أو كان المشايخ أفضلَ منهم وأعرفَ بالله وأعبَـدَ له؟!
أو كانت الأحوال والعبادات ممّا زيّنها الشيطان والهوى، ودعت إليها النفس الأمّارة، للسمعة والامتياز على الناس؟!
وأمّـا ما ذكره من أنّ المصنّف صنّف هذا الكتاب طلباً لرضا السلطان، فمن المضحكات ; لأنّ ذلك السلطان الرشيد، إنّما نال سعادة الإيمان بسعي الإمام المصنّف وإرشاده، وهو أمَسُّ من السلطان بمذهب الإمامية، فكيف يطلب رضاه بتصنيف هذا الكتاب؟!
وأعجـب من ذلك قوله: " ليعطيه إدراراً " فإنّ هذا ليس من عادة علماء الإمامية، لا سيّما المصنّف، الذي طلّق الدنيا بعد أن جاءته، وهجر الرئاسة بعد أن واتته وعاد إلى بلاده!
وأعجـب من الجميع نسـبة الجهل بالتفسير إلى المصنّف، وذِكره أحد الوجهين في نزول الآية ; ليروّج فيه تأييد طريقة الصوفية، وإلاّ فالمذكور عند أصحابه في نزول الآية وجهان:
أحدهما: ما ذكره(1).
والثاني: ما عن ابن عبّـاس: كانت بطون قريش يطوفون بالبيت عراة، يصفّرون ويصفّـقون(2).
____________
(1) مرّ في الصفحة 204.
(2) تفسير الطبري 6 / 239 ح 16048، تفسير البغوي 2 / 208، الكشّاف 2 / 156، تفسير القرطبي 7 / 254، تفسير البيضاوي 1 / 383، تفسير البحر المحيط 4 / 491، تفسير ابن كثير 2 / 293، الدرّ المنثور 4 / 61.
فهم يقيمون الصفير والتصفيق مقام الصلاة بحسب طريقتهم(2).
وهذا الوجه أنسب بتعبير الآية بالصلاة، وأرجح عند المفسّرين، وهو دالٌّ على أنّ الله سبحانه عاب أهل الجاهلية بجعل التصفيق عبادة، فكيف إذا انضمّ إليه الرقص والغناء والصياح؟!
والمصنّف قد بيّن الإيراد على هذا الوجه الظاهر الراجح، وإلاّ فأيُّ وجه لتسمية الآية لذلك العمل بالصلاة؟!
على أنّـه لا تنافي بيـن الوجهين ; لجـواز أن تكون قريـش ـ بعبادتها السخيفة ـ أرادت أن توسوس على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته.
وأمّـا قوله: " وقد أحلّ الله ورسوله اللهو في مواضع ".
فلو سُلّم، فلهو الصوفية خارجٌ عن هذه المواضع عادة، وهو دائم للعبادة في كراسيّهم ومراقصهم، كما يستفاد من كلام " الكشّاف " السابق(3)، ولا يتوقّف على وقت وشرط كاستماعهم للغناء.
روى ابن خلّكان في ترجمة الجنيد من " وفيات الأعيان "، وهو من أكبر مشايخ الصوفية، أنّه قال: ما انتفعتُ بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها! قيل له: وما هي؟ قال: مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغنّي من
____________
(1) تفسير الطبري 6 / 238 ـ 239 ح 16040 ـ 16043 و 16046 و 16047، أسباب النزول ـ للنيسابوري ـ: 131، لباب النقول: 111.
(2) تنوير المقباس: 192، تفسير الطبري 6 / 238 ح 16038، تفسير الماوردي 2 / 316، زاد المسير 3 / 269، تفسير الفخر الرازي 15 / 165، الدرّ المنثور 4 / 61.
(3) تقدّم في الصفحة 211.
إذا قلتُ: أهدى الهَجرُ لي حُلَـلَ البِلى(1) | تقولين: لولا الهَجرُ لم يَطِبِ الحُبُّ |
وإنْ قلتُ: هذا القلبُ أحرَقَه الهوى | تقولي: بنيرانِ الهوى شَرُفَ القلبُ |
وإنْ قلتُ: ما أذنبتُ! قلتِ مجيبةً: | حياتُـكَ ذنبٌ لا يُقـاس به ذَنْـبُ |
فصُعِقتُ وصحت(2)!
وليت شعري كيف حسن له الإنصات إلى غناء الأجنبية؟!
وكيف لم ينتفع بكتاب الله العظيم، وكلمات نبيّه الكريم مثل ما انتفع بشعر المغنّية؟!
وظنّي أنّه لو انضمّ إلى غناها رقصُها معه لكان أنفع!!
وأمّا ما شاهده المصنّف في حضرة سـيّد الشهداء (عليه السلام)، فغير عجيب من جهة ترك الصـلاة، فهذا ابن الفارض ـ المعظّم عندهم ـ قد أقام أيّاماً في سكرته بلا صلاة، كما عرفت.
وقال شارح ديوانه: " حكى جماعة ممّن يوثق بهم، ممّن صحبوه وباطنوه، أنّه لم ينظمها ـ أي قصيدته التي زعم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام
____________
(1) البِلى: التلف والهلاك، وبَلِيَ الثوب: خَلُِقَ فهو بال، وإخلاق الثوب: تقطيعه، وبَلِيَ الميّت: أفنته الأرض.
انظر: المصباح المنير: 24 مادّة " بلي "، لسان العرب 4 / 195 ـ 196، مادّة " خلق ".
(2) وفيات الأعيان 1 / 374 رقم 144.
والظاهر أنّ المراد بغيبوبة حواسّه مجرّد تعطيل حركاته الظاهرية عن فعل الواجبات ونحوها، وإلاّ فكيف يقدر على نظم الشعر، ولا يمكن دعوى الكرامة ـ بفتـح الله عليـه ـ مـن دون شـعوره أصـلا؟! فإنّ الكرامـة لا تكون مع عدم التوفيق للصلاة التي هي عمود الدين.
وكذا ما شاهده المصنّف غير عجيب من جهة دعوى الوصول إلى الله تعالى، فإنّ عليها جماعة من الصوفية كما صرّح به ابن القيّم الحنبلي في " شرح منازل السائرين " ـ على ما نقله السيّد السعيد عنه ـ قال: " ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك، لا ينجيه منها إلاّ بصيرة العلم...، منها: [أنّه] إذا اقتحم عقبة الفناء ظنّ أنّ صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي،... ويقول قائلهم: مَن شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ; ويحتجّون بقوله تعالى: ( اعبـد ربّك حتّى يأتيك اليقيـن )(3)، ويفسّرون (اليقين) بشهود الحكم التكويني(4)، وهي الحقيقة عندهم ;... وهذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيّهم وإلههم "(5).
____________
(1) في الأصل: يعتاده.
(2) شرح ديوان ابن الفارض 1 / 8.
(3) سورة الحجر 15: 99.
(4) في المصدر: الكوني.
(5) مدارج السالكين في شرح منازل السائرين 1 / 160 ـ 164، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 199 ـ 200.
وعن اليـافعي اليمني الشـافعي(2)، أنّه انـتصر لهم في كتابه الموسـوم بـ: " روض الرياحين "(3)، وردّ على الغزّالي، فقال: " ولو أنّ الله تعالى أَذِن
____________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ: 248، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 201.
ولم نجده في " إحياء علوم الدين "، ولعلّ الكتاب المذكور كان ملحقاً بكتاب " الإحيـاء " في إحدى طبعاته فنُسـب النصّ إليه دونه سهواً، أو كان فصلا أو بابـاً من " الإحياء " ثمّ انتسخ وكثرت نسخه على شكل رسالة مسـتقلّة، وكم له من نظيـر!
كما حكم ابن حزم بكفرهم حين ذكر شنائع عقائدهم، فانظر: الفصل 3 / 166 ـ 167.
(2) هو: أبو السعادات عبـد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني الشافعي، ويافع قبيلة باليمن من قبائل حِمْيَر، وُلد سنة 698 هـ، وتوفّي بمكّة المكرّمة سنة 768 هـ، صوفي شاعر، كان يتعصّب للأشعري، وله مبالغة في تعظيم ابن عربي، مشارك في العلوم، له تصانيف كثيرة، منها: مرآة الجَنان وعبرة اليقظان، روض الرياحين في حكايات الصالحين، مرهم العلل المعضلة في أُصول الدين، الإرشاد والتطريز في التصوّف، ديوان شعر.
انظـر: طبقـات الشـافعيـة ـ للسـبكي ـ 10 / 33 رقم 1354، طبقـات الشـافعية ـ للأسنوي ـ 2 / 330 رقم 1289، الكواكب الدرّية في تراجم السـادة الصوفية 3 / 24 رقم 635، شذرات الذهب 6 / 210 سنة 768 هـ، البدر الطالع: 385 رقم 255، هديّة العارفين 5 / 465، معجم المؤلّفين 2 / 229 رقم 7833.
(3) كان في الأصل: " رفض الصالحين " وفي إحقاق الحقّ: " روض الصالحين "، وكلاهما تصحيف بيّن من اسم كتابه " روض الرياحين في حكايات الصالحين "، وقد أثبتـنا الصحيح وفق ما ورد في ترجمته من كتب التراجم ; انظر الهامش السـابق.
ثمّ قال: " فإنْ قيل: من أين يحصل له علم اليقين؟!
قلـت: من حيث حصل للخـضر حيث قـتل الغلام، وهو وليٌّ لا نبيّ ـ على القول الصحيح ـ عند أهل العلم، كما إنّ الصحيح عند أهل الجمهور [منهم] أنّه الآن حيّ، وبهذا قطع الأولياء، ورجّحه الفقهاء والأُصوليّون وأكثر المحدّثين "(2).
وفـيـه:
أنّه لو جاز هذا، لجاز نسخ أحكام الشريعة بلا نبـوّة!
ومن سـوّغ هذا فقـد أعطى منـزلة الأنبـياء لغيـرهم، وأثبـت أنبـياء بلا خاصّةِ نُبوّة ـ من العصمة، والنصّ من الله تعالى، ونحوهما ـ، ونفى الحاجة إلى النبيّ في الأحكام!
وهذا مخالف لضرورة الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حلال محمّـد حلال [أبداً] إلى يوم القيامة، وحرامه حرام [أبداً] إلى يوم القيـامة "(3).
____________
(1) كان في الأصل وإحقاق الحقّ: " متهتّـكاً " وهو تصحيف، وما أثبتـناه من المصـدر.
(2) روض الرياحين: 555، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 201.
(3) الكافي 1 / 79 ح 175 والحديث فيه عن الإمام أبي عبـد الله الصادق (عليه السلام).
وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور، فانظر مثلا:
صحيح مسلم 4 / 102، سنن ابن ماجة 1 / 3 ـ 4 ح 1 ـ 3، مسند أحمد 2 / 258، سنن الدارقطني 2 / 220 ذ ح 2679، السنن الكبرى 1 / 388 و ج 4 / 326 و ج 7 / 103، تفسير القرطبي 18 / 13، تفسير ابن كثير 4 / 337 في تفسير آية (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [سورة الحشر 59: 7].
مع أنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ; لأنّ الكلام في دعوى أنّ مَن شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي، ويكون شرعاً كالطفل في عدم التكليف له، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين، كنبيّ جاءه شرع جديد!
ولا ريب أنّ الأوّل، بل الثاني، مخالف لضرورة الدين، وقائله كافر واجب القتل، كما قال الغزّالي.
هـذا، ويُنقل عن الصوفية ضلال آخر، وهو القول بالتناسخ(1)، قاتلهم الله تعالى، وعطّل ديارهم.
____________
(1) انظر: دائرة معارف القرن العشرين 10 / 177 مادّة " نسخ ".
في حقيقـة الكلام
قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):
المبحـث السـابع
في أنّه تعالى متـكلّم
وفيـه مطالب:
[المطلب] الأوّل
في حقيقة الكلام
الكلام عند العقلاء: عبارة عن المؤلَّف من الحروف المسموعة.
وأثبت الأشاعرة كلاماً آخر نفسانياً، مغايراً لهذه الحروف والأصوات، (وهذه الحروف والأصوات)(2) دالّـة عليه(3).
وهذا غير معقول، فإنّ كلّ عاقل إنّما يَفهم من الكلام ما قلناه..
____________
(1) نهج الحقّ: 59 ـ 60.
(2) ما بين القوسين ليس في المصدر.
(3) الأربعين في أُصول الدين ـ للرازي ـ 1 / 249 ـ 250، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 250، شرح العقائد النسفية: 108، شرح المواقف 8 / 93 ـ 94.
وهل هذا إلاّ جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.
وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة، فنقول: لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم، على معنى أنّه أوجد حروفاً وأصواتاً مسموعة، قائمة بالأجسام الجمادية، كما كلّم الله موسى من الشجرة، فأوجد فيها الحروف والأصوات.
والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر، فأثبتوا له تعـالى كلاماً لا يفهمونه هم ولا غيرهم.
وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه ـ مع أنّه غير مُتصوَّر ألبتّة، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ـ معلوم البطلان ; ومع ذلك، فإنّه صادرٌ منّا أو فينا [عندهم]، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوتـه!
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّه تعـالى متكـلّم ; والدليـل عليـه: إجمـاع الأنبـياء (عليهم السلام) عليه، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يُثبِتون له الكلام، ويقولون: إنّه تعالى أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأخبر بكذا ; وكلّ ذلك من أقسام الكلام، فـثبت المدّعى(2).
ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك، تارةً يطلقونه على المؤلَّف من الحروف المسموعة، وتارةً يطلقونه على المعنى القائم بالنفس، الذي يُعبَّر عنه بالألفاظ، ويقولون: هو الكلام حقيقةً، وهو قديم قائم بذاته [تعالى] (3).
ولا بُـدّ من إثبات هذا الكلام، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلَّف من الحروف والأصوات..
فنقول أوّلا: ليرجع الشخص إلى نفسه، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام، فهل يفهم من ذاته أنّه يُزوِّر(4) ويرتّب معاني، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالِم، فإنّه يرتّب في نفسه معانيَ وأشياء، ويقول في نفسه: سأتكلّم بهذا.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 203 ـ 206.
(2) شرح المواقف 8 / 91.
(3) الأربعين في أُصول الدين ـ للرازي ـ 1 / 248 و 249، شرح العقائد النسفية: 108، شرح المواقف 8 / 93.
(4) تزوير الكلام: إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ; انظر: لسان العرب 6 / 112 ـ 113 مادّة " زور ".
ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ: إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها، لها مدلولات قائمة بالنفس، فنقول: هذه المدلولات هي الكلام النفسي.
فإنْ قال الخصم: تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.
قلنا: هي غير العلم ; لأنّ من جملة الكلام الخبر، وقد يُخبِر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، فالخبر عن الشيء غير العلم بـه.
فإنْ قال: هو الإرادة.
قلنا: هو غير الإرادة ; لأنّ من جملة الكلام الأمر، وقد يأمر الرجل بما لا يريده، كالمختبِر لعبده هل يطيعه أو لا، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ; وكالمعتذر من ضرب عبـده بعصيانه، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به، ليظهر عذره عند من يلومه.
واعـتُرض عليـه: بأنّ الموجـود في هاتيـن الصورتين صيغـة الأمر لا حقيقته ; إذ لا طلب فيهما أصلا، كما لا إرادةَ قطعاً.
وأقول: لا نُسلّم عدم الطلب فيهما ; لأنّ لفظ الأمر إذا وُجد فقد وُجد مدلوله عند المخاطَب، وهو الطلب.
ثمّ إنّ في الصورتين لا بُـدّ من تحقّق الطلب من الآمر ; لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين: الطلب منه، مع عدم الفعل من المأمور ; وكلاهما لا بُـدّ [من] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.
قال صاحب " المواقف " ها هنا: " ولو قالت المعتزلة: إنّه ـ أي المعنى
هذا كلام صاحب " المواقف ".
وأقول: من أخبر بما لا يعلمه، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ; هو الكلام النفسي، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.
وأمّا في الأمر، وإن كان هذه الإرادة موجودة، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب، الذي هو مدلول الأمر، بل شيءٌ يلزم ذلك الطلب.
فإذاً تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي، الذي هو الطلب في هذا الأمر، وهو المطلوب.
ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم، فنقول: هو الكلام النفساني ; فإذاً هو متصوّر عند العقل، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّراً، فهو مُبطِـل.
وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله
____________
(1) المواقف: 294، وانظر: شرح المواقف 8 / 95.
فيتّجه عليه: إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم، وخالق الكلام لا يقال: إنّه متكلّم، كما إنّ خالق الذوق لا يقال: إنّه ذائق.
وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف، فضلا عن أهل التحقيق.
نعم، الأصوات والحروف دالّة على كلام الله تعالى، ويطلق عليها " الكلام " أيضاً، ولكنّ " الكلام " في الحقيقة: هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتـناه.
____________
(1) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 528، المنقذ من التقليد 1 / 215 ـ 216، وانظر: المواقف: 293 ـ 294، شرح المواقف 8 / 92 ـ 93.
وأقـول:
لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلاّ خمسة أُمور:
الأوّل: اللفظ الصادر عنه.
الثاني: معاني مفردات اللفظ، ومعنى هيئته.
الثالث: تصوّر الألفاظ والمعاني.
الرابع: مطابقة النسبة للواقع، وعدمها.
الخامس: التصديق، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقداً بها.
كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيٌّ لم يكن هناك إلاّ أربعة أُمور: الثلاثة الأُوَل، ورابع هو: الإرادة والكراهة، ومقدّماتهما ; كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.
ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.
وكذا للثاني ; لأنّ معاني المفردات والهيئة أُمور خارجية غالباً غير قديمة، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!
ومخالف أيضاً للرابع، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.
وللثالث والخامس ; لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسـبة بإقـرارهم.
فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.
كما إنّ انـتفاء العلم عن المخبِر الشاكّ أو العالِم بالخلاف لا يقـتضي إلاّ انتفاء التصديق بالمخبَر به، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.
وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ; لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان، أعني: اللفظ ومعاني مفرداته وهيئـته، وهو ظاهر..
ولا الثالث، أعني: تصوّر الألفاظ والمعاني..
ولا الرابع، أعني: الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ; لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم، ولا نعقل أمراً غير المذكورات يكون كلاماً نفسـياً.
وأمّـا خلوّ صورتَي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاماً نفسياً، فإنّا لا نجد في الصورتين طلباً في النفس أصلا، كما لا نجد في غيرهما إلاّ طلباً واحداً يُعبّر عنه بالطلب مرّةً، وبالإرادة والكراهة أُخرى.
وأمّـا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين، بدليل وجوده عند المخاطَب، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصول طلب منـه..
فـفيـه: إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطَب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.
فإن قلت: فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعاً في الصورتين.
قلت: إنْ أُريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعاً وعند المتكلّم، فنحن نلتزم به، ولا يضرُّ في الدلالة، كما في الخبر الكاذب.
وإنْ أُريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع، فهو ممنوع ; لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالِم بمعناه، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.
على أنّه قد يقال: إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتَي الاختبار والاعتذار، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ; لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها، لا حاكية عن أُمور نفسية.
غاية الأمر: إنّ الأُمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة.. وإذا لم تثبت، يكون الداعي غيرها، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.
فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجوداً حقيقةً، كغيرهما، إلاّ أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.
وكيـف كـان، فنحـن في غنىً عمّـا ذكـره الفضل عن " المواقف "، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.
فقد خالف به الأشاعرة، حيث قالوا: " المتكلّم من قام به الكلام " كما ذكره القوشجي(1)، وقد فرَّ بذلك عمّا أورد عليهم، وذكره الشريف الجرجاني ـ على ما نُقل عنه ـ وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء(2).
فيكون الكلام قائماً بالهواء، والهواء ليس قائماً بالمتكلّم حتّى يقال: ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.
فـإذاً، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه، بل بأنْ يُعيّن حروفه وكلماته، ويميّز بعضها عن بعض.. فلو كان المتكلّم من قام به الكلام، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.
فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم مَن قام به التكلّم، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها، والمتكلّم بمعنى مُوجِدها.
فيكون التكلّم قائماً بذاته تعالى قيامَ صدور، بلا حاجة إلى المعنى النفسي، كما يقوم بالبشر، ويوصَف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنىً واحد.
هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.
وأمّا إذا أخذنا بظاهره، حيث عرّف " المتكلّمَ " ـ بحسب النسخ التي وجدناها ـ بمن قامت به صفة المتكلّم، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر،
____________
(1) شرح التجريد: 419.
(2) انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات: 135.
فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم ـ كما في كلام الإنسان ـ، أو بمباشرة شجرة ونحوها ـ كما في كلام الله تعالى ـ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس، فإنّها مختلفة:
إذ قد تكون بنحو الإيجاد، كما عرفت، ومثله الخطّاط والصبّاغ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.
وقد تكون بنحو الحلول، كالحيّ والميّت.
وقد تكون بنحو الانتزاع، كما في صفات الباري جلّ وعلا، بناءً على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجاً، منتزَعة منها مفهوماً.
.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.
فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصاً بالحلول، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناءً على تصوّره.
ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسيةً، بل تتبع الورود، فرُبّ مشـتقّ يُستعمل مع ملابسة لا يُستعمل الآخر معها، ولا يُستعمل هو بدونها.
فلا يرد على دعوى إطلاق " المتكلّم " عليه تعالى بملابسة الإيجاد، النقضُ بالذائق والمتحرّك، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركـة.
مضافاً إلى أنّه لم يعلم إطلاق " المتكلّم " عليه تعالى في الكتاب والسُـنّة، وإنْ أُطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكـلّم ويكلّم.. بل إطلاق " المتكلّم " عليه عرفيٌّ مستفاد من إطلاق تلك الأُمور في الكتاب والسُـنّة عليه تعالى، فلا ينفع الخصمَ بوجه سديد ألبتّة.
ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم مُوجِد الكلام، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة: كالرازق والخالق، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة: كالحيّ والعالِم، خلافـاً للأشاعرة.
هـذا، والأعجب من الأشاعرةِ: الحنابلةُ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قِدَم كلامه، لكن قالوا: هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ; كما نقله عنهم في " المواقف " و " شرح التجريد " للقوشجي(1).
ونقَـلا عن بعضهم أنّه قال: " الجلد والغلاف قديمان " أيضاً(2).
وهذا هو الجهل المفـرط!
وسيذكر المصنّف (رحمه الله) دلالة العقل على حدوث الحروف، فانـتـظر.
____________
(1) المواقف: 293، شرح التجريد: 416.
(2) المواقف: 293، شرح التجريد: 416 ; أي: " فضلا عن المصحف " كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف 8 / 92.