هـذا هـو الاعـتـراض.
وأجاب الأشاعرة عنه: بأنّ هذا منـقوض بجملة العـاديّات، فإنّ الأُمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها، ولا سفسطة ها هنا.
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ; وذلك لأنّ الجواز لا يسـتلزم الوقوع، ولا ينافي الجزمَ بعدمه، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(1).
وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ: أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادةً، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.
ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها، فكلّها من قعقعة الشـنآن بعدما قدمنا لك البيـان.
____________
(1) انظر: شرح المواقف 8 / 137 ـ 138.
وأقـول:
سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سـببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعاً، ونسبة المسـبَّبات حقيقة إلى فِعل القادر، بلا دخل للأسباب، ولا توقّف للمسـبَّبات عليها عقلا.
وحينئذ فيجوز عقلا وواقعاً ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا، موصوفة بما وصفها المصنّف، وعدم سماع الأصوات، وإحساس حرارة الحديدة، على ما وصفهما المصنّـف (رحمه الله).
وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة، وهو خطأ ; لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع، والاطّلاع عليه غير ثابت.
بل على قولهم بالجواز العقلي، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال، إلاّ أنّـا لم نطّلع عليها، فإنّ مجرّد عدم مشـاهدتها لا يـدلّ على عـدمها ; لإمكـان أن تكـون موجـودة دائماً ونحـن لا نشـاهدها!
كما أنّ عدم لمسنا لها، وعدم مصادمتها لنا حال السـير، لا يدلاّن على انتفائها ; لجواز أنْ لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سـببهما الطبـيعي!
وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف (رحمه الله).
وأمّـا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط، فليس تفسـيراً صحيحاً.
وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر، بخلاف الأشاعرة، وهو ممّا لا يروج على عارف ; لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعـاً.
وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلاًّ للقدرة، بلا نفي لها عن محالّها، ولا نقص فيها.
فالفرق بيننا وبينهم هو أنّـا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سـببها الطبيعي، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ; وضرورة العقلاء هي الحاكمة.
وأمّـا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء، كالمعجزة المذكورة لنبـيّـنا (صلى الله عليه وآله وسلم) فغير مفيد له ; لأنّ هذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.
كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حين خروجه لسورة يس، فإنّ قوله تعالى: ( وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون )(1) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.
____________
(1) سورة يس 36: 9.
وأمّـا ما نقله عن بعض الأشاعرة، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها، ففيـه:
إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحاً بلا مرجّح، وهو باطل.
فلا بُـدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.
وإنّما يُرى كبيراً في القرب، صغيراً في البُعد، لأُمور محتملة..
أحدها: إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها، إنْ قلنا: إنّ الإبصار بالانطباع.
أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها، إنْ قلنا: إنّ الإبصار بخروج الشعاع.
وأورد عليه صاحب " المواقف " بما هو مبنيٌّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ، وعلى أنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(1).
وكلاهما باطل.
واعلم أنّ قول المصنّف (رحمه الله): " وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة " دالّ على ما ذكرناه سابقاً، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري، لا خصوص الرؤية.
____________
(1) انظر: المواقف: 307 ـ 308، شرح المواقف 8 / 136 ـ 137.
امتناع الإدراك مع فـقد الشرائط
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
المبحـث الرابـع
في امتناع الإدراك مع فـقد الشرائط
فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء، على صخرة سوداء، في طرف المغرب، في الليل المظلم! [وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد]، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.
ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغـرب!(2).
وكفى من اعتقد ذلك نقصاً، ومكابرة للضرورة، ودخولا في السـفسـطة.
[هذا اعتقادهم! وكيف(3) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا
____________
(1) نهج الحقّ: 42 ـ 44.
(2) انظر: شرح المواقف 8 / 139، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ: 436 المقصد الثالث.
(3) كان في المصدر: " وكيف من... " ولا يسـتقيم الكلام بإثبات " من " هنا، فحذفناها.
وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(1) مشـاهدة أعظم الأجسام قدراً، وأشدّها لوناً وإشراقاً، وأقربها إلينا، مع ارتفاع الموانع، وحصول الشرائط! و [من] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظُلَم الشديدة، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!
فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية، ووصل إلى هذه النهاية؟!
مع أنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان، حال خروجه، أُناساً فضلاء مدقّقين في العلوم، حال الغَـيْبة!
وهـؤلاء جـوّزوا حـصـول مـثـل هـذه الأشـخـاص في الحـضـور، ولا يُشاهَدون، فهم أبلغ في السفسطة من أُولئك!
فلينظر العاقل المنصف المقلِّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى، ويكون معذوراً برجوعه إليهم وقبوله منهم، أو لا؟!
فإنْ جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلَّدَ من إثمه، وباءَ هو بالإثم ; نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!
وقـال بعض الفضلاء(2) ـ ونِعم ما قال ـ: كلّ عاقل جـرّب الأُمـور
____________
(1) ليسـت في المصدر.
(2) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية: 43.
ومحالٌ أن يكون أهلُ بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوزُ عليهم جيش عظيم، ويُقتلون، وتُضرب فيهم البوقات الكثيرة، ويرتفع الريح، وتشـتدّ الأصوات، ولا يُشاهِد ذلك أحد منهم، ولا يسمعه!
ومحـالٌ أن يَرفع أهلُ الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السـماء، ولا يشـاهدونها!
ومحـالٌ أن يكون في السماء ألف شمس، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس، ولا يشاهدونها!
ومحالٌ أن يكون لإنسان واحد، مُشاهَد أنّ عليه رأساً واحداً، ألف رأس لا يشاهدونها، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!
ومحـالٌ أن يخبر واحدٌ بأعلى صوته ألف مرّة، بمحضر ألف نفس، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله، بأنّ زيداً ما قام، ويكون قد أخبر بالنفي، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي، مع تكرّره ألف مرّة، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!
بل عِلمُنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من عِلمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أُناساً مدقّقين في علم المنطق والهندسـة.
وأنّ ابني الذي شـاهدتُه بالأمس، هو الذي شـاهدتُه الآن.
وأنّه لم(1) يحدث حال تغميض العين ألف شمس، ثمّ تُعـدم عنـد
____________
(1) سقطت من المصدر.
مع أنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(1)، وهو في نفسه ممكن.
وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين، ولم يمرّ عليه ألف سـنة، مع إمكانه في نفسـه، وبالنظر إلى قدرة الله تعـالى.
وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهَدات؟!
ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم، وأفضل متأخّريهم، فخر الدين الرازي في هذا الموضع، حيث قال:
" يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار، فلهذا لا يحسّ بالحرارة، واللون الذي فيها، والضوء المشاهَد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد "(2).
وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ; لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة، يلمسه الإنسان الصحيح البنية، السليم الحواسّ، حال شدّة حرارته، ولا يحسّ بتلك الحرارة ; فإنّ أصحابه يجوزون ذلك، فكيف يكون ما ذكره جواباً؟!
____________
(1) ليسـت في المصدر.
(2) انظر مؤدّاه في: المطالب العالية من العلم الإلهي 3 / 283.
وقال الفضـل(1):
حاصل جميـع ما ذكره في هـذا الفصل ـ بعد وضع القعـقعة ـ: أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.
ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [سَـبَـلُ(2)] التعصّب عينَ بصيرته! فنقول:
ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء، فهم يقولون: إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته، فالنار ليست بالنار، والماء ليس بالماء، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار، وحقيقة الماء حقيقة الهواء، وليس لشيء حقيقة ما، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون ناراً، بل ماءً وهواءً أو غير ذلك.
وهذا هو السفسطة.
ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.
وأمّـا حاصل كلام الأشـاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو: أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجَد بإرادة
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 111 ـ 114.
(2) السَـبَلُ: داءٌ في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ; انظر: الصحاح 5 / 1724، لسان العرب 6 / 164، تاج العروس 14 / 327، مادّة " سَبَلَ ".
فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة، فلا يكون وجود شيء واجباً عند حصول الأسـباب الطبيعيّة، ولا يكون شيءٌ مفقوداً بحسب الوجود(1) عند فقدان الأسباب والشـرائط.
ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها، وتنعدم عند انعدامها، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجـوب.
فالشيء الذي له شرائط في الوجود، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط، وانتفاؤه عند انتفائها، بحسب ما جرى من العادة.
وإنْ كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب، لا في صورة التحقّق، لتحقّق الشرائط، ولا في صورة الانتفاء، لانتفائها، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط، إذ لم يلزم منه محالٌ عقلي، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ، الذي هو الفاعل المختار.
مثـلا: الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط، وَجَبَ تحقّقها عند تحقّقها، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.
كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة، دون انتفائها.
فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط، [أ] و تحقّقها عند فقدان الشرائط، محالٌ عاديّ(2) ; لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى، وإنْ كان
____________
(1) في المصدر: الوجوب.
(2) في المصدر: عادةً.
هذا حاصل مذهب الأشاعرة.
فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!
وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاسـتبعادات والتشـنيعات.
وأمّـا جـواب الإمام الرازي فهو واقـع بإزاء الاسـتبعاد، فإنّهـم يسـتبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنّور يجوز عقلا أن لا تحرق شـيئاً.
فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ; فيكون جوابه صحيحاً.
والله أعلم بالصواب.
وأمّـا قوله: " إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة، يلمسـه الإنسـان الصحيـح البنيـة، السليم الحـواسّ، حال شـدّة حرارته، ولا يحسّ بتلك الحرارة ; فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ".
فنـقول فيه: قد عرفت آنفـاً ما ذكرناه من معنى هذا التجـويز، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة، فهم لا يقولون: إنّ هذا ليس بمحال عادة، ولكن لا يلزم منه محالٌ عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية، وتمنع الحرارة عن التأثير.
ومَن أنكر هذا، فلينكر كون النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وأقـول:
ما ذكره من مغايرة الأشـاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة، كما هو مطلوب المصنّف (رحمه الله).
فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية، وغلطهم فيها غلطاً بيّناً يسـتوضحه كلّ ذي عقل.
وأمّـا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة، فهو تكرير لِما سبق، وقد عرفتَ أنّ قولهم بنفي سـببية الأسباب الطبيعية واقعاً، وجواز تخلّف المسـبَّبات عنها، وجواز وجود المسـبَّبات بدونها، مخالف للضرورة، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث، وعلى المركّب بالإمكان.. إلى غير ذلك ممّا سـبق.
مع أنّ تجويز رؤية الأعمى، وسـماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصـر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض، وهو محال.
وفرض قوّة أُخرى يجعل النزاع لفظياً، وهو ليس كذلك، فلا يمكن تخلّف المسـبَّب عن سـببه الطبيعي، ولا وجوده بدونه، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة، لاعتبار الإمكان في محلّها، كما سبق.
فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه، وبالجمع بين الوجود والعدم، لا يصحّ تعلّقها بالمسـبَّب بدون السـبب المفروض السـببية.
وأمّـا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء، فخطأ
ولمّا أنكر الأشاعرة علّـيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية، المخالفين للبديهة.
وأمّـا ما ذكره في توجيه جواب الرازي، فمنحلٌّ إلى أنّه إقناعيٌّ خارج عن محلّ الكلام، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.
وأمّـا قوله: " ومن أنكر ذلك، فلينكر كون النار برداً وسلاماً على إبراهيم "، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار برداً ـ كما في فرض الرازي ـ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حـرارتها.
الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية
قال المصنّـف ـ عطّر الله ضريحه ـ(1):
المبحـث الخـامـس
في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية
خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة، فقالوا: إنّ الوجود علّة [في] كون الشيء مرئياً، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود، سواءً كان في حيّز أم لا، وسواءً كان مقابلا أم لا!
فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم، [والإرادة،] والقدرة، والشهوة، واللذّة ـ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح، والطعوم، والأصوات، والحرارة، والبرودة، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(2).
ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يُدرك بالذوق لا بالبصر، والروائح إنّما تُدرك بالشمّ لا بالبصر(3)، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تُدرك باللمس لا بالبصر،
____________
(1) نهج الحقّ: 44 ـ 45.
(2) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 61 ـ 63، تمهيد الأوائل: 302، شرح المقاصد 4 / 188 ـ 189، شرح العقائد النسفية: 126، شرح المواقف 8 / 123.
(3) كان في الأصل: " بالإبصار "، وما أثبتـناه من المصدر ليناسب وحدة السـياق.
[ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ; ولو كانت مُدرَكة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله].
وبالجملـة: فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.
ومن أعجب الأشياء: تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تُشاهَد ولا تُدرَك بالبصر!
وهل هذا إلاّ عدم تعقّل من قائله؟!(1).
____________
(1) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ; ففي المخطوط وطبعة طهران: " وهل هذا الأمر يغفل قائلـه؟! " وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ: " وهل هذا إلاّ من تغفّل قائله؟! " ; ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة " عدم " ; وما أثبتـناه من المصدر هو المناسـب للسـياق.
وقال الفضـل(1):
إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(2).
وتقرير الدليل ـ كما ذكر في " المواقف " وشرحه ـ: أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها، من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق ; وهذا ظاهر.
ونرى الجوهر أيضاً ; لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم، وليس الطول والعرض عَرَضين قائمين بالجسم، لِما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.
فالطول مثلا، إنْ قام بجزء واحد، فذلك الجزء يكون أكثر حجماً من جزء آخر، فيقبل القسمة ; هذا خلف.
وإنْ قام بأكثر من جزء واحد، لزم قيام العرض [الواحد] بمحلّين ; وهو محـال.
فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 118 ـ 122.
(2) انظر: الإبانة عن أُصول الديانة: 66 الدليل 81، الملل والنحل 1 / 87، نهاية الإقدام في علم الكلام: 357 ; وقال به الباقلاّني أيضاً في تمهيـد الأوائل: 301، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أُصول الدين 1 / 268 والمسائل الخمسون: 56 الوجه الأوّل، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية: 126.
وهذه العلّة لا بُـدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض، وإلاّ لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة، وهو غير جائز.
ثمّ نقول: هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة، فإذاً العلّة المشتركة: الوجود، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى، فتتحقّق صحّة الرؤية ; وهو المطلوب.
ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود: كالأصوات، والروائح، والملموسات، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول: لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤيـة لـه.
وإنّا لا نرى هذه الأشـياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينـا، ولا يمتنع أنْ يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.
والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون: هذه مكابرة محضة، وخروج عن حيّز العقل بالكلّـيّة.
ونحن نقول: ليس هذا الإنكار إلاّ استبعاداً ناشئاً عمّا هو معتاد في الرؤية ; والحقائق، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع، لا تؤخذ من العادات،
ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تُذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة، فنقول:
إذا نظرنا إلى الشـمس فرأيناها، ثمّ غمضنا العين، فعند التغميض نعـلم الشمس علماً جليّـاً.
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأُولى التي هي الرؤية بالضرورة، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حُقّق في محلّه ـ، بل هي حالة أُخرى يخلقها الله تعالى في العبد، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقـولات.
وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء، ومحلّها القلب ; كذلك البصر يدرك الأشياء، ومحلّها الحدقة في الإنسان.
ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ، وإنْ كان يستحيل أنْ (يُدرِك الإنسانُ بلا مقابلة)(2) وباقي الشروط عـادة.
فالتجويز عقلي، والاستحالة عاديّة ; كما ذكرنا مراراً.
فأين الاسـتبعاد إذا تأمّله المنصف؟!
ومـآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمنـاه.
____________
(1) المواقف: 302 ـ 303، شرح المواقف 8 / 122 ـ 124 ملخّصاً.
(2) في المصدر: تُدرك الأشـياء إلاّ بالمقابلة.
وأقـول:
لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذِكره في كتبهم، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه، فلم ينفعهم، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.
فهذا شارح " المواقف " بعد ترويجه بما أمكن، والإيراد عليه ببعض الأُمور، قال: " وفي هذا الترويج تكلّفات أُخر يطلعك عليها أدنى تأمّل، فإذاً الأَوْلى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعـذّر "(1).
وقال التفتازاني في " شرح المقاصد "(2) بعـدما أطال الكلام في إصلاحه: " والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ "(3).
وأقـرّ القوشـجي في " شـرح التجـريد " بورود بعض الأُمور عليه ممّا
____________
(1) شرح المواقف 8 / 129.
(2) كان في الأصل: " شرح المطالع " وهو سهو، بل هو " شرح المقاصد "، فلم يُعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ; انظر: هديّة العارفين 6 / 429 ـ 430، معجم المؤلّفين 3 / 849 رقم 16856.
و " مطالع الأنوار " في المنطق، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأُرموي ـ المتوفّى سنة 682 هـ ـ، ولكتابه شرح اسمه " لوامع الأسرار " لقطب الدين محمّـد ابن محمّـد الرازي ـ المتوفّى سنة 766 هـ ـ أحد تلامذة العلاّمة الحلّي، وعلى شرحه هذا حواش عديدة، منها: حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّـد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني، المتوفّى سنة 842 هـ ـ ; ومن هنا حصل اللبس في نسـبة الكتاب ; فـلاحـظ!
انظر: كشف الظنون 2 / 1715 ـ 1717، أمل الآمل 2 / 300 ـ 301 رقم 908، رياض العلماء 5 / 170، لؤلؤة البحرين: 194 ـ 198 رقم 74.
(3) شرح المقاصد 4 / 191.
وكـذلك الرازي في كـتاب " الأربعيـن " على ما نقلـه عنه السـيّد السـعيد (رحمه الله)(2).
فحينئذ يكون ذِكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيساً موهماً لاعتباره عند أصحابه، بل يكون نقصاً فيهم، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر، فضلا أن يعتبر!
ولنشـر إلى بعض ما يرد عليه، فنقول: يرد عليـه:
أوّلا:
إنّ دعوى رؤيـة الجـواهـر الفـردة، التـي هي الأجـزاء التـي لا تتجزّأ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها، لا من الهيولى والصورة، وهو باطل ; لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.
فعلى الأوّل: لا بُـدّ أن يلاقي كلاًّ منها بعضُه، فتلزم التجزئة.
وعلى الثاني: يلزم التداخل، وهو محال ; وعدم زيادة الحجم، وهو خلاف المطلوب.
وبعبـارة أُخرى: إنّ الوسط إمّا أنْ يلاقي الأطرافَ بكلّه..
أو ببعضـه..
أو لا يلاقي شـيئاً منها..
أو يلاقي بعضاً دون بعض.
____________
(1) انظر: شرح التجريد: 433 و 437 ـ 438.
(2) كتاب الأربعين 1 / 268 ـ 277، وانظر: إحقاق الحقّ 1 / 122.