الصفحة 316

قال في " شرح المواقف " بعد ذِكر الماتن لهذا الجواب ـ أعنـي أنّ بقاء البقاء نفسه ـ: " ويرد على هذا الجواب أنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتبارياً كما مرّ "(1).

ولا يخفى أنّ ما نسبه الخصم إلى قومه من قِدم البقاء غير صحيح بمقتضى تعليلهم لزيادة البقاء على الذات، فإنّهم علّلوه ـ كما سبق ـ بأنّ الوجود متحقّق دونه كما في أوّل الحدوث ; وهذا يدلّ على اعتبار المسبوقية بالعدم في ذات البقاء، وهو يقتضي حدوثه.

وأمّا ما أجاب به عن إيراد المصنّف الأخير، ففيه ما عرفت سابقاً من أنّ نفي المغايرة اصطلاح محض، فإنّهم إذا قالوا بزيادة الصفات على الذات في الوجـود كانـت المغـايرة بـينهما كلّـيّة، فيكـون بقاء البقـاء صفة للبقـاء لا للذات، وقائماً به لا بالذات، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.

وهذا من المصنّف إلزامي لهم، من حيث إنّ البقاء عندهم عرض وجودي، وزعمهم أنّ العرض لا يقوم بالعرض(2) ـ كما ستعرفه قريباً إن شاء الله تعالى ـ، وإلاّ فهو لا يمنع من قيام العرض بالعرض ـ كما ستعرف ـ.

على أنّ كلّ بقاء عند المصنّف والإمامية أمر اعتباري(3)، فيجوز أن يفرض قيامه بمثله حتّى لو منعنا قيام العرض بالعرض.

*    *    *

____________

(1) شرح المواقف 8 / 107.

(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 161، طوالع الأنوار: 104، مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار: 73.

(3) تلخيص المحصّل: 293.


الصفحة 317

الصفحة 318

البقاء يصحّ على الأجسام

قال المصنّـف ـ طـيّب الله ثراه ـ(1):

خاتمـة

تشـتمل على حكمين:

[الحكم] الأوّل
البقاء يصحّ على الأجسام(2) [بأسـرها]

وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك، وخالف فيه النظّام من الجمهور، فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها، بل كلّ آن يوجَد فيه جسمٌ ما، يُعدَم ذلك الجسم في الآن الذي بعده، ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام ـ فَـلَـكِـيّها وعُنصريّها، بسيطها ومركّبها، ناطقها وغيره ـ آنَـيْن(3).

ولا شكّ في بطلان هذا القول ; لقضاء الضرورة بأنّ الجسم الذي شاهدته حال فتح العين، هو الذي شاهدته قبل تغميضها، والمنكر لذلك

____________

(1) نهج الحقّ: 68.

(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 188، المواقف: 250، شرح المواقف 7 / 231، أوائل المقالات: 98، تجريد الاعتقاد: 153.

(3) الفَرق بين الفِرق: 126، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 188، المواقف: 103، أوائل المقالات: 98.


الصفحة 319
سوفسطائي.

بل السوفسطائي لا يشكّ في أنّ بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن، وأنّه لم يتبدّل بدنه من أوّل لحظة إلى آخرها ; وهؤلاء جزموا بالتبـدّل.

*    *    *


الصفحة 320

وقال الفضـل(1):

الجسـم عند النظّـام مركّـب من مجموع أعراض مجتمعة(2)، والعرض لا يبقى زمانين(3) لِما سنذكر بعد هذا، فالجسم أيضاً يكون كذلك عنـده.

والحقّ أنّ ضرورية موجودية البقاء، وعدم جواز قيام العرض بالعرض(4)، دعانا إلى الحكم بأنّ الأعراض لا تبقى زمانين، وليست هذه الضرورة حاصلة في الأجسام ; لجواز قيام البقاء بالجسم.

وأمّا ما ذهب إليه النظّام أنّ الجسم مجموع الأعراض المجتمعة، فباطل ; فمذهبه في عدم صحّة البقاء على الأجسام يكون باطلا، كما ذكره.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 256.

(2) انظر: مقالات الإسلاميّين: 304، الفَرق بين الفِرق: 137، الملل والنحل 1 / 49 المسألة السابعة، المواقف: 185.

(3) الملل والنحل 1 / 84، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 162 ـ 163، المواقف: 101 و 245، شرح المقاصد 2 / 160، شرح المواقف 7 / 222.

(4) انظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 161 ـ 162، طوالع الأنوار: 104، المواقف: 100 ـ 103، شرح المقاصد 2 / 160.


الصفحة 321

وأقـول:

قد عرفت أنّ دعوى موجودية البقاء زائداً على الوجود من أوضح الأُمور بطلاناً، وأكثرها فساداً، حتّى عند جملة من الأشاعرة(1)، فكيف يدّعي ضرورة موجوديّـتـه؟!

وأعجب منها دعوى الضرورة في عدم جواز قيام العرض بالعرض! والحال أنّ قيام البطء والسرعة بالحركة من أوضح الضروريات(2) ; وسيظهر لك الحال في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.

فمذهب الأشاعرة، من أنّ العرض لا يبقى زمانين، مخالف للضرورة.

وأعظم منه مخالفة لها مذهب النظّام ; لاشتماله على مذهب الأشاعرة، وعلى أنّ الجسم مركّب من الأعراض.

*    *    *

____________

(1) راجع: الأربعين في أُصول الدين 1 / 264 ـ 265، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 252 ـ 253، شرح المقاصد 4 / 166 ـ 167.

(2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 289، منهاج اليقين في أُصول الدين: 129.


الصفحة 322

البقاء يصحّ على الأعراض

قال المصنّـف ـ عطّر الله مثواه ـ(1):

الحكم الثاني
في صحّة بقاء الأعراض

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غير باقية، بل كلّ لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون، وحصول في مكان، وحيـاة، وعلم، وقـدرة، وتركيـب، وغير ذلك من الأعراض، فإنّه لا يجوز أن يوجد آنين متّصلين، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجـوده(2).

وهذه مـكابرة للحـسّ، وتكذيـب للضرورة الحاكمة بخـلافه، فإنّـه لا حكم أجلى عند العقل من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها، وأنّه لم يُعدم ولم يتغيّر.

وأيّ حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه؟!

ثمّ إنّه يلزم منه محالات:

____________

(1) نهج الحقّ: 68 ـ 71.

(2) تمهيد الأوائل: 38، الملل والنحل 1 / 84 و 3 / 604، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 162، شرح المقاصد 4 / 43، شرح العقائد النسفية: 79 وما بعدها، شرح المواقف 7 / 222 ـ 223.


الصفحة 323
الأوّل: أن يكون الإنسان وغيره يُعدَم في كلّ آن ثمّ يوجَد في آن بعده ; لأنّ الإنسان ليس إنساناً باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم، بل لا بُـدّ في تحقّق كونه إنساناً من أعراض قائمة بتلك الجواهر، من لون، وشكل، ومقدار، وغيرها من مشخّصاته.

ومعلوم بالضروة أنّ كلّ عاقل يجد نفسه باقية لا تتغيّر في كلّ آن، ومن خالف ذلك كان سوفسطائياً.

وهل إنكار السوفسطائيّين للقضايا الحسّية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كلّ أحد بقاءَ ذاته وبقاءَ جميع المشاهَدات آنين من الزمان؟!

فلينظر المقلّد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامه الذي قلّده، ويعرض على عقله حكمه بها، وهل يقصر حكمه ببقائه، وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات؟!

ويعلم أنّ إمامه الذي قلّده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة، فقد قلّد من لا يستحقّ التقليد، وأنّه قد التجأ إلى ركن غير شديد، وإن لم يقصر ذهنه فقد غشّه وأخفى عنه مذهبه.. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من غشّـنا فليـس منّـا "(1).

الثاني: إنّه يلزم تكذيب الحسّ الدالّ على الوحدة وعدم التغيّر، كما تـقدّم.

الثالث: إنّه لو لم يبق العرض إلاّ آناً واحداً لم يدم نوعه(2)، وكان

____________

(1) صحيح مسلم 1 / 69، المعجم الصغير ـ للطبراني ـ 1 / 261، المصنّـف ـ لابن أبي شيبة ـ 5 / 383 ح 1 كتاب البيوع والأقضية / باب رقم 522، المستدرك على الصحيحين 2 / 11 ح 2155 و ص 12 ح 2156.

(2) وفي نسخة: لم يلزم تأيـيد نوعه ; منه (قدس سره).


الصفحة 324
السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر، بل جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيء من الألوان، إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول، لكنّ دوامه يدلّ على وجوب بقائه.

الرابع: لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ، لجوّز ذلك في الجسم، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ.

وهذا الدليل لا يتمشّى ; لانتقاضه بالأعراض عندهم، فيكون باطلا، فلا يمكن الحكم ببقاء شيء من الأجسام آنين، لكن الشكّ في ذلك عين السفسطة.

الخامس: إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي ضروري، وإلاّ لم يبق وثوق بشيء من القضايا البديهية.

وجاز أن ينقلب العالَم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود، فيستغني عن المؤثّر فيسدّ باب إثبات الصانع تعالى، بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى الامتناع(1)، وهو ضروري البطلان.

وإذا تقـرّر ذلك فنقول:

الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل، فتكون كذلك في الآن الثاني، وإلاّ لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي، وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.

وقد احتجّوا بوجهين:

____________

(1) راجع: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 162، شرح التجريد: 43، ومؤدّاه في: طوالع الأنوار: 89.


الصفحة 325
الأوّل: البقاء عرض فلا يقوم بالعرض(1).

الثاني: إنّ العرض لو بقي لَما عُدم ; لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته، وإلاّ لكان ممتنعاً، ولا إلى الفاعل ; لأنّ أثر الفاعل الإيجاد، ولا إلى طريان الضدّ ; لأنّ طريان الضدّ على المحلّ مشروط بعدم الضدّ الأوّل عنه.

فلو علّل ذلك العدم به دار، ولا إلى انتفاء شرطه ; لأنّ شرطه الجوهر لا غير وهو باق، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض(2).

والجواب عن الأوّل: المنع من كون البقاء عرضاً زائداً على الذات، سلّمنا ; لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله، فإنّ السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض.

وعن الثاني: إنّه لِـمَ لا يُعدم لذاته في الزمان الثالث، كما يُعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني؟! سلّمنا ; لكن جاز أن يكون مشروطاً بأعراض لا تبقى، فإذا انقطع وجودها عُدم، سلّمنا ; لكن يستند إلى الفاعل ونمنع انحصار أثره في الإيجاد، فإنّ العدم ممكن لا بُـدّ له من سبب، سلّمنا ; لكن يُعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضدّ الأوّل، بل الأمر بالعكس.

وبالجملة: فالاستدلال على نقيض الضروري باطل، كما في شبه السوفسطائية، فإنّها لا تسمع لمّا كانت الاستدلالات في مقابل الضرورات.

*    *    *

____________

(1) المواقف: 101، شرح المقاصد 2 / 157.

(2) انظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 162، المواقف: 101 ـ 103.


الصفحة 326

وقـال الفضـل(1):

ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا يبقى زمانيـن(2).

فالأعراض جملتها غير باقية عندهم، بل هي على التقضّي والتجدّد ينقضي منها واحد ويتجدّد آخر مثله(3).

وتخصيص كلّ من الآحاد المتقضّية المتجدّدة بوقته الذي وُجد فيه، إنّما هو للقادر المختار، فإنّه تخصيص بمجرّد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه، وإن كان يمكن خلقه قبل ذلك الوقت وبعده.

وإنّما ذهبوا إلى ذلك ; لأنّهم قالوا: بأنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث، فلزمهم استغناء العالَم حال بقائه عن الصانع، بحيث لو جاز عليه العدم ـ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراًـ لَما ضرّ عدمه في وجوده، فدفعوا ذلك بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض.

ولمّا كان هو متجدّداً محتاجاً إلى المؤثّر دائماً كان الجوهر أيضاً حال بقائه محتاجاً إلى ذلك المؤثّر بواسطة احتياج شرطه إليه، فلا استغناء أصلا.

واستدلّوا على هذا المدّعى بوجوه:

منها: إنّها لو بقيت لكانت باقية متّصفة ببقاء قائم بها، والبقاء عرض،

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 259.

(2) تمهيد الأوائل: 38، الملل والنحل 1 / 84، محصّـل أفكار المتـقدّمين والمتأخّرين: 162، شرح المواقف 7 / 222.

(3) ذكر ذلك الإيجي في المواقف: 101 عن الأشعري وغيره، وانظر: شرح المقاصد 2 / 161، شرح المواقف 5 / 37.


الصفحة 327
فيلزم قيام العرض بالعرض، وهو محال عندهم ; هذا هو المدّعى والدليل.

وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإمامية إلى بقاء الأعراض(1).

ودليلهم ـ كما ذكر هذا الرجل ـ أنّ القول بخلافه مكابرة للحسّ وتكذيب للضرورة.

والجواب: أنْ لا دلالة للمشاهدة، على أنّ المشاهَد أمر واحد مسـتمرّ ; لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل، كالماء الدافق من الأُنبوب، يُرى أمراً واحداً مستمرّاً بحسب المشاهدة، وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتّصال، فمن قال: إنّه أمثال متواردة، كان ينبغي ـ على ما يزعمه هذا الرجل ـ أن يكون سوفسطائياً منكراً للمحسوسات.

وكذا جالس السفينة، إذا حكم بأنّ الشطّ ليس بمتحرّك، كان ينبغي أن يُحكم بأنّه سوفسطائي ; لأنّه يحكم بخلاف الحسّ.

وقد صوّرنا قبل هذا مذهب السوفسطائية(2)، ويا ليت هذا الرجل كان لم يعرف لفظ السوفسطائي، فإنّه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلقه فيه وهو جاهل بمعنى السفسطة.

ثمّ ما قال: " أنْ لا حكم عند العقل أجلى من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ".

فنقول: حكم العقل ها هنا مستند إلى حكم الحسّ، ويمكن ورود الغلط للحسّ ; لأنّه كان يحسب المثل عين الأوّل، كما ذكرنا في مثال الماء الدافق من الأُنبوب.

____________

(1) انظر: تلخيص المحصّل: 180، المواقف: 101.

(2) انظر الصفحة 75 من هذا الجزء.


الصفحة 328
وكثير من الأحكام يكون عند العقل جليّاً بواسطة غلط الحسّ، فمن خالف ذلك الحكم كيف يقال: إنّه مكابرٌ للضرورة؟!

ثمّ ذكر خمس محالات ترد على مذهبهم:

الأوّل: " إنّ الإنسان وغيره يُعدم في كلّ آن، ثمّ يُوجد في آن بعده ; لأنّ الإنسان ليس إنساناً باعتبار الجواهر الأفراد، بل لا بُـدّ في إنسانيّته من اللون والشكل، وكلّ هذه أعراض، ومعلوم أنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّها باقية لا تتبدّل في كلّ آن، ومخالفة هذا سفسطة ".

والجواب: إنّ الأشـخاص في الوجود الخارجي يتمايزون بهويّـاتها لا بمشخّصاتها كما يتبادر إليه الوهم في الهوية الخارجية، التي بها الإنسان إنسان باق في جميع الأزمنة، وإن توارد عليه الأمثال من الأعراض.

فهذه المشخّصات ليست داخلة في ذاته وهويّته العينية، حتّى يلزم من تبدّلها تبدّل الإنسان، فذات الإنسان وهويّته المشخّصة له باقية في جميع الأحوال ويتوارد عليه الأعراض، وأيّ سفسطة في هذا؟! والطامات والخرافات التي يريد أن يميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها!

الثاني: " إنّه يلزم تكذيب الحس ".

وقد عرفت جوابه.

الثالث: " إنّه لو لم يبق العرض إلاّ آناً واحداً لم يلزم تأبيد نوعه، فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر ".. إلى آخر الدليل.

والجواب: إنّ السواد إذا فاض على الجسم أعَدَّ الجسمَ لأنْ يَفيض عليه سوادٌ مثله، والمفيض للسواد هو الفاعل المختار، لكن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد وإن جاز التخلّف، ولزوم النوع يدلّ على

الصفحة 329
وجوب إفاضة المثل.

وهذا لا ينافي قاعدة القوم في إسناد الأشياء إلى اختيار الفاعل القادر.

الرابع: " لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ، لجوّز ذلك في الجسم، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ ".

والجواب: إنّ الأصل بقاء كلّ موجود مستمرّ، فالحكم ببقاء الجسم لأنّه على الأصل، وتخلّف حكم الأصل في الأعراض لدليل خارجي، فعدم الحكم ببقاء الأعراض لم يكن منافياً للحكم ببقاء الأجسام.

وأمّا ما قال: " إنّ الشكّ في ذلك عين السفسطة ".

فقد مرّ جوابه.

الخامس: " إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري ".. إلى آخر الدليل.

والجواب: إنّ الأعراض كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل، وكذلك في الآن الثاني.

قوله: " وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء ".

قلنا: إمكان الوجود غير إمكان البقاء، فجاز أن يكون العرض ممكن الوجود في الآن الثاني ولا يكون ممـكن البقاء، وليس على هذا التقرير شيء من الانقلاب الذي ذكره، وهذا استدلال في غاية الضعف كما هو ديدنه في الاستدلالات المزخرفة.

ثمّ إنّ ما ذكر من الدليلين اللذين احتجّ بهما الأشاعرة، فأوّل الدليلين قد ذكرناه.


الصفحة 330
وما أورد عليه من منع امتناع قيام العرض بالعرض، ومنع كون البقاء زائداً وثبوتهما مذهب للشيخ الأشعري، وقد استدلّ عليهما في محلّه، فليراجـع.

وثاني الدليلين مدخول بما ذكر وبغيره من الأشياء، وقد ذكره علماء السُـنّة والأشاعرة، منهم صاحب " المواقف " وغيره، فاعتراضاته على ذلك الدليل منقولة من كتب أصحابنا.

*    *    *


الصفحة 331

وأقـول:

لا يخفى أنّه إنّما ذكر قوله: " إنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث " لزعمه ـ تبعاً لغيره ـ أنّ ذلك مبرّر لقولهم بعدم بقاء الأعراض ; لأنّ دفع لزوم استغناء العالَم ـ بناءً على كون سبب الحاجة هو الحدوث ـ يتوقّف على القول بتجدّد العرض وعدم بقائه.

وفيـه ـ مع فساد المبنى ـ: منع التوقّف ; لأنّ الباقي حادث وإنْ لم يكن متجدّداً، فيحتاج إلى المؤثّر.

نعم، لو أُريد بالحدوث الخروج من العدم إلى الوجود، كان للالتجاء إلى القول بعدم بقاء الأعراض وجه.

وأمّا ما أنكره من اعتبار حكم المشاهدة، فخطأ ; فإنّا لو جوّزنا الغلط على جميع الحواسّ في جميع الأوقات، بإحساسها لبقاء الأعراض، ولم نعتبر دلالة المشاهدة، لم يمكن أن نستفيد حكماً عقلياً من الحسّ ; لأنّ الأحكام العقليّة النظرية والضرورية لا تؤخذ إلاّ من الحسّ الظاهري، أو الحسّ الباطني بواسطة الظاهري ـ كما عرفته في أوّل الكتاب(1) ـ، فلو لم نعتبر مثل تلك المشاهدة العامة لم يصحّ التعويل على حسّ ظاهري.

وأمّا ما استشهد به من غلط الحسّ في الماء الدافق من الأُنبوب وجالس السفينة، فخطأ آخر ; لأنّ الحسّ لا يحكم بوحدة الماء الدافق كما يحكم بوحدة السواد في الثوب، بل يرى مياهاً متّصلة متدافعة تسمّى في

____________

(1) انظر الصفحات 48 ـ 50 من هذا الجزء.


الصفحة 332
العرف ماءً واحداً باعتبار اتّصالها وصدق اسم الماء على المتّصل، كماء الشـطّ.

ولم سُلّم، فالعقل الضروري يحكم بأنّه من توارد الأمثال، وأنّ الوحدة خيالية بسبب إدراك البصر أو غيره من الحواسّ للمادّة وتدافعها.

وأمّا جالس السفينة، فهو وإنْ رأى أحياناً سكون الماء لاتّفاق السفينة والماء في السير، لكنّ البصر نفسه يراه متحرّكاً في أغلب الأوقات، بل يراه متحرّكاً فعلا عند التدقيق، فيحكم العقل بأنّ ذلك السكون الاتّفاقي خيالي ; فكيف يقاس على ذلك مشاهدة البصر لوحده، مثل السواد في الثوب، التي لا يخالفها الحسّ في وقت أو حال؟!

وبالجملـة: لا ننكر غلط الحسّ أحياناً، ولكن ننكر عدم اعتباره في أجلى الأُمور وأوضحها عند العقل.

وأمّـا ما صوّر به سابقاً مذهب السوفسطائية، فـقد عرفت فيه الكـلام(1).

وأمّا ما أجاب به عن أوّل المحالات، من أنّ الأشخاص تتمايز بهويّاتها لا بمشخّصاتها.. ففيـه:

إنّ إيراد المصنّف إنّما هو من باب الإلزام لهم، إذ يقولون بالجواهر الفردة(2)، فلم يكن لذات الإنسان هويّة واحدة، وكذلك كلّ جسم، فلا بُـدّ أن يكون تمايز الأفراد بالمشخّصات الخارجة.

أمّا إذا التزم بتمايز الأشخاص بتمايز الهويّات، فلينكر الجواهر

____________

(1) انظر الصفحة 78 من هذا الجزء.

(2) انظر: طوالع الأنوار: 133، شرح المقاصد 3 / 5، شرح العقائد النسفية: 77.


الصفحة 333
الفردة، إذ يكون الشخص موجوداً واحداً، لا مركّباً من موجودات متعدّدة، هي الجواهر الفردة.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن ثاني المحالات، فقد عرفت ما فيـه.

وأمّا جوابه عن ثالثها، ففيه:

إنّ الجسم لذاته مسـتعدّ لإفاضـة كلّ لون عليه، فلو فـرض أنّ اللون لا يـبقى بـه، كان بعـد زوالـه عنه على اسـتعداده لعـروض أي لون عليـه، لا خصوص ما عرض أوّلا، فدعوى ثبوت العادة على إفاضة خصوص المثل لأجل اختصاص الاستعداد به خطـأ.

وأمّا ما أجاب به عن رابع المحالات، ففيه:

إنّه لا مستند للأصل الذي ادّعاه إلاّ ظهور حال المستمرّ في البقاء بمقتضى ما يشاهده الحسّ، وحينئـذ فإنْ أفاد هذا الظهور اليقيـن بالبقـاء فلا وجه لمخالفته في الأعراض، وإنْ لم يفد اليقين فلا يمكن الحكم اليقيني لهم أيضاً ببقاء شيء من الأجسام، والشكّ فيه عين السفسطة.

مضافاً إلى أنّه لا دليل لهم على التخلّف عن الأصل في الأعراض سوى ثلاثة أدلّة باطلة ـ حتّى عندهم ـ، واختار المصنّف للذِكر أقواها، وهو: الدليلان اللذان أبطلهما(1).

وأمّا ما أجاب به عن خامسها، من أنّ إمكان الوجود غير إمكان البقاء، ففيه:

إنّ البقاء عبارة عن استمرار الوجود ـ كما ذكره نفسه سابقاً ـ

____________

(1) والدليل الثالث هو: جواز خلق مثله في محلّه في الحالة الثانية إجماعاً ; انظر: المواقف: 101، شرح المواقف 5 / 39.


الصفحة 334
وبالضرورة أنّه إذا امتنع استمرار الوجود، امتنع الوجود في الزمن الثاني وإن اختلفا مفهوماً، بل جعل البقاء سابقاً من الأمثال المتواردة، فإذا فرض إمكان الوجود في الزمن الأوّل وامتناع البقاء، لزمه امتناع الوجود في الزمن الثاني ولزم الانقلاب، كما ذكره المصنّف.

فلا بُـدّ أن نقول: الأعراض متى كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل، كانت ممكنة البقاء والوجود في الآن الثاني، وإلاّ لزم الانقلاب.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى دليلَي الأشاعرة، فليس فيه إلاّ تسليم بطلان ثانيهما، والإحالة في ترويج أوّلهما على غيره، مع علمه بأنّه قد أبطله في " المواقف " وشرحها(1) بما أبطله به المصنّف.

وأمّا ما زعمه من أنّ المصنّف نقل اعتراضاته على الدليل الثاني عن الأشاعرة، كصاحب " المواقف " وغيره، فهو جهل ; لأنّ " المواقف " وغيرها ـ ممّا قارنها زماناً أو تأخّر عنها ـ متأخّرة عن زمان المصنّف(2).

وإنّما حرّر صاحب " المواقف " التي هي أجمع كتاب لهم، تلك الاعتراضات وغيرها آخذاً من المصنّف (رحمه الله) وغيره من علماء الإمامية، وإلاّ فالأشاعرة غالباً مقلّدون لشيخهم الأشعري تقلّيداً أعمى.

*    *    *

____________

(1) المواقف: 101 ـ 103، شرح المواقف 5 / 39 ـ 50.

(2) فقد ألّف العلاّمة الحلّي (قدس سره) كتابه " نهج الحقّ وكشف الصدق " بطلب من السلطان أُولجايتو خدا بنده محمّـد الذي توفّي في شهر رمضان من سنة 716 هـ، ووُلد صاحب " المواقف " عبـد الرحمن بن أحمد الإيجي سنة 708 هـ، وعليه: فإنّ العلاّمة الحلّي كان قد فرغ من كتابه هذا وللإيجي آنذاك أقلّ من ثماني سنوات.

انظر: البداية والنهاية 14 / 62، معجم المؤلّفين 2 / 76 رقم 6756، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 24 / 416 رقم 2183.


الصفحة 335

الصفحة 336

القِـدَم والحدوث اعتباريّـان

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

المبحـث العـاشـر
في أنّ القِدَم والحدوث اعتباريّـان

ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ القِدَم وصف ثبوتي قائم بذات الله تعـالى(2).

وذهبت الكـرّامية إلى أنّ الحدوث وصف ثبوتي قائم بذات الحـادث(3).

وكِلا القولين باطل ; لأنّ القِدَم لو كان موجوداً مغايراً للذات، لكان إمّا قديماً، أو حادثاً..

فإن كان قديماً كان له قِدَم آخر ويتسلسل.

وإن كان حادثاً كان الشيء موصوفاً بنقيضه، وكان الله تعالى محلاًّ

____________

(1) نهج الحقّ: 71.

(2) هو قول عبـد الله بن سعيد الكلابي، انظر: مقالات الإسلاميّين: 169 ـ 170، شرح الأُصول الخمسة: 183، تلخيص المحصّل: 126، المواقف: 297، شرح المواقف 8 / 109.

(3) الملل والنحل ـ للبغدادي ـ: 150، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 101، شرح العقائد النسفية: 102، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ: 425.


الصفحة 337
للحوادث، وكان الله تعالى قبل حدوثه ليس بقديم..

والكلّ معلوم البطلان.

وأمّا الحدوث، فإنْ كان قديماً لزم قدم الحادث الذي هو شرطه، وكان الشيء موصوفاً بنقيضه ; وإن كان حادثاً تسلسل.

والحـقّ: إنّ القِدَم والحدوث من الصفات الاعتباريّـة.

*    *    *


الصفحة 338

وقـال الفضـل(1):

ليس كون القِدَم وصفاً ثبوتياً مذهب الشيخ الأشعري، وما اطّلعت على قوله فيه.

وأمّا قوله: " لو كان القِدَم وصفاً ثبوتياً، فإمّا أن يكون قديماً فيكون له قِدَم آخر ويتسلسل ".

فالجواب عنه: إنّا لا نسلّم لزوم التسلسل، إذ قد يكون قِدَم القِدَم بنفسـه.

وأيضاً: جاز أن يكون قِدَم القِدَم أمراً اعتبارياً، فإنّ وجود فرد من أفراد الطبيعة لا يسـتلزم وجود جميعها.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 269.


الصفحة 339

وأقـول:

من المضحك اختلاف كلامه في سطر واحد، فإنّه زعم أنّ كون القِدَم وصفاً ثبوتياً ليس مذهب الأشعري، ثمّ عقّبه بقوله: " ما اطّلعت على قوله فيه "!

ولا يخفى أنّ جوابيه عن التسلسل راجعان إلى جواب واحد ; لأنّ إضافة القِدَم إلى القِدَم تستدعي التعدّد حقيقةً أو اعتباراً، فإذا انتفى الحقيقي لحكمه بأنّ قِدَم القِدَم نفسه، تعيّن التعدّد الاعتباري، وأن يكون قِدَم القِدَم اعتبارياً، فيكون الجواب الأوّل عين الثاني.

وفيـه: إنّ القِدَم سلبي ; لأنّه عبارة عن عدم المسبوقية بالغير أو بالعدم، فلا يمكن أن يكون ثبوتياً مع أنّه قد سبق أنّ التماثل في الأفراد يستدعي وحدة حقيقتها، وأنّ ما تكـرّر نوعه يجب كونه اعتبارياً.

وبالجملة: الماهيّـة الحقيقية لا يمكن أن يكون بعض أفرادها خارجياً والآخر ممتنعاً ذاتاً ـ كما هو ظاهر ـ، فكيف يمكن أن يكون بعض أفراد القِدَم ثبوتياً والبعض الآخر اعتبارياً ممتنع الوجود في الخارج، للزوم التسلسل؟!

وبهذا يعلم بطلان الجواب عن إشكال التسلسل في الحدوث لو أُجيب عنه بنحو ما أجاب الخصم عن إشكال التسلسل بالنسبة إلى قِدَم القِـدَم.

*    *    *