلّفات كثيرة، منها: تهذيب المنطق، المطوّل في البلاغة، حقائق التنقيح في الأُصول، حاشية على تفسر الكشّاف للزمخشري، شرح العقائد النسفية، شرح المقاصد.

    توفّي بسمرقند سنة 792، وقيل: 791 و 793.

    انظر: الدرر الكامنة 4/214 رقم 4933، معجم البلدان 2/41 رقم 2545 و ج 5/325 رقم 11997، البدر الطالع 2/164 رقم 548، معجم المؤلّفين 3/849 رقم 16856، الأعلام 7/219.


    الصفحة 18
    "الكلام هو: العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية".

    قال: "وغايته: تحلية الإيمان بالإيقان".

    "ومنفعته: الفوز بنظام المعاش، ونجاة المعاد"(1).

  • والفيّاض اللاهيجي(2)، شارح التجريد من أصحابنا، ذكر كِلا التعريفين في كتابه شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام(3).

    فالغرض الذي من أجله وُضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو إقامة الحجّة المعتبرة من العقل والنقل "بالتي هي أحسن" على اُصول الدين، إرشاداً للمسترشدين، وإلزاماً للمعاندين، ولتحفظ به قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين، ولأنّ العقائد الدينية هي الأساس للعلوم

    ____________

    1- شرح المقاصد في علم الكلام 1/163 و175.

    2- هو: الشيخ عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الجيلاني، الملقّب بالفيّاض; كان عالماً محقّقاً مدقّقاً حكيماً، من علماء الكلام، درّس بقم، وهو من تلامذة المولى صدر الدين محمّد الشيرازي، وصهره على ابنته، له مؤلّفات، منها: شوارق الأنوار وبوارق الأسرار في الحكمة، الكلمات الطيّبة في المحاكمة بين ملاّ صدرا وبين الميرداماد، ديوان شعر فارسي، حواش على حاشية الخضري، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام.

    قيل توفّي سنة 1051، وقال آقا بزرك الطهراني: هو اشتباه، والصحيح أنه توفّي سنة 1072.

    انظر: رياض العلماء 2/114، أعيان الشيعة 7/470، طبقات أعلام الشيعة / القرن الحادي عشر 5/319، الذريعة 14/238 رقم 2366، معجم المؤلّفين 2/141 رقم 7185، الأعلام 3/352.

    3- شوارق الإلهام 1/5.


    الصفحة 19
    الشرعية والأحكام العملية، فمَن صحّت عقائده قُبلت أعماله الشرعية، وكيف تُقبل الأعمال عن العقائد الباطلة أو ممّن هو في شكٍّ من أمر دينه؟!

    فعِلم الكلام ـ بالنظر إلى موضوعه ـ من أهمّ العلوم الضرورية للأُمّة; لأنّه المتكفّل لبيان ما على المكلَّفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية، كما أنّ علم الفقه يتكفّل بيان ما يجوز وما لا يجوز عليهم من الناحية العملية، مع جواز التقليد فيه.

    وكما أنّ بقاء الشريعة المقدّسة في أحكامها الفرعية بعلم الفقه وجهود الفقهاء فيه، كذلك علم الكلام وآثار المتكلّمين في الحفاظ على الأُصول الاعتقادية.

    على إنّ من الواضح أنّه إذا استوعب الإنسان الأدلّة والبراهين على المعتقدات الحقّة الصحيحة، تمكّنَ من الدفاع عنها والإجابة عن الشبهات المطروحة حولها، بل ودعوة الآخرين إليها بالقلم واللسان...

    ومن هنا كثر اهتمام العلماء بهذا العلم، وكثر الكتب المؤلّفة فيه من مختلف المذاهب الإسلامية.

    من كتب الإمامية في أُصول الدين:

    وهذه أسماء بعض الكتب المؤلّفة في أُصول الدين من قبل علماء الإمامية في مختلف القرون:

    1 ـ أوائل المقالات: للشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن محمد بن النعمان البغدادي، الملقّب بالمفيد، المتوفّى سنة 413.


    الصفحة 20
    2 ـ الذخيرة في علم الكلام: للسيد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي البغدادي، المتوفّى سنة 436.

    3 ـ تقريب المعارف: للشيخ أبي صلاح تقي الدين الحلبي، المتوفّى سنة 447.

    4 ـ كنز الفوائد: للشيخ أبي الفتح الكراجكي، المتوفّى سنة 449.

    5 ـ الاعتقاد الهادي إلى طريق الرشاد: للشيخ أبي جعفر الطوسي، المتوفّى سنة 460.

    6 ـ الاعتصام في علم الكلام: للشيخ زين الدين علي بن عبد الجليل البياضي، من علماء القرن السادس.

    7 ـ المنقذ من التقليد: للشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي، من علماء القرن السادس.

    8 ـ التجريد: للشيخ نصير الدين محمّد بن محمّد الطوسي، الموفّى سنة 672.

    9 ـ المسلك في أُصول الدين: للشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر ابن الحسن، المحقق الحلي، المتوفّى سنة 676.

    10 ـ قواعد المرام في علم الكلام: للشيخ كمال الدين ميثم بن علي ابن ميثم البحراني، المتوفّى سنة 679.

    11 ـ مناهج اليقين في أُصول الدين.

    12 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد.

    13 ـ نهج الحق وكشف الصدق.


    الصفحة 21
    14 ـ نهج المسترشدين في أُصول الدين.

    15 ـ الباب الحادي عشر، في أصول الدين.

    والخمسة الأخيرة كلّها للشيخ أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، المتوفّى سنة 726، وله كتب أُخرى في أُصول الدين غير ما ذُكر.

    من كتب أهل السنة في أُصول الدين:

    ومن أشهر كتب أهل السنة في أُصول الدين:

    1 ـ تمهيد الأوائل: للباقلاّني.

    2 ـ الأربعين في أُصول الدين: للفخر الرازي.

    3 ـ العقائد: للنسفي.

    4 ـ شرح العقائد النسفية: للتفتازاني.

    5 ـ المواقف في علم الكلام: للإيجي.

    6 ـ شرح المواقف: للشريف الجرجاني.

    7 ـ شرح المقاصد: للتفتازاني.

    8 ـ الإبانة عن أُصول الديانة: للأشعري.

    9 ـ بحر الكلام: للنسفي.

    10 ـ الصحائف: للسمرقندي.

    11 ـ طوالع الأنوار: للبيضاوي.

    12 ـ زبدة الكلام: لصفي الدين الهندي الأُرموي.


    الصفحة 22
    13 ـ أبكار الأفكار: للآمدي.

    14 ـ مشارق النور: لعبد القادر البغدادي.

    15 ـ شرح التجريد: للعلاء القوشجي.

    موضوعات كتب أُصول الدين:

    وموضوعات كتب أُصول الدين في الأصل هي: إثبات الصانع وصفاته، ومسائل العدل، ثمّ النبوة والإمامة، والمعاد.

    إلاّ أن مناهج المتكلّمين في كتبهم في أُصول الدين مختلفة، ولكنّ المتعارف بينهم إيراد مسائل من باب المقدمة، تتعلّق بالمعلوم، فيقسّمونه إلى الموجود والمعدوم، ثمّ يقسّمون الموجود إلى الممكن والواجب، والممكن ينقسم إلى الجوهر والعرض، ثمّ يذكرون ما للجوهر والعرض من الأحكام أو الأقسام.

    ثمّ يشرعون في إثبات واجب الوجود.. ثمّ يبحثون عن صفاته تعالى، من القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والإدراك، والتكلّم... وعمّا يستحيل عليه من الصفات، كالمماثلة لغيره، والتركّب والتحيّز، وقيام الحوادث به، واستحالة رؤية غيره له سبحانه..

    ثمّ يدخلون في مسائل العدل، ويتعرّضون هنا لمسألة الحسن والقبح العقليّين، والجبر والاختيار..

    ثمّ يأتي دور مباحث النبوّة، وصفات النبيّ، من العصمة ونحوها، ويبحثون في الإمامة بعد النبوّة، فتطرح هنا جميع المسائل الخلافية في الإمامة والإمام بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.


    الصفحة 23
    ثمّ يبحثون عن المعاد، في مسائل كثيرة...

    هل علم الكلام من أسباب هزائمنا؟

    وإذا عرفنا موقع علم الكلام في الإسلام، ومدى تأثيره في حفظ الدين والشريعة المقدّسة، فسوف يكون من المقطوع به ضرورة تعلّم هذا العلم وتطويره ونشره، فكيف يصحّ القول حينئذ بأنّ علم الكلام من أسباب هزائم المسلمين أما أعداء الإسلام؟!

    فإنّه طالما بُنيت الاُصول الاعتقادية على الحقّ، وأُسّست على الكتاب والسُنّة الصحيحة والعقل السليم، ثمّ قصد بالبحث عنها الوصول إلى الحقيقة والواقع في كلّ مسألة خلافية، مع التزام الباحث ـ لا سيّما في مرحلة إقامة الحجّة على الغير ـ بالعدل والإنصاف والأخلاق الكريمة والقواعد المقرّرة للمناقشة والمناظرة، هذه الأُمور التي أشار إليها القرآن بقوله: ( بالتي هي أحسن )، كان علم الكلام من خير أسباب صمودنا وثباتنا أما الأعداء، ووحدتنا فيما بيننا.

    أمّا إذا كان الغرض من علم الكلام والاستفادة منه هو التغلّب على الخصم ـ ولو بالسبّ والشتم ـ فلا شكّ أنّ هذا الأُسلوب فاشل، وأنّه سيؤدّي إلى تمزّق المسلمين وتفرّق صفوفهم،وإلى الهزيمة أمام الأعداء.

    فالقول بأنّه "لقد فشل أُسلوب علم الكلام حتّى الآن" وأنّه "أحد أسباب هزائمنا"(1) على إطلاقه ليس بصحيح.

    وفي الجملة، فإنّ علم الكلام من العلوم الإسلامية الأساسية، ولم يكن

    ____________

    1- مجلة الغدير، العددان 8 ـ 9، الصفحة 90.


    الصفحة 24
    العلم في يوم من الأيّام من أسباب ضعف المسلمين وهزيمتهم، بل كان ـ متى ما استخدم على حقيقته واتّبعت أساليبه الصحيحة ـ من أسباب وحدة المسلمين ورصّ صفوفهم وصمودهم أمام الخصوم.

    إنّا لا ننكر أن بعض المتكلّمين اتّخذوا علم الكلام وسيلةً لتوجيه عقائدهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة، إلاّ أنّ هذا لا يختصّ بعلم الكلام، فقد اتُّخِذ غيرُه من العلوم الإسلامية وسيلة للأهداف والأغراض المخالفة للحقّ والدين، وهذا لا يسوّغ اتّهام "العِلم"، بل على الناس أن يفرّقوا بين المتكلّمين، فيعرفوا المحقّ منهم فيتّبعوه ويعرفوا المُغرض فيحذروه.

    وإنّنا لنعتقد أنّ طرح لمسائل الخلافية بين العلماء، ثمّ عرضها على الكتاب والسُنّة والعقل السليم والمنطق الصحيح المقبول لدى العقلاء، وتحكيم الأدلّة المتينة والحجج المعتبرة، هو من خير الطرق لتحقيق الوحدة بين المسلمين...

    وهذا هو الغرض الذي لأجله أُسّس علم الكلام، فهذا العلم في الحقيقة يدعو إلى الوحدة والوئام، ويحذّر من التفرّق والخصام، فهو لا يتنافى مع وحدة المسلمين وحسب، بل من أسبابها ووسائلها إن استخدام على الطريقة الصحيحة وابتُغي به الحقّ والصواب، وباللّه التوفيق.

    أثر علم الكلام في التشيّع:

    وكما ذكرنا.. فإنّه إذا كان الاستدلال منطقياً والبحث سليماً، وكانت الأدلّة مستندة إلى ما لا محيص عن قبوله والتسليم به، فلا شكّ في تأثيره

    الصفحة 25
    في القلوب الطالبة للحقّ، والمحبّة للخير والفلاح.. وهذا هو السرّ في الأمر بالجدل بالتي هي أحسن..

    وقد كان الجدل بالتي هي أحسن من أوْلى الطرق والأساليب التي سلكها الأنبياء والأوصياء وسائر المصلحون في هداية البشرية إلى الصراط المستقيم.

    وبالفعل.. فقد كان لعلم الكلام والجدل الصحيح، المستند إلى الكتاب والسُنّة والعقل والحجج المعتبرة المقبولة، الأثر البالغ في تقدّم مذهب الإمامية وتشيّع الأُمم..

    فهناك المئات من الناس في مختلف البلدان تشيّعوا ببركة كتاب المراجعات لآية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه.

    وتلك قصّة العلاّمة الحلي وتشيّع أُمة بكاملها على أثر مناظرة واحدة قام بها مع كبار علماء عصره من أهل السُنّة في البلاد الإيرانية.

    وتشيّع بلاد جبل عامل كان على يد أبي ذرّ الغفاري رضي اللّه عنه، كما يحدّثنا كبار علماء المنطقة(1).

    فظهر ـ بهذا المختصر ـ ما في قول القائل، وهو يتهجّم على علم الكلام: "لم يتشيّع سُنّي إلاّ على مستوى الأفراد والقناعات"(2).

    من المسائل الخلافية في علم الكلام:

    ولعلّ من أهمّ ما وقع فيه الخلاف بين الشيعة الاثني عشرية وبين غيرهم هي المسائل التالية:

    ____________

    1- أمل الآمل في علماء جبل عامل 1/13، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 351.

    2- مجلة الغدير، العددان 8 ـ 9، الصفحة 90.


    الصفحة 26
    1 ـ في صفات الباري، وأنّها هل هي عين الذات أو زائدة عليها; فقال الإمامية بأنّ صفاته تعالى عين ذاته وليست زائدة عليها.

    2 ـ في التجسيم، وهذا ما نفاه الإمامية وعدّواً القول به كفراً، لكنّ بعض الفرق يقولون بأنّ للّه يداً ورجلا، وأنّه يصعد وينزل.. تعالى اللّه عن ذلك علّواً كبيراً.

    3 ـ في القرآن، فقالت الإمامية بحدوثه وقال الآخرون بقدمه، وللمسألة قضايا وحوادث مذكورة في السير والتواريخ.

    4 ـ في أفعال العباد، فقال قوم بالجبر وقال آخرون بالتفويض، وذهبت الإمامية إلى أنّه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

    5 ـ في مسائل العدل، فقالت الإمامية بأنّ اللّه لا يفعل القبيح، وأنّه يريد الطاعات ويكره المعاصي، وأنه يفعل لغرض وحكمة، وأنه يمتنع عليه التكليف بما لا يطاق... إلى غير ذلك.

    6 ـ في الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فالإمامية يقولون بأنّ الخليفة بعده هو علي بن أبي طالب بنصٍّ من اللّه ورسوله، وقال أهل السُنّة بأنّه أبو بكر بن أبي قحافة بانتخاب من الناس.

    الإمامة:

    وكانت الإمامة من بين المباحث في أُصول الدين والمسائل الخلافية منها، أشدّها حسّاسية وأهميّةً، بل هي المسألة المتقدّمة على غيرها بالزمان والمرتبة، ولذا قالوا:

    "أعظم خلاف بين الأُمّة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام

    الصفحة 27
    على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان"(1).

    وجوب الإمامة

    والمسلمون لم يختلفوا في أصل "الإمامة" بل اتّفقوا على وجوبها، وهذا ما نصّ عليه كبار العلماء من الشيعة والسُنّة.

    قال ابن حزم: "اتّفق جميع أهل السُنّة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأنّ الأُمّة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام اللّه، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] وسلم... والقرآن والسُنّة قد وردا بإيجاب الإمام..."(2).

    أما الإمامية الاثنا عشرية فكن اهتمامهم بأمر الإمامة من جهة أنّها عندهم من صلب أُصول الدين كما سيأتي، وقد ورد في الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام في الإمامة:

    "إن الإمامة أُسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي..

    إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين"(3).

    ومن كلماتهم عليهم السلام في الإمام:

    "بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد، وتوفير

    ____________

    1- الملل والنحل 1/13.

    2- الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/3.

    3- الكافي 1/224، إكمال الدين وتمام النعمة: 677، معاني الأخبار: 97.


    الصفحة 28
    الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف"(1).

    وقال العلاّمة الحلّي في مقدّمة كتابه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: "أما بعد، فهذه رسالة شريفة، ومقالة لطيفة، اشتملت على أهمّ المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة، وهي أحد أركان الإيمان المستحقّ بسببه الخلود في الجنان، والتخلّص من غضب الرحمن"(2).

    تعريف الإمامة:

    ومما يشير إلى أهمية الإمامة وعظمتها عند المسلمين ما جاء في كتبهم في تعريفها، المتّفق عليه بينهم:

    قال القاضي الإيجي: "قال قوم: الإمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا...

    ونقض بالنبوّة..

    والأُوْلى أن يقال: هي خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأُمّة"(3).

    وقال التفتازاني: "الإمامة رئاسة عامّة في أمر الدين والدنيا خلافةً عن النبيّ..."(4).

    ____________

    1- الكافي 1/224، إكمال الدين وإتمام النعمة: 677، معاني الأخبار: 97.

    2- انظر: شرح منهاج الكرامة: 1/15.

    3- المواقف في علم الكلام: 395.

    4- شرح المقاصد 5/232.


    الصفحة 29
    وقال العلاّمة الحلّي بتعريف الإمامة: "الإمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابةً عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم"(1).

    فقال الفاضل المقداد السيوري(2) بشرحه:

    "الإمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا لشخص إنساني.

    فالرئاسة جنس قريب، والجنس البعيد هو النسبة، وكونها عامّة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنوّاب، و(في أُمور الدين والدنيا) بيان لمتعلّقها، فإنّها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا.

    وكونها لشخص إنساني، فيه إشارة إلى أمرين:

    أحدهما: إنّ مستحقّها يكون شخصاً معيّناً معهوداً من اللّه تعالى ورسوله، لا أيّ شخص اتّفق.

    وثانيهما: إنه لا يجوز أن يكون متسحقّها أكثر من واحد في عصر واحد.

    ____________

    1- الباب الحادي عشر: 82.

    2- هو: شرف الدين أبو عبد اللّه مقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوري الحلّي الأسدي، كان عالماً فاضلا متكلّماً محقّقاً مدقّقاً، من تلامذة الشهيد الأوّل الشيخ محمّد بن مكّي العاملي، له تصانيف، منها: شرح نهج البلاغة المسترشدين في أُصول الدين، كنز العرفان في فقه القرآن، شرح مبادئ الأُصول، تجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة، النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر.

    توفّي بالنجف الأشرف في 26 جمادى الآخرة سنة 826.

    انظر: أمل الآمل 2/325 رقم 1002، طبقات أعلام الشيعة / القرنين التاسع والعاشر 4/138، الذريعة 24/18 رقم 94، معجم المؤلّفين 3/906 رقم 17200، الأعلام 7/282.