ولو سُلّم أنّ ( ناظرة ) ليس بمعنى: منتظرة، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ; لأنّ النظر: تأمّل العين للشيء، لا الرؤية كما في " القاموس " وغيـره(2)..
ولذا يتحقّق بدون الرؤية، قال تعالى: ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون )(3) مع أنّه قال: ( تراهم ينظرون ) والرؤية لا تُرى، وإنّما يرى تأمّلُ العين وتقليبُ الحدقة.
وأيضاً: يقال: نظرتُ إلى الهلال فرأيتُه ; ولو كان النظر بمعنى الرؤية، لَما صحّ تفريعها عليه.
وأيضاً: يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية، كالشزر والخشوع، ونحوهما، فلا يكون بمعناها.
فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.
ودعـوى: إنّ النظر، وإنْ لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها، إلاّ أنّ تأمّل عيونهم، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى، فيلزم أن تكون ممكنة، وإنْ لم تلزم فعليّتها.
إذ لو كانت نقصاً عليه تعالى، وممتنعة، لنُهوا عن التأمّل إليه..
باطلـةٌ ; لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.
____________
(1) سورة القيامة 75: 24 و 25.
(2) القاموس المحيط 2 / 149، الصحاح 2 / 830، لسان العرب 14 / 191، تاج العروس 7 / 538، مادّة " نظر ".
(3) سورة الأعراف 7: 198.
إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته، فيكون مجازاً في المفرد، ويثبت مطلوبهم..
أو من حذف مضاف، أي: ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه، فيكون مجازاً في الحـذف.
ولا معيّن للأوّل، بل المتعيّن الثاني، لتعديته بـ (إلى)، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.
فمع هذه الأُمور كلّها، كيف يمكنهم الاستدلال بالآيـة؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية، تكون ظاهرة في الرؤيـة المعروفـة ذات الشـرائط الخاصة، وهم لا يقولون بها كما ذكروا، فلا بُـدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.
هـذا، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ المعنى: ناظرة إلى ثواب ربّها(1).
فمن الغرائب إعراضه عنه بعد النسـبة، وأخذه بغيره!!
فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب، وباب مدينة علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعديل القرآن، الذي أُمروا بالتمسّك به، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!
واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني، فتكون مؤيّدة له ;
____________
(1) شرح التجريد: 435.
والمسألة ممّا يُطلب فيها اليقين، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي، أو ضرورة، كالرازي والتفتازاني وشارح " المواقف " وغيرهم(1).
ونحن لمّا أثبتـنا الامتناع بضرورة العقل، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييداً لحكم العقل.
____________
(1) الأربعين في أُصول الدين 1 / 268 و 277، شرح المقاصد 4 / 181 و 191، شرح المواقف 8 / 115 و 116 و 129، شرح التجريد: 433 و 437 ـ 438.
مـباحـث الـنـظـر
العلم بالنتيجة واجب بعد المقـدّمتين
قال المصنّـف ـ قـدّس الله نفسه ـ(1):
المسـألة الثـانيـة
في النـظر
وفيه مباحث:
[المبحـث] الأوّل
إنّ النظر الصحيح يسـتلزم العلم
الضرورة قاضية بأنّ كلَّ مَن عرف أنّ الواحدَ نصفُ الاثنين، وأنّ الاثنينَ نصفُ الأربعة، فإنّه يعلم أنّ الواحدَ نصفُ نصفِ الأربعة.
وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين: أنّ العالَم حادث، و [لا] أنّ النفس جوهر، [أ] و أنّ الحاصل أوّلا أَوْلى من حصول هذين.
وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك(2)، فلم يوجبوا حصول
____________
(1) نهج الحقّ: 49 ـ 50.
(2) انظر: شرح العقائد النسفية: 69 ـ 70، شرح المقاصد 1 / 240 ـ 247، شرح المواقف 1 / 207 ـ 224.
ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحدَ نصفُ نصفِ الأربعة، عقيب قولنا: " الواحدُ نصفُ الاثنين، والاثنان نصفُ الأربعة " ; وبين حصول العلم بأنّ العالَم مُحدَث، أو أنّ النفس جوهر، أو أنّ الإنسان حيوان، أو أنّ العدل حسَن، عقيب قولنا: " الواحدُ نصفُ الاثنين، والاثنان نصفُ الأربعة "!
وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ مَنْ عَلِم أنّ الواحدَ نصفُ الاثنين، والاثنين نصفُ الأربعة، يحصل له علم أنّ العالَم مُحدَثٌ؟!
وأنّ من علم أنّ العالَم متغيّر، وأنّ كلّ متغيّر مُحدَثٌ، يحصل له العلم بأنّ الواحـدَ نصفُ نصفِ الأربعـة، وأنّ زيـداً يأكل، ولا يحصل له العلم بأنّ العالَم مُحدَث؟!
وهل هذا إلاّ عين السـفسـطة؟!
وقال الفضـل(1):
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم ـ الذي هو النتيجة ـ عُقيب النظر الصحيح، بالعـادة.
وإنّما ذهب إلى ذلك بناءً على أنّ جميع الممكنات مسـتندة ـ عنده ـ إلى الله سـبحانه ابتداءً، أي بلا واسطة، وعلى أنّه قادر مختار، فلا يجب عنه صدور شيء منها، ولا يجب عليه، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلاّ بإجراء العادة، بخلق بعضها عُقيب بعض، كالإحراق عُقيب مماسّة النار، والرِيّ بعد شرب الماء، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والرِيّ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى، فله أنْ يوجِد المماسّـة بدون الإحراق، وأنْ يوجد الإحراق بدون المماسّة، وكذا الحال في سائر الأفعـال.
وإذا تكرّر صدور الفعل منه، وكان دائماً أو أكثريّاً، يقال: إنّه فعله بإجراء العادة ; وإذا لم يتكرّر، أو تكرّر قليلا، فهو خارق العادة أو نادر.
ولا شـكّ أنّ العلم بعـد النظر ممكنٌ، حـادثٌ، محـتاجٌ إلى مؤثّر، ولا مؤثّر إلاّ الله، فهو فِعله الصادر عنه بلا وجوب منه، ولا عليه، وهو دائم أو أكثريّ، فيكون عاديّاً(2).
هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 148 ـ 149.
(2) شرح المواقف 1 / 241 ـ 243، وانظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين: 66.
فالخصم إمّا أن يقول: إنّ اسـتلزام النظر الصحيح للعلم واجب، وتخلّفه عنه محال عقلا ; فهذا باطل ; لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [عقلا]، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.
وإنْ أراد الوجوب عادةً ـ بمعنى اسـتحالة التخلّـف عادةً وإنْ جاز عقلا ـ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّـنّا.
وأمّا قوله: إنّ الأشاعرة " جعلوا حصول العلم عُقيب المقدّمتين اتّفاقياً "، فافتراء محض ; لأنّ من قال بالاستلزام عادة ـ على حسب ما ذكرناه من مراده ـ لم يكن قائلا بكونه اتّفاقياً، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته، وكأنّه لم يُفرّق بين اللزوم العادي، وكون الشيء اتّفاقياً ; أو يُفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشـنيع والتنفير.
والله العالم.
____________
(1) انظر الصفحة 63 من هذا الجزء.
وأقـول:
قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأُولى(1) أنّه لو قلنا باسـتناد الممكنات كلّها إلى الله تعالى بلا واسطة، وأنكرنا العلاقة والسـببية بين الحوادث المتعاقبة خارجاً، أو طبعاً، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث، ولا على المركّب بالإمكان، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض، والجسم بلا مكان ; وكلّها باطلة.. إلى غير ذلك ممّا مرّ.
ومنه يُعلم ما في قوله: " لا مؤثّر إلاّ الله تعالى " كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
وأمّا قوله: " فله أنْ يوجِد المماسّة بدون الإحراق، وإنْ يوجِد الإحراق بدون المماسّة ".
فإنْ أراد به أنّ له أنْ يوجِد المماسّة بدون الإحراق، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما، فممنوع ; إذ ليس محلاًّ للقدرة، لكونه محالا.
وإنْ أراد به أنّ له الإيجاد، مع تغيير الطبيعة، فمُسلّم ; ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.
كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّـة إنْ أراد به الإحراق المطلق، فمُسلّم.
وإنْ أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار، فممنوع.
ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ; لأنّ المقدور
____________
(1) انظر الصفحة 51 وما بعدها من هذا الجزء.
كما أنّ وجوب المسـبّب بعد اختيار السـبب لا ينافي القدرة والاختيار، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.
وقوله: " هذا باطل ; لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط "..
واضح البطلان ; لأنّه إنْ أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم ـ من العقل، والحياة، وعدم النوم، والغفلة ـ فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.
وإنْ أراد بها خصوص شرائط القياس، فإمكان عدم التفطّن مُسلّم، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مُباحِث بمثل المقـام.
وأمّـا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقياً، افتراء محض ; فغـريب!
إذ لم يُرِد المصنّف بكون الحصولِ اتّفاقياً الحصولَ في بعض الأوقات دون بعض، بل أراد به الحصول بلا لزوم ; لأنّه قال: " اتّفاقياً، يمكن أن يحصـل، وأن لا يحصـل " فوصف الاتّفـاقي بما يمكن حصـوله وعدمـه، لا بالحصول في وقت دون آخر ; وهو صريح في ما قلنا.
على أنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصولَ في بعض الأوقات، لم يبعد عن الصدق ; لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائمياً، بل قال: هو دائم أو أكثري، كما هو عين كلام شارح " المواقف ".
____________
(1) المواقف: 27، شرح المواقف 1 / 241 ـ 243.
النظر واجب بالعقل لا بالسمع
قال المصنّـف ـ طاب رمسـه ـ(1):
المبحـث الثـاني
في أنّ النظر واجب بالعقل
الحقّ أنّ مَدرك وجوب النظر عقليٌّ لا سمعي، وإنْ كان السمع قد دلّ عليه أيضاً بقوله تعالى: ( قُلِ انظُروا )(2).
وقال الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء، وظهور المعاندين عليهم، وهم معذورون في تكذيبهم! مع أنّ الله تعالى قال: ( لئلاّ يكونَ للناسِ على اللهِ حُجّةٌ بعدَ الرسُل )(3)..
فقالوا: إنّه واجب بالسمع لا بالعقل، وليـس يجب بالعقل شيء ألبتّة!(4).
فيلزمهم إفحام الأنبياء، واندحاض حجّتهم ; لأنّ النبيّ إذا جاء إلى المكلَّف فأمره بتصديقه واتّباعه، لم يجب ذلك عليه إلاّ بعد العلم بصدقه،
____________
(1) نهج الحقّ: 50 ـ 51.
(2) سورة يونس 10: 101.
(3) سورة النساء 4: 165.
(4) الملل والنحل 1 / 88، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 64 ـ 65، شرح المقاصد 1 / 262، شرح المواقف 1 / 270 ـ 271.
منها: إنّ هذه المعجزة من عنـد الله تعالى.
[ومنها: إنّه تعالى] فعلها لغرض التصديق.
ومنها: إنّ كلّ من صدّقه اللهُ تعالى فهو صادق..
لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النظرية، لم يكن ضرورياً، بل يكون نظريّـاً.
فللمكلَّف أنْ يقول: لا أعرف صدقك إلاّ بالنظر، والنظر لا أفعله إلاّ إذا وجب علَيَّ وعرفتُ وجوبَه، ولم أعرف وجوبه إلاّ بقولك، وقولك ليس بحجّة علَيَّ قبل العلم بصدقك!
فتنقطع حجّة النبيّ، ولا يبقى له جواب يخلص به، فتنتفي فائدة بعثة الرسل، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم، ويكون المخالف لهم معـذوراً.
وهذا هو عين الإلحاد والكفر! نعوذ بالله منه.
فلينظر العاقل المنصف [من نفسه]، هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبُه إلى الكفر؟!
وإنّما قلنا بوجوب النظر ; لأنّه دافع للخوف، ودفعُ الخوف واجبٌ بالضـرورة.
وقال الفضـل(1):
إعلم أنّ النظر في معرفة الله واجبٌ بالإجماع، والاختلاف في طريق ثبوتـه.
فعند الأشاعرة طريق ثبوته: السمع، لقوله تعالى: ( انظروا )(2) ; ولأنّ معرفة الله واجبة إجماعاً، وهي لا تتمّ إلاّ بالنظر، وما لا يتمُّ الواجبُ المطلقُ إلاّ به فهو واجب، ومَدرك هذا الوجوب هو السمع كما سيتحقّق بعد هذا.
وأمّا المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية(3)، فهم أيضاً يقولون بوجوب النظر، لكن يجعلون مَـدركَه العقل لا السمع(4).
ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النظر إلاّ بالشرع لزم إفحام
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 151 ـ 155.
(2) سورة يونس 10: 101.
(3) إنّ القول بأنّ الإمامية تبع للمعتزلة في علم الكلام، وأنّهم متّـفقون معهم في العقيدة، قول باطل لا أساس له من الصحّة جملةً وتفصيلا..
فللإمامية رأيهم المستقلّ، ومن الخطأ في التعليل والاعتباط في الرأي أنْ نجعل موافقة الإمامية للمعتزلة دليلا على تأثّرهم بهم، أو حضور إماميّ عند معتزليّ شاهداً على استجداء العقيدة واستماحة الفكر، بل إنّ الاحتكاك الفكري هو الذي ينمّي التفكير ويصحّح طرق الاسـتدلال ويقصّر السبل ويسهّلها ; وقد نشأ علم الكلام واستقرّت طرقه ومناهجه عند الإمامية قبل غيرهم.
وقد فصّل البحث في ذلك سماحة الشيخ محمّـد رضا الجعفري ـ حفظه الله ـ في مقاله: " الكلام عند الإمامية " المنشور في مجلّة " تراثنا "، العددين 30 ـ 31، ص 144 ـ 299 ; فـراجـع.
(4) شرح الأُصول الخمسة: 42 ـ 43، الذخيرة في علم الكلام: 167 ـ 171.
والجواب من وجهين:
[الجواب] الأوّل: النقـض:
وهو: إنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء، مشـترك بين الوجوب الشرعي ـ الذي هو مذهبنا ـ، والوجوب العقلي ـ الذي هو مذهبكم ـ، فما [هو] جوابكم فهو جوابنا!
وإنّما كان مشتركاً، إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضرورياً، بل بالنظر فيه، والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة مِن أنّ المعرفة واجبة، وأنّها لا تتمّ إلاّ بالنظر، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجـب..
فيقول المكلّف حينئذ: لا أنظر أصلا ما لم يجب، ولا يجب ما لم أنظر، فيتوقّف كلُّ واحد مِن وجود النظر مطلقاً، ووجوبه على الآخر.
لا يـقـال: إنّه يمكن أن يكون وجوب النظر فِطريّ القياس، فيضع النبيُّ للمكلّـف مقـدّمات ينسـاق ذهنه إليها بلا تكلّف، ويُفيده العلم بذلك ـ يعني بوجوب النظر ضرورةً ـ، فيكون الحكم بوجوب النظر ضرورياً محتاجاً إلى تنبيه على طرفيه.
لأنّـا نقول: كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدقيقة الأنظار، باطل.
وعلى تقـدير صحّـته ـ بأنْ يكـون هنـاك دليـل آخر ـ فللمكلّـف أنْ لا يسـتمع إليه وإلى كلامه الذي أراد تنبيهه به، ولا يأثم بترك النظر أو الاستماع، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا، فلا يمكن الدعوة وإثبات
والجواب الثاني: الحـلّ:
وهو أنْ يقال: [النبيُّ له أن يقول] ـ إذا قال المكلّف: لا أعرف صِدقَكَ إلاّ بالنظر، والنظر لا أفعله إلاّ إذا وجب علَيَّ وعرفتُ وجوبه ـ:
إنّ الوجوب عليك محقَّقٌ بالشرع في نفس الأمر، ولكن لا يلزم أنْ تعرف ذلك الوجوب.
فإنْ قـال: الوجوب موقوف على علمي به.
قلنـا: لا يتوقّف ; إذ العلم بالوجوب موقوفٌ على الوجوب، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفاً على العلم بالوجوب.
فإنْ قـال: ما لم أعرف الوجوب لم أنظر.
قلنـا: ماذا تريد بالوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟!
فإنْ قـال: أُريد بالوجوب ما يكون تركُ الواجب به إثماً وفعلُه ثواباً.
قلنـا: فقـد أثبـتَّ الشـرعَ حيث قلتَ بالثواب، وإلاّ فبَطلَ قولك: " ووجوبه لا أعرفه إلاّ بقولك "، فاندفع الإفحام.
وإنْ قـال: أردت بالـوجـوب ما يـكـون تـرك الـواجـب بـه قبـيحـاً لا يسـتحسـنه العقلاء، ويترتّب عليه المفسدة، فيرجع إلى اسـتحسـان العقـل.
قلنـا: فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء، وتأمّلت فيه بعقلك، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النظر في معرفة خالقه ـ مع بثّ النِعَم ـ
لا يقـال: هذا الوجه الثاني هو عينُ [القول بـ] الحُسْنِ والقُبحِ العقليّـين، وليس هذا مذهب الأشاعرة، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم.
قلنـا: لأنّا نقول: ليس هذا من الحسن والقبح اللذين وقع فيهما المنازعة أصلا ; لأنّ الحسن والقبح، بمعنى تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب، هو محلُّ النزاع، فهو عند الأشاعرة شرعيٌّ، وعنـد المعتزلة عـقليٌّ.
وأمّا الحسن والقبح، بمعنى ملاءمة الغرض ومنافرته، وترتّب المصلحة والمفسدة عليهما، فهما عقليّان بالاتّفاق ; وهذا من ذاك الباب، وسـنبيّن لك [حقيقة] هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إنْ شاء الله تعـالى.
ثمّ اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام [عن الأنبياء] مسلكاً لم يسلكه قبلنا أحدٌ من السلف، وأكثر ما(1) اطّلعنا عليه من كلامهم لم يُفِد دفع الإفحام، كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم، والله العالم.
إذا عرفت هذا، علمت أنّ الإفحام مندفعٌ على تقدير القول بالوجوب الشرعي في هذا المبحث، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟!
ثمّ إنّ من غرائب طامّات هذا الرجل أنّه أورد شبهةً على كلام الأشاعرة، وهي مندفعةٌ بأدنى تأمّل، ثمّ رتّب عليه التكفير والتفسيق، وهذا
____________
(1) كان في الأصل: " من "، وهو تصحيف ; والمثبت في المتن من المصدر.
____________
(1) الأوباش من الناس: الأخلاط والضُروب المتفرِّقون والسَفِلة ; انظر: الصحاح 3 / 1024، لسان العرب 15 / 200، تاج العروس 9 / 219، مادّة " وَبَشَ ".
وأقـول:
إنّ الجـواب النقضي إنّمـا يتوجّـه إذا كان الدليل العقلي على الوجوب ـ نظرياً أو ضرورياً ـ محتاجاً إلى تنبيـه.
وأمّا إذا كان ضرورياً غنياً عن التنبيه، فـلا، كالدليل الذي ذكره المصنّف.
فإنّ المقدّمة الأُولى منه، وهي:
" إنّ النظر دافع للخوف " وجدانية ; لأنّ النظر إمّا أنْ يحصل به القطع المؤمّن للقاطع، أو يوجب الأمان مِن جهْلِه لو لم يقطع ; لأنّ النظرَ غاية المقـدور.
والمقدّمة الثانية، وهي:
" إنّ دفع الخوف واجبٌ " ضرورية أوّلية، لا تحتـاج إلى التـنبيه كالأُولى.
فإنْ قلت:
أين الخوف حتّى يُوجب دفعه؟!
قلـت:
لا ريب أنّ كلّ عاقل يحتمل بالضرورة أنّ له ربّاً لازم العبادة، وأنّه يعاقبه بجهله فيه، وترك النظر في معرفته، والإخلال بعبادته، فيحصل له الخوف بالضرورة، فيحتاج إلى النظر، ويجب عليه عقلا.
فرأى الخصم أنّ صاحب " المواقف " ذكر جواباً سمّاه نقضياً، فأخذه بلفظـه من غير معرفـة بعـدم انطبـاقه على الدليـل الذي في الكـتاب، وأنّه لا يكون نقضاً عليه، وإنّما يكون نقضاً على ما بيّنه في " المواقف ".
ثمّ إنّه قد ذكر في " المواقف " نظير الدليل البديهي المذكور، وجعله دليلا على وجوب المعرفة عقلا، لا على وجوب النظر، فقال: " المعرفةُ دافعةٌ للخوف الحاصل من الاختلاف، وهو ـ أي الخوف ـ ضرر، ودفع الضرر عن النفس واجب [عقلا] "(1).
ولو قال: المعرفة دافعة للخوف، ودفع الخوف واجب بالضرورة ; لكان أَوْلى.
وأمّا ما ذكره في الحلّ:
فيرد عليه أُمور:
الأوّل:
إنّ قوله: " الوجوب عليك محقّقٌ بالشرع في نفس الأمر " كلامٌ غير نافع، وهو الذي اقتصر عليه علماء الأشاعرة ; لأنّ تحقّق وجوب النظر في الواقع وإنْ لم يتوقّـف على العلم، لكن لا يؤثّر في لزوم إطاعة المكلّف له
____________
(1) المواقف: 28 ـ 31، شرح المواقف 1 / 269 ـ 270.
ولو ادّعيت عدم المعذورية عقلا في مخالفة الوجوب الشرعي الواقعي، بمجرّد احتمال المكلّف له، رجعت إلى حكم العقل، وصار المحرّك للمكلّف على النظر هو العقل لا الشرع.
وبالجملـة: إنّما يرتفع الإفحام بعلم المكلّف بالوجوب، لا بمجرّد وجوده في الواقع، وقول مدّعي النبوّة لا يفيده العلم، فلا يرتفع الإفحام، بخلاف الدليل العقلي، فإنّه يُثبت الوجوب، ويُفيد العلم به، فيرتفع الإفحـام.
الثاني:
إنّه لا يلزم من قول المكلّف: " أُريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثماً وفِعلُه ثواباً " أنْ يكون مُثبتاً للشرع، مُذعناً به ; لأنّ استعمال اللفظ في معنىً لا يستلزم اعتقاد المستعمِل بالمعنى، بل يكفيه سماعه له مستعمَلا به عند أهل الشرع، فإذا أراده صحّ كلامه من غير اعتقاد به، ولزم الإفحام.
الثالث:
إنّ نتيجة قوله: " وإنْ قال: أردت بالوجوب ما يكون الواجب به قبيحاً... " إلى آخره، أنْ يكون الوجوب عقلياً، وحينئذ ـ لو تمّ ـ لا يكون جواباً حَـلّـياً عن إشكال الإفحام بناءً على الوجوب الشرعي.
فظهر أنّ زيادة الخصم على جواب الأشاعرة بقوله: " فإنْ قال: ما لم أعرف الوجوب لم أنظر... " إلى آخر جوابه، زيادةٌ لاغيةٌ لا تنفع
أُولاهما: لا تدفع الإفحام.
والثانية: تجعل الوجوب عقلياً كما عرفته في الأمرين الأخيرين.
واعلم أنّ دليل المصنّف العقلي كما يُثبتُ وجوب النظر لمعرفة الله تعـالى، يُثبـتُ وجوب النظر لمعرفة النبيّ، إلاّ أنّ وجه الخوف مختلف، ولا يبعد أنّ المصنّف أراد الأمرين كما هو ظاهر من كلامه.
والله العالم.