الصفحة 269

كلامـه تعـالى صـدق

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

المطلب الخامـس
في أنّ كلامه تعالى صـدق

إعلم أنّ الحكم بكون كلام الله صادقاً لا يجوز عليه الكذب، إنّما يتمّ على قواعد العدلية(2)، الّذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى من حيث الحكمة.

ولا يتمشّى على مذهب الأشاعرة لوجهين:

الأوّل: إنّهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى، وقالوا: لا مؤثّر في الوجود ـ من القبائح بأسرها، وغيرها ـ إلاّ الله تعالى(3)، ومن يفعل أنواع

____________

(1) نهج الحقّ: 63 ـ 64.

(2) هو اسم يُطلق على الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة ; لأنّهم قائلون بالعدل الإلهي.. إلاّ أنّ مراد المصنّف (قدس سره) هنا هو الإمامية ; لاقتضاء مقام البحث.

(3) خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ: 25 ـ 26، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 71 ـ 72، الإبانة عن أُصول الديانة: 126 ـ 131 المسألة 194 ـ 205 و ص 142 ذيل المسألة 226 و ص 146 جواب 233، تمهيد الأوائل: 317 ـ 319، الإنصاف ـ للباقلاّني ـ: 43، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 115 ـ 116 الدعوى الرابعة، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 83، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 320 الفرقة الرابعة، المسائل الخمسون: 59 ـ 60 المسألة 34، شرح العقائد النسفية: 135، شرح المقاصد 4 / 223 و 238 وما بعدها، شرح المواقف 8 / 145 ـ 146 و 173 ـ 174، شرح العقيدة الطحاوية: 120 ـ 121.


الصفحة 270

الصفحة 271
[الشرك و] الظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي [والقبائح المنسوبة إلى البشر] كيف يمتنع أن يكذب في كلامه؟! وكيف يقدر الباحث على إثبات وجوب كونه صادقاً؟!

الثاني: إنّ الكلام النفسـاني عندهم مغاير للحروف والأصوات(1)، ولا طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقاً في الحروف والأصوات!

*    *    *

____________

(1) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 75، المسائل الخمسون في أُصول الدين: 54 المسألة 29، شرح العقائد النسفية: 108 ـ 109، شرح المقاصد 4 / 143 ـ 146، شرح المواقف 8 / 93 ـ 94.


الصفحة 272

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّه تعـالى يمتنع عليه الكذب، ووافقهم المعتزلة في ذلك..

أمّا عند الأشاعرة: فلأنّه نقص، والنقص على الله تعالى محال..

وأمّا عند المعتزلة: فلأنّ الكذب قبيح، وهو سبحانه لا يفعل القبيح(2).

وقال صاحب " المواقف ": إعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها، وإنّما تختلف العبارة(3).

أقـول:

الفرق أنّ النقص هنا يراد به النقص في الصفات، فإنّه على تقدير جواز الكذب عليه تتّصف ذاته بصفة النقص، وهم لم يقولوا ها هنا بالنقص في الأفعال ; حتّى لا يكون فرقاً بينه وبين القبح العقلي كما ذكره صاحب " المواقف ".

فحاصل استدلال الأشاعرة: إنّه تعالى لو كان كاذباً لكان ناقصاً في

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 229 ـ 230.

(2) شرح الأُصول الخمسة: 318 ـ 319، شرح المواقف 8 / 100.

(3) المواقف: 296، وانظر: شرح المواقف 8 / 101.


الصفحة 273
صفته.. كما إنّهم يقولون: لو كان عاجزاً أو جاهلا، لكان ناقصاً في صفته.

ولم يعتبروا ما يلزم ذلك النقص من القبح الذي يقول به المعتزلة.

فتأمّـل، والفرق دقيـق!

ثـمّ إنّ ما ذكره من أنّ عدم جواز الكذب عليه لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة، فهذا كلام باطل عار عن التأمّل!

فإنّ القول بأنْ لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ; لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد، فهو غير مستند إلى الخالق.

ثمّ مَن خلق القبائح فلا بُـدّ أن يكذب، ولا يجوز أن يكون صادقاً.

هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث، بحيث لو نُسب هذا الكلام إلى العوامّ اسـتنكفوا منه.

وأمّا ثاني الاستدلالين على عدم التمشّي ; فهو أيضاً باطل صريح، فإنّ من قال: امتنع الكذب عليه للزوم النقص، فهذا الكذب يتعلّق بالدالّ على المعنى النفساني، وهو أيضاً نقص، فكيف لا يتمشّى؟!

*    *    *


الصفحة 274

وأقـول:

إعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بلزوم النقص من الكذب على صدق كلامه تعالى مطلقاً، نفسياً ولفظياً، لا خصوص اللفظي، مع أنّه لو وقع الكذب في كلامه تعالى لكنّا أكمل منه في بعض الأوقات ; أعني وقت صدقنا وكذبه سبحانه(1).

فأورد عليهم صاحب " المواقف " في عبارته المذكورة بأنّ هذا الدليل لا يثبت صدقه في الكلام اللفظي ; لأنّ اللفظ فعل، والنقص في الأفعال عين القبح العقلي فيها(2)، والأشاعرة لا يقولون به فيها..

فتخيّل الفضل أنّ مقصود صاحب " المواقف " أنّ المراد بالنقص في هذا الدليل هو النقص في الأفعال خاصة، فأورد عليه بأنّ المراد هو النقص في الصفة.

ومن العجب أنّه بعد إقراره بأنّ الأشاعرة لم يقولوا بالنقص في الأفعال، أجاب بحسب ظاهر كلامه عن ثاني إيرادَي المصنّف بأنّ الكذب في الكلام اللفظي أيضاً نقص ; وهو تخليط ظاهر!

هـذا، وأجاب القوشجي عن إيراد صاحب " المواقف " بأنّ " مرجع الصدق والكذب إنّما هو المعنى دون اللفظ "(3).

ولمّا كان الكلام النفسي عندهم عين مدلول الكلام اللفظي ومعناه،

____________

(1) انظر: شرح المواقف 8 / 101.

(2) المواقف: 296، وانظر: شرح المواقف 8 / 101.

(3) شرح التجريد: 421.


الصفحة 275
كان كذب الكلام اللفظي راجعاً إلى كذب الكلام النفسي، ولزم النقص في صفته تعالى.

وهو حسنٌ لو لزم أن يكون لكلّ كلام لفظي مدلول نفسي، حتّى اللفظي الكاذب، وهو محلّ نظر ; لجواز أن يوجد اللفظ الخبري الكاذب ولا يحكم في نفسه على طبق معناه، فلا يثبت حكم نفسي حتّى يكذّب، فإنّ المدار في الكذب على الحكم.

نعم، يكذّب اللفظي لاشتماله على الحكم الكاذب.

هـذا، ويشكل على الدليل المذكور ـ حتّى في إثبات صدقه تعالى في الكلام النفسي ـ أنّ محالية النقص عليه تعالى في صفته إنّما أثبتوها بالإجماع لا بالعقل.. ولذا قال القوشجي ـ في تقرير هذا الدليل ـ أنّ الكذب " نقص، والنقص على الله تعالى محال إجماعاً "(1).

ولمّا قال صاحب " المواقف " في تقريره النقص على الله تعالى محال، قيّد شارحها الحكمَ بالمحاليّة بقوله: " إجماعاً "(2).

ومن المعلوم أنّ حجّية الإجماع إنّما تستند عندهم إلى قول النبيّ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدقه، وثبوته يُعلم من تصديق الله تعالى إيّاه، الموقوف اعتباره على ثبوت صدق كلام الله تعالى، فيتوقّف ثبوت صدق كلامه تعالى على ثبوته(3)، وهو دور!

وقد يجاب عنه بما أجابوا به عن نفس الإشكال، حيث أورد به على دليلهم الآخر لصدق كلام الله تعالى، وهو خبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) به، بل إجماع

____________

(1) شرح التجريد: 421.

(2) المواقف: 296، وانظر: شرح المواقف 8 / 101.

(3) أي ثبوت صدق النبيّ.


الصفحة 276
الأنبياء على صدق كلامه تعالى..

فقالوا في الجواب: إنّ ثبوت صدق النبيّ غير موقوف على تصديق الله له بكلامه حتّى يلزم الدور، بل على تصديق الله له بالمعجزة، وهو تصديق فعلي لا قولي(1).

وفـيـه:

إنّ المعجزة إنّما تدلّ على أنّه مرسَل من الله تعالى، وأنّ ما جاء به من عنده، لا على أنّ كلام النبيّ صدق مطابق للواقع مطلقاً، وإنْ كان من نفسه.

على أنّ إفادة المعجزة لليقين برسالته محلّ منع على مذهبهم كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

وبالجملـة: العلم بصدق النبيّ موقوف على تصديق الله تعالى إيّاه.

فإن ادّعوا تصديقه له بكلامه تعالى جاء الدور..

وإن ادّعوا تصديقه بالمعجزة، فإن كان اقتضاؤها ـ لصدق النبيّ في خبره بصدق كلام الله تعالى ـ ناشئاً من إخبار الله بصدق نفسه، رجع الدور إلى حاله، وإلاّ فلا تدلّ المعجزة على صدق النبيّ في خبره من نفسه.

على أنّ المعجزة ليست بأعظم من التصديق القولي، وقد فرض الشكّ في صدقه.

ثـمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا بدليل ثالث على امتناع الكذب عليه تعالى، وهو: إنّه تعالى لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديماً، إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب، وإلاّ جاز زوال ذلك الكذب، وهو محال ; فإنّ ما ثبت قِدَمه امتنع عدمه.

____________

(1) انظر: المواقف: 296، شرح المواقف 8 / 102 ـ 103.


الصفحة 277
واللازم: وهو امتناع الصدق عليه، باطل ; فإنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئاً أمكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه(1).

وفـيـه:

أوّلا: إنّ المقدّمة الأخيرة مبنية على اعتبار قياس الغائب على الشاهد، وهو ممنوع، كما ستعرف.

وثانياً: إنّ امتناع الصدق المقابل للكذب ليس ذاتياً، بل لقدم هذا الكـذب كما ذُكر في الدليـل، فيكون امتـناعاً بالغير، ولا نسـلّم بطلانه، إذ لا ضـرورة تقـضي بخلافـه، وإنّما تقـضي الضـرورة بإمكانـه الذاتي، وهو لا ينافي الامتناع بالغير.

وثالثاً: إنّه يرد عليهم النقض بما ذكره القوشجي، قال: " لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع صدقه تعالى أيضاً بأن يقال: إنّ الله تعالى لو اتّصف بالصدق لكان صدقه قديماً، فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق، ولـكنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئاً أمكنه أن يخبر عنه لا على ما هو عليه "(2).

ورابعاً: إنّه لم تمّ هذا الدليل، وأعرضنا عمّا يرد عليه، لم يثبت به إلاّ صدق كلامه النفسي ; لأنّه هو القديم، والحال أنّ الأهمّ بيان صدق كلامه اللفظي، كما بيّن هذا في " المواقف " وشرحها(3).

فقد ظهر أنّه لا دليل للأشاعرة على امتناع الكذب على الله تعالى في

____________

(1) انظر: المواقف: 296، شرح المواقف 8 / 101 ـ 102.

(2) شرح التجريد: 422.

(3) انظر: المواقف: 296، شرح المواقف 8 / 102.


الصفحة 278
كلامه مطلقاً، نفسياً ولفظياً، فما حال مذهب يعجز أهله ـ بحسب قواعده ـ عن إثبات امتناع أقبح الأشياء على الله تعالى؟!

والحـال أنّ امتناعه من أوّل الضروريّات، بل بمقتضى إسنادهم جميع القبائح إليه سبحانه، يكون صدور الكذب منه تعالى مستقرباً، بل هو واقع عندهم ; لأنّه الخالق لكذب الناس في الإخبار عنه تعالى!

فكما يكون كَذِباً منه أن يخلق الكلام الكاذب على لسان ملَك أو نبيّ أو شجرة، يكون كَذِباً منه أن يخلقه على ألسنة سائر الناس.

وليس كذبه سبحانه في الكلام اللفظي إلاّ بهذا النحو، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّـا قوله: " إنّ القول بأن لا موثّر في الوجود إلاّ الله، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ; لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد "..

فهو سفسطة عند العقلاء، إذ كيف يصحّ عند عاقل نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له فيه ألبتّة وعدم نسبته إلى خالقه وموجده؟!

على أنّه يلزم منه أن لا يمتنع الكذب منه تعالى على لسان ملَك أو نبيّ ; لأنّه بمباشرتهما، فكيف التزموا بامتناع الكذب منه تعالى في الكلام اللفظي؟!

ولا يخفى أنّ المصنّف لم ينسب إلى القوم أنّه تعالى لا بُـدّ أن يكذب في كلامه، فلا معنى لقول الخصم: " ثمّ من خلق القبائح فلا بُـدّ أن يكذب ".

ولو نسـب إليهم وقوع الكذب منه سبحانه لكان حقّاً ; لخلقه سبحانه ـ عندهم ـ للكذب في الإخبار عنه على ألسنة العاصين، كما عرفت.


الصفحة 279

الصفحة 280

صفاتـه عيـن ذاتـه

قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):

المبحـث الثـامن
في أنّه تعالى لا يشاركه شيء في القِدَم

العقل والسمع متطابقان على أنّه تعالى مخصوص بالقِدَم، وإنّه ليس في الأزل سواه ; لأنّ كلّ ما عداه سبحانه [وتعالى] ممكن، وكلّ ممكن حـادث(2).

وقال تعالى: ( هو الأَوّلُ والآخِرُ )(3).

وأثبت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية، هي علل في الصفات: كالقدرة والعلم والحياة.. إلى غير ذلك(4).

____________

(1) نهج الحقّ: 64 ـ 65.

(2) انظر مثلا: أوائل المقالات ـ المطبوع ضمن المجلّد 4 من " مصنّفات الشيخ المفيد " ـ: 51 رقم 18، شرح جمل العلم والعمل: 50، تقريب المعارف: 75، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 59، المنقذ من التقليد 1 / 70، تلخيص المحصّل: 123، المسائل الخمسون: 27 المسألة 3.

(3) سورة الحديد 57: 3.

(4) لا خلاف بينهم في ثبوت تلك المعاني، غير إنّهم اتّفقوا على سبعة منها، هي: الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، واختلفوا في تسمية ما زاد عليها ; انظر ذلك في:

تمهيـد الأوائل: 227، الاقتصـاد في الاعتقـاد ـ للغزّالي ـ: 84، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 82، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 120 و 270، شرح المقاصد 4 / 69 ـ 70، شرح المواقف 8 / 44 ـ 45 و 104.


الصفحة 281

الصفحة 282
ولزمهم من ذلك محالات:

منها: إثبات قديم غير الله تعالى.. قال فخر الدين الرازي: النصارى كفروا بأنّهم أثبتوا ثلاثة قدماء، وأصحابنا قد أثبتوا تسعة(1)!

ومنها: إنّه يلزمهم افتـقار الله تعالى ـ في كونه عالماً ـ إلى إثبات معنىً، هو: العلم، ولولاه لم يكن عالماً، وافتقاره في كونه تعالى قادراً إلى القدرة، ولولاها لم يكن قادراً ; وكذلك باقي الصفات.

والله تعالى منزَّه عن الحاجة والافتقار ; لأنّ كلّ مفتقِر إلى الغير فهو ممكن.

ومنها: إنّه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى، وهو محال.

بيان الملازمة: إنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه، فإنّ من شرط العلم: المطابقة ; ومحال أن يطابق الشيء الواحد أُموراً متغايرة متخالفة في الذات والحقيقة.

لكنّ المعلومات غير متناهية، فيكون له علوم غير متناهية، لا مرّةً واحدةً، بل مراراً غير متناهية، باعتبار كلّ علم يفرض في كلّ مرتبة من المراتب الغير المتناهية ; لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء.

____________

(1) انظر مؤدّاه في: الأربعين في أُصول الدين 1 / 224، وعقّب الفخر الرازي على ذلك قائلا: وكان كفره أعظم من كفر النصارى بثلاث مرّات!


الصفحة 283
ثمّ العلمُ بالعلمِ بالشيء مغاير للعلم بالعلم بالعلم بذلك الشيء.. وهكذا إلى ما لا يتناهى، وفي كلّ واحدة من هذه المراتب علوم غير متناهية.

وهذا عين السفسطة لعدم تعقّله بالمرّة.

ومنها: إنّه تعالى لو كان موصوفاً بهذه الصفات، وكانت قائمة بذاته تعالى، كانت حقيقة الإلهية مركّبة، وكلّ مركّب محتاج إلى جزئه، وجزؤه غيره، فيكون الله تعالى محتاجاً إلى غيره، فيكون ممكناً.

وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: " أَوّلُ الدِّينِ مَعرفتُهُ، وكَمالُ معرفتِهِ التَّصديقُ بهِ، وكَمالُ التصديقِ به توْحيدُهُ، وكَمالُ توحيدِهِ الإخلاصُ لهُ، وكَمالُ الإخلاصِ لهُ نفيُ الصِّفاتِ عنهُ، لشهادة كُلِّ صفة أنّها غيرُ الموصُوفِ، وشهادةِ كُلِّ موصُوف أنّه غيرُ الصِفةِ، فمَنْ وَصَفَ اللهَ [سبحانه] فَـقد قَـرَنَهُ، ومَنْ قَـرَنَهُ فـقد ثـنّاه، ومَن ثـنّاه فقد جَـزَّأَهُ، ومَنْ جَـزَّأهُ فـقد جَهِلَـهُ "(1).

ومنها: إنّهم ارتكبوا هنا ما هو معلوم البطلان، وهو أنّهم قالوا: إنّ هذه المعاني لا هي نفس الذات، ولا مغايرة لها(2).

وهذا غير معقول! لأنّ الشيء إذا نسب إلى آخر، فإمّا أن يكون هو هو، أو غيره، ولا يعقل سلبهما معاً!

*    *    *

____________

(1) نهج البلاغة: 39 خطبة رقم 1، في ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (عليه السلام).

(2) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 82، شرح المقاصد 4 / 70.


الصفحة 284

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّه تعالى له صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته، فهو عالِم بعلم، وقادر بقدرة، ومريد بإرادة.. وعلى هذا القياس(2).

والدليل عليه: إنّنا نفهم الصفات الإلهية من صفات الشاهد، وكون علّة(3) الشيء عالِماً ـ في الشاهد ـ هي العلم ; فكذا في الغائب.

وحدّ العالِم ـ ها هنا ـ مَن قام به العلم، فكذا حدّه هناك، وشرط صدق المشـتقّ على واحد منّا: ثبوتُ أصله ; فكذا [شرط] في ما(4) غاب عنّا، وكذا القياس في باقي الصفات.

ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف، فإنّ العالِم لا شكّ أنّه مَن يقوم به العلم، ولو قلنا بنفي الصفات لكذّبنا نصوص الكتاب والسُـنّة، فـإنّ الله تعـالى فـي كـتابـه أثـبـت الصفـات [لنفسـه، كـقـوله تعـالى: ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء )(5)..

فإذا ثبت في النصوص إثبات الصفات] له، فلا بُـدّ لنا من الإثبات من غير تأويل، فإنّ الاضطرار إلى التأويل إنّما يكون بعد العجز عن الإجراء على حسب الواقع ; وذلك لدلالة الدلائل العقلية على امتناع إجرائه على

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 234 ـ 236.

(2) شرح المواقف 8 / 44 ـ 45، وانظر أيضاً: الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 82.

(3) كذا في الأصل والمصدر، والظاهر أنّها: " وعلّة كون... " كما سيأتي في أوّل كلام الشيخ المظفّر (قدس سره) الصفحة 274.

(4) في المصدر: من.

(5) سورة البقرة 2: 255.


الصفحة 285
حسب ظاهره، وها هنا ليس كذلك، فوجب الإجراء على الظاهر من غير تأويل.

وعنـدي: إنّ هذا هو العمدة في إثبات الصفات الزائدة، فإنّ الاستدلالات العقليّة على إثباتها مدخولة، والله أعلم.

ثـمّ ما استدّل به هذا الرجل ـ على نفي الصفات الزائدة ـ من الوجوه، فكلّها مجابٌ:

الأوّل: استدلاله بأنّ كلّ ما عداه ممكن، وكلّ ممكن حادث.

فنقول: سلّمنا أنّ كلّ ما عداه ممكن، ولكنْ نقول في المقدّمة الثانية: إنّ كلّ ممكن ممّا عدا صفاته فهو حادث ; لأنّ صفاته لا هو ولا غيره، كما سـنبيّن بعد هذا.

الثاني: الاستدلال بلزوم إثبات قديم غير الله تعالى، وإثبات القدماء كفر، وبه كفرت النصارى.

الجواب: إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة، لا إثبات ذات وصفات قدماء(1)، هي ليست غير الذات مباينة كلّية، مثلا: عِلمُ زيد ليس غير زيد بالكلّية، فلو كان عِلمُ زيد قديماً فرضاً مثل زيد، فأيّ نقص يعرض من هـذا لزيد إذا كان متّصفاً بالقِدم؟! لأنّ علمه ليس غيره بالكلّية، بل هو من صفات كماله.

الثالث: الاستدلال بلزوم افتقار الله تعالى في كونه عالماً إلى إثبات معنىً هو العلم، ولولاه لم يكن عالماً، وكذا في باقي الصفات.

والجواب: إنْ أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفات الكمال الزائدة

____________

(1) المواقف: 280، شرح المواقف 8 / 48.


الصفحة 286
على ذاته لذاته، فهو جائز عندنا، وليس فيه نقص، وهو المتنازع فيه.

وإنْ أردتم به غيره، فصـوّروه أوّلا حتّى تفهموه(1)، ثمّ تثـبّتوا(2)لزومـه لِما ادّعينا.

والحاصـل: إنّ المحال هو استفادته صفة كمال من غيره، لا اتّصافه لذاته بصفة كمال هي غيره ; واللازم من مذهبنا هو الثاني لا الأوّل(3).

الرابع: الاستدلال بلزوم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القديمة(4)بذاته تعالى ; وذلك لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه.. إلى آخر الدليـل.

والجواب: إنّ العلم صفةً واحدةً قائمةً بذاته تعالى، ويتعدّد بحسب التعلّق بالمعلومات الغير المتناهية، فله بحسب كلّ معلوم تعلّق، فكما يتصوّر أن تكون المعلومات غير متناهية، كذلك يجوز أن تكون تعلّقات العِلم ـ الذي هو صفة واحدة ـ غير متناهية بحسب المعلومات، وليس يلزم منه محال، ولا(5) يلزم التسلسل المحال ; لفقدان شرط (الترتّب في)(6)الوجـود(7).

الخامس: الاستدال بأنّه لو كان موصوفاً بهذه الصفات، لزم كون الحقيقة الإلهية مركّبة، ويلزم منه الاحتياج.

____________

(1) في شرح المواقف: نـفهمه.

(2) في المصدر: بيّـنوا.

(3) شرح المواقف 8 / 48.

(4) في المصدر: القائمـة.

(5) في المصدر: فلا.

(6) في المصدر: الترتّب و.

(7) انظر: المواقف: 288، شرح المواقف 8 / 73 و 79.


الصفحة 287
والجواب: إنّ المراد بالحقيقة الإلهية إنْ كان الذات، فلا يلزم من إثبات الصفات الزائدة تركّب في الذات.

وإنْ كان المراد أنّ هناك ذاتاً وصفات متعدّدة قائمة بتلك الذات، فليس إلاّ ملاحظة الموصوف مع الصفات.

ثمّ إنّ احتياج الواجب إلى ما هو غيره يوجب الإمكان كما قدّمنا.

وأمّـا ما استدلّ به من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالمراد من نفي الصفـات يمكـن أن يكون صفات تـكون هي غير الذات بالكلّـية، وليـس ها هنا كذلك.

السادس: الاستدلال بلزوم ارتكاب ما هو معلوم البطلان ها هنا... وهو أنّ هذه المعاني لا هي عين الذات، ولا غيرها ; وهذا غير معقول.

والجواب: إنّ المراد بعدم كون الصفات عين الذات، أنّها مغايرة للذات في الوجود ; وكونها غير مغايرة لها، أنّها صفات للذات، فليس بـينهما مغـايرة كلّيـة بحيث يصـحّ إطـلاق كونها مغايـرة للذات بالكلّيـة، كما يقال: إنّ عِلمَ زيد ليس عين زيد ; لأنّه صفةٌ له، وليس غيره بالكلّية ; لأنّه قائم به، وهذه الواسطة على هذا المعنى صحيحة ; لأنّ سلب العينيّة باعتبار، وسلب الغيرية باعتبار آخر، فكِلا السلبَين يمكن تحقّقهما معاً.

*    *    *


الصفحة 288

وأقـول:

لا ريب ببطلان قياس الغائب على الشاهد ; لأنّ القياس لا يصحّ إلاّ بإثبات علّة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه، وإثباتها في المقام باطل ; لاختلاف الشاهد والغائب بالحقيقة.

فيمكن أن تكون خصوصية الشاهد شرطاً في الحكم، أو كون خصوصية الغائب مانعة عنه.

على أنّ دعوى أنّ علّة كون الشاهد عالماً هي العلم، فتكون علّة كون الغائب عالماً هي العلم، فيكون علمه زائداً على ذاته، موقوفة على اتّحاد علم الغائب وعلم الشاهد، واتّحاد كيفية ثبوتهما، ليصحّ إثبات العلّـيّة لعلم الغائب.

فلو أُريدَ إثبات معرفة حقيقة علم الغائب، أو كيفية ثبوته له، من علّـيّـته، جاء الدور!

وكيف يصحّ الحكم بالاتّحاد وبصحّة القياس؟! والحال أنّ أهل هذا القياس قائلون باختلاف مقتضى صفات الشاهد والغائب ; لأنّهم يزعمون أنّ القدرة في الشاهد لا تؤثّر إيجاداً، والإرادة فيه لا تُخصّص أصلا، بخلافهما في الغائب.

وكذا الحال في بقية الصفـات.

هـذا، ومن القبيح على الفضل وأصحابه ذِكره لهذا الدليل الواضح البطلان، مع علمه بإبطالهم له ; لأنّه أخذه من " المواقف " وشرحها، وقد

الصفحة 289
أبطلاه ببعض ما ذكرناه وغيره(1).

وأقبح من ذلك قوله: " ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف "..

إذ كيف يأخذه منهما والمسألة عقليّة؟! إلاّ أن يدّعي أنّ أخذه منهما بلحاظ دلالتهما ظنّـاً على المراد الشرعي المستلزم لحكم العقل! لكنّ الشأن في الدلالة ; لِما سبق من أنّ المشتقّ إنّما يدلّ وضعاً على الملابسة بين المبدأ والذات، وهي أعمّ من أن تكون بنحو الحلول كما في الحيّ والميّت، وبنحو الإيجاد كما في الخالق والرازق.. إلى غير ذلك، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فمن أين عَلِم أنّ ملابسة الغائب للقدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، ونحوها، مثل ملابسـة الشاهد لها؟! فلعلّها بالانتزاع، ومجرّد اتّحاد اللفظ لا أثر له، لا سيّما وقد دلّ النقل على إرادة الانتزاع..

قال تعالى: ( هو الأوّلُ والآخِرُ )(2)، فإنّه دالٌّ على أنّه تعالى مخصوص بالقِدَم، فلا يمكن أن تكون ملابسته لتلك الصفات بالحلول في القِدَم.

وأمّـا ما استدلّ به من قوله تعالى: ( ولا يحيطون بشيء من علمه )(3)، فخطأ ظاهر ; إذ لا يقتضي إثبات العلم له تعالى أن يكون العلم أمراً خارجياً زائداً على ذاته، فإنّه كما تثبت له الأُمور الخارجية، تثبت له الأُمور الاعتبارية والانتزاعية، كالملكية، والوحدانية، والقِدَم، ووجوب

____________

(1) المواقف: 279 ـ 280، شرح المواقف 8 / 45 ـ 48.

(2) سورة الحديد 57: 3.

(3) سورة البقرة 2: 255.


الصفحة 290
الوجود، ونحوها.

فظهر أنّ عمدة الخصم واهية، ولا سيّما مع النصّ بقوله تعالى: ( هو الأوّلُ والآخِرُ )، الذي تغافل الخصم عنه مع ذِكر المصنّف له!

وأمّـا إنكاره لكلّية الكبرى القائلة: " كلّ ممكن حادث " ـ بحجّة أنّ صفاته ليست عينه ولا غيره ـ فممّا لا معنى له ; لأنّ كون صفاته تعالى لا هو ولا غيره لا يقتضي إمكانها وقِدَمها، على أنّه اصطلاح محض لا ينفي المغايرة الواقعية، ولذا التزموا بزيادة صفاته تعالى وجوداً على ذاته!

ثـمّ إنّه لو كانت صفاته تعالى ممكنة زائدة على ذاته لاحتاجت إلى تأثيره فيها.

وتأثيره فيها إمّا بالاختيار، وهو يستلزم الدور، أو التسلسل ; لتوقّف إيجاد كلّ صفة على الحياة والعلم والقدرة والإرادة، فإن توقّفت على أنفسها دارَ، وإلاّ تسلسل، مع استلزام التسلسل لحدوثها.

وإمّا بالإيجاب ـ كما هو مذهبهم ـ فيلزم عدم مقدورية صفاته له تعالى مع إمكانها ; لأنّ ذاته تعالى واجبة، فما يجب عنها لنفسها يمتنع أن تتعلّق به القدرة، ويلزم أن يكون البسيط فاعلا وقابلا، وهو ممتنع ; لتنافي الفعل والقبول مع وحدة النسبة حقيقةً ـ كما في المقام ـ، فإنّ نسبة الفعل قائمة بين المنتسبَين اللذَين وقعت بينهما نسبة القبول، فالنسبة واحدة بالذات وإن تعدّدت بالاعتبار.

وإنّما قلنا بتنافيهما لتنافي لازمَيهما ; لأنّ نسبة الفعل ضرورية لكون الفاعل موجباً فرضاً، ونسبة القبول ممكنة بالإمكان الخاصّ، إذ لا يتصوّر استقلال القابل بالقبول حتّى يمكن أن تكون نسبته ضرورية.


الصفحة 291
وأُجيبَ بأنّ الجهة متعدّدة، وهي جهة الفاعلية والقابلية، فلا محذور في اجتماع الضرورة وعدمها ; لكونهما من جهتين.

وفيـه: إنّ تعدّد الجهات لا يصحّح اجتماع المتنافيَين في نسبة واحدة شـخصية.

نعم، إذا استوجب تعدّد الجهة، تعدّد النسبة حقيقةً، لا اعتباراً فقط، كان نافعاً لهم، لكنّه خلاف الواقع.

وبالجملـة: يلزم من كونه تعالى موجباً أن يكون فاعلا قابلا، فتكون نسبة الصدور بينه وبين صفاته واجبة وغير واجبة ; وهو ممتنع.

وأيضـاً: يلزم صدور المتعدّد ـ وهو صفاته ـ من الموجب الواحد من جميع الجهات ـ وهو ذاته تعالى ـ، وهو باطل ; لأنّ كون الشيء موجباً وعلّة لشيء، ليس إلاّ لخصوصية فيه تقتضي الإيجاب والعلّـيّة لذلك المعلول، وإلاّ لصحّ أن يكون كلّ شيء موجباً وعلّة لكلّ شيء.

ولا ريب أنّ فرض وحدة الموجب من جميع الجهات يستدعي وحدة خصوصيّته، وتلك الخصوصية الواحدة لا يمكن أن تقتضي أمرين مختلفين، لعدم إمكان مناسبتها لهما على اختلافهما، ولا يتصوّر ـ بناءً على زيادة الصفات ـ أن تكون في الذات البسيطة من جميع الجهات، جهات اعتبارية، بسبب تعدّدها تصدر الصفات المتعدّدة عن الذات، وفرض تعدّد الجهات بتعدّد السلوب باطل ; لأنّ السلوب لا تستلزم تكثّر الواحد الحقيقي ولو اعتباراً.

ولو سُلّم، فليس في السلوب معان وخصوصيات تناسب تأثير الذات في صفاتها حتّى ينفع تعدّدها اعتباراً.