فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.
والثاني يقتضي التجزئة.
والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.
وإنْ شـئت قلت: لو وضع جزء على جزء، فإنْ لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم، وإنْ لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.
وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين (قدس سره) وغيره من العلماء وجوهاً كثيرة لإبطال الجوهر الفرد، فلتراجـع(1).
ويرد عليه ثانياً:
إنّه لو سُلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ; لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.
وأنت تعلم أنّه إنْ أُريد لزوم قيام العرض بتمامه، في كلّ واحد من المحلّين، فهو ممنوع.
وإنْ أُريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين، فمسلَّم ولا بأس به.
وثالثاً:
إنّه لو سُلّم رؤية الجواهر كالأعراض، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر، بناءً على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!
ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا، فلا تصلح لأنْ تتعلّق بها
____________
(1) انظر: تجريد الاعتقاد: 145، أوائل المقالات: 96 ـ 97 رقم 87، النكت الاعتقادية: 28، الذخيرة في علم الكلام: 146 وما بعدها، المنقذ من التقليد 1 / 34 و 43 ـ 48، كشف المراد: 145 ـ 146 المسألة 6.
إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم، والإرادة، والروائح، والطعوم، ونحوها من الكيفيات الموجودة، وقد أنكروا امتناع رؤيتهـا.
ورابعاً:
إنّه لو سُلّم أنّ العلّة هي الوجود، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هـو العلّة، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي، أو الزماني، أو بالإمكان، أو بما يثبت معه شروط الرؤية، وإنْ قلنا: إنّ بعض هذه الأُمور عدميّ ; لأنّها قيود، والقيد خارج.
ويمكن ـ أيضاً ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.
فلا يلزم صحّـة رؤية الباري سـبحانه.
ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما، وأن تكون العلّة مشتركة أيضاً بينهما، باطلة ; لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.
وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه، إلاّ أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.
ولو سُلّم تعلّقها بالمشترك، فهو لا يسـتلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما، كما عرفت.
ولو أعرضنـا عن هـذا كلّـه وعن سـائر ما يورد على هـذا الدليـل،
وأمّـا ما ذكره من حقيقة الرؤية، ففيـه:
إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال، لا الباصرة، وهي موقوفة على سبق الرؤيـة.
فحينئذ إنْ كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة، فقد امتنعت هذه الحالة، وإلاّ فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.
ولو سُلّم أنّها غير موقوفة عليها، بناءً على أنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ; لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!
مع أنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة، بل محلّه الرؤية المعروفة، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.
ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود، ليتسـنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى، وإلاّ فلو أراد رؤية أُخرى غيرها، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أُخرى عليه سـبحانه.
هل يحصل الإدراك لمعنىً في المدرك؟
قال المصنّـف ـ طـيّب الله مثواه ـ(1):
المبحـث السـادس
في أنّ الإدراك ليس لمعنىً
والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك، وذهبوا مذهباً غريباً عجيباً، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.
فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا: إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّـاً لا آفة فيه.
والأشاعرة قالوا: إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنىً حصل في المُدرك، فإنْ حصل ذلك المعنى في المُدرَك، حصل الإدراك وإنْ فُقِدتْ جميع الشرائط ; وإنْ لم يحصل، لم يحصل الإدراكُ وإنْ وُجِدتْ جميع الشـرائط!(2).
وجاز عندهم بسـبب ذلك إدراك المعدومات ; لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّـق بالمُدرك(3) على ما هو عليه في نفسه، وذلك يحصل في حال
____________
(1) نهج الحقّ: 45 ـ 46.
(2) انظر مؤدّاه في: تمهيد الأوائل: 302، الإرشاد ـ للجويني ـ: 157 ـ 158، شرح المقاصد 4 / 197.
(3) في المصدر: بالمرئي.
وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم، وبأنّ الشيء سيوجد، وبأنّ الشيء قد كان موجوداً، وأن يُدرك ذلك بجميع الحواسّ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ; لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح، وبين رؤية المعـدوم!
وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.
وأيضـاً: يلزم أن يكون الواحـد منّـا رائياً مع السـاتر العظيم البقّـةَ، ولا يرى الفيلَ العظيمَ ولا الجبلَ الشاهقَ مع عدم الساتر، على تقدير أن يكون المعنى قد وُجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ; لأنّه موجود!
وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته، ويتسلسل ; لأنّ رؤية المعنى(1)إنّما تكون بمعنىً آخر.
وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد مَن يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد، وذوقها باللسان، وشمّها بالأنف، وسماعها بالأُذن؟!
وهل هذا إلاّ مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!
____________
(1) في المصدر: الشيء.
وقال الفضـل(1):
الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون: إنّ الرؤية معنىً يحصل في المُدرَك، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.
وهذا ما قدّمنا ذِكره غير مرّة، وبيّـنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.
ثم إنّ قوله: " وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ; لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمُدرَك(2) على ما هو عليه في نفسه، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده ".. استدلال باطل على معنىً(3) مخترع لـه.
فإنّ كون الرؤية معنىً يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السـابق.
وأمّـا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.
ثـمّ ما ذكره من أنّ العلم باسـتحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ، مثل العلم باسـتحالة رؤية المعدوم..
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 124 ـ 125.
(2) في المصدر: بالمرئي.
(3) في المصدر: مدّعىً.
ثـمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجوداً، كان يصحّ منّـا أن نرى ذلك المعنى، لأنّه موجود، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ; لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنىً آخر.
فالجـواب: إنّ العقل يجـوّز رؤية كلّ موجود وإن اسـتحال عادةً، فالرؤية إذا كانت موجودة [به] يصحّ أن ترى نفسها، لا برؤية أُخرى، فانـقطـع التسـلسـل، كمـا ذكـر في الوجـود على تقـدير كونـه موجـوداً، فـلا اسـتحالة فيه، ولا مصادمة للضرورة.
ثـمّ ما ذكره من باقي التشـنيعات والاسـتبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(1):
وذي سَفَه يُواجِهُني بجهل | وأَكْرَهُ أنْ أكونَ له مُجيبا |
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلماً | كعود زادَه الإحراقُ طِيبا |
____________
(1) يُنسـب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كما نسـبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ; انظر: ديوان الإمام عليّ (عليه السلام): 28، ديوان الشافعي: 144.
وأقـول:
لا ريب أنّ بحث المصنّف (رحمه الله) هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية، كما يشهد له قوله: " وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ".
وقوله: " وجواز لمس العلم والقدرة ".. وهو أيضاً لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلاّ بالمعنى المطلق.
فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية، دفعاً لتوهّم اختصاص البحث بها ; ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!
كما توهّم أيضاً أنّه أراد أنّ الإدراك معنىً يحصل في المُدرك ; والحـال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنىً في المُدرك.
وحاصل مقصوده أنّهم قالوا: إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنىً فيه، كالحياة، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلاّ لأجل تلك الشروط السابقة، وهم لا يعتبرونها، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.
فإذا حصل المعنى في الشخص، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم، وبأنّ الشيء سـيوجد.. إلى غير ذلك.
مع إنّـه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضاً جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة، كما
فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات، لازمٌ لهم من أقوالهم، وأراد بالنسبةِ إليهم النسبةَ بحسب ما يلزمهم، وإنْ لم يقولوا به ظاهراً.
ثـمّ إنّه أراد بقوله: " لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح، وبين رؤية المعدوم، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ... " إلى آخره.. دفع اسـتبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.
وحاصلـه: إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها، مكابرةً ومخالفةً لضرورة العقل والعقلاء، لم يُسـتبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.
وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله: " قد ذكرنا أنّه إنْ أراد ـ بهذه ـ الاستحالةَ العقليةَ، فممنوع... " إلى آخره.. لا ربط له بكلامه، اللّهمّ إلاّ أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاسـتحالتين، بأنّ اسـتحالة رؤية الطعوم عاديّة، واسـتحالة رؤية المعدوم عقلية!
فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين: من جهة: دعوى الفَـرْق، ومن جهة: أصل القول، بأنّ اسـتحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.
وأمّـا ما أجاب به عن التسلسل:
فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف، غير دافع للتسلسل..
أمّـا عدم ارتباطه به ; فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأنْ تتعلّق الرؤية برؤيـة أُخـرى، إلى ما لا نهايـة له، بنـاءً منه على أنّه أراد بالمعنى: الرؤيـةَ
وأمّـا أنّه غير دافع له ; فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية، لا من حيث وجوب التعلّق، فلا يندفع إلاّ بإنكار هذه الصحّة، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.
على أنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيـقية والمرئيّ ; لأنّ تعلّـق أمر بآخر يسـتدعي الاثـنينيّـة بالضـرورة.
وأمّـا ما نسبه إلى القوم، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر، فلا ربط له بالمقام ; لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!
نعم، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أُخرى إلى ما لا نهاية له، والصحّة أمر اعتباري، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ; لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!
وأمّـا ما اسـتشهد به من البيتين، فلا يليق بذي الفضل إلاّ الإعراض عن معارضته!
إنّـه تعـالى لا يُـرى
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):
المبحـث السـابع
في أنّه تعالى يسـتحيل أنْ يُرى
خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في هذه المسألة، حيث حكموا بأنّ الله تعالى مرئيٌّ للبشـر!(2).
أمّا الفلاسـفة [والمعتزلة] والإماميـة: فإنكارهم لرؤيتـه تعالى ظاهرٌ ولا شـكّ فيه(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 46 ـ 48.
(2) الإبانة عن أُصول الديانة: 58 ـ 71، تمهيد الأوائل: 301 ـ 307، الاعتقاد على مذهب السلف: 58 ـ 67، الاقتصاد في الاعتقاد: 41 ـ 48 الدعوى 9، بحر الكلام: 137، الملل والنحل 1 / 87، نهاية الإقدام في علم الكلام: 356 ـ 357، الأربعين في أُصول الدين 1 / 266 ـ 304 المسألة 19، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 272 ـ 278، المسائل الخمسون في أُصول الدين: 56 ـ 58 المسألتان 31 و 32، شرح المقاصد 4 / 179، شرح المواقف 8 / 115.
(3) انظر رأي الفلاسفة والمعتزلة في: شرح الأُصول الخمسة: 232، بحر الكلام: 137، نهاية الإقدام في علم الكلام: 356، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 272.
وانظر رأي الإمامية في: أوائل المقالات: 57 رقم 25، شرح جمل العلم والعمل: 76، تجريد الاعتقاد: 194، المنقذ من التقليد 1 / 114 ـ 130.
(فلهذا قالوا بإمكان رؤيته تعالى، ولو كان تعالى مجرّداً عندهم لحكموا بامتناع رؤيته)(2).
فلهـذا خالفـت الأشـاعرة باقي العقـلاء، وخالفوا الضرورة أيضـاً، فإنّ الضـرورة قاضيـة بأنّ ما ليس بجسـم، ولا حالٌّ في جسـم، ولا في جهة، ولا مكان، ولا حيّز، ولا يكون مقابِلا، ولا في حكم المقابِل، فإنّـه لا يمكن رؤيتـه.
ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري، وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائياً.
وخالفوا أيضاً آيات الكتاب العزيز الدالّة على امتناع رؤيته تعالى، فإنّه قال عزّ من قائل: ( لا تُدرِكهُ الأبصارُ... )(3) تمدّح بذلك ; لأنّه ذكره بين مدحين، فيكون مدحاً، لقبح إدخال ما لا يتعلّق بالمدح بين مدحين، فإنّه لا يحسن أن يقال: فلان عالم فاضل، يأكل الخبز، زاهد ورع.
وإذا تمدّح بنفي الإبصار له، كان ثبوته له نقصاً، والنقص عليه تعالى محـال.
____________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 34، الملل والنحل 1 / 93 ـ 99، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 272.
(2) ما بين القوسين ليس في نهج الحقّ ; وأثبته المصنّف (قدس سره) من إحقاق الحقّ.
(3) سورة الأنعام 6: 103.
وإذا امتنعت الرؤية في حقّ موسى (عليه السلام) ففي حقّ غيره أَوْلى.
وقال تعالى: ( فقد سألُوا مُوسى أَكبرَ من ذلك فقالوا أَرِنا اللهَ جَهرةً فأخذَتْهُم الصاعقةُ بِظُلمِهم... )(2).. ولو جازت رؤيته لم يسـتحقّوا الذمّ، ولم يوصفوا بالظلم.
وإذا كانت الضرورة قاضيةً بحكم، ودلّ مُحكم القرآن أيضاً عليه، فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم.. و [الأشاعرة] (3) قالوا بخلافه، وأنكروا ما دلّت الضرورة عليه، وما قاد القرآن إليه.
ومن خالف الضرورة والقرآن، كيف لا يخالف العلم النظري والأخبـار؟!
وكيف يجوز تقليده، والاعتماد عليه، والمصير إلى أقواله، وجعله إماماً يقتدون به؟!
وهل يكون أعمى قلباً ممّن يعتقد ذلك؟!
وأيّ ضرورة تقود الإنسان إلى تقليد هؤلاء الّذين لم يصدر عنهم شيء من الكرامات، ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى، والانقياد إلى ما دلّت الضرورة عليه وقطعت به الآيات القرآنية؟! بل اعتمدوا مخالفة نصّ
____________
(1) سورة الأعراف 7: 143.
(2) سورة النساء 4: 153.
وقد جاءت الآية الكريمة مشوّشة في المصدر، هكذا: " فقالوا لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم "، وهو خلط بين ثلاث آيات وقع من الناسخ قطعاً ; والمثبت في المتن من الأصل وإحقاق الحقّ ; فـلاحـظ.
(3) أثبتـناه من إحقاق الحقّ.
ولو جاز ترك إرشاد المقلِّدين، ومنعهم من ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا، لم نطوّل الكلام بنقل [مثل] هذه الطامّات، بل أوجب الله تعالى علينا إهداء العامة، لقوله تعالى: ( وليُنذِروا قومَهمُ إذا رجَعوا إليهم لعلّهم يَحذرُون )(1)..
( فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنّما يضلُّ عليهـا )(2).
____________
(1) سورة التوبة 9: 122.
(2) سورة يونس 10: 108.
وقال الفضـل(1):
ذكر في هذا المبحث خلاف الناس في رؤية الله تعالى، وما اختصّ به الأشاعرة من إثباتها مخالفةً للباقين.
وذكر أنّهم خالفوا الضرورة ; لأنّه لا يمكن رؤية ما ليس بجسم..
فقد علمتَ أنّ الرؤية ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ليسـت مختصّة بالأجسام، ولا تُشـترط بشرط، لكن جرى في العادة اختصاصها بالجسم المقابل.
وقد علمتَ أنّ الله تعالى ليس جسماً، ولا في جهة، ويستحيل عليه مقابلة، ومواجهة، وتقليب حدقة، ونحـوه..
ومع ذلك يصحّ أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر ـ كما ورد في الأحاديث الصحيحة(2) ـ وأنْ يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبَّر عنها بـ: الرؤية.
فمن عبّر عن الرؤية بما ذكرناه، وجوّز حصوله في حقّه تعالى على الوجه المذكور، فأين هو من المكابرة ومخالفة الضرورة؟!
ثـمّ إنّ مـا اسـتدلّ بـه على عـدم جـواز الرؤيـة من قولـه تعـالى: ( لا تدركه الأبصار )(3)، فإنّ الإدراك في لغة العرب هو: الإحاطة ; ألا
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 130 ـ 133.
(2) مـرّت الإشـارة إلى مثل هذه الأحاديث في الجزء الأوّل، ص 49 هـ 1 ; والأحاديث المرويّة في صحاحهم في مثل ذلك كثيرة!
(3) سورة الأنعام 6: 103.
وأمّـا الإدراك بالمعـنى المـرادف للعلـم، فهـو من اصطلاحـات الحكماء ; لا أنّ في كلام العرب يكون الإدراك بمعنى: العلم والإحساس.
ولا شكّ أنّ الإحاطة به [تعالى] نقصٌ، فيكون نفيه مدحاً، والرؤية التي نثبتها ليسـت إحاطة.
ثـمّ الاستدلال بجواب موسى، وهو قوله تعالى: ( لن تراني )(2) لمّا سأل الرؤية، و (لن) للنفي المؤبّد، فامتنعت الرؤية في حقّ موسى، ففي حقّ غيره من باب الأَوْلى..
فقد أجاب عنه الأشاعرة بمنع كونه للنفي المؤبّد(3) [بل هو للنفي المؤكّد].
وعندي أنّه للنفي المؤبّد، وهذا ظاهر على من يعرف كلام العرب.
ولكنّ التأبيد المستفاد منه بحسب مدّة الحياة ; مثلا: إذا قال أحد لغيره: لن أُكلّمك ; فلا شكّ أنّه يقصد التأبيد في زمن حياته، لا التأبيد الحقيقي الذي يشمل زمان الآخرة، وهذا معلوم في العرف.
فالمراد بـ: ( لن تراني ) نفي الرؤية في مدّة الدنيا، وهذا لا ينافي رؤية موسى (عليه السلام) في الآخرة.
____________
(1) سورة الشعراء 26: 61.
(2) سورة الأعراف 7: 143.
(3) تفسير الفخر الرازي 14 / 242، الأربعين في أُصول الدين ـ للرازي ـ 1 / 300 جواب الشبهة الثانية، شرح المقاصد 4 / 207، شرح المواقف 8 / 118.
ثـمّ ما ذكره من إعظام الله تعالى سؤال الرؤية من اليهود في القرآن، والذمّ لهم بذلك السؤال، ولو جاز ذلك لَما استحقّوا الذمّ بالسؤال..
فالجواب: إنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتاً وعناداً، ولهذا نسـبهم إلى الظلم.
ولو كان لأجل الامتناع، لمنعهم موسى عن ذلك كما منعهم حين طلبوا أمراً ممتنعاً، وهو أن يجعل لهم إلهاً.
فلمّـا علمتَ أنّ العقـل لا ينـافي صحّة رؤية الله تعـالى، والنصوص لا تدلّ على نفيه، فقد تحقّقتَ أنّ ما ادّعاه هذا الرجل من دلالة الضرورة والنصّ، وتوافقهما على نفي الرؤية، دعوىً كاذبة خاطئة.
ولولا أنّ الكتاب غير موضوع لبسط الدلائل على المدّعَيات الصادقة الأشعرية، بل هو موضوع للردّ على ما ذكر من القدح والطعن عليهم، لَذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة الرؤية، بل وقوعها! ما تحير به ألباب العقلاء، لرزانتها ومكان رصانتها!
ولكن لا شغل لنا في هذا الكتاب إلاّ كسر طامّات(2) ذلك الرجل ومزخرفاته، وبالله التوفيق.
____________
(1) سورة البقرة 2: 95.
(2) الطامّة: الداهيةُ تَـغْلِب ما سواها، والأمر العظيم ; انظر: لسان العرب 8 / 202 ـ 203 مادّة " طَمَمَ ".
وذلك أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية، من نُفاة الرؤية، يذكرون في معنى الحديث المشهور، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر "(1) أنّ المراد الانكشاف التامّ العلمي، الذي لم يحصل في هذه النشأة الدنيوية، وسيحصل هذا الانكشاف في النشأة الثانية.
والأشاعرة ـ المثبتون للرؤية ـ ذكروا: أنّ المراد بالرؤية حالة يخلقها الله في الحيّ، ولا تُشترط بضوء، ولا مقابلة، ولا غيرهما من الشرائط(2).
ثمّ ذكر الشيخ الأشعري في إدراكات الحواسّ [الخمس] الظاهرة: أنّها عِلمٌ بمتعلّقاتها(3).
فالإبصار ـ الذي هو عبارة عن الإدراك بالباصرة ـ يكون علماً بالمبصرات، وليست الرؤية إلاّ إدراكاً بالباصرة.
فعلى هذا تكون الرؤية عِلماً خاصّاً وانكشافاً تامّاً، غاية الأمر أنّه حاصل من هذه الحاسّة المخصوصة.
فظهر اتّفاق الفريقين على أنّ رؤية الله تعالى ـ التي دلّت عليها الأحاديث ـ هي: العلم التامّ، والانكشاف الكامل.
____________
(1) انظر: صحيح البخاري 1 / 230 ح 31 و ج 9 / 228 ح 62، صحيح مسلم 1 / 112 و ج 2 / 114، الإبانة عن أُصول الديانة: 64، تفسير البغوي 3 / 199، تفسير الرازي 13 / 139.
(2) شرح المواقف 8 / 116.
(3) انظر: شرح المواقف 7 / 202 ـ 204.
والله أعلم.
وأقـول:
قد سـبق أنّ الرؤية ـ بالمعنى الذي ذكره ـ ليست محلّ النزاع بوجه(1)، وقد أحدثوه فراراً ممّا لزمهم من الإشكالات، وإنّما محلّ النزاع هو الرؤية المعروفة، كما عرفتَه من دليل الأشعري.
على أنّهم إذا أقرّوا بامتناع رؤية الباري سبحانه، فقد امتنع هذا المعنى ; لِما سبق من أنّ الصورة الحاصلة عند التغميض إنّما تكون بعد الرؤية، ومن توابعها، ومحلّها الحسّ المشترك، أو الخيال، فلا وجه للقول بإمكانها دون الرؤية.
ولو فرض أنّهم أرادوا معنىً ليس هو الرؤية المعروفة، ولا موقوفاً عليها ; فنحن لا نعرفه، ولا أظنّهم يعرفونه!
فكيف يقع النزاع بيننا وبينهم فيه؟!
كما لا نحكم بامتناعه ـ عقلا أو عادة ـ قبل المعرفة.
[جواب الإيراد على الآية الأُولى:]
وأمّـا ما أورده الفضل على الآية الأُولى ; من أنّ الإدراك في اللغة: الإحاطة، وأنّ النقص من جهتها، والمدح لنـفيها..
____________
(1) راجع الصفحة 47 من هذا الجزء.