فـفـيـه:
إنّه لا شاهد له في كتب اللغة والآثار العربية، بل الظاهر خلافه.
فإنّ الجدار محيط بالدار، والصندوق محيط بما فيه، ولا يقال: إنّهما مُدرِكان لهما.
وعن الصحاح أنّ معنى أدركته ببصري: رأيته(1).
ولعلّه لأنّه لا يفهم من الإدراك إلاّ الرؤية إذا قُرن بالبصر ـ وإنْ كان بمعنى اللحاق(2) ـ، كما لا يفهم منه إلاّ السماع إذا قُرن بآلة السمع، وقيل: أدركته بأُذني، ولا يفهم منه إلاّ أثر الحواسّ الأُخر إذا قُرن بشيء منها.
وأمّـا ما استدلّ به من قوله تعالى: ( إنّا لَمُدْرَكُون )(3) فليس في محلّه ; لأنّ الإدراك فيه هو: اللحاق، فمعنى مُدْرَكُون: ملحوقون.
وقد أقرّ في " المواقف " وشرحها، والتفتازاني في " شرح المقاصد " بأنّ الإدراك بمعنى اللحاق(4).
لكن زعموا أنّ اللحاق والوصول يقتضي الإحاطة، فيكون الإدراك في الآية بمعنى: الرؤية المحيطة(5)!!
ولا أعرف وجهاً للاقتضـاء والاسـتلزام!
____________
(1) الصحاح 4 / 1582 مادّة " دَرَكَ ".
(2) انظر: الصحاح 4 / 1582، لسان العرب 4 / 334، تاج العروس 13 / 552، مادّة " دَرَكَ ".
(3) سورة الشعراء 26: 61.
(4 و 5) المواقف: 309، شرح المواقف 8 / 140، شرح المقاصد 4 / 201 الشبهة الرابعة.
وهو بظاهره غير تامّ، لأنّه إنْ حصل الغيم والحاجب عن القمر، لم يصحّ أيضاً " رأيته " كما لا يصحّ " أدركه بصري " ; وإنْ لم يحصل الحاجب صحّ أن يقال: " رأيته وأدركه بصري " معاً.
على أنّ أخذ الإحاطة في معنى الإدراك، بقوله سبحانه: ( لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ )(2) غير متصوَّر، سواء أُريد الإحاطة بحقيقة المرئي وماهيّته، أم بجوانبه وباطنه، إذ ليس من شأن الأبصار إحدى هاتين الإحاطتين حتّى يتمدّح تعالى بنفي إحاطة الأبصار به هذه الإحاطة.
على أنّ إحاطة الأبصار بجوانب المرئي إنّما تكون مع صفائه، كالزجـاج، فإذا فُـرِض أنّ الله سـبحانه نفاهـا عنه، وجعلها نقصـاً في حقّـه ـ وهي أشبه بالكمال ـ، فرؤيته بلا إحاطة أَوْلى بالانتفاء ; لأنّها لا تكون إلاّ مع كثافة المرئي.
هـذا، وقد أورد القوم على الاسـتدلال بالآية بأُمور أُخر:
الأوّل:
ما عن الفخر الرازي، وهو: إنّ التمدّح إنّما يحصل بنفي الرؤية إذا
____________
(1) شرح المقاصد 4 / 204.
(2) سورة الأنعام 6: 103.
وفـيـه:
إنّ اعتبار ذلك إنّما يتمّ في ما يرجع إلى الفعل ; لأنّه لا يصحّ المدح فيه إلاّ مع إمكانه والقدرة عليه، لتعلّقه بالقصد.
وأمّا ما يرجع إلى الذات والصفات الذاتية فلا، كالعلم، والقدرة، والوحدانية.
ولذا يصحّ تمدّحه تعالى بأنّه لا شريك له، ولا ولد له، مع عدم جواز جعله للشريك والولد، وعدم تعلّق قدرته بهما.
ويصحّ تمدّحه بأنّه غير عاجز، مع عدم جواز العجز عليه، وعدم تعلّق قدرته به.
الثـاني:
إنّه لو صحّ المدح بنفي الرؤية لامتناعها، لصحّ مدح المعدوم به ; وهـو باطل(2).
____________
(1) الأربعين في أُصول الدين 1 / 300، تفسير الفخر الرازي 13 / 135 الوجه السادس من المسألة الثانية، وانظر: شرح المقاصد 4 / 204 ـ 205.
(2) الأربعين في أُصول الدين 1 / 300، شرح المقاصد 4 / 205 ـ 206، شرح المواقف 8 / 141.
وفـيـه:
إنّه إنّما تمدّح بمجموع الأمرَين، أعني أنّه يدرك الأبصار ولا تدركه، فإنّ ذلك مختصّ به، كما تمدّح في آية أُخرى بقوله: ( وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعَم )(1)، مع أنّ مدحه تعالى بامتناع رؤيته لا يسـتلزم صحّة مدح غيره بـه وإنْ ثبت له، فإنّه تعالى يُمدَح بأنّه جبّار متكبّر، ولا يصحّ مدح غيره به، على أنّ المطلوب لا يتوقّف على اختصاص المدح به تعالى.
الثالـث:
إنّ (اللام) في ( الأبصار ) إنْ كانت للعموم، كان النفي في قوله تعالى: ( لا تُـدْرِكُهُ الأبصـارُ )(2) موجباً لسلب العموم، وهو سلب جـزئي.
وإنْ كانت (اللام) للجنس، كان قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ ) سالبة مهملة، وهي في قوّة الجزئية..
ونحن نقول بموجب الجزئية ; لأنّ الكفّار لا يرونه تعالى في الآخرة إجماعـاً.
بل نقول: تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الثبوت للبعض الآخر،
____________
(1) سورة الأنعام 6: 14.
(2) سورة الأنعام 6: 103.
ولو سُلّم أنّ مدلول الآية عموم السلب، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات، حتّى في يوم القيامة.
وفـيـه:
إنّ الجمع المحلّى بـ (اللام) ظاهر في العموم بلا ريب، فيتعيّن الوجه الأوّل.
كما إنّ النسـبة نسـبتان: إيجابية، وسلبية ; وخصوصهما وعمومهما تابعان لخصوص متعلّقهما وعمومه، بلا فرق بـينهما، إلاّ أنّ النفي قد يتوجّـه إلى نـفس العمـوم لا النسـبة، فيفيـد سلب العموم، لكـنّه أجنبيّ عن قوله سبحانه: ( لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ )، فلا يراد به إلاّ عموم السلب كغيره من الآيات المسـتفيضة، كقوله تعالى: ( وما اللهُ يُريدُ ظُلماً لِلعالَمِـيـن )(2)..
( وما ربُّـكَ بِظَـلاّم لِلعَبِـيـد )(3)..
( وما هِي مِنَ الظالِمِـيـنَ بِـبَعِـيـد )(4)..
( ولا تَـكُـن للخائـنِـيـنَ خَصِـيماً )(5)..
____________
(1) الأربعين في أُصول الدين 1 / 299، شرح المقاصد 4 / 201 ـ 203، شرح المواقف 8 / 139 ـ 141.
(2) سورة آل عمران 3: 108.
(3) سورة فصّلت 41: 46.
(4) سورة هود 11: 83.
(5) سورة النساء 4: 105.
( لا يَخـافُ لَـدَيّ المُـرْسَـلُونَ )(2).
.. إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى.
وقد أقرّ التفتازاني بذلك، فقال في " شرح المقاصد " عند الكلام في قوله تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ ): كون الجمع المعرّف بـ (اللام) ـ في النفي لعموم السلب ـ هو الشائع في الاستعمال، حتّى لا يوجد ـ مع كثرته ـ في التنزيل إلاّ بهذا المعنى، وهو اللائق بالمقام كما لا يخفى(3).
وقال في " شرح المطوّل " في بحث تعريف المسند إليه بـ (اللام)، في شرح قول الماتن: " واستغراق المفرد أشمل ": " وبالجملة: فالقول بأنّ الجمع المحلّى بـ (اللام) يفيد تعلّق الحكم بكلّ واحد من الأفراد ـ مثبتاً كان أو منفياً ـ ممّا قرّره الأئمّة، وشهد به الاستعمال..
وصرّح به صاحب (الكشّاف) في غير موضع "(4).
على أنّ مقابلة قوله تعالى: ( لا تُـدْرِكُـهُ الأبصارُ ) بقوله: ( وَهُوَ يُـدْرِكُ الأَبصارَ ) المفيدِ للعموم، دالّة على إرادة العموم في الأوّل أيضاً ; لأنّ المقصود به الامتياز والافتخار على كلّ بصر.
ولـو سُـلّم أنّ (اللام) للجنـس، فـلا معنـى لجعـل قولـه تعـالى: ( لا تُـدْرِكُـهُ الأبصارُ ) سالبة مهملة ; لأنّ وقوع الجنس في حيّز النفي
____________
(1) سورة يونس 10: 77.
(2) سورة النمل 27: 10.
(3) شرح المقاصد 4 / 203.
(4) شرح المطوّل: 86.
مع أنّ ما زعمه المعترض من أنّ تخصيص البعض بالنفي يفيد الإثبـات للبعض الآخر ; باطل بالضرورة، فإنّ قولنـا: ما قام (زيدٌ ; لا يدلّ على قيام غيره)(2).
وأمّـا عدم تسليمه لعموم الأحوال والأوقات، فليس في محلّه ; لحكم العقل بأنّ الإطلاق في مورد البيان، وعدم القرينة على التقييد، يفيد العموم(3)، وإلاّ لنافى الحكمة، لا سيّما في مقام المقابلة وإظهار الامتياز على العـامّ.
[جواب الإيراد على الآية الثانيـة:]
وأمّـا ما أورده على الآية الثانية، من أنّ (لن) تفيد التأبيد المقيّد بمدّة الحيـاة..
فـفـيـه:
إنّ التقييد بها منتف وضعاً بالضرورة ; وغير ثابت بالقرينة، لعدمها ظاهراً، فينبغي الحكم بالتأبيد بلا قيد، كما هو الظاهر.
____________
(1) انـظر: المحـصول في علم الأُصـول 1 / 369 ف 4، الإحكام في أُصـول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 415، كفاية الأُصول: 217 و 246.
(2) في المطبوعتين بدل ما بين القوسين: بعض الناس ; لا يدلّ على قيام البعض الآخر.
(3) انظر: كفاية الأُصول: 248.
وهـذا بخلاف قوله تعالى: ( لَن يَـتَمَـنّوهُ أبَداً )(1) فإنّ القرينة فيه على التأبيد في الدنيا موجودة، وهي قوله تعـالى: ( بِما قَدّمتْ أيـدِيهِـم )(2)، فإنّـه دالّ على أنّهـم يخـافـون في الدنيـا المـوت فيهـا، فـلا يتمنّونه بها، لتقديمهم ما يسـتحقّون به العذاب في الآخرة.
على أنّه يكفي هنا القرينة العقلية، وهي ما ذكره الخصم من القطع بأنّهم يتمنّون الموت في الآخرة تخلّصاً من العقاب.
فإنْ قلت:
غاية ما يدلّ عليه قوله تعالى: ( لَن تَراني )(3) هو نفي الرؤية خارجاً، ومدّعاكم امتناعها ذاتاً!
قلـت:
إذا ثبت تأبيد النفي، ثبت بطلان قول الأشاعرة بالرؤية في الآخرة ; وهو المطلوب.
على أنّ المراد بالنفي ـ هنا ـ: الامتناع، بقرينة قول موسى (عليه السلام) بعد الإفاقة: ( سُـبْحانَكَ )(4) فإنّه للتنزيه، والتنزيه عن الرؤية دليل على أنّها نقص، فتمتنع ; كما سـتعرفه إنْ شاء الله.
____________
(1 و 2) سورة البقرة 2: 95.
(3 و4) سورة الأعراف 7: 143.
[جواب الإيراد على الآية الثالثـة:]
وأمّـا ما أجاب به عن الآية الثالثة، من أنّ الاستعظام إنّما هو لطلبهم الرؤية تعنّـتاً وعناداً..
فـفـيـه:
أوّلا: إنّ الاستعظام إنّما هو ـ ظاهراً ـ لعظم المسؤول(1)، المعبّر عنه في الآية بـ: ( أكبرَ مِن ذلكَ ).
وثانيـاً: إنّ استدلال المصنّف بالآية ليس من جهة الاستعظام، حتّى يقال: إنّه لأجل التعنّت ; بل من حيث ذمّهم ونسبتهم إلى الظلم بطلبهم الرؤية، ولا يكون طلبهم ظلماً إلاّ بكون الرؤية نقصاً ممتنعاً عليه تعالى.
ودعوى أنّها لو كانت ممتنعة لمنعهم موسى من طلبها كما منعهم من جعل الآلهة، باطلة ; لجواز علمه بعدم امتناعهم بمنعه في المقام..
أو أنّه منعهم فلم يمتنعوا، كما يقرّ به إصرارهم وقولهم: ( لَن نؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللهَ جَهْرةً )(2)..
ولو كان منعه مؤثّراً فيهم لمنعهم من طلب الرؤية حتّى لو كانت ممكنة ; لعلمه بأنّها لا تقع في الدنيا.
وأمّـا ما تحمّس به من قوله: " لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة
____________
(1) في المطبوعتين: السـؤال.
(2) سورة البقرة 2: 55.
فإنّه كلام لا يحتمل الصدق، وفيه إزراء بحقّ أشياخه.
فإنّهم أفنوا أعمارهم ولم يأتوا بما يمكن أن يُذكر بصورة الدليل، إلاّ ما حكوه عن الأشعري كما سمعت، وقد جعلوه ـ هم وغيرهم ـ هدفاً لسهام النقد!
على أنّهم إنّما يسـتدلّون به للإمكان، فكيف يأتي بالأدلّة العقليّة على الوقـوع؟!
ومن العجيب أنّه بعدما تحمّس هذه الحماسة، مدَّ يد المسالمة وحمل قول المتخاصمين على العلم التامّ، إلاّ أنّ محلّه العين!!
فإنْ أراد بالعلم التامّ بالله سبحانه، والانكشاف الكامل له: انكشاف حقيقته تعالى ; فنحن لا نقول به، ولا أظنّ أصحابه يرتضونه.
وإنْ أراد به: العلم التامّ بوجوده وصفاته ; فنحن نقول به، وكذلك أصحابـه.
لكنّ حمل الرؤية عليه بعيد، بل مقطوع بخلافه، لا سيّما وهذا العلم لا يختصّ بالمؤمن، بل يثبت في القيامة للمؤمن والكافر بلا فرق، فكيف يحمل عليه كلامهم، وأخبارهم الدالّة على انكشافه سبحانه للمؤمنين خاصّـة؟!
ومـا نسـبه إلى الأشعري ـ من أنّ إدراك الحواسّ الظاهرة علمٌ بمتعلّقاتها ـ، فمسامحة، أو سـفسـطة!
وأمّـا ما نسبه إلى الإمامية ـ من حملهم لِما سمّاه حديثاً مشهوراً على الانكشاف الكامل التامّ ـ، فهو فرية عليهم، إذ لا يخطر ببال أحد منهم اعتباره حتّى يحتاج إلى التأويل والحمل.
[أدلّـة الأشـاعـرة وإبطالهـا]
هـذا، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة، وإبطالها، تتميماً للفائدة، فنقـول:
استدلّوا على مذهبهم بالعقل ـ وقد تقدّم بما فيه(1) ـ وبالنقل، وهو أمـران:
[الأمر] الأوّل:
ما يدلّ على إمكان الرؤية، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): ( قال ربِّ أرني أنظرْ إليك قال لن تراني ولكنِ انظر إلى الجبل فإنِ استقرَّ مكانه فسوف تراني )(2)..
والحجّة به من جهتين:
[الجهة] الأُولى:
إنّ موسى (عليه السلام) سأل الرؤية لنفسه، ولو امتنعت لَما سـألها(3).
وأُجيب عنه بأُمور..
____________
(1) راجع الصفحة 63 وما بعدها من هذا الجزء.
(2) سورة الأعراف 7: 143.
(3) انظر: الإبانة عن أُصول الديانة: 60 ـ 61، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 277 ـ 278، شرح المقاصد 4 / 182.
الأوّل: الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى (عليه السلام).
الثاني: قوله في هذه الآية: ( سُبحانَكَ )(1) فإنّه ظاهر في تنزيه الله عن الرؤية، وهو يقتضي كونها نقصاً ممتنعاً عليه سبحانه، فإذا كان عالماً بكونها نقصاً، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.
واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال ـ لو تمّ بالنسبة إلى موسى ـ كان لنا لا علينا ; لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!
على أنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية، ولذا قال: ( سُـبحانَكَ ).
الثالث: قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): ( قال ربّ لو شئتَ أهلكْتَهم من قبلُ وإيّاي أتُـهْـلِكُنا بما فَعلَ السُّفهاءُ منّا )(2) فإنّ المراد بـ: ( ما فَعَلَ السُفهاءُ ) هو سؤال الرؤية، كما عن جماعة من المفسّرين(3).
فإنْ قلت:
على هذا كان ينبغي أن يقول: أرهم ينظرون إليك.
____________
(1) سورة الأعراف 7: 143.
(2) سورة الأعراف 7: 155.
(3) انظر مثلا: تفسير الطبري 6 / 77، تفسير الماوردي 2 / 265، الكشّاف 2 / 121، زاد المسير 3 / 206، تفسير الفخر الرازي 15 / 20، تفسير القرطبي 7 / 187، تفسير البيضاوي 1 / 362، البحر المحيط 4 / 299، تفسير ابن كثير 2 / 239، الدرّ المنثور 3 / 569.
قلـت:
إنّما قال: ( أرني ) لأنّه أثبت لظلمهم، وأقوى حجّة عليهم ; لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسـبيبهم طلب الرؤية ـ والحال أنّ سائلها لنفسه موسى، وهو المقرَّب عند الله تعالى ـ فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريراً للباطل، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلماً فتمتنع.
الجهة الثانية:
إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه، وهو استقرار الجبل، والمعلّق على الممكن، ممكن(1).
وفـيـه:
منـع الكبرى إذا كان المقصود مجـرّد فـرض الطرفيـن أو أحدهمـا، لا الحقيقة.
ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعاً بالغير، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه، ولذلك صحّ العكس، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى: ( لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ اللهُ لفسَـدَتا )(2).
____________
(1) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 281، شرح المقاصد 4 / 182.
(2) سورة الأنبياء 21: 22.
الأمر الثاني:
ما دلّ على وقوع الرؤية، وهو آيات وأخبار عندهم.
أمّـا الآيـات، فهي:
قوله تعالى: ( وجوهٌ يومئذ ناضرةٌ * إلى ربّها ناظرة )(1).
وقوله تعالى: ( كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون )(2)، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب، فكان المؤمنون غير محجوبين، وهو معنى الرؤية(3).
وقوله تعالى: ( للّذين أحسـنوا الحسنى وزِيادة )(4) ; لأنّ المراد بالزيادة: الرؤية، كما رواه صهيب عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذهب إليه كثير من المفسّرين(5).
____________
(1) سورة القيامة 75: 22 و 23.
(2) سورة المطفّفين 83: 15.
(3) انظر: الإبانة عن أُصول الديانة: 59 و 63، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 292 و 295، شرح المقاصد 4 / 192 و 195.
(4) سورة يونس 10: 26.
(5) انظر مثلا: تفسير الطبري 6 / 551 ح 17641، تفسير البغوي 2 / 296، تفسير الفخر الرازي 17 / 81، تفسير القرطبي 8 / 210.
وأمّـا الأخبـار:
فروايات كثيرة(1)، حتّى قال القوشجي: " روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة "(2).
وفـيـه:
إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه، يجب التصرّف في الظواهـر كما في قوله تعالى: ( وجاءَ ربُّك والملَكُ صفّاً صفّاً )(3)، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط، التي هي المستفادة من تلك الظواهر، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.
ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه(4)، لا سيّما وهو إلى الآن لم يُعرف ما هو؟! ولم يُحْكَ الاستعمال عليه في مورد!
على أنّ أخبارهم ليست حجّة علينا، خصوصاً وجلّها ـ أو كلّها ـ مطعون بأسانيدها عندهم، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها، مع أنّهم إنْ كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!
____________
(1) انظر: التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة ـ للآجري ـ: 37 ـ 113 ح 1 ـ 64.
(2) شرح التجريد: 433 ـ 434.
(3) سورة الفجر 89: 22.
(4) وهو كون الرؤية معنىً يحصل في الرائي أو يحدثه الله فيه وإنْ فقدت جميع شروط الرؤية، من المقابلة وسلامة الحاسّة وقصد الرؤية وعدم البعد المفرط وغيرها، وقد لا تحدث الرؤية وإنْ توفّرت جميع هذه الشروط.
وأمّـا الآية الثانية: فظاهرها الحجب عن الله تعالى بلحاظ المكان، وهو غير مراد قطعاً ; لأنّ الله سبحانه لا يحويه مكان، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها، بل يحتمل ـ كما هو الأقرب ـ إرادة الحجب عن رحمته، ومحلّ القرب المعنوي منه(1).
وأمّـا الآية الأُولى: فيمكن أن تكون فيها ( ناظرة ) بمعنى: منتظرة، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونسب إلى مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحّاك(2).
وأورد عليـه:
أوّلا: بإنكار استعمال النظر بمعنى: الانتظار، لا سيّما مع التعدية بـ (إلى).
وثانياً: بأنّ انتظار النعمة غمّ فلا يقع في الجنّة.
والجواب عن الأوّل: إنّ إنكار الاستعمال لا يُلتفت إليه مع نصّ علماء اللغة على الوقوع، كصاحب " القاموس "(3)، وعن " الصحاح " وغيـره(4).
____________
(1) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 267، الكشّاف 4 / 232، مجمع البيان 10 / 263.
(2) مجمع البيان 10 / 177، وانظر: تفسير الطبري 12 / 343 ـ 334 ح 35656 ـ 35663، شرح الأُصول الخمسة: 247 وما بعدها.
(3) القاموس المحيط 2 / 150 مادّة " نظر ".
(4) الصحاح 2 / 830، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 78، لسان العرب 14 / 192، تاج العروس 7 / 539، مادّة " نظر ".
قال تعالى: ( فَناظِرةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرسَلونَ )(1).. ( أُنظُرونا نَقتَبِس مِن نُورِكُم )(2).. ( غَيرَ ناظِرِينَ إنَاهُ )(3).
وقال الشاعر(4):
وُجُوهٌ ناظِـراتٌ يَومَ بَدْر | إلى الرحمـنِ يـأتي بالـفَـلاحِ |
وقال آخر(5):
كلُّ الخلائقِ يَنظرونَ سجالَه(6) | نظرَ الحجيجِ إلى طُلوعِ هلالِ |
فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام، ولو أُريد به الرؤية لعدّاه إلى (سجال) بـ (إلى) كما قيل.
والجواب عن الثاني: إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته، وطوع مشـيئته، بل ذلك زيادة في نعيمه.
على أنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة، فلعلّه يوم القيامة، كما
____________
(1) سورة النمل 27: 35.
(2) سورة الحديد 57: 13.
(3) سورة الأحزاب 33: 53.
(4) نسبه الباقلاّني في تمهيد الأوائل: 312 إلى حسّان بن ثابت، ولم نجده في ديوانه ; فـلاحــظ، فلعلّه ممّا أُسقط من أشعاره فلم يذكر في ديوانه.
وانظر: تبصرة الأدلّة في أُصول الدين ـ للنسفي ـ 1 / 397، مجمع البيان 10 / 175، تفسير الفخر الرازي 30 / 228 و 230، شرح المواقف 8 / 132، باختلاف يسـير في بعضها.
(5) انظر: شرح المواقف 8 / 132.
(6) السـجال: الخير والكرم والجود هنا على المجاز، ورجلٌ سَجْلٌ: جواد، وأسْجَلَ الرجلُ: كثر خيره وبِرّه وعطاؤه للناس ; انظر مادّة " سجل " في: لسان العرب 6 / 181، تاج العروس 14 / 334.