المعرفـة واجبة بالعقـل
قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابه ـ(1):
المبحـث الثـالث
في أنّ معرفة الله تعالى واجبة بالعقل
الحقّ أنّ وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل، وإنْ كان السمع [قد] دلّ عليه ; لقوله تعالى: ( فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله )(2) ; لأنّ شكر النعمة(3) واجب بالضرورة، وآثار النعمة علينا ظاهرة، فيجب علينا أنْ نشكر فاعلها، وإنّما يحصل بمعرفته ; ولأنّ معرفة الله دافعةٌ للخوف الحاصل من الاختلاف، ودفعُ الخوف واجبٌ بالضرورة.
وقالت الأشاعرة: إنّ معرفة الله واجبة بالسمع لا بالعقل(4)، فلزمهم ارتكابُ الدور، المعلوم بالضرورة بطلانه ; لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معـرفـة الموجِـب، فـإنّ مَـنْ لا نعرفـه بشـيء من الاعتبـارات ألبتّـة، نعلـم ـ بالضرورة ـ أنّا لا نعرفُ أنّه أوجَب، فلو استُفيدت معرفةُ الموجِب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.
____________
(1) نهج الحقّ: 51 ـ 52.
(2) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 19.
(3) في المصدر: المنعم.
(4) الملل والنحل 1 / 88، المواقف: 28، شرح المواقف 1 / 270 ـ 271.
أمّا بطلان الأوّل ; فلأنّه يلزم منه تحصيل الحاصل، وهو محال.
وأمّا بطلان الثاني ; فلأنّ غير العارف بالله يستحيل أنْ يعرف: أنّ الله قد أمَره، وأنّ امتثال أمره واجب.
وإذا استحال أنْ يعرف أنّ الله تعالى قد أمره، وأنّ امتثال أمره واجبٌ، استحال أمره، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق، وسيأتي بطلانه إنْ شاء الله تعالى.
وقال الفضـل(1):
لا بُـدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النزاع أوّلا، فنقول:
وجوب معرفة الله تعالى ـ الذي اختُلف فيه ـ هل إنّه مستفاد من الشرع أو العقل؟
إنْ أُريدَ به الاستحسان، وترتّب المصلحة، فلا يبعد أن يقال: إنّه مسـتفاد من العقل ; لأنّ شـكر المنعم موقوف على معرفته، والشكر واجب ـ بهذا المعنى ـ بالعقل، ولا نزاع للأشاعرة في هذا.
وإنْ أُريدَ به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع ; لأنّ العقل ليس له أنْ يحكم بما يوجب الثواب عند الله.
والمعتزلة يوافقون أهل السُـنّة في أنّ الحسن والقبح ـ بهذا المعنى ـ مركوزان في العقل، ولكنّ الشرع كاشفٌ عنهما.
ففي المذهبين لا بُـدّ وأنْ يؤخذ(2) من الشرع، إمّا لكونه حاكماً، أو لكونه كاشفاً(3).
فكلُّ ما يَرِدُ على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم: " إنّ الشرع حاكمٌ بالوجوب دون العقل " يَرِدُ على المعتزلة بقولهم: " إنّ الشرع كاشفٌ للوجوب " ; لأنّ في القولين لا بُـدّ من الشرع ليحكم أو يكشف.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 160 ـ 161.
(2) كان في الأصل: " يوجد "، وهو تصحيف ; والمثبت في المتن من المصدر.
(3) أي كاشفاً عن حكم العقل بوجوب النظر.
فنحن نقول فيه ـ بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال، وما يتفرّع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما ـ: نمنع حصول الخوف المذكور ; لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سبباً له من الاختلاف وغيـره.
ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة ; لعدم الخطور في الأكثر، فإنّ أكثر الناس لا يخطر ببالهم أنّ هناك اختلافاً بين الناس في ما (ذكروا: أنّ) (1) لهذه النعم منعماً قد طلب منهم الشكر عليها، بل هم ذاهلون عن ذلك، فلا يحصل لهم خوفٌ أصلا.
وإنْ سُلّم حصول الخوف، فلا نسلّم أنّ العرفان ـ الحاصل بالنظر ـ يدفعه، إذ قد يخطئ فلا يقع العرفان على وجه الصواب ; لفساد النظر، فيكون الخوف حينئذ أكثر.
ثمّ ما ذكر من لزوم الدور، مندفعٌ بأنّ وجوبَ المعرفة بالشرع في نفس الأمر، لا يتوقّف على معرفة الإيجاب [وإنْ توقّف على الإيجـاب] في نفس الأمر، فلا يلزم الدور.
ثمّ ما ذكر من أنّ المعرفة لا تجب إلاّ بالأمر، والأمر إمّا أنْ يتوجّه إلى العارف أو الغافل ; وكلاهما باطل..
فنقول في جوابه: المقدّمة الثانية القائلة: بأنّ تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ; ممنوعة..
____________
(1) في المصدر: " ذكر، وأنّ... ".
وأقـول:
لا يخفى أنّ معنى الوجوب هو: لزوم الفعل، وعبّر بعضهم بطلب الفعل مع المنع من الترك، وهذا ممّا لا يشتبه في نفسه على أحد، ولا في كونه ـ هو دون غيره ـ محلّ النزاع، فأيُّ وجه لتركه؟!
والترديد في معنى الوجوب بين أمرين لا ربط لهما بالمقصود، اللّهمّ إلاّ أنْ يريد الترديد في سبب الوجوب العقلي ودليله، لا في معناه، فهو حسنٌ إذا كان غرضه ـ من الشقّ الأوّل في الترديد ـ تسليم الدليل الأوّل الذي استدلّ به المصنّف، مع إرادة الخصم بالاستحسان هو الاسـتحسان على وجه اللزوم.
لكنّ دعوى تسليم الأشاعرة لهذا الدليل، وعدم النزاع لهم في وجوب شكر المنعم، غير صحيحة، لا سيّما إذا أُريدَ به إثبات وجوب المعرفة عقـلا.
فإنّهم أنكروا وجوب المعرفة عقلا ـ كما سمعت ـ، وأنكروا وجوب شكر المنعم عقلا، مدعين:
أوّلا: إنّه تصرّف في ملك الغير، فلا يجوز بدون إذنه.
وثانياً: إنّه لو وجب عقلا، فإنْ كان لا لفائدة، يلزم العبث ; وإنْ كان لفائدة: إمّا في الدنيا، وأنّه مشقّة ; أو في الآخرة، ولا استقلال للعقل فيها.
ويردُ على الأوّل: إنّهم إنْ أرادوا بملك الغير: الجوارح والقوى المدركة ; ففيه: إنّ الله سبحانه إنّما خلقها ليتصرّف بها صاحبُها، إلاّ أنْ
وإنْ أرادوا به أفعالَ العبد ; فهي عندهم مخلوقةٌ لله تعالى، فلا تَصرُّف للعبد فيها، على أنّ الأصل الإباحة عند الشـكّ كما حُقّق في أُصول الفـقه(1).
ويردُ على الثاني: إنّا نختار أنّه لفائدة الشاكر، سواء قلنا: إنّها في الدنيا ; لأنّ المشقّة لا يُلتفت إليها في جنب الفائدة، كيف؟! ولا تحصل فائدةٌ غالباً بدون مشقّة..
أم في الآخرة ; لأنّ العقل مستقلّ بها، وحاكم بالثواب عند الله تعالى، كما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.
وأمّا قوله: " وإنْ أُريدَ به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع "..
فهو خارجٌ عن المقام ; لأنّ الكلام إنّما هو في أصل الوجوب العقلي ودليله، ولا ربط له بمسألة استحقاق الثواب والعقاب على طاعة التكاليف الشرعية ومخالفتها.
كما إنّ قولنا بالاستحقاق لا يتوقّف على كشف الشرع بالضرورة.
وكيف كان، فإنْ أقرّ الخصم بوجوب معرفة الله تعالى عقلا، وأنّ العقل ملزِمٌ للإنسان بالمعرفة وإنْ لم يعرف الشرع، لوجوب شكر المنعم عقلا، الموقوفِ على المعرفة، فهو المطلوب.
____________
(1) انظر: المستصفى من علم الأُصول 1 / 75، إرشاد الفحول: 473، المواهب السنية ـ المطبوع بهامش الأشباه والنظائر، للسيوطي ـ: 83، العدّة في أُصول الفقه 2 / 741 ـ 751، كفاية الأُصول: 338 و 355.
ومن جملة الخبط في كلامه قوله: " والمعتزلة يوافقون أهل السُـنّة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان في العقل "..
فإنّ حقّ العبارة أن يقول: " ثابتان بالشـرع "، بدلا عن قوله: " مركوزان في العقل " ; لأنّ الأشاعرة لا يقولون بالثواب والعقاب عقلا(1).
وأمّـا ما أجاب به عن الدليل الثاني الذي ذكره المصنّف، فهو عينُ لفظ " المواقف " وشرحها، من قوله: " نحن نقول بعد تسليم " إلى قوله: " فيكون الخوف حينئذ أكثر "(2)..
ويرد عليه أوّلا: إنّ منع حصول الخوف بدعوى عدم شعور الناس بسببه وهو " الاختلاف " خطأٌ ظاهر، سواء أراد المصنّف بالاختلاف، الاختلاف في وجود الله تعالى، أم في أنّ لهذه النعم منعماً.
وذلك لأنّ الاختلاف في الأمرين أظهر الوجدانيات والمشاهَدات، وأبين محالّ الخلاف في الديانات، فكيف يمكن أنْ لا يشعر به الناس؟!
نعم، ربّما لا يبالي الناس بالجهل ومقتضى الخوف، وهو أمر آخر.
ويرد عليه ثانياً: إنّ تقييد المنعم بأنّه قد طلب الشكر عليها، خطأٌ آخر ; لمنافاته لمذهبنا، وهم يريدون حكايةَ دليلِنا، فإنّا نقول: إنّ وجوب شكر المنعم عقلي لا شرعي، وإنمّا الشرع مؤكِّـد(3).
____________
(1) الملل والنحل 1 / 88، شرح المواقف 8 / 183.
(2) المواقف: 31، شرح المواقف 1 / 270.
(3) انظر: الذخيرة في علم الكلام: 170 ـ 171.
بل عرفت في المبحث السابق(2) أنّ النظر دافعٌ للخوف وإنْ لم يؤدِّ إلى القطع ; لأنّه غايةُ المقدور.
فإنْ قلت:
المقصود: إنّ من يريد النظر يحتمل أنّه على تقدير قطعه يكون مخطئاً، فلا يكون الإقدام على النظر مؤمّناً من الخطأ ودافعاً للخوف حتّى يجـب.
قلـت:
إنّه وإنْ احتمل ذلك، إلاّ أنّه يعلم بانتفاء الخوف معه، لعلمه بكون القاطع معذوراً وإنْ أخطأ، فالإنسان بدون النظر في خوف، ومع النظر يحصل له الأمان، لعلمه بأنّه إمّا أنْ يحصل له القطع، أو لا.
وعلى التقديرين يكون معذوراً آمناً ; لأنّ ذلك غاية مقدوره.
وأمّا ما ذكره في دفع الدور، فلا ربط له بمقدّمتي الدور اللتين
____________
(1) انظر: كفاية الأُصول: 258.
(2) انظر الصفحة 148.
لأنّ الأُولى قائلة: إنّ معرفة الإيجاب متوقّفة على معرفة الموجِب.
والثانية قائلة: إنّ معرفة الموجب متوقّفة على معرفة الإيجاب.
وصريح ما ذكره الفضل منع توقّف وجوب المعرفة على معرفة الإيجاب، وهو أجنبي عن المقدّمتين.
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى تكليف غير العارف، فممّا تلقّنه من " المواقف " وشرحها بلفظه، من دون معرفة بعدم صلوحه للجواب، فإنّه يرد عليه أُمور:
الأوّل: إنّه غير مرتبط بمراد المصنّف ; لأنّه أراد بغير العارف من لم يعرف الله تعالى، لا الغافل عن التكليف.
الثاني: إنّه زعم أنّ شرط التكليف فهمه، وفسّر الغافل بمن لا يفهم الخطاب، ثمّ حكم بأنّ تكليفه غير محال ; وهو تناف ظاهر ; لأنّه إذا اشترط في التكليف فهمه، وكان الغافل لا يفهم الخطاب، فكيف يجوز تكليفه؟!
الثالث: إنّ كلام المصنّف اشتمل على مقدّمتين لا ربط لجواب الفضل بهمـا:
الأُولى: إنّ غير العارف بالله ـ بما هو غير عارف به ـ يستحيل أنْ يعرف أنّ الله قد أمره، وأنّ امتثال أمره واجب.
الثانية: إنّه إذا استحال ذلك استحال أمرُ الله تعالى، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق.
ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يصلح أنْ يكون ردّاً لإحدى المقـدّمتين لو كان له معنى!
مـباحـث الصفـات الإلهيّـة
الله تعالى قادر على كلّ مقدور
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المسـألة الثالثـة
في صفاتـه تعالى
وفيها مباحث:
[المبحـث] الأوّل
إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور
الحقُّ ذلك ; لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان، فيكون الله تعالى قادراً على جميع المقدورات.
وخالف في ذلك جماعة من الجمهور:
فقال بعضهم: إنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد(2).
____________
(1) نهج الحقّ: 53 ـ 54.
(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 260، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 340، المواقف: 284، شرح العقائد النسفية: 100، شرح المواقف 8 / 63 ; والقول لأبي القاسم البلخي.
وقال آخرون: إنّه تعالى لا يقدر على القبـيـح(3).
وقال آخرون: إنّه لا يقدر أنْ يخلق فينا علماً ضرورياً يتعلّق بما علمناه مكـتسـباً(4).
وكلّ ذلك بسبب سوء فهمهم، وقلّة تحصيلهم!
والأصل في هذا أنّه تعالى واجب الوجود، وكلّ ما عداه ممكن، وكلّ ممكن فإنّه إنّما يصدر عنه، (أو يصدر عمّا يصدر عنه)(5).
ولو عرف هؤلاء الله تعالى حقّ معرفته لم تتعدّد آراؤهم، ولا تشعّبوا بحسب ما تشعّبت أهواؤهم.
____________
(1) كذا في الأصل والمصدر، وفي أغلب المصادر المنقول عنها: " عين "، وفي بعضها: " نفس " ; فلاحـظ!
(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 260، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 341، المواقف: 284، شرح المواقف 8 / 64 ; والقول لأبي علي وأبي هاشم الجبّائـيّـين.
(3) الملل والنحل ـ للبغدادي ـ: 91، الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 130، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 47 ـ 48، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 340، المواقف: 284، شرح العقائد النسفية: 100، شرح المواقف 8 / 63 ; والقول للنظّـام.
(4) لعلّ هذا هو قول عبّاد بن سليمان، تلميذ هشام الفوطي ; فانظر مؤدّاه في: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 133.
(5) ما بين القوسين ليس في المصدر.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّ قدرته تعالى تعمُّ سائر المقدورات، والدليل عليه: إنّ المقتضي للقدرة هو الذات، والمصحِّح للمقدورية هو الإمكان، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها(2).
هذا مذهبهم، وقد وافقهم الإمامية في هذا وإنْ خالفهم المعتزلة.
فقوله: " خالف في ذلك جماعة من الجمهور " إنْ أراد به الأشاعرة فهو افتراء، وإنْ أراد به غيرهم فهو تلبيس، وإراءةٌ للطالبين أنّ مذهبهم هذا ; لأنّ " الجمهور " ـ في هذا الكتاب ـ لا يطلقه إلاّ على الأشاعرة، وبالجملة: تعصّبه ظاهر، وغرضه غير خاف.
وأمّـا قول بعضهم: إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ; فهو مذهب أبي القاسم البلخي(3).
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 164 ـ 165.
(2) المواقف: 283، شرح المواقف 8 / 60.
(3) وأبو القاسم البلخي هو: عبـد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي، ولد عام 273 هـ، من متكلّمي المعتزلة البغـداديّين، ومن نظراء أبي علي الجُبّائي، صنّف في الكلام كتباً كثيرة، منها: كتاب المقالات، وكتاب الغرر، والتفسير الكبير، وغيرهـا.
يقال إنّه كان رئيساً لفرقة من المعتزلة تدعى الكعبية نسبت إليه، أقام في بغداد، وعاد إلى بلخ خراسان حتّى توفّي فيها سنة 319 وقيل 329 هـ.
انظر: تاريخ بغداد 9 / 384 رقم 4968، وفيات الأعيان 3 / 45 رقم 330، سير أعلام النبلاء 14 / 313 رقم 204، لسان الميزان 3 / 255 رقم 1103، شذرات الذهب 2 / 281 حوادث سنة 319 هـ.
وأقـول:
لا يخفى أنّ المقدّمة الأُولى من دليلهم ـ المذكور ـ القائلة: " إنّ المقتضي للقدرة هو الذات " مبنية على أنّ صفاته تعالى غير ذاته، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى أنّها عين ذاته.
كما أنّ المقدّمة الثانية القائلة: " المصحِّح للمقدورية هو الإمكان " مستلزمة للدور أو التسلسل ; لأنّ صفاته سبحانه عندهم ممكنة، ومنها القدرة، فيلزم أنْ تكون القدرة مقدورة، وهو دور أو تسلسل.
وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة: إنّ نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء، فمحلّ إشكال ; كيف؟! واقتضاء الذات لصفاتها الممكنة عندهم بالإيجاب، ولباقي الممكنات بالاختيار ; فتختلف النسبة.
وعليـه: فمن الجائز أنْ تكون مقدورية بعض الممكنات للذات مشروطة بشرط منتف، أو أنّ لمقدوريّتها لها مانعاً، فلا يثبت عموم قدرته.
فالأَوْلى الاستدلال عقلا لعموم قدرته تعالى، بما ذكره المصنّف من أنّ المقتضي ـ أي العلّة ـ لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان، ضرورة توقّف ترجيح أحد طرفَي الممكن على الآخر على القدرة.
فإنْ قلت:
إنّما يثبت بهذا الدليل عموم مقدورية الممكنات لا عموم قدرته تعالى، إذ لو أثبت عمومها لأثبت عموم قدرة العبد أيضاً، لجريان الدليل بعينه فيها، فيجوز أنْ يكون بعض الممكنات مقدوراً لله تعالى، وبعضها
قلـت:
الإمكان يستدعي الحاجة إلى المؤثّر والانتهاء إلى الواجب تعالى، فيصلح هذا الدليل دليلا لعموم قدرته تعالى، بلحاظ ما يسـتتبعه الإمكان من حاجة كلّ ممكن إليه عزّ وجلّ، لا بلحاظ ذات الإمكان فقط حتّى يلزم عموم قدرة العبد أيضاً.
فإن قلت:
الحاجة إنّما تقتضي تأثّر الممكن عن الواجب ـ ولو بنحو الإيجاب ـ فلا يلزم عموم قدرته لكلّ ممكن، لجواز كونه سبحانه موجِباً لبعض الممكنات كما يقوله الأشاعرة في صفات الباري سبحانه(1)، والإيجاب مناف للقدرة على الصحيح، لاعتبار أن تكون صالحة للفعل والترك.
قلـت:
لا يصـحُّ فـرض كونه تعالى موجِبـاً، لاسـتلزامه تعدّد القدماء، وهو باطل، كما ستعرفه إنْ شاء الله تعالى.
وأمّا قوله: " إنْ أراد به الأشاعرة فهو افتراء، وإنْ أراد به غيرهم فهو تلبيس "..
____________
(1) المواقف: 282 ـ 283، شرح المواقف 8 / 56 ـ 59.
ففيـه:
إنّه أراد به مَن قدّموا على أمير المؤمنين (عليه السلام) غيره، لتصريحه في المبحـث الآتي بـأنّ أبا هاشـم(1) مـن الجمهـور، وفـي مباحـث البقـاء، بأنّ النظّام(2) منهم، مع أنّهما من المعتزلة، فلا تلبيـس منه.
هـذا، وللقوم أقوال أُخر لم يتعرّض لها المصنّف، ذكر في " المواقف " بعضها(3)، وذكر ابن حزم في أواخر الجزء الثاني من " الملل والنحل " جملة منها(4).
____________
(1) هو: عبـد السلام بن أبي علي محمّـد بن عبـد الوهّاب بن سلام الجُبّائي المعتزلي، ولد سنة 247، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، له تصانيف كثيرة، منها: كتاب الجامع الكبير، كتاب العرض، وكتاب المسائل العسكرية، توفّي في بغداد سنة 321 هـ.
انظر: تاريخ بغداد 11 / 55 ـ 56 رقم 5735، وفيات الأعيان 3 / 183 ـ 184 رقم 383، سير أعلام النبلاء 15 / 63 ـ 64 رقم 32، شذرات الذهب 2 / 289 حوادث سنة 321 هـ.
(2) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري، كان مولىً للزياديّين، وهو من وُلد العبيد قد جرى عليه الرقّ في أحد آبائه، كان من شيوخ المعتزلة، وهو شيخ الجاحظ، له تصانيف، منها: الطفرة، الجواهر والأعراض، حركات أهل الجنّة، كتاب الوعيد، وكتاب النبوّة.
كان متكلّماً أديباً، وشاعراً بليغاً، وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلّمين، وقيل: إنّه كان نظّاماً للخرز في سوق البصرة، توفّي سنة بضع وعشرين ومائتين، وقيل: سنة 231 هـ.
انظر: الفهرست ـ للنديم ـ: 287 ـ 288، الفَرق بين الفِرق: 113 ـ 114، تاريخ بغـداد 6 / 97 ـ 98 رقم 3131، سير أعلام النبلاء 10 / 541 رقم 172، لسان الميزان 1 / 67 رقم 173.
(3) المواقف: 283 ـ 284، وانظر: شرح المواقف 8 / 63.
(4) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 68 ـ 70 و ج 3 / 128 وما بعدها.
واعلم أنّ قولنا: بأنّه تعالى قادر على القبيح ; لا دخل له بالوقوع، فإنّ القدرة على الشيء بما هو ممكن بالذات لا تنافي امتناعه أو وجوبه بالغير، وهو ظاهر.
ويدلّ من النقل على عموم قدرته تعالى، مثل قوله تعالى: ( والله على كلّ شيء قدير )(2).
____________
(1) انظر مؤدّاه في قواعد العقائد: 446، وراجع الصفحة 166 الهامش 4 من هذا الجـزء.
(2) سورة البقـرة 2: 284، سورة آل عمـران 3: 29 و 189، سورة المائـدة 5: 17 و 19 و 40، سورة الأنفال 8: 41، سورة التوبة 9: 39، سورة الحشر 59: 6.
الله تعالى مخالف لغيره
قال المصنّـف ـ طـيّب الله ضريحه ـ(1):
المبحـث الثـاني
في أنّه تعالى مخالف لغيره
العقل والسمع متطابقان على عدم ما يشبهه تعالى، فيكون مخالفاً لجميع الأشياء بنفس حقيقته.
وذهـب أبو هاشـم ـ من الجـمهور ـ وأتباعـه إلى أنّـه تعالى يخالف ما عداه بصفة الإلهية، وأنّ ذاته مساوية لغيره من الذوات(2).
وقد كابر الضرورة ـ ها هنا ـ الحاكمة بأنّ الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد، لا يجوز اختلافها فيه.
فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات، لساواها في اللوازم، فيكون القِدَم، أو الحدوث، أو التجرّد، أو المقارنة.. إلى غير ذلك من اللوازم، مشتركاً بينها وبين الله ; تعالى عن ذلك علـوّاً كبيراً.
ثمّ إنّهم ذهبوا مذهباً غريباً عجيباً! وهو: إنّ هذه الصفة الموجبة
____________
(1) نهج الحقّ: 54.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 138، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 223، المواقف: 269، شرح المواقف 8 / 15.
وهذا الكلام غير معقول، وفي غاية السفسطة(2).
____________
(1) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 /69.
(2) في المصدر: السـقوط.
وقال الفضـل(1):
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري: إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه(2).
وهكذا ذهب إلى أنّ: المخالفة بين كلّ موجودين من الموجودات إنّما هي بالذات، وليس بين الحقائق اشتراك إلاّ في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقوّمة(3).
وقال قدماء المتكلّمين: ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة، وإنّما يمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة: الوجوب، والحياة، والعلم التامّ، والقدرة التامّة(4).
وأمّا عند أبي هاشم: فإنّه يمتاز عمّا عداه من الذوات بحالة خاصة خامسة، هي الموجبة لهذه الأربعة، تسمّى بـ " الإلهيّـة "(5)، وهذا مذهب أبي هاشم، وهو من المعتزلة.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 171 ـ 172.
(2 ـ 5) تجد هذه الآراء في الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 138 ـ 139 المسألة الخامسة، المواقف: 269، شرح المواقف 8 / 14 ـ 15.