الـمـقــدّمـــة
مَن هـم الفرقـة الناجيـة؟
مَن هم الفرقـة الناجيـة؟
قال المصنّـف العـلاّمة ـ بعد الحمد والصلاة ـ(1):
وبعـد،
فإنّ الله تعالى حيث حرّم في كتابه العزيز كتمان بيّناته وآياته، وحظر إخفاء براهينه ودلالاته، فقال تعالى: ( إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّـنّاه للناس في الكتاب أُولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )(2).
وقال تعالى: ( إنّ الّذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أُولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النار ولا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم * أُولئك الّذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار )(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مَن عَلِم علماً وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار "(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 36 ـ 38.
(2) سورة البقرة 2: 159.
(3) سورة البقرة 2: 174 و 175.
(4) ورد الحديث بألفاظ وأسانيد مختلفة في العديد من مصادر الفريقين، منها:
ســنـن أبـي داود 3 / 320 ح 3658، ســنـن ابـن مـاجــة 1 / 96 ـ 98 ح 261 و 264 ـ 266، سنن الترمذي 5 / 29 ح 2649، مسند أحمد 2 / 263، مسند أبي يعلى 4 / 458 ح 2585، المعجم الكبير 10 / 128 ح 10197، المعجم الأوسط 3 / 53 ح 2311، المعجم الصغير 1 / 162، المستدرك على الصحيحين 1 / 182 ح 345 و 346، كنز العمّال 10 / 217 ح 29146، الأمالي ـ للطوسي ـ: 377 ح 808.
فحينئذ وجب على كلّ مجتهد وعارف إظهار ما أوجب الله تعالى إظهاره من الدِين، وكشف الحقّ، وإرشاد الضالّين ; لئلاّ يدخل تحت الملعونين على لسان ربّ العالمين، وجميع الخلائق أجمعين، بمقتضى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا ظهرت البدع في أُمّـتي فَـلْـيُـظْـهِـرِ العالِمُ عِلمَـه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله "(1).
ولمّا كان أبناء هذا الزمان ممّن استغواهم الشيطان ـ إلاّ الشاذّ القليل، الفائز بالتحصيل ـ حتّى أنكروا كثيراً من الضروريّات، وأخطأوا في معظم المحسوسات، وجب بيان خطئهم ; لئلاّ يقتدي غيرهم بهم، فتعمّ البليّة جميع الخلق، ويتركون نهج الصدق.
وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم بـ " نهج الحقّ وكشف الصدق "(2)طالبين فيه الاختصار، وترك الاستكثار، بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة
____________
(1) الكافي 1 / 75 ح 158، المحاسن 1 / 361 ح 776، وانظر ما بمعناه في: تاريخ دمشق 54 / 80 ح 11366، مختصر تاريخ دمشق 23 / 6 رقم 3، كنز العمّال 10 / 216 ح 29140.
(2) كان في الأصل: " كشف الحقّ ونهج الصدق "، وما أثبتـناه هو الصواب وفقاً للمصـدر.
وأوضحت فيه لطائفة المقلِّدين من طوائف المخالفين، إنكار رؤسائهم ومقلَّـديهم القضايا البديهية، والمكابرة في المشاهدات الحسّـيّة، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية(1)، وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل ورويّة ; لعلمي بأنّ المنصف منهم إذا وقف على مذهب مَن يقلّده تبرّأ منه، [وحاد عنه،] وعرف أنّه ارتكب الخطأ والزلل، وخالف الحقّ في القول والعمل.
فإن اعتمدوا الإنصاف، وتركوا المعاندة والخلاف، وراجعوا أذهانهم الصحيحة، وما تقتضيه جودة القريحة، ورفضوا تقليد الآباء، والاعتماد على أقوال الرؤساء، الّذين طلبوا اللذّة العاجلة، وأهملوا أحوال الآجلة، حازوا القسط الأوفى من الإخلاص، وحصلوا بالنصيب الأسنى من النجاة والخـلاص.
وإنْ أبَوا إلاّ استمراراً على التقليد، فالويل لهم من نار الوعيد، وصدق عليهم قوله تعالى: ( إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا من الّذين اتَّبَعُوا ورأوُا العذابَ وتقطّعتْ بِهمُ الأسباب )(2).
وإنّما وضعنا هذا الكتاب حسـبةً لله، ورجاءً لثوابه، وطلباً للخلاص
____________
(1) السفسطة: هي المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام، واللفظ مركّب في اليونانية من " سوفيا " وهي الحكمة، ومن " أسطس " وهي المموِّه ; فمعناها حكمة مموِّهة، وكلّ من له قدرة على التمويه والمغالطة بالقول في أيّ شيء كان، قيل له: إنّه سوفسطائي.
انظر: معجم المصطلحات العلمية العربية: 90 ـ 91، التعريفات ـ للجرجاني ـ: 118.
(2) سورة البقرة 2: 166.
وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض، الباقية دولته إلى يوم النشر والعَرض، سلطان السلاطين، خاقان الخواقين، مالك رقاب العباد وحاكمهم، وحافظ أهل البلاد وراحمهم، المظفّر على جميع الأعداء، المنصور من إله السماء، المؤيّد بالنفس القدسية، والرئاسة الملكية، الواصل بفكره العالي، إلى أسنى مراتب المعالي، البالغ بحدْسه الصائب، إلى معرفـة الشـهب الثواقب، غيـاث [الملّـة و] الحـقّ والدين: أولجايتـو خُدا بَنْـدَه محمّـد(1)، خلّد [الله] مُلكه إلى يوم الدين، وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين.
وجعلتُ ثواب هذا الكتاب واصلا إليه، أعاد الله بركاته عليه، بمحمّـد وآله الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل..
____________
(1) هو: خُدا بنده محمّـد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان المغولي، ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر، وأولجايتو معناه السلطان الكبير المبارك، وخدا بنده معناه عبـد الله، وقيل: خربندا، وُلد سنة 680 هـ، اعتنق الإسلام وسمّي بمحمّـد، وتلقّب بغياث الدين، كان عادلا كريماً سمحاً، تحوّل إلى مذهب الشـيعة الإمامية سنة 708 هـ بعد أن كان حنفيّاً، على أثر مناظرات كثيرة بين المذاهب الإسـلامية ـ وقيـل: إنّ ذلك كان على يد العـلاّمة الحلّي (قدس سره) ـ، توفّي في آخر شهر رمضان عام 716 هـ عن بضع وثلاثين سنة، ودفن بتربته في مدينة " السلطانية " التي أنشأها بين مدينتَي قَزْوِين وهَـمَـذان.
انظر: أعيان الشيعة 9 / 120 ـ 121، مراقد المعارف 1 / 218 ـ 220، دول الإسلام: 409، العبر 4 / 44، البداية والنهاية 14 / 62 حوادث سنة 716 هـ، دول الإسلام: 409 حوادث سنة 716 هـ، تاريخ ابن خلدون 5 / 649، شذرات الذهب 6 / 40 وفيات سنة 716 هـ.
مقدّمة الفضل بن روزبهان
وقال الفضـل(1):
الحمـد لله المتعزّز بالكبرياء والرفعة والمناعة، المتفرّد بإبداع الكون في أكمل نظام وأجمل بداعـة، المتـكلّم بكلام أبكمَ كلّ منطيـق من قُـرُوم(2) أهل البراعة، فانخزلوا(3) آخراً في حـجر(4) العجز وإنْ بذلوا الوسع والاسـتطاعة.
أحمده على ما تفضّل بمنح كرائم الأُجور على أهل الطاعة، وفضّل
____________
(1) إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل ـ 1 / 22 ـ 35.
(2) قُرُوم ـ جمع: قَرْم ـ: أي السـيّد المعظَّم، المقدَّم في المعرفة وتجارب الأُمور.
انظر: الصحاح 5 / 2009، لسان العرب 11 / 130، تاج العروس 17 / 562، مادّة " قَرَمَ ".
(3) كان في طبعة القاهرة: " فانخذلوا " بالذال المعجمة.
والخَزْل والانخزال: القَطْع والانقطاع. والخَذْل والخِذْلان: ترك الإعانة والنصرة، والضعف.
انظر مادّتَي " خَذَلَ " و " خَزَلَ " في: الصحاح 4 / 1683 و 1684، لسان العرب 4 / 45 و 84، تاج العروس 14 / 194 و 197.
(4) في طبعة طهران: " حجز ".
وحَِجْرُ الإنسان ـ بالفتح أو الكسر ـ: حِضنه. أو: حُجَرٌ ـ جمع حُجْرَة ـ: وهي الغُرْفة.
وحُجَزٌ أو حُجُزاتٌ ـ جمع حُجْزة ـ: وهي موضع الالتجاء والاعتصام، والتمسّك بالشيء، والتعلّق به، والأخذ بسـبب منه.
أو: حُِجْز ـ بالكسر أو الضمّ ـ: الأصل والمنبت والناحية.
انـظر مـادّتَي " حَجَـرَ " و " حَجَـزَ " في: الصحـاح 2 / 623، لسان العرب 3 / 57 و 62، تاج العروس 6 / 241 و 246 و ج 8 / 42 ـ 43.
صلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّـد، الذي فرض الله على كافّة الناس اتّباعه، وجعل شيعة الحقّ وأئمّة الهدى أشياعه، وهدى إلى انتقاد " نهج الحقّ " وإيضاح " كشف الصدق " أتباعه.
ثمّ السلام والتحيّة والرضوان على عترته أهل بيته، وكرام صحبه، أرباب النجـدة والجود والشجاعة، الّذين جعل الله موالاتهم في سوق الآخرة خير بضاعة، ما دام ذبّ الباطل عن حريم الحقّ أفضل عمل وخير صناعـة.
أمّـا بعـد:
فـإنّ الله بعث نبـيّه محمّـداً (صلى الله عليه وسلم) حيـن تراكم الأهـواء الباطلـة، وتصادم الآراء العاطلة، والناس هائمون في معتكر حندس(2) ليل الضلال،
____________
(1) هذا من الأحاديث المتواترة معنىً، وقد روته أُمّهات مصادر وجوامع الجمهور، منهـا: صحيح البخاري 9 / 181 ح 82، التاريخ الكبير 4 / 12 رقم 1797، صحيح مسـلم 1 / 95، سـنن أبي داود 3 / 4 ح 2484، سـنن ابن ماجة 1 / 4 ـ 5 ح 6 و 7 و 9 و 10، سنن الترمذي 4 / 420 ح 2192، سنن النسائي 6 / 214 ـ 215، مسند الطيالسي: 9، سنن سعيد بن منصور 2 / 144 ـ 145 ح 2372 و 2375 و 2376، مسند أحمد 3 / 384، مسند أبي يعلى 13 / 375 ح 7383، المعجم الكبير 2 / 238 ح 1996، المستدرك على الصحيحين 2 / 81 ح 2392.
(2) اعتَـكَر الليل: اشتدّ سواده واختلط والتبس ; انظر: الصحاح 2 / 756، لسان العرب 9 / 337، تاج العروس 7 / 256، مادّة " عَكَرَ ".
والحِنْدِس: الشديد الظُلمة ; انظر: الصحاح 3 / 916، لسان العرب 3 / 356، تاج العروس 8 / 252.
فأقام الله تعالى برسوله الملّة العوجاء، وهداهم بإيضاح الحقّ إلى السنن الميتاء(1)، وأوضحَ للملّة منارها، وأعلمَ آثارها، وأسّس قواعد الدين على رغم الكفرة الماردين، همُ الّذين أبوا إلاّ الإقامة على الكفر والبَوار، وإنْ هداهم إلى سبيل النجاح، فما أذعنوا للحقّ إلاّ بعد ضرب القواضب(2)وطعن الرمـاح.
فـندب (صلى الله عليه وسلم) لنصـرة الدين، وإعانـة الحـقّ، عصبـةً من صحبـه الصادقين، فانتدبوا، ونصروا، ونصحوا، وأُوذوا في سـبيل الله، ثمّ هاجروا واغتربوا.
هم كانوا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكرش والعَيْبة(3)، حين كذّبه عُـتْبة
____________
(1) في إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن "إحقاق الحقّ " ـ: " المتناء ".. و " الغرّاء " نسخة بدل عنها.
(2) القَواضِب ـ جمع قاضِب ـ: السـيوف القواطع ; انظر: الصحاح 1 / 203، لسان العرب 11 / 202، تاج العروس 2 / 327، مادّة " قَضَبَ ".
(3) الكَرِشُ أو الكِـرْشُ ـ لغتان بمعنىً ـ: هي لكلّ مجـتـرّ بمنزلة المعدة للإنسان، ومن المجاز: الجماعة من الناس.
انظر: الصحاح 3 / 1017، لسان العرب 12 / 69، تاج العروس 9 / 181، مادّة " كَرَشَ ".
والعَيبة ـ جمعها: عِيَب و عِياب و عَيْبات ـ: ما يُجعل فيه الثياب، ووعاء يكون فيه المَتاع، وعَيْبة الرجل: موضع سرّه.
انظـر: الصحـاح 1 / 190، لسـان العـرب 9 / 490 ـ 491، تـاج العـروس 2 / 270، مادّة " عَيَبَ ".
أي إنّهم جماعته وصحابته وبطانته، وموضع سرّه وأمانته، الّذين يثق بهم ويعتمد عليهم في أُموره.
فأثنى الله عليهم في مجيـد كتابه، ورضي عنهم، وتاب عليهم(2)، وجعل مناط أُمور الدين مرجوعة إليهم.
ثمّ وثب فرقة بعد القرون المتطاولة، والدول المتداولة، يلعنونهم ويشـتمونهم [ويسُـبّونهم]، ولكلّ قبيح ينسـبونهم، فويل لهذه الفئة
____________
(1) ذِكرُ عتبة وشـيبة ـ هنا ـ لم يقصد منه خصوص الرجلين، بل المراد عموم كـفّار قريـش.
وعتبة وشيبة هما ابنا ربيعـة بن عبـد شـمس، قُـتلا والوليدُ بن عتبة يوم بدر كـفّاراً، بيد أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) وحمزة وعبيـدة بن الحارث، وفيهم جميعاً نزل قوله تعالى: (هذانِ خصمانِ اختصموا في ربّهم...) سورة الحجّ 22: 19.
انظر مثلا: صحيح البخاري 5 / 183 ـ 184 ح 17 ـ 21 و ج 6 / 181 ح 264 و 265، صحيح مسلم 8 / 246، سنن ابن ماجة 2 / 946 ح 2835، مصنّـف ابن أبي شيبة 8 / 474 ح 31، مسند البزّار 2 / 291 ـ 292 ح 715، وغيرها كثير.
(2) أشار ابن روزبهان ـ في كلامه هذا ـ إلى آيات قرآنية عديدة بخصوص الثناء والرضا والتوبة على الصحابة، منها:
قوله تعالى: (محمّـدٌ رسولُ اللهِ والّذينَ معه أشدّاءُ على الكفّارِ رُحماءُ بينهم تراهُم رُكّعاً سُجّداً يَبتغُون فَضلا مِن اللهِ ورِضواناً...) سورة الفتح 48: 29.
وقوله عزّ وجلّ: (لقـد رضيَ اللهُ عَنِ المؤمنينَ إذ يُبايِعُونـكَ تحت الشجرةِ...) سورة الفتح 48: 18.
وقوله سـبحانه: (لقد تابَ اللهُ على النبيّ والمهاجرين والأنصارِ الّذينَ اتّبعُوه في ساعةِ العُسْرةِ...) سورة التوبة 9: 117.
ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب، ما لو رآه محتلِم في رؤياه لَطار من وكْر الجَفن نومُه، ولو شاهده يقظانٌ في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يَـوْمُـه(1).
وممّا شاع فيه أنّ فئةً من أصحاب البدعة استولوا على البلاد، وأشاعوا الرفض والابتداع بين العباد.
فاضطرّني حوادث الزمان، إلى المهاجرة عن الأوطان، وإيثار الاغتراب وتوديع الأحبّة والخُلاّن، وأزمعت الشخوص من وطني أصفهان، حتّى حططت الرحل بقاسان(2).
عازماً على أنْ لا يأخذ جَفني القَرار(3)، ولا تضاجعَني الأرضُ بقَرار،
____________
(1) في المصدر: بُـومُـه.
(2) قاسان ـ بالسين المهملة ـ: مدينة كانت عامرة آهلة، كثيرة الخيرات، واسعة الساحات، متهدّلة الأشجار، حسنة النواحي والأقطار، بما وراء النهر في حدود بلاد الترك، خربت بغلبة الترك عليها.
وقاسان أو قاشان ـ بالسين المهملة أو الشين المعجمة ـ: مدينة قرب أصفهان، بينها وبين قُم اثنا عشر فرسخاً، وبينها وبين أصفهان ثلاث مراحل.
والتي عناها الفضل هنا هي الأُولى دون الثانية ; لأنّ أهل الأُولى من الجمهور دون الثانية التي أهلها كلّهم شيعة إمامية.
انظر: معجم البلدان 4 / 335 و 336 رقمَي 9361 و 9364، مراصد الاطّلاع 3 / 1056 و 1057.
(3) القَرار: الهدوء والنوم، وأقرّ الله عينه، أي أنام الله عينه ; انظر: لسان العرب 11 / 100 ـ 101 مادّة "قَرَرَ ".
وفي المصدر: " الغِرار "، وهو النوم القليل.
انظر: الصحـاح 2 / 768، لسـان العرب 10 / 45، مادّة " غَرَرَ ".
وأسـتوطن مدينة أتّخذها دارَ هجرتي، ومسـتقرّ رحلتي، تكون فيها السُـنّة والجماعة فاشية، ولم يكن فيها شيء من البدع والإلحاد ناشية.
وأتمسّك بسُـنّة النبيّ [(صلى الله عليه وسلم) الرصين] (وآله وصحبه المرضيّين)(1)، وأعبد ربّي حتّى يأتيني اليقين.
فإنّ التمسّك [بالسُـنّة] عند فساد الأُمّة طريقٌ رشيد، وأمرٌ سديد، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " من تمسّك بسُـنّـتي عند فساد أُمّتي فله أجر مائة شهيد "(2).
فلمّا استقرّ ركابي بمدينة قاسان، اتّفق لي مطالعة كتاب من مؤلّفات المولى الفاضل، جمال الدين ابن المطهّر الحلّي، غفر الله ذنوبه، وقد سمّاه بكتاب " نهج الحقّ وكشف الصدق "، قد ألّفه في أيّام دولة السلطان غياث الدين أولجايتو محمّـد خدا بنده، وذكر أنّه صنّفه بإشارته.
وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة، ونبغ نابغة الفرقة الموسومة بـ: " الإماميـة " من فرق الشـيعة!
فإنّ عامّـة الناس يأخذون المذاهـب من السـلاطين وسـلوكهم، والنـاس على ديـن ملوكهـم، إلاّ الّـذين آمنـوا وعملوا الصالحـات، وقليـلٌ
____________
(1) ما بين القوسين ليس في " إبطال نهج الباطل ".
(2) انظر مثلا ـ وفي بعضها: " فله أجر شهيد " ـ: المعجم الأوسط 5 / 471 ح 5414، الكامل في ضعفاء الرجال 2 / 327 رقم 460، حلية الأولياء 8 / 200، فردوس الأخبار 2 / 355 ح 6889، مصابيح السُـنّة 1 / 163 ح 139، الترغيب والترهيب 1 / 45 ح 5، مشكاة المصابيح 1 / 97 ح 176، مجمع الزوائد 1 / 172 الجامع الصغير: 549 ح 9171، كنز العمّال 1 / 184 ح 936 و ص 214 ح 1071.
وقد ذكر في مفتـتح ذلك الكتاب أنّه حاول بتأليفه إظهار الحـقّ، وبيـان خطأ الفرقة الناجيـة من أهل السُـنّة والجماعة ; لئـلاّ يقلّـدهم المسلمون، ولئلاّ يقتدوا بهم، فإنّ الاقتداء بهم ضلالة.
وذكر أنّه أراد بهذا إقامةَ مراسم الدين، وحَـوْزَ(1) [أُجور] الآخرة، واقتناء ثواب الّذين يبغون(2) الحقّ ولا يكتمونه.
ومع ذلك فإنّ جلّ كتابه مشتمل على مطاعن الخلفاء الراشدين، والأئـمّـة المرضيّين، وذِكر مثالب العلماء المجتهدين!
فهو في هذا كما ذكر بعض الظرفاء ـ على ما يضعونه على ألسنة البهائم ـ أنّ الجمّال سأل جملا: مِن أين تخرج؟ قال الجملُ: مِن الحمّام ; قال: صدقتَ، ظاهرٌ من رجلك النظيف، وخُفّك اللطيف.
فنقـول: نعم، ظاهرٌ على ابن المطهّر أنّه مِن دَنَس الباطل ودَرَن التعصّب مطـهَّر، وهو خائض في مزابل المطاعن، وغريق في حُشـوش(3)الضغـائن، فنعـوذ بالله من تلبيـس إبليـس، وتدليـس ذلك الخسـيـس، كيف سَـوَّل له وأملى لـه، وكَـثّرَ في إفشاء الباطل ـ على رغم الحقّ ـ إمـلاءه؟!
____________
(1) الحَوْزُ: الجَمْعُ، وكلّ مَن ضمّ شيئاً إلى نفسه مِن مال أو غير ذلك، فقد حازَه حَوْزاً وحِيازة ; انظر: الصحاح 3 / 875، لسان العرب 3 / 388، مادّة " حَوَزَ ".
(2) في إبطال نهج الباطل: " يبيّـنون " ; ولعلّ ما في المتن تصحيف: يبلّغون.
(3) الحُشُوش، جمع: الحَشّ والحُشّ: الكُـنُـف ومواضع قضاء الحاجة.
انظر: الصحاح 3 / 1001، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 390، لسان العرب 3 / 189 ـ 190، القاموس المحيط 2 / 279، تاج العروس 9 / 90 ـ 91، مادّة " حَشَشَ ".
شُمُّ المَعـاطِسِ مِن أولادِ فاطِمـة | عَـلَـوْا رَواسيَ طَوْدِ العِزّ والشَرَفِ |
فاقُوا العَرانِينَ(6) في نَشْرِ النَدى كَرَماً | بِسَمْحِ كَـفّ خَلا مِنْ هَجْنَةِ السَرَفِ |
____________
(1) الإيوان ـ بكسر الهمزة ـ: الصُفّة العظيمة كالأَزَجِ ـ وهو البيت الذي يبنى طولا غير مسدود الوجه ـ وجمعه: إيوانات وأواوين.
انظر: الصحاح 5 / 2076، لسان العرب 1 / 273 و 130، تاج العروس 18 / 40 و ج 3 / 287، مادّتَي " أَوَنَ " و " أَزَجَ ".
(2) مَجَادِيحُ السماء: أنواؤها ; انظر: الصحاح 1 / 358، لسان العرب 2 / 197، مادّة " جَدَحَ ".
(3) الغِياضُ ـ جمع: غَيْضة ـ: وهي الأَجَمة، وهي مجتمَع الشجر في مغيض الماء، يجتمع فيه الماء فينبت فيه الشجر، من أيّ الشجر كان، وكذا هي الشجر الملتفّ.
انظر: الصحاح 3 / 1097، لسان العرب 10 / 158، تاج العروس 10 / 117، مادّة " غَيَضَ ".
(4) الإيالة: السياسة، يقال: آلَ الأميرُ رعيّتَه يَؤُولها أَوْلا وإيَالا، أي ساسها وأحسنَ رعايتها ; انظر: الصحاح 4 / 1628، لسان العرب 1 / 267، مادّة " أَوَلَ ".
(5) في طبعتَي طهران والقاهرة: " مظاهر "، والمثبت هو الأنسـب بالسـياق.
(6) عرانين القوم: سادتهم وأشرافهم ووجوههم ; انظر: الصحاح 6 / 2163، لسان العرب 9 / 175، مادّة " عَرَنَ ".
تَلْقاهُم في غَداة الرَوْعِ إذْ رَجَفَتْ | أكتافُ أكفائِهم مِن رَهْبة التَلَفِ |
مِثلَ الليوثِ إلى الأهوال سارِعةً | حَماسَة النَفْسِ لا مَيْلا إلى الصَلَفِ |
بَنُو عليّ وَصيِّ المُصطفى حقّاً (؟)(1) | أحلافُ(2) صِدْق نَمَوْا مِنْ أَشْرَفِ السَلَفِ |
وهؤلاء الأئمّة الكرام(3)، قد كانوا يثنون على الصحابة الكرام، الخلفـاء الراشـدين ـ رضي الله عنهم ـ بما هم أهله مِن ذِكر المناقـب والمزايـا.
وقد ذكر الشيخ عليّ بن عيسى الإرْبِـلِـي(4) ـ رحمه الله تعالى ـ في
____________
(1) علامة الاسـتفهام من الشيخ المظفّر (قدس سره).
(2) كذا في الأصل ; وفي إحقاق الحقّ: أخلاف.
(3) في إبطال نهج الباطل: " العظام ".
(4) هو: الشيخ بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن عيسى بن فخر الدين أبي الفتح الإربلي، من كبار علماء الشيعة الإمامية، كان فاضلا محدّثاً ثقة، شاعراً أديباً منـشـئاً، جامعاً للفضائل والمحاسن، مؤلّفاً شهيراً.
كان والده أميراً حاكماً بإربل أيّام تاج الدين محمّـد بن الصلايا الحسين، له تصانيف كثيرة، منها: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة (عليهم السلام)، رسالة الطيف في الإنشاء، نزهة الأخيار، حياة الإمامين زين العابدين ومحمّـد الباقر (عليهما السلام)، ديوان شعر، وله رسائل علمية وأدبية، وله أيضاً شعر كثير في مدح أهل البيت (عليهم السلام) ".
ولقبه " الإربِلي " نسبة إلى إربِـل، وهي: قلعة حصينة ومدينة كبيرة بين الزابَـيْن، من أعمال الموصل، من جهتها الشرقية.
وجاء في خاتمة كتابه " كشف الغمّة " أنّه فرغ من تصنيفه سنة 687 هـ، وتوفّي سنة 2 / 693 هـ في بغداد ودفن فيها ; ولعلّ ما في شذرات الذهب من أنّه توفّي سنة 683 هـ تصحيف، لمنافاته مع ما سـبق.
أمّـا مرقـده فهو بالكرخ ببغـداد، بداره على الضـفة اليمنـى لـنهر دجلـة قرب الجسر العتيق (جسر الأحرار) بين الزقاق ونهر دجلة.
انظر: أمل الآمل 2 / 195 رقم 588، رياض العلماء 4 / 166، الكنى والألقاب 2 / 18، مراقد المعارف 2 / 90 رقم 174، معجم البلدان 1 / 166 رقم 406، شذرات الذهب 5 / 383 وفيات سنة 683 هـ، هديّة العارفين 5 / 714، معجم المؤلّفين 2 / 484 رقم 9805.
أنّ الإمام أبا جعفـر محمّـداً الباقـر (رضي الله عنه) سُـئل عن حلية السـيف، هل يجـوز؟
فقال: نعم [يجوز]، قد حلّى أبو بكر الصدّيق سـيفه [بالفضّـة].
قال الراوي: فقال السائل: أتقول هكذا؟!
فوثب الإمام من مكانه وقال: نعم.. الصدّيق، فمنْ لم يقل له: " الصدّيق " فلا صدّقه الله في الدنيا والآخرة(1).
هذه عبارة " كشف الغمّة " وهو كتاب مشهور معتمد عند الإمامية.
وذكر أيضاً في الكتاب المذكور، أنّ الإمام أبا عبـد الله جعفر بن محمّـد الصادق قال: " ولدني أبو بكر (الصدّيق)(2) مرّتين " ; وذلك أنّ أُمّ الإمام جعفر كانت أُمّ فروة بنت القاسم بن محمّـد بن أبي بكر الصدّيق،
____________
(1) كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2 / 147، نقلا عن صفة الصفوة ـ لأبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي ـ 1 / 399، باختلاف يسـير ; وما بين القوسين المعقوفتين أثبتـناه من " إبطال نهج الباطل " المطبوع ضمن " إحقاق الحقّ ".
(2) ليسـت في كشف الغمّة.
وذكر الإمام الحاكم أبو عبـد الله النيسابوري، المحدّث الكبير، والحافظ المتقن، الفاضل النحرير، في كتاب " معرفة علوم الحديث " بإسـناده عن الإمام [أبي عبـد الله] (3) جعفـر بن محمّـد الصـادق، أنّه قال: " أبو بكر (الصدّيق)(4) جدّي، وهل يسـبُّ أحـدٌ أجداده(5)؟! لا قـدّمني الله إنْ لا أُقدّمه "(6). انتهى..
وقد اشتهر بين المحدّثين والعلماء أنّ الحاكم أبا عبـد الله ـ المذكور ـ كان مائلا إلى التشـيّع(7).
فمن عجبي!! كيف يجوز لهم ذِكر المطاعن لذلك الإمام الحكيم الرشيد، وقد ذكر الأئمّة ـ الّذين يدّعون الاقتداء بهم ـ في مناقبه(8) أمثالَ هذه المناقب، ومع ذلك يزعمون أنّهم لهم مقتدون، وبآثارهم مهتدون؟!
نسأل الله العصمة عن التعصّب، فإنّه ساء الطريق، وبئس الرفيـق.
ثمّ إنّي لمّا نظرت في ذلك الكتاب الموسوم بـ " نهج الحقّ وكشف الصدق " رأيت أنّ صاحبه عدل عن نهج الحقّ، وبالغ في الإنكار على أهل السُـنّة، حتّى ذكر أنّهم كالسوفسطائية، يُنكرون المحسوسات والأوليّات،
____________
(1) إذ إنّ جدّته لأُمّه (عليه السلام) هي: أسماء بنت عبـد الرحمن بن أبي بكر.
(2) انظر: كشف الغمّة 2 / 161، نقلا عن الحافظ عبـد العزيز بن أبي نصر محمود بن المبارك بن محمود الجنابذي، المعروف بابن الأخضر (524 ـ 611 هـ).
(3) أثبتـناه من " إبطال نهج الباطل " المطبوع ضمن " إحقاق الحقّ ".
(4) ليسـت في معرفة علوم الحديث.
(5) في إبطال نهج الباطل: آبـاءَه.
(6) معرفة علوم الحديث: 51.
(7) انظر: سير أعلام النبلاء 17 / 162 رقم 100.
(8) أي: مناقب أبي بكر. وكان في إبطال نهج الباطل: " مناقبهم " وهو تصحيف.
ولم يبلغني أنّ أحداً من علماء السُـنّة ردّ عليه كلامه ومطاعنه في كتاب وضعه لذلك، وذلك الإعراض يُحتمل أن يكون لوجهين:
الأوّل: عدم الاعتناء بكلامه وكلام أمثاله ; لأنّ أكثره ظاهر عليه أثر المكابرة والتعصّب، وقد ذكر ما ذكر في كلام بالغ في الركاكة ـ على شاكلة كلام المتعرّبة من عوامّ الحلّة وبغـداد ـ، وشَيْن الرَطانة(2)، وهُجْنَة(3) [العَـوْراء(4)] تلوح من مخائله كرطانات جهلة أهل السواد، كما ستراه واضحاً غير خفيّ على أهل الفطانات.
الوجه الثاني: إنّ تتبُّع ذلك الكلام وتكراره وإشاعته ممّا ينجـرّ(5)إلى اتّساع الخرق، وتشهير ما حقّه الإعراض عنه، ولم يكن داعية دينية تدعو إلى ذلك الردّ، لسلامة الزمان عن آفة البدعة.
ومن عادة أجلّة علماء الدين أنّهم لا يخوضون في التصانيف إلاّ
____________
(1) ليسـت في إبطال نهج الباطل ; وعبارة الفضل مشوّشة، وما يناسب السـياق أن تكون الجملة هكذا: ومسائل من علم أُصول الفقه...
(2) الرَِطانة ـ بالفتح أو الكسر ـ: الكلام بالعُجْمِيّة ; انظر: الصحاح 5 / 2124، لسان العرب 5 / 239، تاج العروس 18 / 237، مادّة " رَطَنَ ".
(3) تهجين الأمر: تقبيحه، والهُجنة من الكلام: ما يَعِيبُه ; انظر: الصحاح 6 / 2217، لسان العرب 15 / 42، تاج العروس 18 / 582، مادّة " هَجَنَ ".
(4) العَـوْراء: الكلمة التي تَهْوي في غير عقل ولا رُشْد، والكلمة القبيحة، وهي السَقْطة ; انظر: الصحاح 2 / 760، لسان العرب 9 / 469، مادّة " عَوَرَ ".
(5) كذا في الأصل والمصدر، و " يجرُّ " هو الصواب لغةً ومعنىً ; وكذا في المورد التالي في الصفحة التالية.