هـذا، ومن العجب التزامهم بكونه تعالى موجباً لصفاته مع قول أكثرهم بأنّ علّة الحاجة إلى التأثير هو الحدوث لا الإمكان!!
إذ بنـاءً على هـذا يمكن أن تكون صفاته تعـالى موجودة في القِدَم بلا إيجاده، بل بالاستقلال!
وأمّا ما أجاب به عن المحال الأوّل، فباطل ; إذ لا أثر لتسمية القدماء ذوات في الكفر، بل الأثر للقول بتعدّد القدماء، ضرورة أنّهم يقولون بتعدّد الوجود حقيقةً.
نعم، يفترق الأشاعرة عن النصارى بأنّهم لا يقولون: إنّ القدماء آلهة، بخلاف النصارى.
ولكن فيه: إنّ مذهب الأشاعرة يقتضي أن تكون حقيقة الإله مركّبة من الذات والصفات(1) ; لأنّ الذات المجرّدة خالية عن جهة الإلهية بدون الصفات، فيقاربون النصارى، بل لعلّهم متّفقون، إذ لعلّ النصارى أيضاً يجعلون الإله مركّباً، ولذا يقولون: الثلاثة واحد ; فالتعدّد عند الفريقين بالأجزاء لا بالجزئيات، والله أعلم.
وأمّا جوابه عن ثاني المحالات، فلا ربط له بإشكال المصنّف ; لأنّ المصنّف رتّب إمكان الواجب على افتقاره إلى صفاته، لا نقصه على استكماله بها ; لكن لمّا كانت عادته أخذ ما في " المواقف " وشرحها، أورد لفظهما بعينه جهلا بعدم انطباقه على المورد(2)!
على أنّ إنكار النقص مكابرة ظاهرة! كيف؟! وحقيقة مذهبهم أنّ
____________
(1) انظر: الأربعين في أُصول الدين 1 / 230 ـ 231، شرح المواقف 8 / 47 ـ 48.
(2) انظر: المواقف: 280، شرح المواقف 8 / 48.
ومجرّد كون المكمّلِ له: صفاتٌ له، لا يؤثّر في دفع النقص عنه بعد أن كانت غيره في الوجود، كما لا ترفع النقص الحقيقي عن الحجر لو اتّصف بها، سواء كان اتّصافه بها من نفسه بالإيجاب أم من غيره ; غاية الأمر أنّه إذا كان من غيره يكون بقاء النقص أشدّ.
وأمّا جوابه عن ثالث المحالات، فيظهر ما فيه بعد بيان مراد المصنّـف (رحمه الله)، فنقول:
قد ذكر في هذا المحال إشكالين:
الأوّل: إنّـه بنـاءً على كـون العلم صفـة زائـدة وجودية، يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى، لتعدّد العلوم بتعدّد المعلومات ; والمعلومات غير متناهية.
أجاب الأشاعرة بأنّ العلم واحد، والتعدّد في التعلّقات، والتعلّقات إضافيـة(1)، فيجوز لا تناهيها كما ذكره الخصم في المقام.
وهو غير صحيح ; لِما بيّنه المصنّف من أنّ شرط العلم: المطابقة ; ومحال أن يطابق الشيء الواحد مطابقة حقيقية أُموراً مختلفة، فلا بُـدّ أن يكون المتعدّد هو العلوم لا التعلّقات فقط، ولمّا لم يَدْرِ الخصمُ ما هذا وما الجواب عنه، ترك التعرّض له!!
الثاني: إنّه لو كان العلم صفةً وجوديةً زائدةً على ذاته تعالى، لزم أن
____________
(1) انظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 147، شرح المقاصد 4 / 87 ـ 88، شرح المواقف 8 / 73.
وقد جمع المصنّف الإشكالين معاً بما حاصله: إنّه يلزمهم إثبات علوم وجودية قائمة بذاته تعالى غير متناهية، بتسلسلات غير متناهية، فيثبت في كلّ مرتبة من مراتب التسلسل علوم غير متناهية، وهو غير معقـول.
وقد أحسّ الخصم بإشكال التسلسل، ولكن لم يعرف وجهه! فأجاب بأنّه لا يلزم التسلسل المحال ; لفقدان شرط الترتّب في الوجود ; فإنّه لو فهم كيفية التسلسل لَما أنكر الترتّب.
وقد يجـاب عن إشكال التسلسل بما يستفاد من " المواقف " وشرحها، بأنّه تسلسل في الإضافات لا في الأُمور الوجودية ; لأنّ علمه تعالى واحد، وله تعلّقات بمعلومات لا تتناهى، من جملتها علمه الذي يخالفه العلم به بالاعتبار دون الذات(1).
ويرد عليه: إنّه إذا اتّحد علمُه تعالى، وعلمُه بعلمِه، واختلفا بالاعتبار، كان الأَوْلى في الجواب أن يقال: إنّه تسلسل في العلوم الاعتبارية، إذ لا وجه للعدول عنه والجواب بأنّه تسلسل في الإضافات.
والحال: إنّ الإشكال إنّما هو في تسلسل العلوم..
وكيف كان، فكِلا الجوابَـيـن باطل!
أمّا الجواب بأنّه تسلسل في الإضافات، فلِما عرفت من أنّ شرط العـلم المطابقـة، ولا يعقـل مطابقـة العلـم الواحـد لمعلـومات مخـتلفـة،
____________
(1) المواقف: 289، شرح المواقف 8 / 78.
وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية، فلأنّه ـ بعد فرض أنّ علمَـه تعـالى صفـةٌ وجـوديـةٌ ـ لم يـدرك العقـل فرقـاً بـين علمـه تعـالى، و [بين] (1) علمِه بعلمِه، حتّى يقال: إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري، فإنّ الجميعَ علمُه، وعلمُه صفةٌ وجوديةٌ عندهم، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.
ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ; لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته، وليس هناك إلاّ انكشاف المعلومات له، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.
نعم، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة، لأُمور غير متناهية، في مراتب غير متناهية.
وأمّا ما أجاب [به] (2) عن المحال الرابع، فغير منطبق بكِلا شقَّي الترديد فيه على مراد المصنّف (رحمه الله)، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ; لأنّ الذات في نفسها ـ مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة، وغيرها من الصفات ـ خالية عن مقتضيات الإلهية، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات، ولا إله إلاّ الله، كان الله سـبحانه مركّباً، والتركيب ينفي الوجوب..
مع أنّ القول بإلهيـة المركّـب ـ لا الذات ـ في نفسها كفر بالإجماع والضـرورة.
وأمّـا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفات هي غير الذات
____________
(1 و 2) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السـياق.
هـذا، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) بكلامه المذكور إلى المحال الثاني، ويكون حاصله:
مَن وصف الله سـبحانه فقد قرنه بغيره ; وهو صفاته..
ومَن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ; لِما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب، فتكون واجبة الوجود بنفسها، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته، فيتعدّد الواجب..
ومَن عدّده وثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد صيّره ممكناً وجهله.
والله ووليّـه أعلم.
إنّ قولنا: " الصفات ليست عين الذات، ولا غيرها " اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.
وفيه: إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقةً ـ كما سمعت بعضها ـ، فكيف يكون اصطلاحاً واعتباراً مجرّداً؟!
وبالجملـة: إن أرادوا به الحقيقة، فهو غير معقول، كما بيّنه المصنّـف (رحمه الله).
وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح، فلا مشـاحّـة.
لكن ما بالهم يجيبون به عن الأُمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بُـدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!
البقـاء ليـس زائداً على الذات
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المبحـث التـاسـع
في البقاء
وفيه مطلبان:
[المطلب] الأوّل
إنّه ليس زائداً على الذات
وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته، وهو عرض قائم بالباقي، وأنّ الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته(2).
ولزمهم من ذلك المحال ـ الذي تجزم الضرورة ببطلانه ـ من وجوه:
الأوّل: إنّ البقاء إنْ عُني به الاستمرار، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتيـة ; وهو محال بالضرورة.
بيان الملازمة: إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود، كذا
____________
(1) نهج الحقّ: 65 ـ 67.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 259 وما بعدها، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 252، شرح المقاصد 4 / 164 ـ 168، شرح المواقف 8 / 106، شرح التجريد: 422 ـ 423.
وإنْ عُني به صفةً زائدةً على الاستمرار، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ; دار..
وإنْ لم يحتج أحدهما إلى الآخر، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ; وهو باطل بالضرورة..
وإن احتاج أحدهما [إلى صاحبه] خاصةً، انفكّ الآخر عنه ; وهو ضروري البطلان.
الثاني: إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ; لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر..
فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر ـ الذي فُرِض باقياً ـ كان كلٌّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجاً إلى صاحبه ; وهو عين الدور المحال.
وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ; وهو غير معقول.
أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني، وهو خطأ ; لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهراً [مجرّداً]، والبقاء لا يُعقل إلاّ عرضاً قائماً بغيـره.
وأيضاً: يلزم أن يكون هو بالذاتية أَوْلى من الذات، وتكون الذات بالوصفيّة أَوْلى منه ; لأنّه مجرّد مستغن عن الذات، والذات محتاجة إليه.. والمحتاج أَوْلى بالوصفـيّة من المستغني، والمستغني أَوْلى بالذاتية من
الثالث: إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنياً عن هذا البقاء، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ; لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجاً بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنياً عنه.
وقال الفضـل(1):
اتّفق المتكلّمون على أنّه تعالى باق، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟
فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه، وجمهور معتزلة بغداد(2)إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود، إذ الوجود متحقّق دونه [أي دون البقاء] كما في أوّل الحدوث، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء(3).
ونفى كون البقاء صفة موجودة زائـدة كثيرٌ من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر، وإمام الحرميـن، والإمام الرازي(4)، وجمهـور معتـزلة
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 247 ـ 249.
(2) منهم: بشر بن المعتمر الهلالي (ت 210 هـ)، وثمامة بن الأشرس البصري (ت 213 هـ)، وأبو جعفر محمّـد بن عبـد الله الإسكافي (ت 240 هـ)، وعيسى بن الهيثم الصوفي الخيّاط (ت 245 هـ)، وأبو القاسم عبـد الله بن أحمـد البلخي الكعبي (ت 319 هـ).
(3) انظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 259، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 252، شرح المواقف 8 / 106.
(4) أمّا القاضي أبو بكر فهو: محمّـد بن الطيّب بن محمّـد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاّني، المتكلّم، المالكي مذهباً، الأشعري اعتقاداً وطريقة.
وُلد سنة 338 هـ، وسكن بغداد وتوفّي بها سنة 403 هـ، من تصانيفه: إعجاز القرآن، الملل والنحل، وهداية المسترشدين في الكلام، وتمهيد الأوائل، والإنصاف.
انظر في ترجمته: ترتيب المدارك 2 / 585، وفيات الأعيان 4 / 269 رقم 608، سير أعلام النبلاء 17 / 190 رقم 110، شذرات الذهب 3 / 168، هديّة العارفين 6 / 59.
وأمّا إمام الحرمين فهو: ضياء الدين أبو المعالي عبـد الملك بن عبـد الله بن يوسف الجويني، الفقيه الشافعي.
ولد سنة 419 هـ، قدم بغداد ثمّ سافر وجاور مكّة والمدينة، ورجع إلى نيسابور يدرّس العلم، ويعظ، إلى أن توفّي بها سنة 478 هـ ; من تصانيفه: الإرشاد في علم الكلام، البرهان في الأُصول، غياث الأُمم، نهاية المطلب.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان 3 / 167 رقم 378، سير أعلام النبلاء 18 / 468 رقم 240، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 5 / 165 رقم 477، شذرات الذهب 3 / 358، هديّة العارفين 5 / 626.
وأمّا الرازي فهو: أبو عبـد الله فخر الدين محمّـد بن عمر بن الحسين بن الحسن، الفقيه الشافعي، المعروف بابن الخطيب.
وُلد بالريّ سنة 543 هـ أو 544 هـ، وتوفّي بمدينة هراة سنة 606 هـ، له تصانيف كثيره في فنون عديدة، منها: تفسير القرآن الكريم، المطالب العالية، نهاية العقول، الأربعين في أُصول الدين، المحصّل، إبطال القياس.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان 4 / 248 رقم 600، سير أعلام النبلاء 21 / 500 رقم 261، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 8 / 81 رقم 1089، شذرات الذهب 5 / 21، هديّة العارفين 6 / 107.
ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري، فنقول: أَوردَ عليه ثلاث إيرادات:
الأوّل:
إنّ البقاء إنْ عُني به الاستمرار، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية... إلى آخر الدليل.
____________
(1) منهم: واصل بن عطاء (ت 131 هـ)، وعمرو بن عبيـد (ت 141 هـ)، وأبو بكر الأصمّ (ت 200 هـ)، وإبراهيم النظّام (ت 231 هـ)، وأبو الهـذيل العـلاّف (ت 235 هـ)، وأبو علي الجبّائي (ت 303 هـ)، وأبو هاشم الجبّائي (ت 321 هـ).
(2) انظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 259، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 252، شرح المواقف 8 / 106.
الثاني:
إنّ وجـود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور...
ثمّ ذكرَ أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ...
وهذا الجواب افـتراء عليهم!(1).
بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه، وما قيل [من] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به، ممنوع ; غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلاّ مع البقاء، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معاً على سبيل الاتّفاق(2).
فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.
الثالث:
إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنياً، كان في الثاني كذلك.
والجواب:
إنّ جميع أفراد الوجود محتاجٌ إلى البقاء في الزمان الثاني، غنيٌّ عنه في الزمان الأوّل، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتـيَّـين..
وهو حسِب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد، وفي الزمان الثاني فرد آخر، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!
____________
(1) بل حكاه الفخر الرازي في: الأربعين في أُصول الدين 1 / 260 ـ 261، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 253.
(2) انظر: شرح المواقف 8 / 108.
وأقـول:
ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء، ضروري البطلان ; لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجـدّدة.
ولو سُلّم، فلا يدلّ على كونها وجودية، بل يجوز أن تكون اعتبارية ـ كما هو الحقّ ـ كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحـوادث.
وذكر شارحُ " المواقف " الجوابَ الأخير وعلم به الخصم(1)، فإنّ ما ذكره من كـيفية الخلاف قد أخذه من " المواقف " وشرحها(2)، فكان الأَحرى به تركـه.
وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الأوّل، ففيه:
إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار، لكن إذا كان البقاء صفة للـوجود، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود، فإنّه لا يدّعيه عاقل، وذلك نظير الوجود، فإنّـه عبـارة عن الثبـوت، فإذا كان وصفـاً لزيـد، كان عبـارة عن ثبوتـه، ولا يصحّ أن يقال: إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ; فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.
____________
(1) شرح المواقف 8 / 107.
(2) المواقف: 296 ـ 297، شرح المواقف 8 / 106 ـ 108.
وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني، ففيه:
إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ; وهو غير معقول ; لا من طرف الذات ; لاستلزامه جواز أن لا تبقى، فتكون ممكنة ; ولا من طرف البقاء ; لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.
وأيضـاً: لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقياً، لكان البقاء مستغنياً في نفسه عن الذات، فيكون جوهراً، وهو غير معقول ; ويكون واجباً إن استغنى عن غيرها أيضاً ; أو ممكناً إن احتاج إليه ; ولا بُـدّ أن ينتهي إلى واجب آخر، فيكون مع الذات واجب آخر، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجـوب.
وأيضـاً: لو استغنى البقاء عنها، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.
فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة ـ وإنْ كان بعض ما زدناه وارداً أيضاً على ما نقله المصنّف عنهم ـ فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!
لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير " المواقف "، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب، على أنّ جواب " المواقف " وشرحها ـ الذي ذكره ـ مشتمل على ما نقله المصنّف ; لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقياً، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.
وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث:
فأجنبيٌّ عن الإشكال.. لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنياً عن البقاء، وفي الزمن الثاني محتاجاً إليه..
نعم، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود: أحدهما: الوجود في الزمن الأوّل، وثانيهما: الوجود في الزمن الثاني..
فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ; لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجاً بذاته إلى شيء، وبعض أفرادها مستغنياً عنه، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ; لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتاً(1)، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.
ولو بنى المصنّف (رحمه الله) الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفاً بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.
وقد كان الأَوْلى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كِلا الوجهين.
____________
(1) انظر مؤدّاه في شرح المواقف 8 / 106 ـ 107.
إنّه تعالى باق لذاته
قال المصنّـف ـ نوّر الله ضريحه ـ(1):
المطلب الثـاني
في أنّ الله تعالى باق لذاته
الحقّ ذلك ; لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكناً، فلا يكون واجباً ; للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.
وخالفت الأشاعرة في ذلك، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء(2).
وهو خطأ لِما تقدّم(3) ; ولأنّ البقاء إنْ قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى، مع أنّ ذاته محتاجة إلى البقاء، فيدور.
وإنْ قام بغيره كان وصف الشيء حالاًّ في غيره ; ولأنّ غيره محدَث.
وإنْ قام البقاء بذاته كان مجرّداً.
وأيضـاً: بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ; ولأنّه يلزم أن يكون محلاًّ للحوادث، فيكون له بقاء آخر، ويتسلسل.
وأيضـاً: صفاته تعالى باقية، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.
____________
(1) نهج الحقّ: 67.
(2) شرح المواقف 8 / 106 ـ 108.
(3) راجع: المبحث التاسع، الصفحة 285 وما بعدها.
وقال الفضـل(1):
قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل..
قوله: " لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكناً ".
قلنا: الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكناً.
قوله: " ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ".
قلنا: لا يلزم التكثّر ; لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّـيّة.
قوله: " احتاج البقاء إلى ذاته، وذاته محتاجة إلى البقاء، فيلزم الـدور ".
قلنا: مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء، بل هما متحقّقان معاً كما سبق(2)، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه، بل هما متحقّقان معاً.
قوله: " بقاؤه باق ".
قلنا: مُسلّم، فالبقاء موصوفٌ ببقاء هو عين ذلك البقاء، كاتّصاف الوجود بالوجود.
قوله: " ولأنّه يلزم أن يكون محلاًّ للحوادث ".
قلنا: ممنوع ; لأنّا قائلون بقدمه.
قوله: " يكون له بقاء آخر، ويتسلسل ".
قلنا: مندفع بما سبق من أنّ بقاءَ البقاءِ نفسُ البقاء.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 252.
(2) تقدّم في الصفحة 290 من هذا الجزء.
قلنا: قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّـيّة، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات، وتبقى الصفات ببقاء الذات، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.
وأقـول:
ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم: إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّـيّة.
وقد عرفت أنّه لا طائل تحته، إذ لا يرجع إلاّ لإصلاح لفظي، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود، فتغاير الذات بالكلّـيّة، فيلزم إمكان الذات، لحاجتها في الوجود إلى غيرها، وهو البقاء، ويلزم التكثّر.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور، من عدم احتياج الذات إلى البقاء، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف: " بقاؤه باق "، من أنّ بقاء البقاء عينـه، ففيه:
إنّه لو ساغ ذلك فَلِمَ لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع أنّه باطل على مذهبهم ; لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض(1) ; لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالماً لا علم له، وقادراً لا قدرة له، وباقياً لا بقاء له، وهكذا...
فإذا قالوا: إنّ بقاء البقاء عينه، كان البقاء باقياً لا بقاء له، وهو باطل بزعمهم(2).
____________
(1) المواقف: 280.
(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 252 ـ 253، المواقف: 296 ـ 297، شرح المواقف 8 / 106 ـ 108.
فيقال: تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء، فيلزمهم أيضاً أن يكون بقاء البقاء أيضاً صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء، لا أنّها عينه.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف: " ولأنّه يلزم أن يكون محلاًّ للحوادث "..
فهو دالٌّ على أنّه لم يفهم مراده، فإنّه لم يدّعِ أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه، بل أراد أن يستدلّ على قوله: " بقاؤه باق " بأمرين:
الأوّل: امتناع طرق العدم إلى صفاته.
الثاني: إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء، لكان البقاء حادثاً ; لأنّ ما يجوز عدمه حادث، ولو كان البقاء حادثاً لكان الواجب محلاًّ للحوادث، فلا بُـدّ أن يكون البقاء باقياً، وهكذا.. ويتسلسل.
وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات، وهو ليس بمحال ; لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعاً وإن خالفه اعتباراً.
وفيـه: إنّه مستلزم لكون البقاء أيضاً اعتبارياً، فَلِمَ قالوا: إنّه صفة وجوديّة؟!(1) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.
____________
(1) انظر: شرح المواقف 8 / 106.