والمراد من " الفناء ": محو العبد صفاته وهويّته التعينية بكثرة الرياضات(1)، والاصطلام(2) من الوارد الحقّ.
و " البقاء ": هو تجلّي الربوبية على العبد بعد السلوك والمقامات، فيبقى العبد بربّه(3).
وهذه أحوال لا يطّلع عليها إلاّ أربابها، ومن سمع شيئاً من مقالاتهم ولم يفهم إرادتهم من تلك الكلمات، حمل كلامهم على الاتّحاد والحلول.
عصمنا الله من الوقيعة في أوليائه، فقد ورد في الحديث الصحيح القدسي: " من عادى لي ولـيّـاً فقد آذنـته بحرب "(4).
وأمّـا ما نقل عنهم أنّهم يقولون: إنّه تعالى نفس الوجود ; فهذه مسألة دقيقة لا تصلُ حَوْمَ(5) فهمِها(6) أذهانُ مثلِ هذا الرجل.
وجملتها أنّهم يقولون: إنّه لا موجود إلاّ الله.
ويريدون به أنّ الوجود الحقيقي لله تعالى ; لأنّه من ذاته لا من غيره، فهو الموجود في الحقيقة، وكلّ ما كان موجوداً غيره فوجوده من الله، وهو
____________
(1) انظر: اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ: 9 رقم 38.
(2) الاصطلام: نوعُ وَلَـه يَرِد على القلب فيسكُن تحت سلطانه، أو: هو الوَلَه الغالب على القلب، وهو قريب من الهيمان ; انظر: اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ: 15 رقم 93، معجم اصطلاحات الصوفية ـ للكاشاني ـ: 55.
(3) انظر: اصطلاحات الصوفية ـ لابن عربي ـ: 9 رقم 37، معجم اصطلاحات الصوفية ـ للكاشاني ـ: 367.
(4) صحيح البخاري 8 / 189 ح 89.
(5) حامَ فلانٌ على الأمر حَوْماً وحَوَماناً وحِياماً: رامه وطلبه ودارَ عليه ; انظر: تاج العروس 16 / 187 مادّة " حَوَمَ ".
والمراد هنا هو: الطرف والحدّ، فكأنّه قال: لا يصل إلى شيء من فهمها...
(6) كانت الجملة في الأصل هكذا: " لا يصل حول فهمه " ; والمثبت من المصدر.
وهذا عين التوحيد، وكمال التفريد، فمن نسبهم مع فهمه هذه العقيدة إلى الكفر، فهو الكافر ; لأنّه كفّر مسلماً بجهة إسلامه.
وأقـول:
لا ريب في قول جماعة من الصوفية بالاتّحاد، كما يشهد له إنكار الخصم لصحّة النسبة إذا أراد المصنّف محقّقي الصوفية، فلو أراد غيرهم لم ينكره الخصم.
وقال في " المواقف ": " إنّ المخالف في هذين الأصلين ـ يعني [عدم] الحلول و [عدم] الاتّحاد ـ طوائف ثلاث ـ إلى أنْ قال: ـ الثالثة: بعض الصوفية، وكلامهم مخبّط بين الحلول والاتّحاد "(1).
ثمّ قال: " ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره، ويقول: لا حلول ولا اتّحاد، إذ كلّ ذلك يُشعر بالغيرية، ونحن لا نقول بها، بل نقول: ليس في دار الوجود غيره ديّار ; وهذا العذر أشدُّ قبحاً وبطلاناً من ذلك الجرم(2)، إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل، ولا مميّز أدنى تمييز "(3).
وقال التفتازاني في " شرح المقاصد " بعد إبطال الحلول والاتّحاد: " والمخالفون: منهم نصارى... ـ إلى أن قال: ـ ومنهم بعض المتصوّفة، القائلون: بأنّ السالك إذا أمعن في السلوك، وخاض لجّة الوصول(4)، فربّما يحلّ الله فيه! تعالى [الله] عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، كالنار في
____________
(1) المواقف: 274 ـ 275، وانظر: شرح المواقف 8 / 29 ـ 31.
(2) في المواقف وشرحها: الجـزم.
(3) المواقف: 275، وانظر: شرح المواقف 8 / 31.
(4) في المصدر: " وخاصة لجهة الأُصول " ; وهو تصحيف.
وقال القوشجي في " شرح التجريد " عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الاتّحاد: " قال بعض الصوفية: إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان، انتفى هويّته، فصار الموجود هو الله وحده، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد "(3).
وحينئذ فمعنى " الفناء ": هو نفي الشخص هويّته، وصيرورته هويّة أُخرى، فيصير الموجود هو الله وحده، ويتّحد وجود العبد بوجوده تعالى!
وعليـه: فمعنى " البقاء ": هو بقاء العبد بلحاظ ترقّيه إلى الرتبة العالية، واتّحاده مع ربّه، فتكون كثرة الرياضات مفنية للعبد من جهة هويّته الناقصة، مبقية له من جهة كماله واتّحاده مع الله سبحانه!
وهذا هو الكفر الصريح، وعين الإلحاد.
فإذاً صدق المصنّف في نقله عن بعض الصوفية، فما وجه تلك القعقعة التىّ ارتكبها الفضل؟!
وما ذلك الإنكار والوقيعة بوليّ الله المصنّف، الصادق في نقله عن الخارجين عن الدين، المخالفين لنهج سيّد المرسلين في عبادته وجميع أحواله؟!
وأمّـا ما ذكره في تحقيق وحدة الوجود، من أنّ نسبة الوجود والعدم
____________
(1) في المصدر: " الحجر ".
(2) شرح المقاصد 4 / 57 و 59.
(3) شرح التجريد: 425 المقصد الثالث.
فعبّر عن هذا بتلك الاصطلاحات الفارغة الهائلة، لكنّه غير ما يريده القائلون بوحدة الوجود من الصوفية وغيرهم..
فإنّهم يريدون أنّ الوجود المطلق عين الواجب تعالى، وأنّ الممكنات تعيّنات له، فيلزم منه نفي الماهية، وأنْ يكون وجود الممكنات من معيّنات وجود الباري ومصاديقه.
فيتمُّ ما نقله المصنّف عنهم، من أنّ الله تعالى نفس الوجود، وأنّ كلّ موجود هو الله!!(1).
تعالى عن ذلك علـوّاً كبيراً.
____________
(1) تجد عقيدة المتصوّفة في الحلول والاتّحاد في أقوالهم المبثوثة في تراجمهم، إذا راجعت مظانّها، فمثلا:
قال المحقّق نصير الدين الطوسي (رحمه الله): ذهب بعض النصارى إلى حلول الله تعالى في المسيح، وبعض المتصوّفة إلى حلوله في العارفين الواصلين!
ونقل الفخر الرازي أنّ أبا يزيد البسطامي قال: سـبحاني ما أعظم شأني!
وأنّ الحسين بن منصور الحلاّج قال: أنا الحقّ!
وقال: ما في الجبّة إلاّ الله!
وأنشد شعراً قال فيه:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا | نحن روحان حللنا بدنا |
فـإذا أبصـرتـنـي أبصـرتَـه | وإذا أبـصـرتَـه أبـصـرتـنـا |
انظر: المنتظم 8 / 30 حوادث سنة 309 هـ، المسائل الخمسون: 41 ـ 42 المسألة 12، تلخيص المحصّل: 260 ـ 261، وفيات الأعيان 2 / 140 رقم 189، سير أعلام النبلاء 14 / 347 و 352، شذرات الذهب 2 / 255 حوادث سنة 309 هـ.
إنّه تعالى لا يحـلّ في غيره
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
المبحـث السـادس
في أنّه تعالى لا يحـلّ في غيره
من المعلوم القطعي أنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ، والضرورة قضت بأنّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن..
فلو كان الله تعالى حالاًّ في غيره لزم إمكانه، فلا يكون واجباً، وهذا خُلف.
وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك، وجوّزوا عليه الحلول في أبدان العارفين(2) ; تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
فانظر إلى هؤلاء المشايخ الّذين يتبرّكون بمشاهدهم، كيف اعتقادهم في ربّهم، وتجويزهم عليه: تارة الحلول، وأُخرى الاتّحاد، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء(3)؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 58 ـ 59.
(2) انظر: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 3 / 232، تلخيص المحصّل: 261، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ: 425.
(3) انظر في ذلك: إحياء علوم الدين 2 / 398 ـ 420، شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10.
وأيُّ تغفّل أبلغ مِن تغفّل مَن يتبرّك بمن يتعبّد الله بما عاب عليه الكفّار؟! ( فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصـدور )(2).
ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات الله عليه، وقد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم، كان جالساً لم يصلّ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟! أيجوز أن يجعل بينه وبين الله حاجباً؟!
فقلت: لا.
فقال: الصلاة حاجب بين العبد والربّ!
فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء! وعقائدهم في الله تعالى كما تقدّم، وعبادتهم ما سبق، واعتذارهم في ترك الصلاة كما مرّ، ومع ذلك فإنّهم عندهم الأبدال، فهؤلاء أجهل الجهّال.
____________
(1) سورة الأنفال 8: 35.
والمُـكَاء: الصفير ; انظر: الصحاح 6 / 2495، لسـان العرب 13 / 164 مادّة " مكا ".
والتَصْدِيَة: التصفيق ; انظر: الصحاح 6 / 2399، لسان العرب 7 / 298، مادّة " صدي / صدد ".
(2) سورة الحجّ 22: 46.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: أنّه تعالى لا يجوز أن يحلّ في غيره ; وذلك لأنّ الحلول هو الحصول على سبيل التبع، وأنّه ينفي الوجوب الذاتي.
وأيضـاً: لو استغنى عن المحلّ لذاته(2) لم يحلّ فيـه، وإلاّ لاحتاج إليه لذاته، ولزم حينئذ قِدَم المحلّ، فيلزم محالان معاً(3).
وأمّـا ما ذكر أنّ الجمهور من الصوفية جوّزوا عليه الحلول، فقد ذكرنا في الفصل السابق أنّه إن أراد بهذه الصوفية مشايخَنا المحقّقين، فإنّ اعتقاداتهم مشهورة، ومن أراد الاطّلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات..
كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبـد الله التسـتري(4)..
وكاعتقادات الشيخ أبي عبـد الله محمّـد بن الخفيف، المشهور بالشيخ الكبير(5)..
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 186 ـ 190.
(2) في إحقاق الحقّ: بذاته.
(3) المواقف: 274، شرح المواقف 8 / 28 ـ 29 مختصراً.
والمحالان هما: قِدَم المحلّ وهو حادثٌ ممكن، وإمكان الباري وهو القديم الواجـب.
(4) مرّت ترجمته في الصفحة 196.
(5) هو: أبو عبـد الله محمّـد بن خفيف بن إسْفِكْشاد الشيرازي الشافعي، شيخ الصوفية، قيل: هو من أولاد الأُمراء في إقليم فارس، وكان شاعراً، لقي الحلاّج وصحب ابن عطاء وغيره، ولد سنة 276 هـ، وتوفّي سنة 371 هـ، له تصانيف عديدة، منها: المعتقد الصغير، المعتقد الكبير، آداب المريدين، الفصول في الأُصول، جامع الإرشاد، اختلاف الناس في الروح.
انظر: طبقات الصوفية: 462 رقم 9، تلبيس إبليس: 326، سير أعلام النبلاء 16 / 342 رقم 249، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 3 / 149 رقم 135، البداية والنهاية 11 / 255 حوادث سنة 371 هـ، هديّة العارفين 6 / 49 ـ 50.
وكـ " التعرّف " للكـلاباذي(2)..
و " الرسالة " للقشـيري(3)..
____________
(1) هو: أبو عبـد الله الحارث بن أسد المُحاسِبي البصري البغدادي، أحد مشايخ الصوفية، وينسب إليه أكثر متكلّمي الصفاتية، قيل: إنّ أحمد بن حنبل هجره لأنّه تكلّم في شيء من الكلام، فاستخفى المحاسبي من العامة حتّى أنّه لمّا مات سنة 243 هـ لم يصلّ عليه إلاّ أربعة نفر ; ووصف أبو زُرعة كتبه بأنّها كتب بدع وضلالات وخطرات ووساوس ; ومن مصنّفاته العديدة: رسالة المسترشدين في التصوّف، وكتاب التفكير والاعتبار، وكتاب الرعاية لحقوق الله.
انظر: طبقات الصوفية: 56 رقم 6، الأربعين في شيوخ الصوفية: 142 رقم 15، تاريخ بغداد 8 / 211 رقم 4330، وفيات الأعيان 2 / 57 رقم 152، سير أعلام النبلاء 12 / 110 رقم 35، تهذيب التهذيب 2 / 106 ـ 107 رقم 1056، هديّة العارفين 5 / 264.
(2) هو: أبو بكر محمّـد بن إبراهيم بن يعقوب الحنفي البخاري الكَلاباذي ; وكَلاباذ محلّة ببخارى، كان أحد شيوخ الصوفية، له من المصنّفات: الأربعين في الحديث، والأسفار والأوتار، والتعرّف لمذهب التصوّف، توفّي سـنة 380 أو 384 هـ.
انظر: معجم البلدان 4 / 536 رقم 10331، هديّة العارفين 6 / 54، معجم المؤلّفين 3 / 37 رقم 11511.
(3) هو: أبو القاسم عبـد الكريم بن هوازن بن عبـد الملك بن طلحة القُشَيْري النيسابوري الشافعي الصوفي، ولد سنة 376 هـ، قدم بغداد سنة 448 هـ وحدّث بها، أديب شاعر، أخذ التصوّف عن أُستاذه أبي عليّ الدقّاق، وتوفّي سنة 465 هـ، وله تصانيف عديدة، منها: الأربعين في الحديث، والرسالة ـ وهو كتاب مشهور في التصوّف ـ، والتيسير في علم التفسير.
انظر: تاريخ بغداد 11 / 83 رقم 5763، وفيات الأعيان 3 / 205 رقم 394، سير أعلام النبلاء 18 / 227 رقم 109، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 5 / 153 رقم 473، شذرات الذهب 3 / 319 سنة 465 هـ.
[وكـ " عوارف المعارف " للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي(2)]..
ليظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسُـنّة، وما بالغوا فيـه من نفي الحلول والاتّحاد.
وأمّـا ما ذكره من أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق، فوالله إنّه أراد أن يفضح فافتضح، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات ـ مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات، وترك اللذّات، والإعراض عن المشتهيات ـ فمن هو قادر على أن يعدّ نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟!
نعم، هذا الرجل الطامّاتي الذي يصنّف الكتاب، ويردّ على أهل
____________
(1) هو: أبو النجيب عبـد القاهر بن عبـد الله بن محمّـد بن عَمُّويه السهروردي، وهو عمّ شهاب الدين عمر السهروردي، أحد شيوخ الصوفية، ولد سنة 490 هـ في قرية سهرورد، وهي قرية قريبة من زنجان، ثمّ قدِم بغداد ودرس فيها، ودخل أصفهان، توفّي سنة 563 هـ، له عدّة مصنّفات، منها: آداب المريدين ـ في التصوّف والأخلاق ـ، ومختصر مشكاة المصابيح للبغوي.
انظـر: معجم البلدان 3 / 329 رقم 6811، سير أعلام النبلاء 20 / 475 رقم 302، طـبقـات الشـافـعيـة ـ للسـبكـي ـ 7 / 173 رقـم 881، الطـبقـات الـكبـرى ـ للشـعراني ـ 1 / 140 رقم 261، شذرات الذهب 4 / 208 سنة 563 هـ، هديّة العارفين 5 / 606.
(2) مرّت ترجمته في الصفحة 197.
شاهت وجوه المنـكرين، وكلّت ألسـنتهم، وعميت أبصارهم.
وأمّـا ما ذكر أنّ الله عاب على أهل الجاهلية بالتصدية ; فما أجهله بالتفسير، وبأسباب نزول القرآن! وقد ذُكر أنّ طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلاته، فأنزل الله هذه الآية.
وقد أحلّ اللهُ ورسولُه اللهوَ في مواضع كثيرة، منها: الختان والعرس والإملاك وأيّام العيد ; والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلّها من الشرع، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيها.
ثـمّ ما نقل من قول واحد من القلندرية(4) الفسقة، الّذين يزورون مشهد مولانا الحسـين بأيّام الموسم والزيارة، وجعله مستنداً للردّ على كبار المشايخ المحقّقين المشهورين..
____________
(1) إدراراً: عطاءً مسـتمرّاً على المجاز هنا ; انظر مادّة " درر " في: لسان العرب 4 / 326 ـ 327، تاج العروس 6 / 400.
(2) المدرار: الكثير المتتابع المتوالي على المجاز هنا ; انظر مادّة " درر " في: لسان العرب 4 / 326، تاج العروس 6 / 397، مجمع البيان 5 / 261.
(3) انظر: وفيات الأعيان 2 / 531 رقم 312، البداية والنهاية 11 / 30 حوادث سنة 261 هـ.
(4) مرّت ترجمتها في الصفحة 64.
وهذا غاية التعصّب والخروج عن قواعد الإسلام، نعوذ بالله من عقائده الفاسدة الكاسدة.
وأقـول:
لعلّ الفضل بعدوله عن دليل المصنّف على بطلان الحلول، إلى الدليلين المذكورين الموجودين بلفظهما في " المواقف " وشرحها(1) ; تخيّل أنّ الأشاعرة سلكوا طريقة أُخرى في الاستدلال على بطلان الحلول، ولم يعلم أنّ الأدلّة متكرّرة الذِكر في كتب المتكلّمين، وأنّ المناط ـ في هذه الأدلّة حتّى الأخير ـ على استلزام الحلول: الحاجة إلى المحلّ، والافتقار إليه ; إذ لو منعه مانع لَما تمّ شيءُّ من هذه الأدلّة.
فقد ذكر في " شرح المواقف " وجه قول الماتن في الدليل الأخير: " لو استغنى عن المحلّ لذاته لم يحلّ فيه "(2)، بقوله: " إذ لا بُـدّ في الحلول من حاجة، ويسـتحيل أن يعرض للغنيّ بالذات ما يحوجه إلى المحلّ ; لأنّ ما بالذات... لا يزول بالغير "(3).
على أنّ دليل " المواقف " الأوّل هو عين ما ذكره المصنّف، والاختلاف في التعبير، فالأَوْلى الاقتصار على ما ذكره المصنّف.
ثمّ إنّه لا ريب في قول جماعة بالحلول، كما يدلّ عليه كلام " المواقف " و " شرح المقاصد "(4) اللذان ذكرناهما في المبحث السابق(5)،
____________
(1) المواقف: 274، شرح المواقف 8 / 28.
(2) المواقف: 274.
(3) شرح المواقف 8 / 28 المقصد الخامس.
(4) المواقف: 274 ـ 275، شرح المقاصد 4 / 57 و 59.
(5) انظر الصفحة 200 وما بعدها.
ويشهد له ترديد الخصم في مراد المصنّف، وإنْ أغفل فيـه ذِكر القائلين بالحلول تلبيساً للأمر! وليتسنّى له الكلام والطعن على وليّ الله وداعي الحقّ: المصنّفِ أعلى الله مقامه!
وأمّـا إنكاره على المصنّف في أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق، فهو إنكار بارد..
قال في " الكشّاف " في تفسير قوله تعالى: ( يُحبّهم ويُحبّونه )(2): " وأمّا ما يعتقده أجهل الناس، وأعداهم للعلم وأهله، وأمقتهم للشرع، وأسوأهم طريقة، وإنْ كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً واحداً، وهم الفرقة المفتعَلة من التصوّف(3)، وما يدينون به من المحبّة والعشق والتغنّي على كراسيّهم ـ خرّبها الله تعالى ـ وفي مراقصهم ـ عطّلها الله ـ بأبيات الغزل المقولة في المُرْدان(4) الّذين يُسمّونهم: شـهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عند دكّ الطور!! فتعالى الله عنه علوّاً كبيراً "(5).
____________
(1) شرح التجريد: 425.
(2) سورة المائدة 5: 54.
(3) في المصدر: " وهم الفرقة المتفعّلة المفتعَلة من الصوف " وهو الأنسب بالسـياق.
(4) المُرْدان: جمع أمرد على غير قياس، كأسود وسودان، وقياسه: مُـرْد.
والأمرد: هو الشابّ الذي طَـرَّ شاربه ولم تنبت، ولم تبدُ لحيته بعد.
انظر مادّة " مرد " في: لسان العرب 13 / 70، تاج العروس 5 / 251، القاموس المحيط 1 / 350، المصباح المنير: 217.
(5) تفسير الكشّاف 1 / 621 ـ 622.
فلو لم يكن ذلك طريقة مألوفة عندهم، وشرفاً كبيراً بينهم، لَما مدحوه بتلك الجهالات.
نقل شارح ديوانه عن ولده، أنّه قال: رأيت الشيخ نهض ورقص طويلا، وتواجد وجداً عظيماً، وتحدّر منه عرق كثير، حتّى سال تحت قدميه، وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطراباً عظيماً..
إلى أن قال: فسألته عن سبب ذلك، فقال: يا ولدي! فتح الله علَيَّ بمعنىً في بيت لم يفتح علَيَّ مثله، وهو [من الكامل]:
____________
(1) هو: عمر بن علي بن مرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، وُلد سنة 576 وتوفّي سنة 632 هـ، أشعر المتصوّفين، له ديوان شعر، وفي شعره فلسفة تتّصل بما يسمّى " وحدة الوجود "، وكان يلقّب بسلطان العاشقين.
وقد كانت له جَوار بالبَهْنَسا ـ وهي مدينة بمصر في الصعيد الأدنى غربي النيل ـ يذهب إليهنّ فيغنّين له بالدفّ والشبّابة وهو يرقص ويتواجد! فماتت إحداهنّ فاشترى جارية تغني له بدلها.
قال عنه الذهبي: صاحب الاتّحاد الذي قد ملأ به التائية، فإن لم يكن في تلك الـقصيـدة صريـحُ الاتّـحاد الـذي لا حيلـةَ فـي وجـوده، فمـا فـي العالَـم زنـدقـة ولا ضلال!.. شيخ " الاتّحادية ".. ينعق بالاتّحاد الصريح في شعره، وهذه بلـيّـة عظيمة! فتدبّر نظمه.. وما ثَمّ إلاّ زيّ الصوفية وإشارات مجملة، وتحت الزيّ والعبارة فلسفة وأفاعي!
انظر: معجم البلدان 1 / 612 رقم 2284، وفيات الأعيان 3 / 454 رقم 500، سير أعلام النبلاء 22 / 368 رقم 232، ميزان الاعتدال 5 / 258 رقم 6179، لسان الميزان 4 / 317 رقم 902، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية 2 / 147 رقم 575، شذرات الذهب 5 / 149 سنة 632 هـ، الأعلام 5 / 55.
وعلى تَفَنُّنِ واصِفِيهِ بِحُسنهِ | يَفنى الزمانُ وفيهِ ما لَمْ يُوصَفِ(1) |
وقال ولده: كان الشيخ ماشياً في السوق بالقاهرة، فمرّ على جماعة من الحرس يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين، وهما [من المَوالِـيـا(2)]:
مولاي [سهرنا] نبتغي منك وِصالْ | مولاي فلَمْ تسمحْ فَنِمْنا بخيالْ |
مولاي فلَمْ يطرقْ فلا شكّ بأن | ما نحن إذاً عندك مولاي ببالْ |
فلمّا سمعهم الشيخ صرخ صرخةً عظيمةً، ورقص رقصاً كثيراً في
____________
(1) شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10، وقد كان في الأصل: " ما لا يُوصَفُ " بدل " ما لم يوصفِ " وهو تصحيف أصلحناه من الديوان وشرحه ; انظر: ديوان ابن الفارض: 147.
(2) المَوالِيا: هو من فنون الشعر المتأخّرة الموضوعة للغناء، ولا يلزم فيه مراعاة قوانين العربية، وهو من بحر البسـيط لولا أنّ له أضرباً تخرجه عنه، أوّل من اخترعه أهل واسط، اقتطعوا من البسيط بيتين وقفوا شطر كلّ بيت بقافية، تعلّمه عبيـدهم المتسلّمون عَمارَتَهم والغِلْمان، وصاروا يغنّون به في رؤوس النخل وعلى سقي المياه، ويقولون في آخر كلّ صوت: " يا مواليا " إشارة إلى ساداتهم، فسُمّي بهذا الاسم، ثمّ اسـتعمله البغـداديّون فلطّفوه حتّى عُرِف بهم دون مخترعيه ثمّ شـاع.
وقيل: إنّ أوّل من تكلّم بهذا النوع بعضُ أتباع البرامكة بعد نكبتهم، فكانوا ينوحون عليهم ويكثرون من قولهم: " يا مواليّا "، فصار يُعرف بهذا الاسم.
ونسج عليه كثيرٌ من شعراء الفترة المظلمة، وبالأخصّ في مصر، وهو يتركّب في الغالب من بيتين تُختتم أشطرهما الأربعة برويّ واحد، وكثيراً ما تُسكَّنُ بالحشو أواخر الألفاظ، ويدخل فيه من كلام العامة، ومنه قول صفي الدين الحلّي:
مَنْ قالَ جُودةْ كُفوفَكْ والحَيا مِثلينْ | أخطا القيـاسْ وفي قُولهْ جَمَعْ ضِدّينْ |
ما جُدتَ إلاّ وثَغركْ مبتسمْ يا زينْ | وذاك ما جادْ إلاّ وهْوَ باكي العينْ |
انـظر: تاج العروس 20 / 316 ـ 317 مادّة " ولي "، ميزان الذهب: 240 ـ 241.
وفي تتمّة الواقعة أنّهم اتّخذوا ثيابه للتبرّك(1)!
وحكى ولده، قال: " حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية ـ إلى أن قال: ـ فصرخ الشيخ شهاب الدين، وخلع كلّ ما كان عليه، وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كلّ ما كان عليهم "(2).
فهذه فضائلهم، بين تجنّن، ورقص، وغناء، وكشف العورات، وترك الصلاة أيّاماً، يدّعون بذلك حبّ الله وذِكره وعبادته [من الوافر]:
أقـالَ اللهُ: صَـفِّـقْ لي وغَـنِّ | وقُلْ كفراً، وسَمِّ الكفرَ ذِكْرا؟!(3) |
وأمّـا ما وصفهم به من ترك اللذّات والشهوات، فالظاهر أنّه من قبيل ما انتقاه من ترك شرب الماء سنة، الذي لا يُصدّق به عاقل، وهو ممّا لم ترد به الشريعة المطهّرة، بل حرّمته ; لأنّه من الإلقاء باليد إلى التهلكة، وإضرار النفس وتأليمها.
فليت شعري أكان نبيُّنا الأطيب، والأنبياء قبله، وخواصّهم، على
____________
(1) شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10، وانظر: ج 2 / 197 بتفصيل آخر قريب منه.
(2) شرح ديوان ابن الفارض 1 / 13.