الصفحة 384

وقال الفضـل(1):

هـذا يرجع إلى معنى الإرادة التي ذكرناها في الفصل السـابق(2)، وهذا الرجل لم يفرّق بين الإرادة والرضا، وجلّ تشـنيعاته ناش من عدم هذا الفرق.

وأمّا قوله: " كره الله ما كره الشياطين من الطاعات " فهذا افتراء على الأشاعرة.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 306.

(2) انظر الصفحة 363.


الصفحة 385

وأقـول:

قد عرفت أنّ المختار لا يفعل شيئاً إلاّ لإرادته له ورضاه به، ولا يترك أمراً إلاّ لكراهته له، وإلاّ لخرج العمل عن كونه عقلائياً.

فإذا فرض أنّ الله تعالى هو الفاعل لأفعال البشر، فلا بُـدّ أن يكون مريداً لِما يقع من الفواحش كما هو مراد للشياطين، وأن يكون كارهاً لِما يقع من الطاعات كما هو مكروه للشياطين ; فتمّ ما ذكره المصنّف.

*    *    *


الصفحة 386

أمر الله بما أراد ونهيه عمّا كره

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

وقالت الإمامية: قد أمر الله عزّ وجلّ بما أراده ونهى عمّا كرهه(2).

وقالت الأشاعرة: قد أمر الله بكثير ممّا كره ونهى عن كثير ممّا أراد(3).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 77.

(2) النكـت الاعتقادية: 25، شرح جمل العلم والعمل: 56، المنقذ من التقليد 1 / 85 و 179 ـ 180، تجريد الاعتقاد: 199.

(3) الإبانة عن أُصول الديانة: 123 ـ 124، تمهيد الأوائل: 317 ـ 320، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 83، الأربعين في أُصول الدين ـ للفـخر الرازي ـ 1 / 343 وما بعـدها، المسـائل الخمسـون: 60 و 61، شرح المقاصد 4 / 274 وما بعدها، شرح المواقف 8 / 173 ـ 174.


الصفحة 387

وقال الفضـل(1):

قد عرفت ممّا سلف أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء، ولا قبيح بالنسبة إليه، فله أن يأمر بما شاء وينهى عمّا يشاء(2).

فأخذ المخالفون من هذا أنّه يلزم على هذا التقدير أن يأمر بما يكرهه وينهى عمّا يريده ; وقد عرفت جوابه.

وإنّ المراد بهذا: عدم وجوب شيء عليه، وهذا التجويز لنفي الوجوب وإنْ لم يقع شيء من الأُمور المذكورة في الوجود.

فالأمر بالمكروه والنهي عن المراد جائز، ولا يكون واقعاً، فهو محال عادة وإنْ جاز عقلا بالنسبة إليه ـ كما مرّ غير مرّة ـ، وسيجيء تفاصيل هذه الأجوبة عند مقالاته في ما سيأتي.

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 307.

(2) انطر الصفحة 349 من هذا الجزء.


الصفحة 388

وأقـول:

لم نأخذ ذلك ممّا ذكره وإنْ كان صالحاً للأخذ منه، بل أخذناه من قولهم: إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(1) ; لأنّ خلق الشيء وتقديره يسـتلزم الإرادة له والرضـا به، وتقدير عدم الشيء يستلزم كراهته ـ كما سـبق ـ، فإذا أمر الله سبحانه بما قدّر عدمه، فقد أمر بما لا يريده وكرهه، وإذا نهى عمّـا قـدّر وجوده، فقد نهى عمّا أراده ورضيه ـ كما ذكره المصنّف ـ، وهذا على مذهبهم واقعٌ جار على العادة.

ولو سُلّم أنّـا أخذناه ممّا ذكره، فمن أين أحرز عادة الله تعالى في عدم وقوع شيء من الأُمور المذكورة وهي غيب؟!

على أنّ تجويز ذلك على الله سبحانه نقص في حقّه وأيّ نقص!! لأنّه من الجهل أو العجز، تعالى الله عمّا يقول الظالمون.

*    *    *

____________

(1) خلق أفعال العبـاد ـ للبخاري ـ: 25، الإبانة عن أُصـول الديانـة: 46، الإنصـاف ـ للباقلاّني ـ: 28 و 43، تمهيد الأوائل: 318 و 341 وما بعدها، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 319 وما بعدها و 343، المواقف: 311 ـ 315.


الصفحة 389

التوحيد

قال المصنّـف ـ شرّف الله قدره ـ(1):

فهذا خلاصة أقاويل الفريقين في عدل الله عزّ وجلّ.

وقول الإمامية في التوحيد يضاهي قولهم في العدل، فإنّهم يقولون: إنّ الله تعـالى واحـد لا قـديم سـواه، ولا إلـه غيـره، ولا يشـبه الأشـياء، ولا يجوز عليه ما يصحّ عليها من التحرّك والسكون، وإنّه لم يزل ولا يزال حيّـاً قادراً عالماً مدركاً، لا يحتاج إلى أشـياء يعلم بها، ويقدّر ويحيـي، وإنّه لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم، ولم يكن آمراً ولا ناهياً قبل خلقه لهـم(2).

وقالت المشبّهة: إنّه يشبه خلقه ; فوصفوه بالأعضاء والجوارح، وإنّه لم يزل آمراً وناهياً إلى ما بعد خراب العالم وبعد الحشر والنشر، دائماً بدوام ذاته(3).

وهذه المقالة في الأمر والنهي ودوامهما مقالة الأشعرية أيضاً(4).

____________

(1) نهج الحقّ: 77.

(2) أوائل المقالات: 51 ـ 53، شرح جمل العلم والعمل: 78 ـ 79، تقريب المعارف: 88، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 78، المنقذ من التقليد 1 / 131، تجريد الاعتقاد: 193 ـ 194.

(3) الملل والنحل 1 / 94، شرح المواقف 8 / 25 ـ 26.

(4) التقريب والإرشاد ـ للباقلاّني ـ 2 / 306، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 36، نهايـة الإقـدام في علم الكلام: 304، الأربعين في أُصول الديـن ـ للفخر الرازي ـ 1 / 256 ـ 257، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 266، إرشاد الفحول: 31.


الصفحة 390
وقالت الأشاعرة أيضاً: إنّه تعالى قادر، عالم، حيّ.. إلى غير ذلك من الصفات بذوات قديمة، ليست هي الله ولا غيره ولا بعضه، ولولاها لم يكن قادراً، عالماً، حيّـاً(1).

تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبـيـراً.

*    *    *

____________

(1) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبـدع: 25 ـ 32، تمهيـد الأوائـل: 227 ـ 229 و 298 ـ 299، الإنصاف: 38 ـ 39، الملل والنحل 1 / 82، المسائل الخمسون: 43 وما بعدها.


الصفحة 391

وقال الفضـل(1):

أكثر ما في هذا الفصل قـد مرّ جوابه في ما سبق من الفصول على أبلغ الوجوه بحيث لم يبق للمرتاب ريب.

وما لم يذكر جوابه من كلام هذا الفصل ـ في ما سبق ـ هو ما قال في الأمر والنهي، وأنّ الأشاعرة يقولون: بدوامهما.

فالجواب: إنّهم لمّا قالوا بالكلام النفسـي، وإنّه صفة لذات الله تعالى، فيلزم أن تكون هذه الصفة أزليه وأبدية..

والكلام لمّا اشتمل على الأمر والنهي يكون الأمر في الكلام النفسي أزلا وأبداً، ولكن لا يلزم أن يكون آمراً وناهياً بالفعل قبل وجود الخطاب والمخاطبين حتّى يلزم السفه ـ كما سبق ـ، بل الكلام بحيث لو تعلّق الخطاب عند التلفّظ به يكون المتكلّم آمراً وناهياً، وهذا فرع لإثبات الكلام النفساني، فأيّ غرابة في هذا الكلام؟!

*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 309.


الصفحة 392

وأقـول:

قـد عرفت بطلان أجوبته، ومنه تعرف بطلان جوابه هنا، ولا أدري لِمَ التزم بعدم الخطاب في القِدم والأزل، وقد أجازوا خطاب المعدوم(1)وقالوا: لا يقبح منه شيء؟!(2).

نعم، لمّا علم أنّ خطاب المعدوم سفه بالضرورة، التزم بعدم الخطاب غفلة عن مذهبه!

ولو التفت لكابر في نفي السفه، كما كابر في نفي الأمر والنهي الفعليّين، مع الالتزام بثبوت الأمر والنهي النفسيّين، والحال أنّ النفسي مدلول الفعلي، وكابر في ثبوت الأمر والنهي النفسيَّين بدون الخطاب، مع إنّهما لا يحصلان بدونه.

*    *    *

____________

(1) التقريب والإرشاد ـ للباقلاّني ـ 2 / 298 وما بعدها، المستصفى من علم الأُصول 1 / 85، نهاية الإقدام في علم الكلام: 304، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 266.

(2) انظر: المسائل الخمسون: 61 المسألة 36، المواقف: 328.


الصفحة 393

أنبياء الله وأئمّته منزّهون عن المعاصي

قال المصنّـف ـ قدّس سرّه ـ(1):

وقالت الإمامية: إنّ أنبياء الله وأئمّته منزّهون عن المعاصي، وعمّا يسـتخفّ وينفّر(2).

ودانوا بتعظيم أهل البيت الّذين أمر الله بمودّتهم وجعلها أجر الرسالة، فقال تعالى: ( قل لا أسالكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى )(3).

وقال أهل السُـنّة كافّـة: إنّه يجوز عليهم الصغائر(4).

وجوّزت الأشاعرة عليهم الكبائر(5).

*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 78.

(2) أوائل المقالات 4 / 62 و65، تصحيح الاعتقاد: 129، الذخيرة في علم الكلام: 337 و 429، شـرح جمل العلـم والعمـل: 192، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ: 15، المنقذ من التقليد 1 / 424، تجريد الاعتقاد: 213 و 222.

(3) سورة الشورى 42: 23.

(4) التقريب والإرشاد 1 / 438 ـ 439، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 321 وقال: " وأمّا أنّه هل يجب كونهم معصومين عن الصغائر قبل البعثة وبعدها؟ فالروافـض أوجـبوا ذلك ومَـن عَـداهم جـوّزوا ذلـك "، الأربعيـن في أُصول الديـن ـ للفخر الرازي ـ 1 / 279 و ج 2 / 116 و117، المواقف: 359، شرح المواقف 8 / 265 وقال: " أمّا الصغائر عمداً فجوّزه الجمهور إلاّ الجُـبّائي ".

(5) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 320، المواقف: 359، شرح المواقف 8 / 264 و 265.


الصفحة 394

وقال الفضـل(1):

أجمع أهل الملل والشرائع كلّها على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله... وأمّا سائر الذنوب فأجمعت الأُمّة على عصمتهم من الكفر(2).

وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ; لأنّ إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة، وذلك باطل ; لأنّه يقضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّـيّة وترك تبليغ الرسالة، إذ أَوْلى الأوقات بالتقيّة وقت الدعوة، للضعف بسبب قلّة الموافق وكثرة المخالفين(3).

وأمّا غير الكفر من الكبائر، فمنعه الجمهور من الأشاعرة والمحقّقين.

وأمّا الصغائر عمداً، فجوّزه الجمهور إلاّ الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة(4)، للزوم المخالفة لمنصب النبوّة.

هذا مذهبهم، فنسبة تجويز الكبائر إلى الأشاعرة افتراء محض.

وأمّا ما ذكر من تعظيم أنبياء الله وأهل بيت النبوّة، فهو شعار أهل السُـنّة، والتعظيم ليس عداوة الصحابة، كما زعمه الشيعة والروافض، بل

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 312.

(2) شرح المواقف 8 / 263 ـ 264.

(3) شرح المواقف 8 / 264.

(4) انظر: شرح المواقف 8 / 264.


الصفحة 395
التعظيم أداء حقوق عظم قدرهم في المتابعة، وذكرهم بالتفخيم، واعتقاد قربهم من الله ورسوله، وهذه خصلة اتّصف بها أهل السُـنّة والجماعة.

*    *    *


الصفحة 396

وأقـول:

لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يُتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.

وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب " المواقف " عصمتهم عن الكذب في دعواها(1)، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال: إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.

ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة، إذ يجوز عقلا ـ بناءً على قولهم: " لا يقبح منه شيء "(2) ـ أن يظهرها على يد الكاذب.

ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة، وأنّه غير كاذب، وهو غير حاصل، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!

على أنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.

____________

(1) المواقف: 358.

(2) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 116، المسائل الخمسون: 61 المسألة 36، المواقف: 328.


الصفحة 397
وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر، فمناف لِما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السُـنّة يجوّزون عليهم الكفر، بل قال بعضهم بوقوعه(1)..

ومناف أيضاً لِما يروونه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: " لو كان نبيّ بعدي لكان عمر "(2)، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.

فلا بُـدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعاً (للمواقف) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة(3)، فكذب عليهم، وإلاّ فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!

____________

(1) انظر: شرح المواقف 8 / 264، وسيأتي تخريج ذلك مفصّلا في بحث النبوّة.

(2) سنن الترمذي 5 / 578 ح 3686 وقال: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث مشرح بن هاعان "، تاريخ دمشق 44 / 114 ـ 116 ح 9564 ـ 9569، أُسد الغابة 3 / 658، مختصر تاريخ دمشق 18 / 290، تحفة الأحوذي 10 / 119 ح 3933.

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 1 / 320 ـ 321 بلفظ " لو لم أُبعث فيكم لبُعِث عمر " بطريقين، أوّلهما عن زكريّا بن يحيى، وثانيهما عن مشرح بن هاعان، وقال: " هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا الأول: فإنّ زكريّا بن يحيى كان من الكذّابين الكبار.

قال ابن عديّ: كان يضع الحديث.

وأمّا الثاني: فقال أحمد ويحيى: عبـد الله بن واقد ليس بشيء.

وقال النسائي: متروك الحديث.

وقال ابن حبّان: انقلبتْ على مشرح بن هاعان صحائفه فبطل الاحتجاج به ".

وقال ابن حبّان أيضاً بترجمة مشرح بن هاعان في الثقات 5 / 452: يخطئ ويخالف.

(3) المواقف: 359، وانظر: شرح المواقف 8 / 264.


الصفحة 398
ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات، بل ذلك مذهب بعض السُـنّة ـ كما ستعرفه في مباحث النبوّة ـ، وهو الأنسب بهم، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفاً لقومه، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّـة أَوْلى(1).

ونسبوا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال: " نحن أحقُّ بالشـكّ من إبراهيم "(2) كما سـيجيء.

ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن، فإظهار الكفر للتقيّة أَوْلى ; لأنّ الشـكّ أسوأ.

وأمّا تكذيبه للمصنّف (رحمه الله) في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين، وفضّلوا الأداني عليهم، مع أنّ الله تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجـس(3)، وأوجب على الأُمّة التمسّك بهم، وجعلهم عدل القرآن المجيد

____________

(1) المعجـم الكبـير 9 / 34 ح 8316 و ج 12 / 42 ح 12450، مجمع الزوائـد 7 / 71 و 115، وستأتي القصّة بتمامها في مبحث النبوّة.

(2) صحيح البخاري 4 / 290 ح 174 كتاب الأنبياء، صحيح مسلم 7 / 98 باب فضائل إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فتح الباري 6 / 507 كتاب أحاديث الأنبياء ; وسيأتي تمام الحديث في مبحث النبوّة.

(3) إشارة إلى قوله تعالى: (إنّما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) سورة الأحزاب 33: 33.


الصفحة 399
إلى يوم الدين(1).

وأمّا قوله: " والتعظيم ليس عداوة الصحابة "، ففيـه:

إنّا لا نعادي إلاّ المنقلبين على أعقابهم، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القَهقَرى، ويقول فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " سحقاً سحقاً حتّى لا يخلص من النار إلاّ مثل همل النِعم "(2)..

وقال تعالى: ( لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادَّ الله ورسولهُ )(3).

*    *    *

____________

(1) إشارة إلى حديث الثقلين ; وقد مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة 187 هـ 1 من هذا الجـزء.

(2) انظر: صحيح البخاري 8 / 216 ح 164 باب في الحوض; باختلاف يسير.

(3) سورة المجادلة 58: 22.


الصفحة 400

ترجيـح أحد المذهبَـين

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

فلينـظر العاقل في المقالتين، ويلمح المذهبين، وينصف في الترجيح، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح، ويترك تقليد الآباء، والمشـايخ الآخذين بالأهـواء، وغرّتهـم الحياة الدنيا، بل ينصـح نفسـه، ولا يعوّل على غيره، فلا يقبل عذره يوم القيامة، أنّي قلّدت شيخي الفلاني، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم، ويفرّون من أشياعهم.

وقد نصّ الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز(2)، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!

وهل يشكُّ العاقل في الصحيح من المقالتين، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل، وأنّها أشبه بالدين، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال الله تعالى فيهم: ( فبشّر عبادِ * الّذين يستمعون القولَ فيتّبِعُون أحسنهُ أُولئك الّذين هَداهُمُ اللهُ وأُولئك هُم أُولو الألباب )(3)؟!

فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها، وهم أُولو الألباب.

____________

(1) نهج الحقّ: 79.

(2) إشارة إلى قوله تعالى: (إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا من الّذين اتَّبَعوا...) سورة البقرة 2: 166.

(3) سورة الزمر 39: 17 و 18.


الصفحة 401
ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أُصول دين المسـلمين في العدل والتوحيـد رجاء أن يسـتحسـنه ويدخل فيه معهم، هل كان الأَوْلى أن يقال له ـ حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا ـ: إنّ جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب، وإنّا نرضى بقضـائه، وإنّه منزَّه عن فعل القبائح والفواحش، لا تقع منه، ولا يعاقب الناس على فِعل يفعله فيه، ولا يقدرون على دفعه عنهم، ولا يتمكّنون من امتثال أمـره..

أو يقال: ليس في أفعاله حكمة وصواب، وإنّه يفعل السفه والفاحشة، ولا نرضى بقضاء الله تعالى، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!

وهـل الأَوْلى أن يقـول: مِـن دينـنـا أنّ الله لا يـكـلّـف النـاس مـا لا يقدرون عليه ولا يطيقون..

أو نقـول: إنّه يكلّـف الناس ما لا يطيقـون، ويعاقبـهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!

وهل الأَوْلى أن نـقول: إنّه تعـالى يكـره الفواحـش ولا يـريدهـا ولا يحبّها ولا يرضاها..

أو نقول: إنّه يحّب أن يُشتم ويُسـبّ ويُعصى بأنواع المعاصي، ويكره أن يُمدح ويُطاع، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كـره؟!

وهل الأَوْلى أن نقول: إنّه تعالى لا يشبه الأشياء، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها..


الصفحة 402
أو نقول: إنّه يشـبهها؟!

وهل الأَوْلى أن نقول: إنّ الله تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته..

أو نقول: إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم الإّ بذوات قديمة، ولولاها لم يكن قادراً ولا عالماً ولا غير ذلك من الصفات؟!

وهل الأَوْلى أن نقول: إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم..

أو نقول: إنّه لم يزل في القِدَم، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، لا يخلّ بذلك أصلا؟!

وهل الأَوْلى أن نقول: إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاتـه..

أو نقول: يُرى بالعين، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة: أو يُرى بالعين لا في جهة؟!

وهل الأَوْلى أن نقول: إنّ أنبياءه وأئمّته منزَّهون عن كلّ قبيح وسخيف..

أو نقول: إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة، كسرقة درهم وكذب وفاحشة، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!

فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلاّ مذهب الإمامية دون قول غيرهم، عرفت عِظم موقعهم في الإسلام!

وتعلم أيضاً بزيادة بصيرتهم ; لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلاّ من أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام) أُخذ، وكان جميع العلماء

الصفحة 403
يسـتندون إليه على ما يأتي.

فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!

فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله أو في عبث بعض أفعاله، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.

ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على أنّ الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح، ظلّ ليله ونهاره مهموماً طالباً لإقامة شبهة يجيب بها، حذراً أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعَظُم سروره بما دلّت الشبهة عليه.

فشـتّان ما بين الفريقين، وبعد ما بين المذهبين!

ولنشرع في تفصيل المسائل، وكشف الحقّ فيها بعون الله تعالى ولطفـه..

*    *    *


الصفحة 404

وقال الفضـل(1):

حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف، والرجوع إلى الوجدان، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف، علم أنّ مذهب الإمامية مرجَّح.

ومثل هذا في حال مَن أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.

ونحن إن شاء الله تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه، ونجاريه فصلا بفصل، وعقيدةً بعقيدة، على شرط تجنّب التهمة والافتراء، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف..

فنقول: لو استجار مشرك في بلاد الإسلام، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام، فطلب من العلماء أُصول دين الإسلام في العدل والتوحيد، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء..

فيا معشر العقلاء:

هل الأَوْلى أن يقال له ـ حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه ـ: إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء، وهو الفاعل المختار، ولا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء، وهو يحكم ما يريد، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلاّ

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 1 / 317.


الصفحة 405
بحكمه وإرادته وقضائه وقدره، دبّـرَ أُمور الكائنات في أزل الآزل، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم، وأفعاله حكمة وصواب، ولا قبيح في فعله، ولا يجب عليه شيء..

وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب، فهو تصرّف في ملكه، ولا يتصوّر منه ظلم، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وهو منزّه عن فعل القبائح، إذ لا قبيح بالنسبة إليه، ونحن نرضى بقضائه، والقضاء غير المقتضي..

هل الأَوْلى هذا؟! أو يقال: الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.

والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب، بل الواجب واللازم عليه عقابه، كالنار الواجب عليها الإحراق.

وإنّه خلق العالَم ولم يجرِ له قضاء سابق وعلم متقدّم، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق، وله الشركاء في الخلق، وهو يخلق والناس يخلقون؟!

وهل الأَوْلى أن يقال له: من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار، يكلّف الناس كيفما شاء ; لأنّه يتصرّف في ملكه، فإذا أراد كلَّفهم حسب طاقتهم، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا..


الصفحة 406
أو يقال: إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم، وليس له التصرّف فيهم، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!

وهل الأَوْلى أن يقال له: إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه، والشر والمعصية بغير رضاه..

أو نقول: إنّه مغلول اليد، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه، ولا يخلق الشرّ، فللشرّ فواعل غيره، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!

وهل الأَوْلى أن يقال له: إنّه تعالى لا يشبه الأشياء، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة..

أو نقول: إنّه لا صفات له، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!

وهل الأَوْلى أن يقال له: إنّ الله تعالى عالم بعلم أزلي، قادر بقدرة أزلية، حيٌّ بحياة سرمدية، متكلّم بكلام أزلي..

أو يقال له: إنّ الصفات مسلوبة عنه، وليس له علم ولا قدرة، بل ذاتـه تعلم الأشـياء بلا علم ; فيتحيّر ذلك المسكين، أنّ العالِم كيف يعلم بلا علم، وكيف يقدر بلا قدرة؟!

وهل الأَوْلى أن يقال له: إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّماً بكلام نفسي هو صفة ذاته، وبعدما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام، وأمر الناس ونهاهم..

أو يقـال له: إنّـه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم، فإنّ خالق الكـلام لا يسمّى متكلّماً، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!