الصفحة 247

كلامه تعـالى متعـدّد

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

[المطلب] الثاني
في أنّ كلامه تعالى متعدّد

المعقول من الكلام ـ على ما تقدّم ـ أنّه الحروف والأصوات المسموعة، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاماً مفهوماً إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام، وذلك بأنْ يكون: خبراً، أو أمراً، أو نهياً، أو استفهاماً، أو تنبيهاً ; وهو الشامل للتمنّي، والترجّي، والتعجّب، والقَسَم، والنداء ; ولا وجود له إلاّ في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قِدَم الكلام اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [تعالى] واحد مغاير لهذه المعاني ; وذهب آخرون: إلى تعدّده(2).

والّـذين أثـبـتوا وحـدتـه خـالفـوا جـميـع العقـلاء في إثبـات شـيء

____________

(1) نهج الحقّ: 60 ـ 61.

(2) انظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 249 ـ 251، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ: 110 ـ 111، شرح المواقف 8 / 91 ـ 94، شرح التجريد: 418 ـ 419.


الصفحة 248
لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفاً لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره، كيف يجوز أن يُجعل إماماً يقتدى به، ويناط به الأحكام؟!

*    *    *


الصفحة 249

وقال الفضـل(1):

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات، مثل: العلم والقدرة، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنـداء.

وهذا بحسب التعلّق، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبراً، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [أ] و على وجه آخر يكون أمراً، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات، فلا شكّ أنّه يكون متعدّداً عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني، فإنْ ثبت، فهو قديم واحد كسائر الصفات ; وإن انحصر الكلام في اللفظي، فهو حادث متعدّد ; وقد أثبتنا الكلام النفسي...، فطامّات الرجل ليسـت إلاّ الـتُّـرّهات.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 216.


الصفحة 250

وأقـول:

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّداً دون النفسي؟! وإلاّ لخرج عن كونه مدلولا مرتّباً في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على أنّه لا وجه لأنْ يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثـمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإنْ أراد به إيجاده لها، فلا نعرف صفةً ذاتيةً بها الإيجاد سوى القـدرة.

وإنْ أراد كونه جنساً لها، لزم وجود الجنس في القِدَم بدون الفصل، وهو باطل.

وإنْ أراد به عروضه عليها، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثـه، وهو ممتـنع ; ولا يمكن وجوده قبلها ; لامتـناع قيام العرض بلا معروض.

وإنْ أراد العكس، وأنّه معروض لها، فإنْ كان عروضها في القدم، نافى فرض حدوثها، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه.. وإنْ كان عروضها حال حدوثها، لزم أن لا يكون في القدم كلاماً لعدم العروض حينئذ ; ولا نتصوّر وجهاً لكونه كلاماً حقيقياً قبل العروض.

وإنْ أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم، فقد

الصفحة 251
صار عِلماً ; وهو كما ترى.

وإنْ أراد غير ذلك، فليبيّـنه أصحابه حتّى نعرف صحّـته من فساده.

وبالجمـلة: كما لا نعقل معنىً للكلام النفسي، لا نعقل وجهاً صحيحاً لتعلّقه، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

*    *    *


الصفحة 252

الصفحة 253

حـدوث الكـلام

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

المطلب الثالث
في حدوثـه

العقل والسمع متطابقان على أنّ كلامه تعالى مُحدَثٌ ليس بأزلي ; لأنّه مركّب من الحروف والأصوات، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعةً واحدةً، فلا بُـدّ أن يكون أحدهما سابقاً على الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، والسابق على الحادث بزمان متناه حادثٌ بالضرورة، وقد قال الله تعالى: ( ما يأتيهم من ذِكر من ربّهم مُحْدَث )(2).

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، فجعلوا كلامه تعالى قديماً لم يزل معه، وأنّه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين!(3).

وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقّه تعالى، فإنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحـده منـفرداً وقال: يا سـالم قم، ويا غانم اضـرب،

____________

(1) نهج الحقّ: 61 ـ 62.

(2) سورة الأنبياء 21: 2.

(3) انظر: اللمع ـ للأشعري ـ: 36، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 82، الأربعين ـ للرازي ـ 1 / 250 ـ 258، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ: 108 وما بعدها.


الصفحة 254
ويا سعد كُلْ، ولا أحد عنده من هؤلاء، عدّه كلُّ عاقل سفيهاً جاهلا عادماً للتحصيل، فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل(1) الدالّ على السفه والجهل والحمق إليه تعالى؟!

وكيف يصحّ منه تعالى أن يقول في الأزل: ( يا أيّها الناس اعبـدوا ربّـكم )(2) ولا مخاطَبَ هناك، ولا ناسَ عنده؟!

[ويقول: ( يا أيّها الناس اتّـقوا ربّـكم )(3)] (4) ويقول: ( يا أيّها الّذين آمنوا )(5) [و] (6) ( أقيموا الصلاة )(7) و ( لا تأكلوا أموالكم )(8) و ( لا تقتلوا أولادكم )(9) و ( أَوفوا بالعقود )(10)!

وأيضاً: لو كان كلامه قديماً لزم صدور القبيح منه تعالى ; لأنّه إن لم يُفِدْ بكلامه في الأزل [شيئاً] كان سفهاً، وهو قبيح عليه [تعالى]، وإن أفاد فإمّا لنفسه، أو لغيره..

____________

(1) في المصدر: " العقل ".

(2) سورة البقرة 2: 21.

(3) سورة النساء 4: 1، سورة الحجّ 22: 1، سورة لقمان 31: 33.

(4) ما بين القوسين المعقوفتين ليس في المصدر ولا في الأصل، وأثبتـناه من إحقاق الحقّ 1 / 219.

(5) سورة البقرة 2: 104 و 153 و 172، سورة آل عمران 3: 130، سورة النساء 4: 19 و 29، سورة المائدة 5: 1 و 2، وآيات كثيرة أُخرى في سور القرآن الكريم.

(6) أثبتـناه لضرورة النسـق.

(7) سورة البقرة 2: 43 و 110، سورة الأنعام 6: 72، سورة النور 24: 56، سورة الروم 30: 31، وغيرها من الآيات في سور أُخرى.

(8) سورة البقرة 2: 188، سورة النساء 4: 29.

(9) سورة الأنعام 6: 151، سورة الإسراء 17: 31.

(10) سورة المائدة 5: 1.


الصفحة 255
والأوّل باطل ; لأنّ المخاطِب إنّما يفيد نفسه لو كان يطرب في كلامه، أو يكرّره ليحفظه، أو يتعبّد به كما يتعبّد(1) الله بقراءة القرآن ; وهذه في حقّه محال لتنزّهه عنها.

والثاني باطل ; لأنّ إفادة الغير إنّما تصحُّ لو خاطب غيره ليفهمه مراده، أو يأمره بفعل، أو ينهاه عن فعل.

ولمّا لم يكن في الأزل مَن يفيده بكلامه شيئاً من هذه، كان كلامه سفهاً وعبثاً!

وأيضـاً: يلزم الكذب في إخبـاره تعـالى ; لأنّـه قـال في الأزل: ( إنّـا أرسـلنا نوحـاً )(2) [و] (3) ( إنّـا... أوحيـنـا إلـى إبراهيـم )(4) و ( أهلكنا القرون )(5) و ( ضربنا لكم الأمثال )(6)، مع أنّ هذه إخبارات عن الماضي، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذبٌ ; تعالى الله عنـه.

وأيضاً: قال الله تعالى: ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )(7)، وهو إخبار عن المستقبل، فيكون حادثاً.

*    *    *

____________

(1) كذا في الأصل، وهو تصحيف ; لأنّ قوله: " تعبّد الله " لا يصحّ تعديته مباشرة بغير حرف الجرّ، بل يقال: " تعبّد لله " ; لأنّ قول القائل: " تعبّد فلانٌ فلاناً " أي اتّخذه عبداً ; وفي المصدر: " يعبد " وهو الصحيح.

(2) سورة نوح 71: 1.

(3) أثبتـناها لتوحيد النسق.

(4) سورة النساء 4: 163.

(5) سورة يونس 10: 13.

(6) سورة إبراهيم 14: 45.

(7) سورة النحل 16: 40.


الصفحة 256

وقال الفضـل(1):

قد سبق الإشارة إلى أنّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية في إثبات الكلام النفساني(2).

فمن قال بثبوته، فلا شكّ أنّه يقول بقِدَمِه ; لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

ومن قال بأنّه مركّب من الحروف والأصوات، فلا شكّ أنّه يقول بحدوثه، ونحن نوافقه فيـه.

فكلّ ما أورده على الأشاعرة، فهو إيراد على غير محلّ النزاع ; لأنّه يقول: إنّ الكلام مركّب من الحروف، ثمّ يقول بحدوثه ; وهذا ممّا لا نزاع فيـه.

نعم، لو قال بإثبات الكلام النفساني ثمّ يثبت حدوثه يكون محلّ النزاع.

وأمّـا ما استدلّ به على الحدوث من قوله تعالى: ( ما يأتيهم من ذِكر من ربّهم مُحدَث )(3)، فهو يدلّ على حدوث اللفظ، ولا نزاع فيـه.

وأمّـا الاستدلال بأنّ الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع، فيـه سفه ـ كما ذكره في طامّاته ـ..

فالجواب أنّ ذلك السفه الذي ادّعيتموه إنّما هو في اللفظ، وأمّا كلام

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 220 ـ 221.

(2) تقـدّم في الصفحة 237.

(3) سورة الأنبياء 21: 2.


الصفحة 257
النفس فلا سفه فيـه، ومثاله ـ على وفق ما ذكر ـ أنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفرداً، ورتّب في نفسه أنواع الأوامر لجماعة سيأتون عنده، ولا يتلفّظ به، فلا يكون سفهاً ولا حماقة، بل السفيه من نسبه إلى السـفه.

فالكـلام النفسـي: هو المعنـى القـائم بـذات الله تعـالى في الأزل، ولا تلفّظ بذلك الكلام، بل هو لجماعة سيحدثون، ويكون التلفّظ به بعد حدوثهم وحدوث أفعالهم التي تقتضي الأمر والنهي والإخبار والاستفهام، فلا سفه ولا حماقة كما ادّعاه.

وبهذا الجواب ـ أيضاً ـ يندفع ما ذكره من لزوم صدور القبيح من الله تعالى ; لأنّ ذلك في التلفّظ بالكلام النفسي، ونحن نُسلّم أن لا تلفّظ في الأزل، بل هناك معان قائمة بذات الله تعالى، قديمة.

وأيضاً: يندفع ما ذكره من لزوم الكذب ; لأنّ الصدق والكذب صنفان للكلام الذي يُتلفّظ به، لا المعاني المزوّرة(1) في النفس، المقولة بعد هذا لمن سيحدث.

وأمّـا الاستدلال على حدوث الكلام بقوله تعالى: ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )(2) لأنّه إخبار عن المستقبل فيكون حادثاً..

فالجواب عنه أنّ لفظ ( كن ) حادث، ولا نزاع لنا فيـه.

إنّما النزاع في المعنى الأزلي النفساني، ولا يلزم من كون مدلول [لفظة] ( كن ) في ذات الله تعالى: حدوثه.

____________

(1) كان في الأصل: " المزبورة " وهو تصحيف، وما أثبتـناه من المصدر.

(2) سورة النحل 16: 40.


الصفحة 258

وأقـول:

غاية المصنّف من الدليل العقلي هو إثبات حدوث ما يُتعقّل من كلامه تعالى، ولا يُتعقّل إلاّ اللفظي، ولا محلّ لإثبات حدوث النفسي عقلا ; لأنّه فرع المعقولية.

وأمّـا الأدلّة السمعية، فإنّما تُذكر لإثبات الانحصار باللفظي، أو لإثبات حدوث النفسي على فرض المعقولية.

على أنّه قد يقال: إنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي، فينبغي أن يكون مركّباً في النفس كتركيب اللفظي، ومرتّباً كترتيبه، فيلزم تقدّم بعض أجزائه على بعض، وهو يقتضي الحدوث.

هـذا، وحكى شارح " المواقف " عن الماتن في مقالة مفردة، أنّه فسّر الكلام النفسي بالأمر القائم بالغير، الشامل للّفظ والمعنى جميعاً، وزعم أنّه قائمٌ بذات الله تعالى، وأنّه قديم ; لأنّ الترتيب إنّما هو في التلفّظ، بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ(1).

وأورد عليه القوشجي بأنّ هذا خارج عن طور العقل، وما هو إلاّ مثل أنْ يكون حركة مجتمعة الأجزاء في الوجود، لا يكون لبعضها تقدّم على بعض(2) ; وهو حسـن.

وأمّـا ما أجاب به الخصم عن قوله تعالى: ( ما يأتيهم من ذِكر من

____________

(1) شرح المواقف 8 / 103 ـ 104.

(2) انظر: شرح التجريد: 421.


الصفحة 259
ربّهم مُحدَث )(1).

فـفيه: أنّ المراد بالذِكر هو القرآن ـ الذي هو كلام الله تعالى ـ من دون لحاظ أنّه لفظي.

فإذا دلّت الآية على حدوث كلامه من حيث هو كلامه، ثبت حدوثه حتّى لو كان نفسياً، أو يثبت الانحصار باللفظي.

ومثل الآية المذكورة قوله تعالى: ( إنّا نحن نزّلنا الذِكر وإنّا له لحافظون )(2)، فإنّ المُنزّل المحفوظ لا يكون إلاّ مُحدَثاً ; لأنّ تنزيله على التدريج، ولا تنزيل إلاّ للّفظ!

وأمّـا ما أجاب به عن السفه، بأنّه إنّما هو باللفظ، فمردود بأنّ الطلب مطلقاً سفهٌ حتّى لو كان في النفس!

وأمّـا مثاله فلا طلب فيه فعلا، وإنّما الموجود فيه هو العزم على الطلب، أو تصوير الطلب، وإلاّ كان سفهاً بالضرورة!

ومنه يُعلم ما في جوابه عن لزوم صدور القبيح منه تعالى.

فإنْ قلت: إنّما يلزم السفه إذا خوطب المعدوم، وطُلب منه إيقاع الفعل في حال عدمه ; وأمّا إذا طُلب منه على تقدير وجوده، فلا، كما في طلب الرجل تعلّم ولده الذي يعلم أنّه سيولد، وكما في خطاب النبيّ كلّ مكلَّف يولد إلى يوم القيامة.

قلت: البديهة حاكمة بسفه من يخاطب معدوماً ويطلب منه، سواء طلب منه في حال عدمه أم على تقدير وجوده، وسواء خاطبه خاصّة أم في

____________

(1) سورة الأنبياء 21: 2.

(2) سورة الحجر 15: 9.


الصفحة 260
ضمن جماعة حاضرين ; لأنّ أصل التوجّه إليه بالطلب سفه!

وأمّـا مثال الولد، فليس فيه إلاّ الميل والعزم على الطلب..

قال في " شرح المواقف ": " أمّا نفس الطلب، فلا شكّ في كونه سفهاً، بل قيل: هو غير ممكن ; لأنّ وجود الطلب بدون من يُطلب منه شيء محال "(1).

كما إنّ خطاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو للحاضرين، ويثبت لمن عداهم بأدلّة اشتراك الأُمّة في التكليف.

وأمّـا ما أجاب به عن لزوم الكذب، فمناقشة لفظيّة، ليس لها ـ لو صحّت ـ أثر في دفع الإشكال ; لأنّ المقصود أنّ قوله تعالى في الأزل: ( إنّا نحن نزّلنا الذِكر )(2).. ( إنّا أرسلنا نوحاً )(3) حكم غير مطابق للواقع، يُنزَّه اللهُ تعالى عن مثله، فلا أثر لعدم تسميته كذباً في الاصطلاح.

ومنـه يُعلـم بطـلان مـا أُجـيـب بـه، مـن أنّ كلامـه تعـالى في الأزل لا يتّصف بالماضي والحال والاستقبال ; لعدم الزمان، وإنّما يتّصف بذلك بحسب التعلّقات بعد حدوث الأزمنة.

وذلك لأنّ عدم صحّة اتّصافه في الأزل بالماضي لا يجعل قوله تعالى في الأزل: ( إنّا أرسلنا نوحاً ) حكماً صادقاً مطابقاً للواقع حتّى يرتفع الإشكال.

بـل هذا الجواب قد كشف عن إشكال آخر عليهم، وهو عدم صحّة قولهم: إنّ النفسي مدلول اللفظي، إذ لا يمكن أن يكون ما ليس له زمان

____________

(1) شرح المواقف 8 / 97.

(2) سورة الحجر 15: 9.

(3) سورة نوح 71: 1.


الصفحة 261
عين مدلول ما هو مقيّد بالزمان، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ مراد المجيب أنّ الكلام النفسي ـ المدلول للّفظي ـ هو ما قُيّد بالتعلّقات الحادثة، فلا يرد شيء من ذلك، ولكنّه لا يتمّ على مذهبهم لقولهم بقدم النفسي.

ثـمّ لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى: ( إنّا أرسلنا نوحاً ) لا يصحّ أن يكون الكلام النفسي فيه من قبيل: ( ونُفخ في الصور )(1) ممّا ليس بماض ونُزّل منزلة الماضي، حتّى يرتفع الكذب.

وذلك لأنّ التنزيل للمعنى يستدعي دلالة اللفظ على المنـزَّل، ومن المـعلوم أنّ لفظ قوله تعالى: ( أرسلنا نوحاً ) دالٌّ على الماضي حقيقـة، لا الماضي تنزيلا.

وأمّـا ما أجاب به عن قوله تعالى: ( إنّما قولنا لشيء ).. الآية(2).

فـفيـه: إنّ الآية تدلّ على حدوث الأمر التكويني في المستقبل، بما هو حاملٌ للمعنى ـ الذي هو الكلام النفسي عندهم ـ، إذ ليس المقصود مجرّد حدوث لفظ ( كن ) ; لأنّ الأثر في التكوين ليس للّفظ نفسه، بل لِما تحمل من المعنى القائم بالنفس، وهو الذي يتفرّع عليه كون الشيء وحدوثه في المسـتقبل، وتفرّعه عليه هنا ظاهر في حدوثه بعد انقضائه، ولا ينقضي إلاّ الحادث ; لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه!

*    *    *

____________

(1) سورة يس 36: 51، وسورة ق 50: 20.

(2) سورة النحل 16: 40.


الصفحة 262

الصفحة 263

اسـتلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة

قال المصنّـف ـ قـدّس الله نفسه ـ(1):

المطلب الرابـع
في اسـتلزام الأمر والنهي: الإرادة والكراهة

كلّ عاقل يريد من غيره شيئاً على سبيل الجزم فإنّه يأمره به، وإذا كره الفعل فإنّه ينهى عنه.

وإنّ الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، وقالوا: إنّ الله تعالى يأمر دائماً بما لا يريده، بل بما يكرهه، وإنّه ينهى عمّا لا يكرهه، بل عمّا يريـده(2)!

وكلّ عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل، تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبيراً.

____________

(1) نهج الحقّ: 63.

(2) انظر ذلك تصريحاً أو مؤدّىً في: الإبانة عن أُصول الديانة: 126 ـ 131، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 56 ـ 58، تمهيد الأوائل: 319 ـ 322، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168 ـ 170، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 83 ـ 84، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343 ـ 344، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 288 ـ 289، المسائل الخمسون: 60، شرح المقاصد 4 / 274، شرح العقائد النسـفية: 138 ـ 141، شرح المواقف 8 / 173 ـ 174.


الصفحة 264

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات، غير مريد لِما لا يكون، فكلّ كائن مراد له، وما ليس بكائن ليس بمراد له(2).

ومذهب المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية: إنّه تعالى مريد للمأمور به، كاره للمعاصي والكفر(3).

ودليل الأشاعرة: إنّه تعالى خالق الأشياء كلّها، وخالق الشيء بلا إكراه مريـدٌ له بالضـرورة(4)، والصفة المرجّـحة لأحد المقـدورين هو الإرادة، ولا بُـدّ منها.

فإذاً ثبت أنّه مريد لجميع الكائنات.

وأمّا المعتزلة، فإنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، وأثبتوا في الوجود تعدّد الخالق، يلزمهم نفي الإرادة العامّة، فالله تعالى عندهم يريد الطاعات ويكره المعاصي، فيأمر بالطاعات وينهى عن المعاصي لأنّها ليسـت من خلقه.

وعند الأشاعرة: إنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ـ وهذا ظاهر ـ،

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 223 ـ 224.

(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 170، الأربعين في أُصول الدين 1 / 343، شرح المواقف 8 / 173.

(3) انظر ذلك صراحة أو مضموناً في: شرح الأُصول الخمسة: 456 ـ 457، شرح جمل العلم والعمل: 56 ـ 60، شرح المواقف 8 / 173.

(4) المسائل الخمسون: 59 ـ 60، شرح المواقف 8 / 174.


الصفحة 265
ويريد المعاصي وينهى عنها(1).

والأمر غير الإرادة ـ كما مرّ في الفصل السابق ـ، وليس المراد من الإرادة الرضا والاستحسان..

فقوله: إنّ الأشاعرة يقولون: " إنّ الله تعالى يأمر بما لا يريده " أراد به أنّ الله تعالى يأمر بإيمان الكافر ولا يريده.

فالمحذور الذي ذكره من مخالفة العقلاء ناشئٌ من عدم تحقّق معنى الإرادة..

فإنّ المراد بالإرادة ها هنا هو التقدير والترجيح في الخلق، لا الرضا والاستحسان كما هو المتبادر، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف.

وإذا تحقّقت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة، وأنّه لا نسبة للجهل والسفه إلى الله، تعالى عن ذلك كما ذكره.

*    *    *

____________

(1) شرح المواقف 8 / 173 ـ 174.


الصفحة 266

وأقـول:

لا يخفى أنّ المصنّف (رحمه الله) قد ذكر أمراً ضرورياً، وهو: أنّ أمر العاقل بشيء دليل على رضاه به، وإرادته له من الغير ; وأنّ نهيه عن شيء دليل على عدم رضاه به، وكراهته له.

وذكر أنّ الأشاعرة خالفوا العقلاء في ذلك فقالوا: إنّ الله سبحانه يأمر بما لا يرضى ولا يريد، وينهى عمّا يرضى ويريد..

ووجهـه: إنّ الأفعال عندهم مخلوقة لله تعالى، وبالضرورة أنّ الفاعل القادر المختار إنّما يفعل ما يرضى ويريد، ويترك ما لا يرضى ولا يريد.

فإذا فُرض أنّه سـبحانه أمر بما تـرك، فلا بُـدّ أن يكـون قد أمـر بما لا يرضى ولا يريد..

وإذا فُرض أنّه نهى عمّا فعل، فلا بُـدّ أن يكون قد نهى عمّا رضي وأراد.

وهذا يستوجب السفه، تعالى الله عنه وعن كلّ نقص.

وحاصل جواب الفضل ـ بعدما أطال في فضول الكلام ـ أنّ معنى الإرادة في كلام الأشاعرة: هو التقدير.

فيكون معنى قولهم: يأمر بما لا يريد، وينهى عمّا يريد ; أنّه يأمر بما لا يقدّر، وينهى عمّا يقدّر ; وهذا لا يستلزم السفه.

وفيـه: إنّ تقدير الشيء وإيجاده فرع الرضا به والإرادة له، وإنّ عدم تقدير الشيء وعدم إيجاده فرع عدم الرضا به وعدم الإرادة له.


الصفحة 267
فإذا فُرض أنّ الله سبحانه أمر بما لم يقدّر ونهى عمّا قدّر، فقد لزم أن يكون آمراً بما لا يرضى ولا يريد، وناهياً عمّا يرضى ويريد ; وهو السفه، تعالى الله عنه وجلّ شأنه.

على أنّ تفسيره للإرادة بالتقدير خطأ ; لأنّها صفة، والتقدير فعل!

ثـمّ إنّ قوله: " وعند الأشاعرة أنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ".

غير متّجه ; لأنّه إن قصد كلّ الطاعات فغير صحيح ; لأنّه تعالى عندهم إنّما أراد بعضها، وهو ما أوجده خاصة.

وإن أراد بعضها، فذِكره له فضلة ; لأنّ كلام المصنّف رحمه الله تعالى ليس في المراد عندهم من الطاعات، بل في غير المراد الذي لم يتعلّق به الوجود.

وإنّما قيّد المصنّف بالدوام في ما نقله عنهم بقوله: " قالوا: إنّ الله تعالى يأمر دائماً بما لا يريد " للإشارة إلى استمرار ترك الطاعات باستمرار الأزمنة، أو إلى أنّ أمْرَه بما لا يريده دائم بدوام ذاته على ما زعموه من الكلام النفسي!

والله العالم.

*    *    *


الصفحة 268