الصفحة 51

وقال الفضـل(1):

إعلم أنّ هذه المباحث ـ التي صدّر بها كتابه ـ كلّها ترجع إلى بحث الرؤية، التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية وغيرهم، وذلك في رؤية الله تعالى التي تجوّزها الأشاعرة، وتنكرها المعتزلة ; كما ستراه واضحاً إن شاء الله تعالى.

فَجَعَلَ المسألة الأُولى في الإدراك مع إرادة الرؤية ـ التي هي أخصّ من مطلق الإدراك ـ من باب إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ، بلا إرادة المجاز وقيام القرينة ; وهذا أوّل أغلاطه.

والدليل على أنّه أراد بهذا الإدراك ـ الذي عنون به المسألة ـ الرؤيةَ:

أنّه قال: " لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ـ على ما يأتي ـ [وبه تُعرف الأشياء]، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة، وجب البدأة بـه ".

وإنّمـا ظهرت مقـالاتهم العجيـبة ـ على زعمه ـ في الرؤية، لا في مطلق الإدراك ; كما ستعرف بعد هذا.

فإنّ الأشاعرة لا بحث لهم مع المعتزلة في مطلق الإدراك، فثبت أنّه أطلق الإدراك وأراد به الرؤية ; وهو غلط، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ.

ثمّ إنّ قوله: " الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها... وبه تُعرف الأشياء " كلام غير محصّل المعنى ; لأنّه إنْ أراد أنّ الرؤية التي أراد من

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 78 ـ 81.


الصفحة 52
الإدراك هي أعرف الأشياء في كونها محقّقة ثابتة، فلا نسلّم الأعرفية، فإنّ كثيراً من الأجسام والأعراض معروفة محقّقة الوجود مثل الرؤية.

وإنْ أراد أنّ الإحساس ـ الذي هو الرؤية ـ أعرف بالنسبة إلى باقي المحسوسات(1)، ففيـه:

إنّ كلّ حاسّة بالنسبة إلى متعلّقها، حالها كذلك، فمن أين حصل هذه الأعرفية للرؤية؟!

وبالجملـة: هذا الكلام غير محصّل المعنى.

ثمّ قوله: " إنّ الله تعالى خلق النفس الإنسانية ـ في مبدأ الفطرة ـ خالية عن جميع العلوم بالضرورة، وقابلة لها [بالضرورة]، وذلك مُشاهَد في حال الأطفال "..

كلام باطل، يُعلم منه أنّه لم [يكن] يعرف شيئاً من العلوم العقليّة، فإنّ الأطفال لهم علوم ضروريّة كثيرة من المحسوسات البصريّة والسمعيّة والذوقيّة، وكلّ هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحسّ.

ولمّا لم يكن هذا الرجل من أهل العلوم العقليّة، حسب أنّ مبدأ الفطرة الذي يذكره الحكماء ويقولون: " إنّ النفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم " هو حال الطفوليّة ; وذلك باطل عند من يعرف أدنى شيء من الحكمـة، فإنّ الجنين ـ فضلا عن الطفل ـ له علوم كثيرة.

بل المراد من مبدأ الفطرة: آنُ تعلّقِ النفس بالبدن، فالنفس في تلك الحال خالية عن جميع العلوم إلاّ العلم بذاتها.

وهذا تحقيقٌ ذُكِر في موضعه من الكتب الحكميّة، ولا يناسب بسطه

____________

(1) في إحقاق الحقّ: الإحساسات.


الصفحة 53
في هذا المقام، والغرض أنّه لم يكن من أهل المعقولات حتّى يظنّ أنّه شنّع على الأشاعرة من الطرق العقليّة.

ثمّ في قولـه: " وأنـكروا قضايا محسوسة ـ على ما يأتي بيانه ـ فلزمهم إنكار المعقولات الكلّـيّة ".

أراد به أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية عند شرائطها، وعدم امتناع الإدراك عند فقد الشرائط ; وأنت ستعلم أنّ كلّ ذلك ليس إنكاراً للقضايا المحسوسة.

ثمّ إنّ إنكار القضايا المحسوسة، أراد به أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة، لوقوع الغلط في المحسوسات، فلا يُعتمد على حكم الحـسّ.

وهذا هو مذهب جماعة من العقلاء، ذكره الأشاعرة وأبطلوه، وحكموا بأنّ حكم الحسّ معتبر في المحسوسات، كما اشتهر هذا في كتبهم ومقالاتهم(1).

ولو فرضنا أنّ هذا مذهبهم، فليس كلّ من يعتقد بطلان حكم الحسّ يلزمه إنكار كلّ المعقولات، فإنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة، من جملتها المحسوسات، فمن أين هذه الملازمة؟!

فعُلِم أنّ ما أراد ـ في هذا المبحث ـ أنْ يلزم الأشاعرة من السفسطة، لم يلزمهم، بل كلامه المشوّش ـ على ما بيّـنّا ـ عين الغلط والسفسطة.

والله العالم.

____________

(1) انظر: الأربعين في أُصول الدين 1 / 237، شرح المقاصد 2 / 305 و 312 ـ 313 و ج 4 / 140، شرح المواقف 7 / 200 ـ 210.


الصفحة 54

وأقـول:

لا يخفى أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة لا يخصّ الرؤية ـ وإنْ كان الكلام فيها أوضح ـ، بل يعمّ مطلق الإدراك بالحواسّ الظاهريّة.

فإنّهم كما أجازوا تحقّق الرؤية بدون شرائطها، وأجازوا رؤية الكيفيّات النفسانيّة ـ كالعلم، والإرادة، ونحوهما ـ، ورؤية الكيفيّات الملموسة، والأصوات، والطعوم..

أجازوا سماع المذكورات، ولمسها، وشمّها، وذوقها ; لإحالتهم كلّ شـيء إلى إرادة القـادر المخـتـار، مـن دون دخـل للأسـباب الطبـيعيّـة ; كما سـيصرّح به الخصم في المبحث الآتي وغيره.

ولأجل عموم النزاع، جعل المصنّف (رحمه الله) عنوان المسألة: الإدراك، وأراد به مطلق الإحساس بالحواسّ الظاهريّة.

ولذا تعرّض في هذا المبحث الأوّل للقوى الظاهريّة، وتدرُّج الطفل فيها، ثمّ قال: " فالمحسوسات إذاً: هي أُصول الاعتقادات، ولا يصحّ الفرع إلاّ بعد صحّة أصله ".

وتعرّض في المبحث الثالث والرابع والسادس لِما يتعلّق بغير الرؤية.

فحينئذ لا معنى لِما زعمه الخصم من أنّ المصنّف أراد بالإدراك خصوص الرؤية.

ولو سُلِّم، فلا وجه لإنكار الخصم صحّة إرادة الرؤية من الإدراك، وقيام القرينة عليها، فإنّه بعدما زعم وجود الدليل على إرادتها منه، فقد أقرَّ بثبوت القرينة، إذ ليست القرينة إلاّ ما يدلّ على المراد باللفظ.


الصفحة 55
ثمّ إنّ قول المصنّف (رحمه الله): " الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها، وبه تُعرف الأشـياء " إنّما هو كقولهم: العِلم بديهي التصـوّر، وغيرُه يُعرف به، فلا يُحَدّ.

فالإدراك حينئذ ـ أعني الإحساس بالحواسّ الظاهريّة ـ بمنزلة العلم الذي هو الإدراك بالقوى الباطنية، في كونهما معاً بديهيَّين، مفهوماً، ووجوداً، وشروطاً.

وهذا كلام ظاهر المفهوم، محصّل المعنى، لمن له تحصيل!

ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) أراد بمبدأ الفطرة: ما قبل الولادة، وهو زمن تعلّق النفس الحيوانية ـ أي قوى الحيوان المدركة والمحرّكة ـ بالبدن، لقوله: " فيحسّ الطفل في أوّل ولادته ".

إذ لا يجتمع إثبات الإحساس له مع قوله: " النفس في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم " لو أراد بـ " مبدأ الفطرة " ما هو عند الولادة، فلا بُـدّ من اختلاف الزمان، وأنّه أراد بـ " مبدأ الفطرة " ما قبل الولادة.

كما أنّه أراد بالأطفال: مطلق الصغار ـ ولو قبل الولادة ـ لا خصوص المولودين، ولذا حكم بخلوّهم عن العلوم في مبدأ الفطرة، حتّى العلم بذواتهم، إذ لا دليل على اسـتثنائه ـ كما فعله الخصم تقليداً لغيره ـ، فإنّ الحياة لا تسـتلزم الشعور والإدراك حتّى للذات.

ولذا ترى من أصابه الـبَـنْـج(1) حيّـاً لا إدراك له أصـلا، ولا نعرف

____________

(1) البَـنْـج: نبت معروف مُسْـبِتٌ مُخدِّر، مُخَبِّطٌ للعقل، مُجنِّن، مسكِّن لأوجاع الأورام والبثور وأوجاع الأُذن، طلاءً وضِماداً.

انظر: تاج العروس 3 / 300، مجمع البحرين 2 / 279، مادّة " بَنَجَ "، وانظر أيضاً: ألف باء الأعشاب والنباتات الطبّية 1 / 313 رقم 150.


الصفحة 56
أمراً ـ غير الحياة في مبدأ الفطرة ـ يقتضي العلم بالذات، أو سائر الوجدانـيّـات.

ولو سُلِّم، فتعميم الإدراك للجميع أقرب من تخصيصه بالذات.

ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) أراد بقوله: " أنكروا قضايا محسوسة " أنّهم أنكروا أصل ثبوتها، كإنكارهم كون شرائط الرؤية وسائر الإحساسات الظاهريّة، شرائط واقعيّة لها، لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار، وقولهم: " إنّ تلك الشرائط لا دخل لها بالمشروط، وإنّ الترتّب بينها عاديّ فقط ".

وقد اختلف كلام الخصم هنا.

فمرّةً قال: أراد أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية.

ومرّةً قال: أراد أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة.

وكلاهما غير مراد للمصنّف، لكنّه تعرّض لأوّلهما ـ في المباحث الآتية ـ من حيث تفرّعه على إنكار أصل القضايا.

ولعلّه توهمّ أنّ المصنّف أشار إلى ثانيهما بقوله: " فالطعن في الأصل طعن في الفرع ".. وهو خطـأ!

فإنّ المصنّف أراد الطعن في القضايا المحسوسة، من حيث إنكارها، لا من حيث وقوع الغلط في المحسوسات، وعدم صحّة الاعتماد عليها، مع أنّه لا فرق بينهما في أنّ القول بهما موجب لإنكار المعقولات ; لتفرّعها عليهـا.

ولا يرفع الإشكال ما ذكره من أنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ; لرجوع أكثر غير المحسوسات إليها.

وبالجملـة: ليس للإنسان من القوى المدركة إلاّ قوى الحواسّ

الصفحة 57
الظاهريّة والباطنيّة والقوّة العاقلة، ولا شكّ أنّ القوّة العاقلة إنّما تدرك الكلّـيّات بواسطة الحواسّ الظاهرية والباطنية، كما إنّ الباطنيّة إنّما تدرك متعلّقاتها بواسطة الظاهريّة، فإذا أبطلنا حكم الحسّ الظاهري فقد أبطلنا حكم الحسّ الباطني وحكم العقل، فلا يُعتمد على جميع المعقولات.

*    *    *


الصفحة 58

شـرائط الرؤيـة

قال المصنّـف ـ طـيّب الله مرقده ـ(1):

المبحـث الثـاني
في شـرائط الرؤيـة

أطبق العقلاء بأسرهم ـ عدا الأشاعرة ـ على أنّ الرؤية مشروطة بأُمور ثمانية، (لا تحصل بدونها)(2):

الأوّل: سلامة الحاسّة.

الثاني: المقابَلـة أو [ما في] (3) حُكمها، (كما)(4) في الأعراض، والصور في المرآة، فلا تبصر شيئاً لا يكون مقابلا، ولا في حكم المقابل.

الثالث: عدم القُرب المفرط، فإنّ الجسم لو التصق بالعين، لم تُمْكِن رؤيته.

الرابع: عدم البُعد المُفرِط، فإنّ البعد إذا أفرط لم تُمْكِن رؤيته.

الخامس: عدم الحِجاب، فإنّه مع [وجود] الحجاب بين الرائي

____________

(1) نهج الحقّ: 40 ـ 41.

(2) ما بين القوسين لم يرد في " نهج الحقّ " المطبوع.

(3) ليست في المصدر، وقد أضفناها من نسخة إحقاق الحقّ.

(4) ليست في المصدر.


الصفحة 59
والمرئي، لا تُمكن رؤيته.

السـادس: عـدم الشـفّافيـة، فإنّ الجسـم الشـفّاف الـذي لا لـون لـه ـ كالهواء ـ لا تُمكن رؤيته.

السابع: تعمّد الرائي للرؤية.

الثامن: وقوع الضوء عليه، فإنّ الجسم الملوّن لا يُشاهَد في الظلمة.

وحكموا بذلك حكماً ضرورياً لا يرتابون فيه.

وخالفـت الأشاعرة في ذلك جميع العقـلاء ـ من المتكلّمين والفلاسفة ـ ولم يجعلوا للرؤية شرطاً من هذه الشرائط!(1).

وهو مكابرة محضة لا يشكّ فيها عاقل!

*    *    *

____________

(1) انظر: تمهيد الأوائل: 315 ـ 316، الملل والنحل 1 / 87، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 278، الأربعين في أُصول الدين 1 / 297، شرح المقاصد 4 / 197، شرح المواقف 8 / 136.


الصفحة 60

وقال الفضـل(1):

إعلم أنّ شرط الشيء ما يكون وجودُه موقوفاً عليه، ويكون خارجاً عنه، فمن قال: شرط الرؤية هذه الأُمور ; ماذا يريد من هذا؟!

إنْ أراد أنّ الرؤية لا يمكن أن تتحقّق عقلا إلاّ بتحقّق هذه الأُمور، واسـتحال عقلا تحقّقه بدون هذه الأُمور..

فنقول: لا نُسلِّم الاستحالة العقليّة، لأنّا وإنْ نرى في الأسـباب الطبيعيّة وجود الرؤية عند تحقّق هذه الشرائط، وفقدانها عند فقدان شيء منها، إلاّ أنّه لا يلزم بمجرّد ذلك ـ من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط ـ محالٌ، وكلّما كان كذلك لا يكون محالا عقليّـاً.

وإنْ أراد أنّ في العادة جري تحقّق المشروط ـ الذي هو الرؤية ـ عند حصول هذه الشرائط، ومحالٌ عادةً أن تتحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط مع جوازه عقلا.. فلا نزاع للأشاعرة في هذا.

بل غرضهم إثبات جواز الرؤية عقلا عند فقدان الشرائط.

ومـن ثمّـة تراهـم يقـولون: إنّ الرؤيـة أمـر يخلقـه الله في الحـيّ، ولا يُشترط بضوء، ولا مقابلة، ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الفلاسـفة(2)، وغرضهم ـ من نفي الشرطية ـ ما ذكرنا، لا أنّهم يمنعون جريان العادة.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 92 ـ 93.

(2) انظر: شرح المواقف 8 / 116.


الصفحة 61
على أنّ تحقّق الرؤية إنّما يكون عند تحقّق هذه الشرائط، ومَن تتبّع قواعدهم علم أنّهم يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة كالفلاسفة، ومَن يلحس فضلاتهم كالمعتزلة ومَن تابَعهم.

فحاصل كلامهم: إنّ الله تعـالى قادر على أنْ يخلق الرؤية في حيّ مع فقدان هذه الشرائط، وإنْ كان [هذا] خرقاً للعادة!

فأين هذا من السفسـطة، وإنكار المحسوسات، والمكابرة، التي نسـب هذا الرجل إليهم؟!

وسـيأتي عليك (في)(1) باقي التحقيقات.

*    *    *

____________

(1) ليسـت في إحقاق الحقّ، والظاهر أنّها زائدة.


الصفحة 62

وأقـول:

لا يخفى أنّ الإمكان والامتناع عقلا ربّما يكونان ضروريَّين، وربّما يكونان كـسْـبِـيَّين، فإذا كانا ضروريَّين استغنى مدّعي ثبوتهما عن الدليل، ولم تصحّ مقابلته بالردّ والتشكيك.

ولذا لا يحتاج مدّعي امتناع جعل العالَم ـ على سعته ـ في بيضة على ضيقها، إلى دليل.

ولا مدّعي امتناع اجتماع الضدّين، أو النقيضين، إلى دليل.

ولا ريب أنّ العقلاء يرون وجود الرؤية بدون شرائطها من الممتنعات العقليّة، كاجتماع الضدّين والنقيضين، وكرؤية الأعدام.

وكما لا يسوغ عندهم دعوى إمكان هذه الأُمور ونحوها، لا يسوغ مثلها في الرؤية المعروفة الخاصة إذا لم تجتمع شرائطها.

وما ذكره من أنّهم " يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار، وعموم قدرته، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة " خطـأ ظاهر ; لاستلزامه جواز تحقّق الرؤية بلا راء ; لأنّ الرائي جزء السبب كالشـروط.

فلو جاز عقلا وجود المسـبّبات بلا أسبابها الطبيعيّة، لجاز وجود الرؤية بلا راء، والقيام بلا قائم، والعرض بلا معروض، والجسم بلا مكان ; وهو خلاف ضرورة العقلاء.

وأمّا عموم القدرة، فهو لا يقتضي إلاّ تأثيرها في المقدور، لا في الممتنـع، كجعل الشـريك له سـبحانه ; لأنّ الممتنع ليس متعلّقاً للقـدرة،

الصفحة 63
ولا محلاًّ لها ; وليس هذا نقصاً في القدرة ألبتّـة.

وبالجملـة: تأثير الأسباب الطبيعية في مسـبّباتها، وتوقّفها عليها عقلا، ضروريّ عند العقلاء، بلا نقص في قدرة القادر ; لأنّ محلّ القدرة هو المسبّب بسـببه، لا بدونه.

لكنّ الأشاعرة أنكروا سـببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعاً، وتوقّف المسـبَّبات عليها عقلا، وادّعوا تأثّر المسبَّبات عن القادر بلا توسّط أسبابها الطبيعيّة واقعاً، فخالفوا ضرورة العقلاء، ولزمهم أن يمكن وجود الأسباب الطبيعيّة بلا مسـبّباتها، وبالعكس!

ويترتّب عليه عدم الحكم على الجسم بالحدوث، ولا على المركّب بالإمكان، وعدم صحّة الاسـتدلال بالمقدّمات على النتائج.

أمّـا الأوّل: فلاسـتلزام تلك الدعوى جواز وجود الجسم بلا حركة ولا سكون ; لأنّهما أثران طبيعيان للجسم، وإذا جاز وجوده بدونهما لم يثبت حدوثه ; لأنّ الدليل على حدوثه هو استلزامه عقلا للحركة والسكون الحادثَين.

وأمّـا الثاني: فلأنّ أجزاء المركّب سبب طبيعي له، فلو جاز عقلا تحقّق المسبَّب بدون سببه الطبيعي، لجاز وجود المركّب بغير أجزائه، فلم ينافِ التركيب وجوب الوجود، وجاز أن يكون المركَّب واجباً، والواجب مركَّباً، وهو باطل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ محاليّة وجود المركّب بلا أجزائه، من حيث منافاته لحقيقة التركيب، لا من حيث السـببية، حتّى يضرّ في المدّعى.

وفيـه: إنّ المنـافاة إنّما نشـأت واقعاً من جهة الســببـيّـة، إذ لولاها لم تحصل المنافاة.


الصفحة 64
وأمّا الثالث: فلأنّ المقدّمات سبب طبيعي للنتيجة، فلو لم تؤثّر فيها لجاز عقلا تخلّف النتيجة عنها، ويبطل الاستدلال كما سيذكره المصنّف (رحمه الله)في أوّل مباحث النظر.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ دعوى إمكان الرؤية بلا شرائطها تحتاج إلى دليل، إذ ليس ذلك ضرورياً، فعليهم إثبات الإمكان.

ولا ينافيه قول الرئيس ابن سينا: " ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان، حتّى يذودك عنه واضح البرهان "(1).

فإنّ المراد بالإمكان فيه هو الاحتمال، لا مقابل الامتناع.

وأمّا قول الخصم: " لا يلزم من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط محال ".

فإنْ أراد به أنّ تحقّق الرؤية بدون شرائطها ليس بمحال ; فهو عين الدعوى.

وإنْ أراد به أنّه لا يلزم منه محال آخر فلا يكون محالا..

ففيـه: إنّ محالية الشيء لا تتوقّف على أنْ يلزم منه محال آخر، وإلاّ لم يكن اجتماع الضدّين أو النقيضين ـ كأكثر المحالات ـ محالا.

فإنْ قلـت: لعلّهم يريدون بالرؤية ـ التي ينكرون توقّفها عقلا على الشرائط ـ غير الرؤية المعروفة الحاصلة بالانطباع، أو بخروج الشعاع القائمة بالقوّة المودَعة بالآلة الخاصّة.

قلـت: لو أرادوا غيرها ـ كالانكشاف العلمي ـ لكان النزاع لفظياً، وهو خلاف البديهة، ولَما احتاج الخصم إلى ذِكر أنّ قاعدتهم إحالة كلّ

____________

(1) الإشارات والتنبيهات 3 / 418 النمط العاشر في أسرار الآيات.


الصفحة 65
شيء إلى إرادة الفاعل المختار، بل كان يكفيه أن يقول: الرؤية التي نجوّزها بلا هذه الشرائط هي غير الرؤية المعروفة المخصوصة.

هـذا، ولا يخفى أنّه لا فرق بين دعوى القوم إمكان الرؤية المعروفة بدون شرائطها، وبين دعوى امتناعها وجواز إيجاد الله تعالى للمحال، كما زعمه ـ في بعض المحالات ـ ابنُ حزم في " الملل والنحل " فحكم بأنّ الله تعـالى قادر على أنْ يجعل المـرء قائماً قاعداً معاً في وقت واحد، وقاعداً لا قاعداً، وأنْ يجعل الشيء موجوداً معدوماً في وقت واحد، والجسم الواحد في مكانين، والجسمين في مكان واحد، بل جوّز أن يتّخذ الله ولداً!(1) تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.. إلى نحوها من الطامّات.

ويظهر من شيخهم الأشعري تجويز مثل تلك الأُمور، فقد نقل السـيّد السـعيد (رحمه الله) عن " شرح [جمع] الجوامع " للفناري(2) الرومي(3) أنّه قال: " أمّا المستحيلات فلعدم قابليّتها للوجود لم تصلح أن تكون محلاًّ لتعلّق الإرادة "..

إلى أن قال: " ولم يخالف في ذلك إلاّ ابن حزم فقال في (الملل

____________

(1) الفصل في الملل والنحل 2 / 21 ـ 22.

(2) كان هنا في الأصل: " للنفاوي " وكذا في المواضع التالية، وهو تصحيف، انظر الهامش التالي.

(3) هو: شمس الدين محمّـد بن حمزة بن محمّـد الفَنَاري الرومي، وُلد سنة 751، وتوفّي سنة 834 هـ، كان عارفاً بالعربية والمعاني والقراءات والمنطق والأُصول، كثير المشاركة في الفنون، رحل إلى مصر، ثمّ رجع إلى الروم، له مصنّفات عديدة، منها: فصول البدائع في أُصول الشرائع، تفسير سورة الفاتحة، شرح مفتاح الغيب في التصوّف للقونوي، أُنموذج العلوم.

انظر: مفتاح السعادة ومصباح السيادة 2 / 109، شذرات الذهب 7 / 209، هديّة العارفين 6 / 188، الأعلام ـ للزركلي ـ 6 / 110.


الصفحة 66
والنحل): إنّ الله عزّ وجلّ قادر على أن يتّخذ ولداً، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزاً "!

ثمّ قال الفناري: " وذكر الأُستاذ أبو إسحاق الإسفراييني(1) أنّ أوّل من أُخذ منه ذلك: إدريس (عليه السلام)، حيث جاءه إبليس في صورة إنسان، وهو يخيط ويقول في كلّ دخلة وخرجة: سبحان الله والحمد لله ; فجاءه بقشرة وقال: هل اللهُ يقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة؟ فقال: الله قادر أن يجعل الدنيا في سمّ هذه الإبرة ; ونخس(2) بالإبرة إحدى عينيه، فصار أعـور.

وهـذا وإنْ لم يُـرْوَ عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اشـتهر وظهـر ظهوراً

____________

(1) هو: ركن الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمّـد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الشافعي، فقيه متكلّم أُصولي، رحل إلى العراق في طلب العلم، له مناظرات مع المعتزلة، وله مصنّفات عديدة، منها: جامع الجلي والخفي في أُصول الدين والردّ على الملحدين، نور العين في مشهد الحسـين، وأدب الجدل، ومسائل الدور، وتعليقة في أُصول الفقه ; عاش نيّفاً وثمانين عاماً، وتوفّي بنيسابور يوم عاشوراء سنة 418 هـ، وصلّوا عليه في ميدان الحسـين، وحُمل إلى إسـفرايين فدُفن بها.

انظر: الأنساب ـ للسمعاني ـ 1 / 144 " الإسْفَرايِيني ـ بكسر الألف ـ "، تبيين كـذب المفـتري: 240، معجم البلـدان 1 / 211 رقـم 601 " أَسفراييـن ـ بفتـح الألف ـ "، المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور: 127 رقم 269، طبقات الفقهاء الشافعية ـ لابن الصلاح ـ 1 / 312 رقم 87، تهذيب الأسماء واللغات 2 / 169 رقم 271، وفيات الأعيان 1 / 28 رقم 4، سير أعلام النبلاء 17 / 353 رقم 220، طـبـقـات الشـافعيـة الكـبـرى ـ للسـبكي ـ 4 / 256 رقـم 358، طبقـات الشـافعيـة ـ للأسنوي ـ 1 / 40 رقم 39، شذرات الذهب 3 / 209، هديّة العارفين 5 / 8، الأعلام ـ للزركلي ـ 1 / 61.

(2) نَخَسَ الدابّـة وغيرها، يَنْخُسُها ويَنْخَسُها ويَنْخِسُها، نَخْساً: غَرَزَ جنبها أو مؤخّرها بعود أو نحوه، وهو النَخْسُ ; انظر: الصحاح 3 / 981، لسان العرب 14 / 83، تاج العروس 9 / 7، مادّة " نَخَسَ ".


الصفحة 67
لا يُنكَر.

وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس (عليه السلام) أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس "(1).

فهذا ـ كما ترى ـ دالٌّ على تجويز الأشعري جعل الدنيا في قشرة ; لأنّ الأخذ منه فرع القول به، ودالٌّ على تجويزه ما نقلناه عن ابن حزم، فإنّه من جنس الجواب الذي افتعلوه على إدريس (عليه السلام).

وليت شعري، إذا كان ذلك ثابتاً عن إدريس عند الفناري، فلِمَ لَم يلتزم بجواز خلق المستحيلات؟! ولكنّ الغلط غير ممنوع عندهم على الأنبيـاء!

هـذا، ولا يخفى أنّ جعل بعض شروط الرؤية المذكورة شرطاً، مبنيٌّ على أنّ عدم المانع ـ كالحجاب ـ شرطٌ، كما أنّ ذِكر حكم المقابلة فضلة ; لأنّ المرئيّ حقيقة هو الصورة التي في المرآة، وهي مقابلة لا ذو الصـورة.

واعلم أنّه كما للرؤية شروط، فلغيرها من الإحساسات الظاهرية شروط، ولم يعتبرها القوم أيضاً بمقتضى إحالتهم كلّ شيء إلى القادر المختار، وإنّما خصّ المصنّف الكلام هنا بالرؤية، لأنّها أظهر ما به الكلام، وأوضح حالا وشروطاً من سائر الإحساسات الظاهرية.

*    *    *

____________

(1) إحقاق الحقّ 1 / 101 ـ 102.


الصفحة 68

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّـف(1):

المبحـث الثـالث
في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ; للضرورة القاضية به، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، وارتكبوا السفسطة فيه، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة، من الأرض إلى عنان السماء، محيطة بنا من جميع الجهات، ملاصقة لنا، تملأ الأرض شرقاً وغرباً بألوان مشرقة مضيئة، ظاهرة غاية الظهور، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة، ولا نشاهدها، ولا نبصرها، ولا شيئاً منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض، بحيث ينزعج(2) منها كلّ أحد يسمعها، أشدّ ما يكون من الأصوات، وحواسّنا سليمة، ولا حجاب بيننا وبينها، ولا بُعْد ألبتّة، بل هي في غاية القرب منّا، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

____________

(1) نهج الحقّ: 41 ـ 42.

(2) كان في الأصل: " يتزعزع "، وفي المصدر: " يدعّج "، وكلاهما تصحيف ; وما أثبتـناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.


الصفحة 69
وكذا إذا لمـس أحدٌ بباطن كـفّه حديدة محميّـة بالنـار حتّى تبيـضّ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يُرمى في تنّور أُذيب فيه الرصاص أو الزيت، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب، ولا يدرك حرارته، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(1).

ولا شـكّ أنّ هذا [هو] عين السفسطة، والضرورة تقضي بفساده، ومن يشـكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [عندنا].

*    *    *

____________

(1) انظـر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في: تفسـير الفخر الرازي 13 / 135 ـ 136، شرح المقاصد 4 / 198 ـ 200، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ: 131.


الصفحة 70

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(2).

ومعنى نفي [هذا] الوجوب: إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط، وإنْ كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأُمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبـيـاء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا خرج ليلة الهجرة من داره، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب، وكان يقرأ سورة يس، وخرج ولم يره أحد، وكانوا جالسين، غير نائمين ولا غافلين(3).

فمن لا يُسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط، بأن يمنع الله [تعالى] البصر بقدرته عن الرؤية، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط: بأنّا

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 104 ـ 106.

(2) انظر: شرح المواقف 8 / 136.

(3) انظر: الشفا ـ للقاضي عياض ـ 1 / 349، تفسير القرطبي 15 / 8 ـ 9، زاد المعاد 3 / 43 ـ 44، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ 2 / 230، السيرة الحلبية 2 / 193، مجمع البيان 8 / 229.


الصفحة 71
نرى الجسم الكبير من البعد صغيراً، وما ذلك إلاّ لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(1).

والتحقيـق ما قدمناه [من] أنّهم يريدون من عدم الوجوب: جواز عدم الرؤية عقلا، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(2) الشـنيعة، والكلمات الهائلة المُرعِدة المُبرِقة، التي تميل بها خواطر القلندرية(3) والعوامّ إلى مذهبه الباطل، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصمُ عليهم في الاعتراض، ويقول: إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية، وإلاّ جاز أن يكون بحضرتنا جبال

____________

(1) انظر: شرح المواقف 8 / 136.

(2) الـتَـقَـعْـقُـعُ: التحـرُّك، وتَـقَـعْـقَـعَ الشيءُ: صَوَّتَ عند التحريك أو التحـرُّك، واضطَرب وتحرّك.

انظر: الصحاح 3 / 1269، لسان العرب 11 / 247، تاج العروس 11 / 392، مادّة " قَعَعَ ".

(3) القلندرية: كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس، وهو الذي شجّعها، وكان سبب انتشارها في مصر والشام، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي، وقال بعضهم: إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة 616 هـ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر: معجم الألفاظ التاريخية: 125.