1 ـ أبو جعفر الطبري وصحّحه، تاريخ الطبري 1 / 543..
2 ـ أبو جعفر الطحاوي..
3 ـ الضّياء المقدسي في كتاب المختارة الذي التزم فيه بالصحّة(1)، وربّما قدّمه بعضهم على بعض الكتب المعتبرة المشهورة..
4 ـ ابن أبي حاتم، الذي نصّ ابن تيميّة على إنّه لا يروي في تفسيره شيئاً من الموضوعات(2).
5 ـ أبو بكر ابن مردويه الأصبهاني..
6 ـ أبو نعيم الأصفهاني..
7 ـ أبو بكر البيهقي، في دلائل النبوّة 2 / 179..
8 ـ ابن الأثير الجزري، في الكامل في التاريخ 1 / 585 ـ 586..
9 ـ الشيخ علي المتّقي الهندي، في كـنز العمّال 13 / 131 ح 36419 و ص 174 ح 36520..
فهؤلاء جملة من رواة هذا الحديث العظيم، الذي هو نصّ في إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وإن رغمت أُنوف النواصب اللئام.
ومن أعجب العجب أن يكذب الفضل ويفتري على العلاّمة الكذب!
____________
1- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1 / 144.
2- منهاج السُـنّة 7 / 13.
فذكر الفضل الخبر بنحو آخر بلا ذِكر مصدر، ثمّ قال: " هذا حقيقة الخبر، وليس فيه دلالة على نصّ، ولا قدح في أبي بكر. وأمّا ما ذكر أنّ رسول الله قال: لا، ولكنّ جبرائيل أتاني... فهذا من ملحقاته وليس في أصل الحديث هذا الكلام "(2).
أقـول:
أوّلا: إنّ العلاّمة (رحمه الله) ذكر مصدر حديثه، والفضل لم يذكر لِما ذكره مصدراً، وإنْ دقّقت فيه النظر وجدته مختلَـقاً موضوعاً!
وثانياً: الجملة المذكورة موجودة في مسند أحمد بنصّ الحديث، وهذا لفظه:
" عن عليّ، قال: لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيّ، دعا النبيّ أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكّة، ثمّ دعاني النبيّ فقال لي: أدرك أبا بكر، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم ; فلحقـته بالجحـفة، فأخذت الكـتاب منه، ورجـع أبو بكر إلى النبيّ فقال: يا رسول الله، نزل فيَّ شيء؟!
قال: لا، ولكنّ جـبريل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك "(3).
____________
1- نهج الحقّ: 215، وانظر: دلائل الصدق 2 / 379.
2- دلائل الصدق 2 / 380.
3- مسند أحمد 1 / 151.
فقال الفضل: " من ضروريات الدين أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله]وسلّم صاحب الحوض المورود والشفاعة العظمى والمقام المحمود يوم القيامة. وأمّا أنّ عليّـاً صاحب الحوض فهو من مخترعات الشيعة، ولم يرد به نقل صحيح. وهذا الرجل الذي ينقل كلّ مطالبه من كتب أصحابنا لم ينقل هذا منهم، وذلك لأنّه لم يصحّ فيه نقل عندنا... "(2).
أقـول:
إنّما ينقل العلاّمة الأحاديث من كتاب أو كتابين من كتب أهل السُـنّة ولم يكن يقصد الاستيعاب والاستقصاء، وإنّما مراده بيان أنّ مناقب الإمام عليه السلام متّفق عليها بين الطرفين.
وهذا الحديث رواه من كتاب الخوارزمي(3)، وهو من علماء أهل السُـنّة كما ذكرنا في فصل " الطعن في علماء السُـنّة ".
ومن رواته أيضاً:
1 ـ أحمد بن حنبل، كما في الصواعق المحرقة: 265.
____________
1- نهج الحقّ: 261، وانظر: دلائل الصدق 2 / 587.
2- دلائل الصدق 2 / 588.
3- مناقب الإمام عليّ (عليه السلام): 319 ح 324.
3 ـ أبو عبـد الله الحاكم، في المستدرك على الصحيحين 3 / 148 ح 4669 وصحّحه.
4 ـ ابن حجر المكّي، في الصواعق المحرقة: 265.
5 ـ علي المتّقي الهندي، في كنز العمّال 13 / 145 ح 36455 و ص 157 ح 36484.
فاقرأ واحكم من الكذّاب المفتري!!
أقـول:
وبهذا القدر ممّن ذكرتُه كفايةٌ.. وقد قال الشيخ المظفّر ـ في بيان موقف القوم من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام المخرجّة في كتبهم، وما يروونه فضيلة لغيره ـ: "... ولذا لا يروون له عليه السلام فضيلة إلاّ وطعنوا مهما أمكن بسندها أو دلالتها، ولا تنشرح نفوسهم لها، بخلاف ما إذا رووا فضيلة لغيره! ولا بُـدّ أن يظهر الله مخفيّات سرائرهم على صفحات أرقامهم وطفحات أقلامهم، كما رأيته من هذا الرجل في كثير من كلماته "(1).
أقـول:
خصوصاً في ما رووه بفضل عمر! فقد ذكر ابن روزبهان: " وكان عمر من المحدَّثين، وكان وزير رسول الله "(2).. " وكيف يصحّ لأحد أن يطعن
____________
1- دلائل الصدق 2 / 566.
2- دلائل الصدق 3 / 123.
بل قال: " فضائله لا تعدّ ولا تحصى "(2)!
والأعجب من ذلك محاولة إلزام الإمامية بما رواه قومه في حقّ الآخرين، خصوصاً عمر!! يقول: " روي في الصحاح عن سعد بن أبي وقّاص، قال: استأذن عمر بن الخطّاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش تكلّمنه، عاليةً أصواتهنّ... فقلن: نعم، أنت أفظّ وأغلظ. فقال رسول الله: يابن الخطّاب! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلاّ سلك غير فجّك "(3).
فقال ابن روزبهان: " هذا حـديث نقله جمهـور أربـاب الصحـاح، ولا شكّ في صحّته لأحد، وهذا حجّة على الروافض حيث يقولون: إنّ بيعة أبي بكر كانت باختيار عمر بن الخطّاب ; فإنّه لو صحّ ما ذكروا أنّه باختياره فهو حقّ لا شكّ فيه، بدليل هذا الحديث، لأنّه سلك فجّاً يسلك الشيطان فجّاً غيره... ".
قال: " وهذا من الإلزاميات العجيبة التي ليس لهم جواب عن هذا ألبتّـة "(4).
____________
1- دلائل الصدق 3 / 130.
2- دلائل الصدق 3 / 85.
3- دلائل الصدق 3 / 84.
4- دلائل الصدق 3 / 85.
قلـت:
إي والله، إلزام الإمامية بما لا يروونه ولا يرون صحّته من الإلزاميات العجيـبة!!
وبقيت هنا عدّة نقاط..
الأُولى:
إنّ هذا الرجل يحاول تنزيل بعض الفضائل الصحيحة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام على حقّيّة خلافة المشايخ، فقد قال في حديث: " عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ": " هذا دليل على حقّيّة الخلفاء، لأنّ الحقّ كان مع عليّ، وعليّ كان معهم، حيث تابعهم وناصحهم، فثبت من هذا خلافة الخلفاء "(1).
الثانية:
إنّه يحاول الجمع بين حبّ عليّ وأهل البيت عليهم السلام، وبين حبّ الشيخين وعموم الصحابة ; فهو يقول في موضع من كتابه، في حبّ الإمام عليه السلام: " الحمد لله الذي جعلنا من أهل محبّته، وملأ قلوبنـا مـن صفـو مودّتـه "(2).. ثـمّ يقـول فـي موضـع آخـر: " الروافـض لا يحكمون بالمحبّة إلاّ بمثالب الغير "(3)..
ويقول في موضع ثالث: " كلّ ما نقل من فضائله وفضائل أهل بيت النبيّ ما لم يكن سبباً إلى الطعن في أفاضل الصحابة، فنتسلّمه ونوافقه فيه، لأنّ فضائلهم لا تحصى، ولا ينكره إلاّ منكر نور الشمس والقمر...
فإنّ أهل السُـنّة يعملون بكلّ حديث وخبر صحيح بشرائطها، ولكن كما صحّ عندهم الأحاديث الدالّة على فضل عليّ بن أبي طالب وأهل بيت
____________
1- دلائل الصدق 2 / 468.
2- دلائل الصدق 2 / 427.
3- دلائل الصدق 2 / 565.
والشيعة ينقلون الأحاديث من كتب أصحابنا ممّا يتعلّق بفضائل أهل البيت، ويسكتون عن فضائل الخلفاء وأكابر الصحابة، ليتمشّى لهم الطعن والقدح، وهذا غاية الخيانة في الدين، وأيّة خيانة أعظم من أنّ رجلا ذكر بعض كلام أحد ممّا يتعلّق بشيء، وترك البعض الآخر ممّا يتعلّق بعين ذلك الشيء، ليتمشّى به مذهبه ومعتقده؟! ونعوذ بالله من هذه العقائد الفاسدة "(1).
بل إنّـه يرى في كـلام آخر له أنّ التشـكيك في فضائل أكابر الصحابة ـ كالخلفاء ـ ينافي الإيمان، وهذه عبارته:
" لا يشكّ مؤمن في فضائل عليّ بن أبي طالب، ولا في فضائل أكابر الصحابة كالخلفاء "(2).
فأوّلا: إنّه يشترط في قبول الخبر الصحيح الوارد عندهم في فضل أمير المؤمنين عليه السلام أن لا يكون سـبباً إلى الطعن في من تقدّم عليه في الخلافة، وإلاّ فالخبر غير مقبول ; هذا كلامه.
وأيّ خبر في فضله عليه السلام لا يكون سبباً في القدح في القوم وإبطال تقدّمهم عليه؟!
وثانياً: إنّه في الوقت الذي لا يروي في كتابه روايةً واحدة من كتب
____________
1- دلائل الصدق 2 / 588.
2- دلائل الصدق 2 / 498.
وثالثاً: إنّه لم يرو في كتابه رواية مسندةً ـ ولا واحدةً ـ عن شيء من كتب قومه، فكأنّه لم يكن له إلمام بعلوم الحديث والأسانيد والرجال، ومع ذلك يدّعي صحّة ما رووه في حقّ الصحابة!
ورابعاً: إنّه ينصّ هنا على التسليم بما صحَّ في فضل عليّ عليه السلام، ولكنّه في كثير من الموارد التي يستدلّ العلاّمة الحلّي فيها بالأحاديث الصحاح يكذّب بالحديث أو يشكّك في صحّته، تبعاً لابن تيميّة وإنْ لم يصرّح باسمه والأخذ منه!
وخامساً: إذا كان يدّعي حبّ عليّ عليه السلام، وكان صادقاً بحمد الله على ذلك، فما باله قد والى أشدّ أعدائه وأكبر مبغضيه كمعاوية وابن العاص ومروان وأشباههم، ولم يحكم عليهم بالنفاق، مع اتّضاح حالهم في بغض الإمام واستمرارهم على عداوته وسبّه ; كما قال الشيخ المظفّر؟!
وسادساً: إنّه يتّهم الإمامية بالخيانة، وكأنّه يجهل أدنى شرائط البحث والجدل!
وقد كرّر هذا الرجل أمثال هذه الكلمات، مع افتراءات وأباطيل أُخرى، فمثلا: يقول في موضع: " والعجب، إنّ هذا الرجل لا ينقل حديثاً إلاّ من جماعة أهل السُـنّة، لأنّ الشيعة ليس لهم كتاب ولا رواة ولا علماء مجتهدون مستخرجون للأخبار، فهو في إثبات ما يدّعيه عيال على كتب
يقول هذا، وكأنّه يجهل أنّ ما يصنعه العلاّمة الحلّي هو الصواب في مقام المناظرة! ويدّعي مع ذلك أنْ لا كتاب للشيعة ولا علماء، وأنّهم في إثبات إمامة أمير المؤمنين وإبطال خلافة من تقدّم عليه عيال على أهل السُـنّة!
لكنّه في موضع آخر يعترف بوجود كتب للشيعة، غير إنّه يرميها بأنّها من موضوعات يهودي!! فيقول: " وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السُـنّة أنّها موضوعات يهودي كان يريد تخريب بناء الإسلام، فعملها وجعلها وديعةً عند الإمام جعفر الصادق، فلمّا توفّي حسب الناس أنّه من كلامه، والله أعلم بحقيقة هذا الكلام، وهذا من المشهورات، ومع هذا لا ثقة لأهل السُـنّة بالمشهورات، بل لا بُـدّ من الإسناد الصحيح حتّى تصحّ الرواية.
وأمّا صحاحنا، فقد اتّفق العلماء أنّ كلّ ما عُدّ من الصحاح ـ سوى التعليقات في الصحاح السـتّة ـ لو حُلف بالطلاق أنّه من قول رسول الله أو من فعله وتقريره، لم يقع الطلاق، ولم يحنث "(2).
فانظر، كيف يتجاسر على الإمام الصادق عليه السلام، وعلى عامّة الإمامية، ثمّ يحاول الخروج من عهدة ذلك!!
الثالثة:
لقد قال في كلّ من عليّ وأبي بكر وعمر: " له فضائل لا تُعدّ ولا تحصى "..
____________
1- دلائل الصدق 2 / 351.
2- دلائل الصدق 2 / 590.
وهل تقديم المفضول على الفاضل جائز أو قبيح؟!
لا يخفى أنّ العلاّمة الحلّي (رحمه الله) استدلّ لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنقل والعقل..
أمّا النقل، فالكتاب ونصوص السُـنّة الصحيحة عند القوم والمعتبرة عند الفريقين..
وأمّا العقل، فبأفضلية أمير المؤمنين، وأنّ الأفضل هو الإمام.
وقد أجاب ابن روزبهان عن الأدلّة النقلية بأنّها ليست بنصّ على الإمامة، وأمّا عن الوجوه العقلية فقد صرّح قائلا: " إمامة المفضول عندنا جائزة "(1).
وهذا من أهمّ مواضع المقارنة بين آراء ابن روزبهان وبين آراء ابن تيميّة، فإنّه على شدّة نصبه وعداوته لأمير المؤمنين عليه السلام، ينصّ في غير موضع من كتابه منهاج السُـنّة ـ كغيره من أعلام القوم ـ على عدم جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل(2).
أمّا ابن روزبهان فيجوّز ذلك، بل يدّعي كونه مذهب أهل السُـنّة ـ إن كان مراده من قوله: " عندنا " ذلك ـ، ليتمكّن من تبرير إمامة أبي بكر بعد رسول الله!
وهكذا، فقد وجدنا ابن روزبهان ـ في مواضع من كتابه ـ أشدّ عداءً لأمير المؤمنين من ابن تيميّة..
____________
1- دلائل الصدق 3 / 463.
2- منهاج السُـنّة 7 / 134 و ج 8 / 228.
أمّا ابن روزبهان فيقول: " هذه الرواية ليست من كتب أهل السُـنّة والجماعة، ولا أحد من المفسّرين ذكر هذا "(4).. بل قد تكلّم في ابن المغازلي وطعن فيه كما تقدّم.
ووجدنا إقرار ابن تيميّة بحكم عمر برجم الحامل والمجنونة(5)، وابن روزبهان يكذّب أو يشكّك في الخبر كما تقدّم.
هـذا، وقد كان في النيّة أن نقارن بين ابن روزبهان وبين ابن تيميّة وكتابيهما في الردّ على العلاّمة الحلّي، ولكنّا تركنا ذلك إلى مجال آخر خوفاً من الإطالة.
والحمـد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّـد وآله الطيّبين الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً.
عليّ الحسـيني الميلاني
____________
1- سورة البقرة 2: 124.
2- منهاج الكرامة: 125 طبعة إيران، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام): 239 ح 322، دلائل الصدق 2 / 139.
3- منهاج السُـنّة 7 / 133.
4- دلائل الصدق 2 / 139.
5- منهاج السُـنّة 6 / 41 و 45.
العلاّمة الحلّي(1)
هو الشـيـخ الأجلّ أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر، المعروف بالعلاّمة الحلّي، والعلاّمة على الإطلاق، ويطلق عليه العلماء: آية الله، وإمام المعقول والمنقول.
وُلد في 29 شهر رمضان سنة 647 هـ كما ذكره هو نفسه في الخُلاصة، وتوفّي ليلة السبت 21 من المحرّم سنة 726 هـ.
ذكره معاصره ابن داوود الحلّي في رجاله فقال: " شيخ الطائفة، وعلاّمة وقته، وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول، مولده سنة 648، وكان والده ـ قدّس الله روحه ـ فقيهاً محقّقاً، عظيم الشأن ".
وما ذكره ابن داوود من تاريخ ولادته هو الأشهر والأصحّ.
ووصفه معاصره القاضي البيضاوي بـ: " إمام المجتهدين في علم الأُصول ".
____________
1- راجع في تفصيل ترجمته: رجال ابن داود: 119 رقم 461، تاريخ ابن الوردي 2 / 269 ـ 270، ذيول العبر ـ للذهبي ـ 4 / 77، البداية والنهاية 14 / 100، الوافي بالوفيات 13 / 85 رقم 79، لسان الميزان 2 / 317 رقم 1295، الدرر الكامنة 2 / 40 رقم 1619، النجوم الزاهرة 9 / 267، مرآة الجنان 4 / 108، رياض العلماء 1 / 358، الأعلام 2 / 227، معجم المؤلّفين 1 / 598 رقم 4496، وغيرها.
وذكره الصفدي فقال: " الإمام العلاّمة ذو الفنون، عالم الشيعة وفقيههم، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته... وكان يصنّف وهو راكب، وكان ريّض الأخلاق، حليماً، قائماً بالعلوم، حكيماً، طار ذِكره في الأقطار، واقتحم الناس إليه وتخرّج به أقوام كثيرة ".
ووصفه ابن حجر في لسان الميزان فقال: " عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم، وكان آيةً في الذكاء، شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً جيّداً سهل المأخذ غايةً في الإيضاح، واشتهرت تصانيفه في حياته، وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيميّة في كتابه المعروف بالردّ على الرافضي، وكان ابن المطهّر مشتهر الذِكر وحسن الأخلاق، ولمّا بلغه بعض كتاب ابن تيميّة قال: لو كان يفهم ما أقول أجبته ".
وقال في الدرر الكامنة: " لازم النصير الطوسي، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنّف في الأُصول والحكمة، وكان رأس الشيعة بالحلّة، واشتهرت تصانيفه، وتخرّج به جماعة، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإمامية وكان قيّماً بذلك داعياً إليه.
ولمّا وصل إليه كتاب ابن تيميّة في الردّ عليه كتب أبياتاً أوّلها:
لو كنتَ تعلمُ كلَّ ما عَِلمَ الوَرى | طُرّاً لَصِرتَ صديقَ كلِّ العالَمِ |
لكنْ جَهِلتَ فقلتَ: إنّ جميعَ مَن | يَهوى خلافَ هَواكَ ليسَ بعالِمِ " |
وقصّته مع أُولجايتو وانتقاله إلى مذهب الإمامية مشهورة.
قرأ رحمه الله على عدد كثير من العلماء كالخواجة نصير الدين الطوسي، وابن مِيثم البحراني، وشمس الدين الكشّي الشافعي، الذي كان يعترض عليه العلاّمة أحياناً فيحير الشيخ بجوابه ويعترف له بالعجز.
وقد تتلمذ على يديه خَلق كثير.
توفّي بالحلّة المزيدية(1)، ونقل إلى النجف الأشرف فدفن في حجرة عن يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة من جهة الشمال، وقبره ظاهر معروف مزور إلى اليوم.
____________
1- المزيديّـة: نسبةً إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، أوّل من عمرها ونزلها في سنة 495 هـ.
الفضل بن روزبهان(1)
هـو أبو الخيـر فـضل الله بن روزبـهان ـ القـاضي بأصبهـان ـ بن فضل الله الأمين بن أمين الدين، الخنـجي الأصل، الأصبهاني الشيرازي الشافعي الصوفي، الشهير بـ: خواجه مولانا ـ أو: خواجه مـلاّ ـ، مؤرّخ، مشارك في بعض العلوم.
ذكره السخاوي في الضوء اللامع فقال: " لازم جماعة كعميد الدين الشيرازي، وتسلّك بالجمال الأردستاني وتجرّد معه، وتقدّم في فنون من عربية ومعان وأصلين وغيرها، مع حسن سلوك وتوجّه وتقشّف ولطف عشرة وانطراح(2) وذوق وتقنّع.
قدم القاهرة فتوفّيت أُمّه بها، وزار بيت المقدس، والخليل، ومات شيخه الجمال ببيت المقدس فشهد دفنه، وسافر إلى المدينة النبويّة فجاور بها أشهراً من سنة سبع وثمانين، ولقيني بها فسُرّ بعد أن تكدّر حين لم يجدني بالقاهرة، مع إنّه حسن له الاجتماع بالخيضري فما انشرح به، وقرأ علَيَّ البخاري بالروضة، وسمع دروساً في الاصطلاح، واغتبط بذلك كلِّه، وكان يبالغ في المدح بحيث عمل قصيدة بديعة يوم ختمه أُنشدت
____________
1- انظر تفصيل ترجمته في: الضوء اللامع 6 / 171 رقم 580، هديّة العارفين 5 / 820، معجم المؤلّفين 2 / 623 رقم 10829، مقدّمة " إحقاق الحقّ ".
2- الانطراح: أراد به هنا الانبساط مع الإخوان ورفع الكلفة ودماثة الخلق، مأخوذ من الانطراح على الوسادة ; والأَوْلى لغةً أن يعبّر بـ " الانشراح ".
رَوّى النسيمُ حديثَ الأحبّاءِ | فصحّ ممّا روى أسقامُ أحشائي(1) |
وهي عندي بخطّه الحسن مع ما قيل نظماً من غيره، وكذا عمل أُخرى في ختم مسلم، وقد قرأه على أبي عبـد الله محمّـد بن أبي الفرج المراغي حينئذ، أوّلها:
صَحّحتُ عَنكُم حديثاً في الهوى حَسَنا | أنْ ليسَ يعشَقُ مَن لمْ يَهجُرِ الوَسَنا |
وهي بخطّه أيضاً في ترجمته من التاريخ الكبير، وكتبتُ له إجازة حافلة، افتتحتها بقولي:
أحمد الله، ففضل الله لا يجحد، وأشكره فَحَقٌّ له أنْ يُشكر ويُحمد، وأُصلّي على عبده المصطفى سيّدنا محمّـد..
ووصفته بما أثبتُّه أيضاً في التاريخ المذكور..
وقال لي: إنّه جمع مناقب شيخه الأردستاني، وإنّ مولدهُ فما بين الخمسين إلى الستّين، ثمّ لقيني بمكّة في موسمها، فحجّ ورجع إلى بلاده مبلَّغاً إن شاء الله سائر مقاصده ومراده، وبلغني في سنة سبع وتسعين أنّه كان كاتباً في ديوان السلطان يعقوب لبلاغته وحسن إشارته ".
وذكر السيّد نعمة الله الجزائري في مقاماته بأنّه كانت له بنت، فلمّا بلغت مبلغ النساء خطبها منه شرفاء مكّة وعلماء الحرمين، فقال: بنتي هذا(2)
____________
1- البيت من البحر البسيط، ووزنه: مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعْلُن، وصدرُه مختلُّ الوزن، ولكي يستقيم كان عليه أن يقول مثلا: " روّى النسيمُ أحاديثَ الأحبّاءِ ".. ولكنّه موزونٌ على طريقته في الشعر!
2- كـذا.
وكان صاحب أسفار، فسافر إلى الحرمين، وبيت المقدس، والقاهرة، والخليل، وما وراء النهر ـ سمرقند وبخارى ـ، وكان يصحب معه أُسرته، وتولّى القضاء بمصر والحرمين.
له من المصنّفات:
" إبطال المنهج الباطل " في الردّ على ابن المطـهّر..
و " بديع الزمان " في قصّة حيّ بن يقظان..
و " شرح الوصايا " لعبـد الخالق الغجدواني..
و " عالم آرا " في تاريخ الدولة البايندرية ـ فارسي ـ..
وتعليقة على " إحياء العلوم " للغزّالي..
وتعليقة على " تفسير الكشّاف " للزمخشري..
وتعليقة على شرح المواقف..
وتعليقة على شرح الطوالع..
وتعليقة على تفسير البيضاوي..
وشرح المقاصد في الكلام..
وكتاب في الإجازات..
وكتاب في ترجمة شيخه الأردستاني.
القاضي التُسـتري(1)
هو السيّد الشريف نور الله بن شريف الدين عبـد الله بن ضياء الدين نور الله بن محمّـد شاه الحسـيني المرعشي التسـتري، المعروف بـ: الشهيد الثالث.
وُلد في تسـتر بخوزستان سنة 956 هـ، ونشأ بها، وأخذ العلوم الأوّلية عن أفاضل مدينة تستر، ومنهم والده، ثمّ انتقل إلى مشهد الإمام الرضـا (عليه السلام) سنة 979 وكان عمره نحو 23 عاماً، وحضر دروس العلاّمة المحقّق المولى عبـد الواحد التستري وغيره، بقي في مدينة مشهد نحو 14 عامـاً.
ثمّ انتـقل سـنة 993 إلى البلاد الهندية، وتقرّب إلى أبي الفتح ابن عبـد الرزّاق الگيلاني وكان له جاه في بلاط أكبر شاه (942 ـ 1025 هـ) فولاّه القضاء بمدينة لاهور، فاستقلّ إلى أيّام جهانگير، وكان يخفي مذهبه عن الناس تقيّة، ويقضي على مذهبه بما وافقه من مذهب أهل السُـنّة.
وقال صاحب رياض العلماء: " هو أوّل من أظهر التشيّع في بلاد الهند من العلماء علانية، وصدع بالحقّ الصريح والصدق الفصيح تقريراً
____________
1- راجع تفصيل ترجمته في: رياض العلماء 4 / 260، أمل الآمل 2 / 336، أعيان الشيعة 10 / 228، شهداء الفضيلة: 171، هديّة العارفين 6 / 498، الأعلام 8 / 52، معجم المؤلّفين 4 / 44 رقم 17743.
مصنّفاته:
له سبعة وتسعون كـتاباً ورسالة، أشهرها:
إحقاق الحـقّ ; وهو الذي أوجب قتله، ألّفه ردّاً على الفضل بن روزبهان في كتابه " إبطال نهج الباطل "..
مجالس المؤمنين..
مصائب النواصب..
الصوارم المهرقة في الردّ على الصواعق المحرقة..
حاشية على تفسير البيضاوي..
الحسن والقبـح..
وغيـرها.
الشـيخ المظـفّر(1)
نسـبه وأُسرته:
هو: العلاّمة الحجّة الشيخ محمّـد حسن بن الشيخ محمّـد بن الشيخ عبـد الله بن الشيخ محمّـد بن الشيخ أحمد بن مظـفّر الصيمري(2)الجـزائري(3).
زعيم ديني كبير، متكلّم وباحث قدير، أديب وكاتب معروف، وصاحب قريحة شِعرية رقيقة.
يرجع نسب شيخنا المترجَم إلى أُسرة عريقة بالفضل والعلم، عرفت في النجف الأشرف أواسط القرن الثاني عشر، ولها فروع كثيرة وانتشر أفرادها في كثير من المدن، كالبصرة، والقرنة، والمْدَيْـنَة، والمحمّرة، والأهواز، وكربلاء، والحيرة، وعفك، وبغداد، ويسكن قسم منهم مدينة
____________
1- راجع في تفصيل ترجمته (قدس سره): شعراء الغريّ 7 / 528 ـ 539 و ج 2 / 374 و ج 6 / 161، ماضي النجف وحاضرها 3 / 369 رقم 13، معارف الرجال 2 / 246، أعيان الشيعة 9 / 140، طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر في القرن الرابع عشر ـ ج 1 ـ ق 1 ـ / 431 رقم 854، الذريعة 8 / 251 رقم 1033، الأعلام 6 / 95، معجم المؤلّفين 3 / 236 رقم 12884، ديوان السيّد مصطفى جمال الدين: 441 ـ 448، مقدّمة " دلائل الصدق " ط. القاهرة بقلم: الشيخ محمّـد طاهر آل الشيخ راضي.
2- نسبة إلى الصيامر، وهي قبيلة في رساتيق البصرة وضواحيها، وقيل سمّي باسم نهر من أنهار البصرة القديمة.
3- نسبة إلى منطقة الجزائر في جنوب العـراق.
ويرجع نسب آل المظفّر إلى آل مسروح من أُصول آل علي المضريّين، القاطنين في أرض العوالي بالحجاز، ولا تزال بعض فروعها تسكن في عوالي المدينة المنـوّرة حتّى يومنا هذا، وقد كان لأحد أفراد الأُسرة الماضين ـ وهو الشيخ يونس بن الشيخ أحمد ـ مراسلات معهم واتّصال وثيق بهم.
وقد هاجر مظفّر بن عطاء الله ـ جدّ الأُسرة الأعلى ـ من مدينة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل القرن العاشر الهجري وقصد النجـف الأشرف، فقطن فيها واختلف على علمائها فاستفاد منهم، أمّا وجودهم في البصرة والمْدَيْـنَة فيتّصل بالقرن الحادي عشر.
وقد نبغ من هذه الأُسرة أعلام كثيرون، أشهرهم الشيخ إبراهيم بن محمّـد بن عبـد الحسين، المعروف بالجزائري، المعاصر للشيخ جعفر الكبير، رحل من النجف إلى الكاظمية فتوطّنها وقرأ على أساتذتها، وله مؤلّفات ذهبت ضمن كتبه التي بيعت بعد وفاته، وتوفّي بها فدفن في رواق المرقد الكاظمي، وله مسجد فيها يعرف باسمه إلى اليوم، وقد وُجدت له أحكامٌ مُمضاة من علماء وقته.
والـده:
ووالد المترجَم هو العلاّمة الشيخ محمّـد المظفّر، من كبار علماء الإمامية في مطلع القرن الرابع عشر، وقد توفّي في أوّل ربيع الأوّل سنة 1322 هـ في سنّ الستّين بمرض الوباء، وله عدّة مصنّفات، منها: توضيح
والـدتـه:
ويرجع نسبه من جهة الأُمّ إلى عائلة الطريحي، وهي عائلة عربية علمية استوطنت النجف الأشرف منذ عدّة قرون، وتُعدّ من أقدم العوائل العربية في النجف، فأُمّه الفاضلة ابنة الشيخ عبـد الحسين الطريحي.
إخوتـه:
وللمترجَم ثلاثة إخوة كانوا من العلماء الأعلام، وهم:
1 ـ الحجّة الشيخ عبـد النبي، المتوفّى سنة 1337 هـ، وهو الذي تولّى رعاية شيخنا المترجَم بعد وفاة والدهم.
2 ـ الشيخ محمّـد حسين، المتوفّى سنة 1381 هـ، باحث عالم بالأدب والتاريخ، له تصانيف عديدة منها: الإمام الصادق (عليه السلام)، الإسلام نشوؤه وارتقاؤه، تاريخ الشيعة، ميثم التمّار، مؤمن الطاق.
3 ـ العلاّمة الكبير الشيخ محمّـد رضا، المتوفّى سنة 1384 هـ، عميد كلّية الفقه في النجف الأشرف، صاحب المصنّفات الجليلة: أُصول الفقه، المنطق، عقائد الإمامية، السـقيفة، والكتب الثلاثة الأُولى من الكتب الأساسية في منهج الحوزات العلمية، وعليها المدار اليوم في دروس مرحلة المقدّمات، وهو مضافاً إلى كونه عالماً مجتهداً وفقيهاً أُصولياً فقد كان أديباً وشاعراً مجيداً.
ولادتـه ونشأته وسجاياه:
وُلد شيخنا المترجَم له في النجف الأشرف في 12 صفر عام 1301، ونشأ فيها، وترعرع في أنديتها ومحافلها، درس على والده وغيره النحو، والصرف، وعلوم البلاغة، والمنطق، والحساب، والفلك، وعلم الكلام، والحديث، والفقه وأُصوله، وعلوم الدين والأدب، ونال منها حظّـاً وافراً.
حضر دروس الشيخ الآخوند محمّـد كاظم الخراساني، والسيّد محمّـد كاظم الطباطبائي اليزدي، وشيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ علي ابن الشيخ باقر الجواهري، وقد أجازه معظم هؤلاء المراجع العظام إجازة الاجتهاد عام 1332 هـ، كما أجازه بالرواية شيخه شيخ الشريعة..
فاستقلّ برأيه وباشر في مواصلة الأبحاث الخارجية منذ ذلك الحين، فأتمّ عشرات الدورات الفقهية والأُصولية، حضرها رعيل كبير من أهل الفضل والعلم، وقد تخرّج على يديه جملة من الأفاضل.
وقد تنبّه إلى مقامه العلمي عشرات الرجال من أهل اليقين والمعرفة فقلّدوه مع وجود زعماء مشـتهرين آنذاك، أمثال الميرزا النائيـني والسـيّد أبو الحسن الأصفهاني، وكان السيّد أبو الحسن يحترمه ويجلّه وقد رجاه غير مرّة أن يُرجِـع إليه كلّ ما يتعلّق بالقضاء إليه، ولكنّه رفض رفضاً باتّاً، وآثر الانعزال والانصراف إلى التأليف والتدريس والعبادة، كما كرّر عليه أن يقيم صـلاةَ الجماعة بمكانه في الجامع الهندي فرفض أيضاً، ولم يخرج من العراق طيلة حياته إلاّ مرّة واحدة سافر فيها إلى إيران عام 1368 هـ لزيارة الإمام عليّ الرضا (عليه السلام) للاستشفاء بعد إجراء عملية جراحية أُجريت له في النجف الأشرف.
وبعد وفاة السيّد أبو الحسن الأصفهاني سنة 1365 هـ ظهر شيخنا
وصفه الشيخ جعفر آل محبوبة بأنّه من العلماء الأبرار، والمجتهدين الأخيار، لم يناقَش في ورعه وصلاحه، وللناس فيه أتمُّ الوثوق، صلّى خلفه كثير من أهل الفهم والمعرفة، ورجع إليه في التقليد جماعةٌ من الناس، تقرأ في غضون جبينه آثار الأبرار، وتلوح على مخايله سماتُ أهل الورع، يغلب عليه الهدوء والسكون.
ثمّ قال: رأيته رجلا صالحاً نقي الضمير، طاهر النفس، متعفّفاً، صادقاً في القول.
ووصفه صاحب شعراء الغريّ بقوله: عرفته معرفة حقّة، واتّصلت بشخصه ـ شأن غيري ممّن اتّخذوا العلم صفة لهم ـ فوجدته إنساناً فذّاً قد حصل على كافّة الصفات الطيّبة والخلال الحميدة، قد نُزّه عن كلّ ما يوصم به المرء من زَهْو وتدليس أو حبّ للظهور والغطرسة، يتواضع للكبير والصغير بصورة لم تُفقده قوّةَ الشخصية، وجلال الزعيم، ولَطُف مزاجه حتّى عاد كالزجاجة الصافية التي لا درن عليها أو غبار، وبهذا أخذ بمجامع قلوب مختلف الطبقات ورجال الدين، وقلّ من حاز على رضا الناس إلاّ هو وأفرادٌ يُعدّون بالأصابع قد تجرّدوا عن زَهْوِ الحياة وزخرفها، وابتعدوا عن كلّ ما يوجد الريبة والشكّ، وتمشّى باحتياطه في سيرته حتّى لا يكاد أن يتطرّق الوهم إلى نفسه، فقد بلغ مرتبة من الصفاء والتجرّد أهّلته أن يرتفع في جوّه الذي زخر بالأصفياء والأولياء ارتفاعاً بيّناً، ويظهر في مجتمعه الذي كثر فيه مراجع الدين ظهوراً دون أن يرغب به أو يقصده، وكم جاءه المال فتغاضى عنه، واتّبعته الزعامة فأعرض عنها، وهو بقية
ثمّ قال: عرفته معرفة جعلتني أُكبِر مقامه لا لغاية، وأُحبّه لا لقصد، سوى ما احتفظ به من شخصية رصينة مُحكَمة الروح والعقل، محكمة الدين والخُلُق، لهذه الصفات أحببته وأحبّه الآلاف مثلي من الّذين لم يحترموا إلاّ الحقّ والعدل والدين، ولهذه الصفات أكبرته ; لأنّه سخر بالزعامات المزيّفة، والشخصيات المرهّلة، والنفسيّات التي أتعبت هواها فقادها إلى مصير مظلم وهُوّة عميقة من محاسبة الله والضمير، ولهذه الصفات عرفت أنّ الأرض لا تخلو من حجّة،... ليعيد إلى النفوس الساخطة اطمئنانها، والقلوب المرتبكة سكونها، والعقائد المتزلزلة إرجاعها، لهذه الصفات أصبح المترجَم له علماً من أعلام الدين، لا يرجع له إلاّ من عرف الله وتبع تعاليم الدين الصحيحة.
وقال في حقّه الشيخ محمّـد شيخ الشريعة ـ من علماء باكستان، بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة شـيخنا الفـقيد، والتي أُقيمت في النجف الأشرف ـ: اعتدتُ ألاّ أكتب إلاّ ما يترجم شعوري، وأبتدئ بإرضاء ضميري قبلَ غيري، فحقّاً أقول: إنّا فقدنا بارتحال شيخنا الأعظم آية الله المظفّر أطهر وأطيب وأزكى شخص عرفته في حياتي، وأعتقد أنّ الهيئة العلمية الدينية النجفية والجامعة الإسلامية العامّة قد انثلمت بوفاة فقيدنا الأكبر، فقد كان منهلا لروّاد العلم، ومقتدىً للمؤمنين، وأباً بارّاً للمسلمين.
ثمّ قال: لا يجتمع التواضع والمرونة مع الكبرياء ولكنّهما يجامعان العظمة، فقد كان رحمه الله عظيماً متواضعاً، مهاب الجانب محبوباً، يغمر
كان جواداً بذولا، في شخصيّته وماله، وكلّ ما أُوتي، فقد كان رحمه الله يعتقد أنّ شخصيّته مِلْـكٌ للمسلمين يجب أن ينتفعوا بها، ولم يبخل بها على أحد، وأعتقد أنّ التصدّق بالشخصية أعظمُ وأصعبُ على الرجل من التصدّق بماله، بل أشدّ من التصدّق بنفسه بمراتب.
وقال الشيخ محمّـد طاهر آل راضي: كلٌّ يعلم علقة آل المظفّر بجمعية منتدى النشر، وقد آزر المرحوم جميع خطوات الجمعية، لا لأنّ إخوانه منسوبون إليها، بل لاعتقاده أنّ تلك الحركة خطوة إصلاحية للدين والمجتمع.
ثمّ قال: أُقسم بالله ـ وهو علَيَّ شهيد ـ إنّي مع قربي بجواره وحظوتي بمجالسته ـ سفراً وحضراً ـ ما وجدّته نصر الجمعية أو جهات أُخرى بدوافع الانتماءات الفردية والتعصّبات الخاصّة، بل لم يكن يفهم التعصّبات القبلية أو القومية، ولا أُغالِ إنْ قلتُ: إنّ أخاه وأيَّ مسلم آخرَ كان عنده سيّان إلاّ بما ميّز الشارع بينهما، وكان التمايز عنده بالتقوى لا بالبياض والسواد، وكان مجبولا على هذا الخلق الكريم، لا أنّه يعمل به إطاعة للشرع الحنيف فقط.
وكمال الدين أن تُصبح الأحكامُ أخلاقاً مزيجاً بدم الرجل ولحمه.
كان فرداً عامّاً محذوفاً عنه جميع الإضافات الخاصّة، ولمثله الحقّ أن
ثمّ قال: وإنّي لأحفظ له كلمة، وكم له من كلمات خالدة! وهي:
" إنّ الرياء في زماننا لا معنى له ; لأنّ سوء الظنّ بلغ بالناس حدّاً يتوهّمون العبـادة الخالصـة من المؤمـن رياءً، فلا فائـدة للمرائي، وريـاؤه لا ينخدع به النـاس ".
ثمّ قال الشيخ محمّـد طاهر آل راضي في كلمته: ولا تظنّ أنّه لدماثة أخلاقه كان ممّن تقتحمه العين، فلقد كانت له هيبة تكاد أن ترتعد لها الفرائص، وتصطكّ لها الأخامص، ويخفق لها القلب.
كلّ ذلك في ما أعتقد سرّ هيبته الطاعة، وعلوّ مكانته منها، من غير أن يكون في شيء من ذلك متكلّفاً أو متزمّتاً، فإنّه المجبول على الترسّل والتبسّط، ولكنّه خُلِق خيّراً زكـيّـاً.
ثمّ قال: وقد ذكر لي بعض ثقات أقاربه، وكان أكبر من شيخنا سنّاً: إنّ الشيخ لمّا كان صبيّاً ما كانت له بطبعه هواية أن يلهو أو يلعب، بل كان يحشر نفسه مع الصبيان، ولكنّه يقف منهم على كثب فلا يشاركهم لعبهم ولهوهم، فكأنّه خُلِق على الاتّزان، وطُبع على الوقار.
وإنّي كنت أجتمع به، وأعدّ اجتماعي به من توفيقاتي، كمن يجتمع
وهو ميمون النقيبة، مبارك الذات والفعل، أمّا بركة ذاته فلطهارتها بالطاعة والمعرفة والفناء في مرضاة الله مع علمه البالغ وفضله العظيم الجمّ، وأمّا بركة الفعل فقد شاهدته عقد الزواجَ لشابّ على فتاة، وبعد العقد ابتُلي الزوج بداء كان منه على أشدّ نواحي الخطر، يكاد أن يكون ميؤساً منه، ثمّ عافاه الله وعاد إلى الصحّة الكاملة، وتزوّج الزوجة التي عقدها الشيخ له، فاتّفق أن اجتمعت بأحد العلماء فتذاكرنا ما جرى لهذا الشابّ فقال لي: أمّا أنا فكنت على رجاء قوي، لم أيأسُ كما يئس الناس ; لأنّ العاقد له كان الشيخَ، فإنّه الميمون المبارك، قد جُرّب أنّه ما عقد لشخص فخاب زواجه.
وكان ـ طاب مثواه ـ حليماً، يسعني أن أقول: إنّه ما رُئيَ غضب لنفسه أو لأمر من أُمور الدنيا، ولكنّه كان يتأجّج ناراً ويتميّز غيظاً إذا هتكت عصمة من عصم الدين.
لقد كان أعلى الله مقامه مضرب المثل في التقوى والعدالة عند الناس، حتّى إنّي كنت أتصوّره أنّه معصوم غير واجب العصمة، والناظر إليه يحسّ أنّه يواجه وجهاً تنطق أساريره بمعنوية الهداية ونور الهدى، وكنت أقصده للائتمام به في الصلاة، فإنّه ـ مضافاً إلى كونه في أقصى درجات العدالة ـ فقد كانت له في الصلاة نغمة، ولا سيّما في قنوته، فكأنّها تأخذ بيدك فترفعك إلى نور معرفة الله، وكأنّك ترى الجنّة والنار ماثلتين بين عينيك بإيحاء من تأثير صوته الخاشع، وعذوبة لهجته، وكمال معرفته، ومعراجيّة نفسه، واتّصالها به تبارك وتعالى فناءً وعرفاناً.
فمثلا كان يرى طهارة الكتابيّين وجوازَ الزواج منهم..
كما كان يرى أنّ الأدلّة غير متوفّرة على إنّ المتنجِّس يُنجِّس..
وكان أعلى الله مقامه يرى لزومَ ترتيب الأثر في ما تعلّق بإثبات الأهلّة على وفق حكم الحاكم الشرعي ; معلّلا بأنّ الحاكم بالهلال مجتهدٌ أهلٌ للحكم إذا تمّت الموازين، وقد رتّب الأثر على ذلك في بعض أهلّة عيد فطر شهر رمضان، عندما حكم بالهلال بعض المراجع وخالفه الآخرون، لقد نظر شيخنا في ذلك إلى الواقع دون أن يلتفت إلى زاوية غير الحقّ، وفي نفس الوقت فإنّ هذه الحادثة تكشف عن فنائه في ذات الله وتجرّده وبعده عن الأنانية.
وله من أمثـال ذلك الكثير، يترصّـد الحـقّ دائمـاً ولا يحيـد عنـه، ولا تصدّه عنه نزوة من حبّ الذات وخلجاتها، ولا نزعة من نزعات الكبرياء وتخيّـلاتها.
وكان شيخنا من مشايخ التدريس، دقيقَ النظر، عميقَ التفكير والتحقيق، حسنَ الأُسلوب في التفهيم، فقد كان يحرّر المسألة بتحرير واضح يتبيّن فيه موضع الخلاف جليّاً، لئلاّ تلتبس الآراء من حيث تداخل بعض المصاديق ببعض، ثمّ يُبدي رأيه معتضداً بالحجّة، ذابّاً عمّا اختاره في تفنيد ما قيل أو يمكن أن يقال على خلافه، مؤيّداً بالذوق الصحيح