الصفحة 340

نـقل الخلاف في مسائل العدل

قال المصنّـف ـ قدّس سرّه ـ(1):

المبحث الحادي عشر
في العـدل

وفيه مطالـب:

[المطلب] الأوّل
في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب

إعلم أنّ هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية، بل الأحكام الدينية مطلقاً، وبدونه لا يتمّ شيء من الأديان، ولا يمكن أن يعلم صدق نبيّ من الأنبياء على الإطلاق إلاّ به، على ما نقرّره في ما بعد إن شاء الله تعـالى.

وبئس ما اختاره الإنسان لنفسه مذهباً خرج به عن جميع الأديان، ولم يمكنه أن يتعبّد الله تعالى بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة، ولم يجزم به على نجاة نبيّ مرسل أو ملَك مقرّب أو مطيع في جميع أفعاله من

____________

(1) نهج الحقّ: 72.


الصفحة 341
أولياء الله وخلصائه، ولا على عذاب أحد من الكفّار والمشركين وأنواع الفسّاق والعاصين.

فلينظر العاقل المقلّد، هل يجوز له أن يلقى الله تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة، والآراء الباطلة المستندة إلى اتّباع الشهوة والانقياد إلى المطامع؟!

*    *    *


الصفحة 342

وقـال الفضـل(1):

عقد هذا المبحث لإثبات العدل الذي ينتسـبون إليه هم والمعتزلة..

وحاصله: إنّهم يقولون باختيار العبد في الأفعال، وإنّه خالق أفعاله، وإلاّ لم يكن تعذيب العبد عدلا عند عدم الاختيار ; ويقولون بوجوب جزاء العاصي، وبالحسن والقبح العقليَّين، وغيرهما ممّا يذكره في هذا الفصل.

ويدّعي أنّ الخروج عن هذا يوجب عدم متابعة نبيّ من الأنبياء.

وهذا دعوى باطلة فاسدة.

ونحن إن شاء الله تعالى نذكر في هذا البحث كلّ مقالة من قولَي الإمامية والأشاعرة على حدة، ونذكر حقيقة تلك المسألة قائمين بالإنصاف إن شاء الله تعالى.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 272.


الصفحة 343

وأقـول:

ستعرف ما في دعواه القيام بالإنصاف كما يشهد لذلك قوله هنا: " يقولون بوجوب جزاء العاصي ".. فإنّه لا يريد به إلاّ التهويل ومجانبة الإنصاف ; لأنّا نقول: إنّ العقاب حقّ الله تعالى، وله العفو عن حقّه، كما سـتعرف.

نعم، لو أراد بوجوبه وجوب جعل أصل الجزاء على المعصية بلحاظ الاستحقاق وإنْ كان له العفو، كان صدقاً، وهو مذهبنا، ولكنّه لا يريده كما سـيتّـضح إن شاء الله تعالى.

*    *    *


الصفحة 344

الحسن والقبح عقليّان

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

قالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة:

إنّ الحسن والقبح عقليّان مسـتندان إلى صفات قائمة بالأفعال، أو وجوه واعتبارات تقع عليها(2).

وقالت الأشاعرة: إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء ألبتّة ولا يقبّحه، بل كلّ ما يقع في الوجود من أنواع الشرور: كالظلم، والعدوان، والقتل، والشرك، والإلحاد، وسـبّ الله تعالى، وسـبّ ملائكته وأنبـيائه وأوليائه، فإنّه حسـن(3).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 72.

(2) انظر رأي الإمامية في: الذخيرة في علم الكلام: 105 ـ 106، المنقذ من التقليد 1 / 161، تجريد الاعتقاد: 197.

وانظر رأي المعتزلة في: شرح الأُصول الخمسة: 301 وما بعدها، الملل والنحل 1 / 39، شرح المواقف 8 / 183.

(3) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر للرازي ـ 1 / 346 ـ 349، المواقف: 323، شرح المقاصد 4 / 282.


الصفحة 345

وقـال الفضـل(1):

الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة:

الأوّل: صفة الكمال والنقص... يقال: العلم حسن... والجهل قبيح... ولا نزاع في أنّ هذا... ثابت للصفات في أنفسها، وأنّ مدركه العقل، ولا تعلّق له بالشرع.

الثاني: ملاءمة الغرض ومنافرته... وقد يعبّر عنهما بهذا... المعنى بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح ما فيه مفسدة... ; وذلك أيضاً عقلي، أي يدركه العقل كالمعنى الأوّل...

الثالث: تعلّق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا، أو الذمّ والعقاب كذلك..

فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى: حسناً..

وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى: قبيحاً...

وهذا المعنى... هو محلّ النزاع، فهو عند الأشاعرة شرعي ; وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها... ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذمّ فاعله وعقابه، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها..

وعند المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية: عقلي(2).

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 274.

(2) إلى هنا أخذ الفضل ـ كعادته ـ مناقشته نصّاً من شرح المواقف 8 / 182 ـ 183.


الصفحة 346
وإدراك الحسن والقبح موقوف على حكم الشرع، والشرع كاشف عنهما في ما لا يستقلّ العقل بإدراكه، فالعقل حاكم.

فيا معشر العقلاء: بأيّ مذهب يلزم أن يكون الظلم والعدوان والقتل والشرك وسبّ الله ورسوله وما ذكره من الترّهات والطامات حسناً؟!

هل الشرع حَسَّنَ هذه الأشياء وحكم بحُسنه؟!

وعلى تقدير أن يكون حاكماً بالحُسن، هل يقول الأشاعرة: إنّ الشرع حَكم بحُسن هذه الأشياء حتّى يلزم ما يقول؟!

فعُلم أنّ الرجل كَـوْدَن(1) طامّاتي متعصّب، فتعصّب لنفسه لا لله ورسوله!

والعجب أنّه كان لا يأمل أنّ العقلاء ربّما ينظرون في هذا الكتاب فيُـفتضح عندهم، ما أجهله من رجل متعصّب، نعوذ بالله من شرّ الشيطان وشـركه!

*    *    *

____________

(1) الكودن: هو البِـرْذَوْن من الدوابّ، وقيل: هو الفيل، وقيل: البغل، ويشبّه به البليـد.

انظر مادّة " كدن " في: الصحاح 6 / 2187، لسان العرب 12 / 48، تاج العروس 18 / 475.


الصفحة 347

وأقـول:

نسب المصنّف أوّلا إلى الأشاعرة: إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء من الأفعال ولا بقبحه، فعارضه الخصم بأنّهم يقولون بالحسن والقبح بالمعنيين الأوّلين ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى في أوّل المطلب الثاني ـ أنّ هذا التفصيل ممّا أحدثه المتأخّرون تقليلا للشناعة، وستعرف ما فيه، وأنّه لا ينفعهم.

ثمّ نسب إليهم القول بأنّ كلّ فعل يقع في الوجود من أنواع الشرور كالظلم، والشرك، وغيرهما، حسن، وهو مبنيّ على تعريفهم للفعل القبيح بما نهي عنه شرعاً وللفعل الحسن بما لم ينه عنه، فإنّه على هذا تكون هذه الأفعال حسنة ; لأنّها فعل الله تعالى، ولا نهي عن فعله.

ولكنّ المتأخّرين تخلّصوا عنه بالقول بأنّ الفعل الحسن ما أُمر به شرعاً، وما يستحقّ فاعله المدح في العاجل، والثواب في الآجل فلا يشمل فعله تعالى.

ولكن على تقديره فنحن نسألهم عن فعل الله تعالى، فإن أقرّوا بحسنه لزمهم القول بحسن هذه الشرور، وإن لم يقرّوا بحسنه فقد خرجوا عن الإسلام!

ودعوى أنّ هذه الشرور حسنة بلحاظ انتسابها إلى الله تعالى بالخلق، قبيحة، بلحاظ انتسابها إلى العبد بالوصفيّة، وكونه محلاًّ لها باطلة، لعدم معقوليّة حسنها من الفاعل، وقبحها من المحلّ والموصوف بها من دون أن

الصفحة 348
يكون له أثر فيها أصلا، وإنّما الأثر لله وحده.

وبالجملة: أصل الفعل ومحلّه وجميع جهاته صادرة من الله تعالى، فكلّها حسنة، فبأيّ شيء يكون قبيحاً؟!

*    *    *


الصفحة 349

جميع أفعال الله حكمة وصواب

قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):

وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة: إنّ جميع أفعال الله تعالى حـكمة وصـواب، وليـس فيها ظـلم، ولا جـور، ولا كذب، ولا عبـث، ولا فاحشـة.

والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد، والله تعالى منزّه عنها وبريء منها(2).

وقالت الأشاعرة: ليس جميع أفعاله تعالى حكمةً وصواباً ; لأنّ الفواحش والقبائح كلّها صادرة عنه تعالى ; لأنّه لا مؤثّر غيره(3).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 73.

(2) انظر مضمون ذلك في: أوائل المقالات: 56 رقم 24، تصحيح الاعتقاد: 42 ـ 45، شرح جمل العلم والعمل: 85 ـ 89، المنقذ من التقليد 1 / 179 ـ 181، تجريد الاعتقاد: 198 ـ 199.

وانظر آراء المعتزلة في: شرح الأُصول الخمسة: 301 وما بعدها، الملل والنحل 1 / 39، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر للرازي ـ 1 / 350، شرح المواقف 8 / 175 ـ 176.

(3) انظر مضمون ذلك في: الإبانة في أُصول الديانة: 126 ـ 154، تمهيد الأوائل: 317 ـ 319 ونقل قولهم: " إنّ أفعال الله ليسـت معلّلة بالأغراض "، الأربعين في أُصول الدين ـ للغزّالي ـ: 18، المسائل الخمسون ـ للفخر الرازي ـ: 59 ـ 60، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ: 320 ـ 352، شرح المقاصد 4 / 274 ـ 275، شرح المواقف 8 / 173 ـ 174، شرح العقيدة الطحاوية: 61 ـ 63.


الصفحة 350

وقـال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ; وذلك من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه، فلا يتصوّر منه فعل قبيح ولا ترك واجب(2)، وجميع أفعاله تعالى حكمة وصواب.

والفواحش والقبائح من مباشرة العبـد للأفـعال ولا يلـزم من قولنـا: " لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله " أن تكون الفواحش والقبائح صادرة عنه، بل هي صادرة من العبد ومن مباشرته وكسـبه.

والله تعالى خالق للأفعال، ولا قبيح بالنسبة إليه، بل قبح الفعل من مباشرة العبد، كما سيجيء في مبحث خلق الأعمال..

فما نسبه إليهم هو افتراء محض ناشئ من تعصّب وغرض فاسد!

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 276.

(2) المواقف: 328، شرح المواقف 8 / 195.


الصفحة 351

وأقـول:

من أعجب العجب وأوضح المحال نفي صدورها عن الله سبحانه وإثباتها للعبد.

والحال: إنّ الخالق الفاعل لها بزعمهم هو الله تعالى، والعبد محلّ صرف لا أثر له ولا تصرّف بوجه أصلا.

وما أدري كيف يكون كسبها من العبد؟! والكسب بأيّ معنىً فُـسِّر إنّما هو من فعل الله تعالى.

وكيف يكون قبحها من مباشرة العبد، والمباشرة أثر لله تعـالى؟! إذ لا مؤثّر في الوجود سواه، وكلّ أثره حسن.

فهل يعقل أن يكون الشيء بجهة حُسنه قبيحاً، إذ أيّ جهة تفرض للقبح إنّما هي من فعل الله، وفعله ـ بما هو فعله ـ حسن.

لكن بنى القوم أمرهم على المكابرة وناطوا الحقائق بالتمويه.

وأمّا قوله: " ولا واجب عليه " فستعرف ما فيه إن شاء الله تعالى.

*    *    *


الصفحة 352

الرضا بقضاء الله تعالى

قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):

وقالت الإمامية: نحن نرضى بقضاء الله تعالى كلّه، حلوه ومرّه ; لأنّه لا يقضي إلاّ بالحـقّ(2).

وقالت الأشاعرة: لا نرضى بقضاء الله كلّه ; لأنّه قضى بالكفر، والفواحش، والمعاصي، والظلم، وجميع أنواع الفساد(3).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 73.

(2) انـظر: تصحيـح الاعتـقاد ـ المطبوع ضمن المجلّد 5 من " مصنّفات الشيخ المفيد " ـ: 54 ـ 59، المنقذ من التقليد 1 / 193.

(3) انـظر مضمـونه في: تمهيـد الأوائـل: 368 ـ 369، الأربعيـن في أُصـول الديـن ـ للفخر الرازي ـ 1 / 345، شرح العقائد النسفية: 138.


الصفحة 353

وقـال الفضـل(1):

تقول الأشاعرة: نحن نرضى بقضاء الله كلّه، والكفر، والفواحش، والمعاصي، والظلم ; وجميع أنواع الفساد ليست هي القضاء، بل هي المقضيّـات(2).

والفرق بين القضاء والمقضي ظاهر ; وذلك لأنّه ليس يلزم من وجوب الرضا بالشيء باعتبار صدوره عن فاعله، وجوب الرضا به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر ; إذ لو صحّ ذلك لوجب الرضا بموت الأنبياء، وهو باطل إجماعاً.

والإنكار المتوجّه نحو الكفر إنّما هو بالنظر إلى المحلّـيّة، لا إلى الفاعلية.

وللكفر نسبةٌ إلى الله تعالى باعتبار فاعليّـته له وإيجاده إيّـاه..

ونسبة أُخرى إلى العبد باعتبار محلّـيّته له واتّصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأُولى.

ثمّ إنّهم قائلون بأنّ التمكين على الشرور من الله تعالى، والتمكين بالقبيح قبيح، فيلزمهم ما يلزمون به الأصحاب(3).

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 279.

(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 345، المواقف: 322، شرح المواقف 8 / 176 ـ 177.

(3) شرح المقاصد 4 / 294 ـ 295، شرح المواقف 8 / 188.


الصفحة 354

وأقـول:

لا يعقل التفكيك بين القضاء والمقضي في الرضا وعدمه، ضرورة أنّ من رضي بأمر فقد رضي بصدوره عن فاعله، ومن سخطه فقد سخط صدوره عن فاعله.

فإذا زعم الأشاعرة أنّ الله سبحانه قد قضى بالفواحش وخلقها، فقد لزمهم من عدم الرضا بها عدم الرضا بقضاء الله تعالى.

وأمّا موت الأنبياء فلا نسلّم عدم وجوب الرضا به إذا قضاه الله تعالى، كيف؟! وهو سبحانه لا يقضي إلاّ بالحقّ والصواب!

نعم، لا نحبّ موتهم حبّاً لهم وطمعاً في مصالحنا بهم.

وما زعمه من توجّه الإنكار إلى الكفر باعتبار المحلّية لا الفاعلية، فمكابرة خارجة عن حيّز العقل إذا كانت المحلّية قهرية.

وأمّا ما ذكره من أنّ التمكين من القبيح قبيح، فممنوع إذا اقترن التمكين منه ببيان قبحه والنهي عنه، فإنّه حينئذ يكون التمكين منه حسناً ; إذ بطاعته لنهي مولاه وتركه اختياراً ينال السعادتين.

*    *    *


الصفحة 355

لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

وقالت الإمامية والمعتزلة: لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله، ولا يلومهم على صنعه(2)، ( ولا تزر وازرة وزر أُخرى )(3).

وقالـت الأشـاعرة: لا يعاقـب الله النـاس إلاّ على ما لـم يفـعلوه، ولا يلومهم إلاّ على ما لم يصنعوه، وإنّما يعاقبهم على فعله فيهم، يفعل فيهم سبّه وشتمه، ثمّ يلومهم عليه ويعاقبهم لأجله..

ويخـلق فيهم الإعراض، ثمّ يقول: ( فما لهم عن التذكرة معرضين... )(4)..

ويمنعهم من الفعل ويقول: ( ما منع الناس أن يؤمنوا... )(5)(6).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 73.

(2) أوائل المقالات: 61 رقم 31، تصحيح الاعتقاد: 48 ـ 53، الذخيرة في علم الكلام: 239 ـ 242، المنقذ من التقليد 1 / 348 ـ 352، الملل والنحل 1 / 39، شرح المقاصد 4 / 274.

(3) سورة الإسراء 17: 15، سورة فاطر 35: 18.

(4) سورة المدّثّر 74: 49.

(5) سورة الإسراء 17: 94.

(6) انظر أقوال الأشاعرة هذه في: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 114 ـ 116، تمهيد الأوائل: 376 ـ 378.


الصفحة 356

وقـال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ الله تعالى ( خالق كلّ شيء )(2)، كما نصّ عليه في كتابه، ولا خالق سواه..

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي، ويلوم العباد بالكسب الذميم، وهو يخلق الأشياء، والله يخلق الإعراض، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو مُعرِض، والمُعرِض من يباشر الفعل لا من يخلق، وكذا المنـع(3).

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 282.

(2) سورة الأنعام 6: 102، سورة الرعد 13: 16، سورة الزمر 39: 62، سورة غافر 40: 62.

(3) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 69 ـ 91، تمهيد الأوائل: 341 ـ 345، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 86 ـ 93، المسائل الخمسون: 59 ـ 61، شرح العقائد النسفية: 135 ـ 139.


الصفحة 357

وأقـول:

لا يخفى أنّ قوله تعالى: ( خالق كلّ شيء ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد..

الأوّل: قوله تعالى في سورة الأنعام: ( ذلكم الله ربّكم لا إله إلاّ هو خالق كلّ شيء فاعبـدوه... )(1).

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ; لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعاً عن وحدانيّـته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد، إذ لا معنى لقولنا: لا إله إلاّ هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبـدوه.

الثاني: قوله تعالى في سورة الرعد: ( أم جَعلوا لله شركاء خَلقوا كخلقه فتشابه الخلقُ عليهم قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القـهّار )(2).

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(3).

وأُجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار، فلو أُريد بها العموم

____________

(1) سورة الأنعام 6: 102.

(2) سورة الرعد 13: 16.

(3) تمهيد الأوائل: 345، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 88 ـ 89، تفسير الفخر الرازي 19 / 38.


الصفحة 358
لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ; لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به، وكان لهم أن يقولوا: إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلِمَ تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافاً إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّـتهم، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض، فيكون عموم قوله تعالى:( خالق كلّ شيء ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأُمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصَّص بالأدلّة العقلية والنقلية، الكتابية وغيرها، الدالّة على أنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله: " ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ".

ففيه: إنّ الكسب إنْ كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه، وإنْ كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ; إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله: " والمُعرِض مَن يباشر الإعراض لا مَن يخلق ".

ففيه: إنّ المصنّف لم يدّعِ صدق المُعرِض على الله تعالى بناءً على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك، بل يقول في تقرير مذهبهم: إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.


الصفحة 359
وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى: ( وما منع الناس أن يؤمنوا... )(1) ; إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

*    *    *

____________

(1) سورة الإسراء 17: 94.


الصفحة 360

إنّ الله تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً

قال المصنّـف ـ عطّر الله ثراه ـ(1):

وقالت الإمامية: إنّ الله تعالى لم يفعل شيئاً عبثاً، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة، وإنّما يُمرِض لمصالح العباد، ويعوّض الثواب، بحيث ينتفي العبث والظلم(2).

وقالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئاً لغرض من الأغراض، ولا لمصلحة، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(3).

بل يجوز أن يخلق خلقاً في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(4).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 74.

(2) أوائل المقالات: 57 ـ 58 رقم 26، الذخيرة في علم الكلام: 108 وما بعدها، تقريب المعارف: 114 وما بعدها، قواعد المرام في علم الكلام: 110، تجريد الاعتقاد: 198.

(3) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 115، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 296، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 350 ـ 354، تفسير الفخر الرازي 28 / 233 ـ 234، المواقف: 331، شرح المواقف 8 / 202.

(4) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 115 ـ 117، تمهيد الأوائل: 382 ـ 386، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134.


الصفحة 361

وقـال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ أفعال الله تعالى ليسـت معلّلة بالأغراض.

وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(2) ـ كما سـيجيء بعد هذا ـ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّـين.

وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم، ولا تأثير للعصيان في أفعاله، بل هو المؤثّر المطلق.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 284.

(2) المسائل الخمسون: 62 المسألة 37، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 350، طوالع الأنوار: 203 المسألة 5، المواقف: 331 المقصد 8، شرح المواقف 8 / 202.


الصفحة 362

وأقـول:

ليس في كلامه إلاّ ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدلِ الرحمنِ ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيـده بلا غرض ولا مصلحة، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعاً لإنسان خطأُه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ; إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(1)، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

*    *    *

____________

(1) انظر مثلا: تهافت التهافت: 491، شرح التجريد: 443.