عدم إظهار المعجزات على يد الكذّابين
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
وقالت الإمامية: لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين، ولا يصدّق المبطلين، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصـاة(2).
وقالت الأشاعرة: يحسـن كلّ ذلك(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 74.
(2) النكت الاعتقادية: 37، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ: 17 ـ 18، المنقذ من التقليد 1 / 424 ـ 425.
(3) مقالات الإسلاميّين: 226، المواقف: 341 و 358 ـ 365، شرح المقاصد 4 / 238، شرح المواقف 8 / 228 ـ 229 و 265 و 281.
وقـال الفضـل(1):
لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين، لا لقبحه في العقل، وهو يرسل الرسل، وهم الصادقون.
ولو شاء الله أن يبعـث من يريد مِن خلقه، فهو الحاكم في خلـقه، ولا يجب عليه شيء، ولا شيء منه قبيح، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 286.
وأقـول:
لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لِما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.
ولكن إذا كان الكلام تبعاً للهوى ومبنيّاً على شفا جرف هار، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.
وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يُقْبِـح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب، ولم يطّلع على أحوالهم، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذباً، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّاً ـ وإنْ تواتر ظهور المعجزات على يده، على أنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.
ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهواً، بل عمداً(1)، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق، فأفظع من ذلك، وسـيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.
____________
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 320.
إنّ الله لا يكلّف أحداً فوق طاقته
قال المصنّـف ـ أعلى الله منزلته ـ(1):
وقالت الإمامية: إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحداً فوق طاقته(2).
وقالت الأشاعرة: لم يكلّف الله أحداً إلاّ فوق طاقته، وما لا يتمكّن من تركه وفعله، ولامَهُم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.
وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة، ومن لا مال له الزكاة، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام، وأن يجعل القديم مُحدَثاً والمُحدَث قديماً.
وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة، ويأمرهم بالكتابة الحسنة، ولا يخلق لهم الأيـدي والآلات، وأن يكـتبوا في الهـواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحـد(3).
وقالت الإمامية: ربّـنا أعدل وأحكم من ذلك(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 75.
(2) أوائل المقالات: 57 رقم 26، الذخيرة في علم الكلام: 100، شرح جمل العلم والعمل: 98، المنقذ من التقليد 1 / 202 ـ 203، تجريد الاعتقاد: 202 ـ 203.
(3) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 98 ـ 100 و 112، تمهيد الأوائل: 328 ـ 329 و 332 ـ 333، المواقف: 330 ـ 331، شرح المقاصد 4 / 296، شرح المواقف 8 / 200.
(4) النكت الاعتقادية: 32، أوائل المقالات: 56 ـ 57 رقم 24 و 26.
وقـال الفضـل(1):
تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ; لأنّه لا يجب على الله شيء، ولا يقبح منه فعل، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(2).
والحـال: إنّـه لا بُـدّ لهم أن يقولوا به، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان، فهذا تكليف ما لا يطاق ; لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ; لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى، وهو محال اتّفاقاً.
وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.
ثمّ ما لا يطاق على مراتب: أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به، كحمل الجبل، والطيران إلى السماء، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي.. فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها )(3).
وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سـبق.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 287.
(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 293 و 295، المواقف: 330 ـ 331، شرح المقاصد 4 / 294.
(3) سورة البقرة 2: 286.
وأقـول:
لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!
ليت شـعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل، ويخلقه فيه اضطراراً، ويعاقبه عليه، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!
قيل: اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة، فقال له النجّار: لِـمَ يُدفع أن يكلّفَ اللهُ عبادَه ما لا يطيقون؟!
فسـكت النظّام، فقيل له: لِـمَ سـكتّ؟!
قال: كنت أُريد بمناظرته أن أُلزمه القول بتكليف ما لا يطاق، فإذا التزمه ولم يسـتحِ فبِـمَ أُلزمه؟!(1).
وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعـالى.
وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخـرة؟!
ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل، كتكليف ما لا يطاق ; تعالى الله عن ذلك.
____________
(1) انظر مضمونه في: شرح الأُصول الخمسة: 400.
فمـدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى ناراً، وهو لا يستلزم الكفر ; لجواز تعذيب المسلم الفاسق..
والأَوْلى أن يقول: إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقوله: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )(1) ونحوه في القرآن كثير، ومع ذلك كلّف الناس جميعاً بالإيمان، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعـة.
والجواب: إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان، والممكن مطاق في نفسه، يصحّ التكليف به أو بخلافه، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.
فيكون صدق الخبر تابعاً لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس، نظير تبعية العلم للمعلوم، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعاً، بل هو تابع للمعلوم ; لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.
ولو كان المعلوم تابعاً للعلم لَما صحّ التكليف أصلا ; لصيرورة كلّ مكلّف به، إمّا واجباً حيث يعلم بوقوعه، أو ممتنعاً حيث يعلم بعدم وقوعه، ولا يقوله عارف.
وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب، أوسطها.. إلى قوله:
____________
(1) سورة يوسف 12: 103.
والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة، وإلاّ فالمناط عندهم في جواز التـكليف بالرتبـة الوسـطى والسـفلى، هو أنّـه تعـالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ، وكلام القوم في المقام مضطرب ; ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى، والحال أنّ بعضها من العليا، كجعل القديم مُحدَثاً.
ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها )(1)، وهو مناف لقوله سابقاً بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.
ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم، وقد اعترف بها، وليس للمصنّف إلاّ النقل عنهم!
____________
(1) سورة البقرة 2: 286.
إنّ الله لا يضلّ أحداً عن الدين
قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابه ـ(1):
وقالت الإمامية: ما أضلّ الله أحداً من عباده عن الدين، ولم يرسل رسولا إلاّ بالحكمة والموعظة الحسـنة(2).
وقالت الأشاعرة: قد أضلّ الله كثيراً من عباده عن الدين، ولـبّس عليهم، وأغواهم، وأنّه يجوز أن يرسل رسـولا إلى قوم ولا يأمرهم إلاّ بسـبّه ومدح إبليس.
فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّـاً للثواب والتعظيم.
ويكون من مدح الله تعالى طول عمره، وعبـده بمقتضى أوامره، وذمّ إبليس دائماً، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.
وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره مَن لم تكن شريعته إلاّ هذا(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 75.
(2) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ 5 / 278 ـ 280، وانظر مؤدّى ذلك في: الذخيرة في علم الكلام: 323، شرح جمل العلم والعمل: 169، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 124 ـ 125، المنقذ من التقليد 1 / 373، تجريد الاعتقاد: 202 و 211 و 212.
(3) الفصل في الملل والأهـواء والنحـل 2 / 168 ـ 170، الأربعيـن في أُصـول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 346 ـ 349، المواقف: 320 ـ 330، شرح المقاصد 4 / 282.
وقـال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّ الله خالق كلّ شيء، ولا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس، بل يقولون: هو الهادي وهو المضلّ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد: ( يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء... )(2)، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.
وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية، فقد علمت معنى هذا التجويز، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.
وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء، بل هم أهل السُـنّة والجماعة والهداية.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 291.
(2) سورة النحل 16: 93، سورة فاطر 35: 8.
وأقـول:
لا يخفى أنّ قوله: " لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء " من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(1) عندما دخل القاضي عبـد الجبّار المعتزلي(2)دار الصاحب بن عبّاد(3) فرأى أبا إسحاق جالساً، فقال: سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضاً بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ.. فقال أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء(4).
____________
(1) تقدّمت ترجمته في صفحة 59 من هذا الجزء.
(2) هو: أبو الحسن عبـد الجبّار بن أحمد بن عبـد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي، أحد كبار متكلّمي المعتزلة، وُلد سنة 359 هـ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع، وهو من كبار فقهائهم، ولّي القضاء بالريّ، وله تصانيف كثيرة منها: المغني في علم الكلام، شرح الأُصول الخمسة، طبقات المعتزلة، وغيرها، توفّي بالريّ سنة 415 هـ.
انظر: تاريخ بغداد 11 / 113 ـ 115 رقم 5806، سير أعلام النبلاء 17 / 244 ـ 245 رقم 150، لسـان الميزان 3 / 386 ـ 387 رقم 1539، شذرات الذهب 3 / 202 ـ 203، هديّة العارفين 5 / 498 ـ 499.
(3) هو: أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب " المجمل في اللغة " ـ وكذا عن ابن العميد، وغيرهما.
كان مولده سنة 320 هـ بإصطخر، وقيل بالطالقان، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة 385 هـ بالريّ، ثمّ نُقل إلى أصبهان ودُفن هناك.
انظر: معجم الأُدباء 2 / 213، وفيات الأعيان 1 / 228 رقم 96، سير أعلام النبلاء 16 / 511 رقم 377، شذرات الذهب 3 / 113.
(4) شرح المقاصد 4 / 275، شرح العقائد النسفية: 140 ـ 141، تحفة المريد على جوهرة التوحيد: 42.
فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسـبّحه وينزّهه؟!
وأمّا قوله: " ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ".
فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد، وينزّهون الله سبحانه عنها.
ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعـالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم، فـفعلوها بتمكيـنه لهم، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته، وقدمها مثله، وحاجته إليها في الخلق، بحيث لولاها لَما خلق شيئاً فهي شريكته في الإلهية ; تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى:( يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء )(1).
فـفيـه: إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال: خلق الضلال، وبالهداية: خلق الهدى ; وهو ممنوع ; لجواز أن يراد بالإضلال: الخذلان والإضاعة، وبالهداية: التوفيق، كما قال (عليه السلام): " تطاع بتوفيقك وتُجحد بخذلانك "(2).
____________
(1) سورة النحل 6: 93، سورة فاطر 35: 8.
(2) إقبال الأعمال 1 / 299 ب 20 دعاء الليلة 16، وفيه " تعبد " بدل " تطاع ".
أمّـا العقـل: فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب، ونفي العدل، وفائدة الرسل والكتب، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله، ولذا قال شعيب: ( ما أُريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه )(3)..
وقال الشاعر:
لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثلَه | عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ(4) |
وأمّا النقل: فقوله تعالى:( إنّ علينا لَلهُدى )(5)، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!..
وقوله تعـالى: ( وأمّا ثمود فهديناهم فاسـتحـبّوا العمى على الهُدى... )(6).
____________
(1) سورة التوبة 9: 77.
(2) سورة الروم 30: 10.
(3) سورة هود 11: 88.
(4) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي، مطلعها:
حَسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَهُ | فالقـومُ أعداءٌ له وخصـومُ |
انظر: ديوان أبي الأسود الدؤلي: 129 ـ 132، خزانة الأدب 8 / 568.
(5) سورة الليل 92: 12.
(6) سورة فصّلت 41: 17.
وأمّـا ما ذكره من أنّ المراد بهذا التجـويز نفي وجوب شيء عليه، فلا يرفع الإشكال ; لأنّه إذا لم يجب عليه بعدله وحكمته أن يرسل الرسل بالحكمة والموعظة الحسنة، فقد جاز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلاّ بسبّه ومدح إبليس ـ إلى غير ذلك ممّا بيّنه المصنّف ـ، وتجويزهم مثل ذلك على الله سبحانه دليل على عدم معرفتهم به، وأنّهم ما قدروه حقّ قـدره.
ولو جوّزت أشباه هذه الأُمور على أحد منهم لعدّها من أكبر النقص عليه، والذنب إليه، فكيف تجوز في حقّ الملك الجامع لصفات الكمال؟!
إنّ الله يحبّ الطاعات ويكره المعاصي
قال المصنّـف ـ قدّس الله سرّه ـ(1):
وقالت الإمامية: قد أراد الله الطاعات وأحبّها ورضيها واختارها، ولم يكرهها ولم يسـخطها، وأنّـه كـره المعـاصي والفواحـش ولم يحبّـها ولا رضيها ولا اختارها(2).
وقالت الأشاعرة: قد أراد الله من الكافر أن يسبّه ويعصيه، واختار ذلك، وكره أن يمدحه(3).
وقال بعضهم: أَحـبَّ وجود الفساد، ورضي وجود الكفر(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 76.
(2) النكت الاعتقادية: 26 ـ 27، تصحيح الاعتقاد: 49 ـ 50، تجريد الاعتقاد: 199.
(3) الإبانة في أُصول الديانة: 127، تمهيد الأوائل: 317 ـ 318، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99، المسائل الخمسون: 60 المسألة 35، المواقف: 320 ـ 323، شرح المواقف 8 / 173 ـ 174 و 178 و 179، تحفة المريد على جوهرة التوحيد: 42، شرح العقيدة الطحاوية: 130.
(4) المواقف: 320 ـ 323، شرح المواقف 8 / 173.
وقـال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة ـ كما سبق ـ: إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات، فهو يريد الطاعات ويرضى بها للعبد، ويريد المعاصي بمعنى التقدير ; لأنّ الله تعالى مريد للكائنات.
فلا بُـدّ أن يكون كلّ شيء بتقديره وإرادته، ولكن لا يرضى بالمعاصي، والإرادة غير الرضا، وهذا الرجل يحسب أنّ الإرادة هي عين الرضا، وهذا باطل.
وأمّا قوله: " كره أن يمدحه " فهذا عين الافتراء.
وكذا قوله: " أَحبَّ الفساد ورضي بوجود الكفر " ولا عجب هذا من الشـيعة، فإنّ الكذب والافتراء طبيعتهم، وبه خلقت غريزتهم.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 300.
وأقـول:
قوله: " يريد الطاعات ويرضى بها " ليس بصحيح على عمومه، فإنّ الطاعات التي لم تقع ليست مرادة ولا مرضية له، وإلاّ لوقعت.
وقوله: " ويريد المعاصي بمعنى التقدير "، ليس بصحيح أيضاً، فإنّ الإرادة سبب التقدير لا نفسه.
ولو سُلّم، فلا بُـدّ من إرادة المعاصي ; لأنّ التقدير بدون إرادة غير ممكن ; لأنّها هي المخصّصة.
قوله: " ولكن لا يرضى بالمعاصي " باطل، إذ لو لم يرض بها فما الذي ألزمه بفعلها.
قوله: " والإرادة غير الرضا " مسلّم، لكنّ إرادة الفعل تتوقّف على الرضا به، كما إنّ إرادة الترك تتوقّف على كراهة الفعل ومرجوحيّته من جهـة.
وعلى هذا يبتني كلام المصنّف، لا على أنّ الإرادة نفس الرضا، كما زعمه الخصم.
وبالجملة: الفعل بالاختيار يستلزم الرضا به، وتركه بالاختيار يستلزم كراهته، وإلاّ لخرج العمل عن كونه عقلائياً، فيكون الله سبحانه ـ بناءً على تقديره وتكوينه لأفعال العباد ـ راضياً ومحبّاً لسبّه والفساد الواقعَين، كارهاً لمدحه والصلاح المتروكَين ; وهذا ما قاله المصنّف.
وأمّا ما رمى به الخصمُ الشيعةَ من الكذب والافتراء، فنحن نكله إلى المنصف إذا عرف أحوال رجالنا ورجالهم، ونظر إلى ما كتبناه في المقدّمة.
إنّ إرادة النبيّ تبع لإرادة الله وكراهته تبع لكراهته تعالى
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
وقالت الإمامية: قد أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الطاعات ما أراد الله تعالى، وكره من المعاصي ما كرهه الله تعالى(2).
وقالت الأشاعرة: بل أراد النبيّ كثيراً ممّا كرهه الله تعالى، وكره كثيراً ممّا أراده الله تعالى(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 76.
(2) إنقاذ البشر من الجبر والقدر ـ المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى ـ 2 / 236، مجمع البيان 7 / 399، المنقذ من التقليد 1 / 185.
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 310 ـ 311.
وقـال الفضـل(1):
غرضه من هذا الكلام ـ كما سيأتي ـ أنّ الله تعالى يريد كفر الكافر، والنبيّ يريد إيمانه وطاعته، فوقعت المخالفة بين الإرادتين، وإذا لم يكن أحدهما مريداً لشيء يكون كارهاً له ; هكذا زعم.
وقد علمت أنّ معنى الإرادة من الله ها هنا هو: التقدير، ومعنى الإرادة من النبيّ: ميله إلى إيمانهم ورضاه به.
والرضا والميل غير الإرادة بمعنى التقدير، فالله تعالى يريد كفر الكافر بمعنى: يقدّر له في الأزل هكذا، والنبيّ لا يريد كفره، بمعنى أنّه لا يرضى به ولا يستحسنه، فهذا جمع بين إرادة الله وعدم إرادة النبيّ ولا محذور فيه.
نعم، لو رضي الله بشيء، ولم يرض رسوله بذلك الشيء وسخطه، كان ذلك محذوراً، وليس هذا مذهباً لأحد.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 305.
وأقـول:
أيصحُّ في العقل أن يقال: إنّ الله تعالى يقدّر شيئاً ويفعله، ولا يرضى به النبيّ ولا يستحسنه؟!
مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تقدير الفعل يستلزم الرضا به، وتقدير الترك يستلزم الكراهة له.
فيكون الله سبحانه بتقديره للكفر والمعصية، راضياً بهما وقد كرههما النبيّ..
وبتقديره لترك الإيمان والطاعة، كارهاً لهما وقد رضي النبيّ بهما وأرادهما، فاختلف الله ورسوله.
إرادة الله ما أراده الأنبياء وكراهته لما كرهوه
قال المصنّـف ـ أعزّ الله منزلته ـ(1):
وقالت الإمامية: قد أراد الله من الطاعات ما أراده أنبياؤه، وكره ما كرهوه، وأراد ما كره الشياطين من الطاعات، وكره ما أرادوه من الفواحـش(2).
وقالت الأشاعرة: بل قد أراد الله ما أرادته الشياطين من الفواحش، وكره ما كرهوه من كثير من الطاعات، ولم يرد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات، بل كره ما أرادته منها(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 77.
(2) مجمع البيان 7 / 399، المنقذ من التقليد 1 / 182 ـ 185.
(3) الإبانة عن أُصول الديانة: 123 ـ 124، تمهيد الأوائل: 317 ـ 321، المواقف: 315 ـ 316.