إنّـه تعالى لا يفعل القبيـح

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

المطلب الثالث
في أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب

ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة إلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب، بل جميع أفعاله حكمة وصواب، ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا فاحشة; لأنّ الله تعالى غنيٌّ عن القبيح، عالم بقبح القبائح; لأنّه عالم بكلّ المعلومات، وعالم بغناه عنه، وكلّ من كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه، والضرورة قاضية بذلك، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة اسـتحقّ الذمّ واللوم.

وأيضاً: الله تعالى قادر، والقادر إنّما يفعل بواسطة الداعي، والداعي إمّا داعي الحاجة، أو داعي الجهل، أو داعي الحكمة.

أمّا داعي الحاجة، فقد يكون العالِم بقبح القبيح محتاجاً إليه، فيصدر عنه [دفعاً لحاجته] .

وأمّا داعي الجهل، فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه، فيصحّ صدوره عنه.

____________

(1) نهج الحقّ: 85.


الصفحة 6
وأمّا داعي الحكمة، فبأن يكون الفعل حسناً، فيفعله لدعوة الداعي إليـه.

والتقدير أنّ الفعل قبـيح، فانتفت هذه الدواعي فيستحيل القبح منه تعالى(1).

وذهبت الأشاعرة كافّـة إلى أنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها، من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان، ورضي بها وأحـبّـها(2).


*    *    *

____________

(1) أوائل المقالات: 56 ـ 58، تصحيح الاعتقاد: 45 و 49 ـ 50، شرح جمل العلم والعمـل: 83 و 85 ـ 88، المنـقـذ من الـتـقليـد 1 / 179، تجريـد الاعتقاد: 198 و 199، شرح الأُصول الخمسة: 301 ـ 302، الملل والنحل 1 / 39، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 340.

(2) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 48، تمهيد الأوائل: 317 ـ 320 و 366 ـ 367، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168، الملل والنحل 1 / 83، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343 ـ 345، المسائل الخمسون: 60 ـ 61، شرح المقاصد 4 / 223 و 238، شرح المواقف 8 / 173 ـ 174.


الصفحة 7

وقال الفضـل(1):

قد سبق أنّ الأُمّة أجمعت على أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب.

فالأشاعرة من جهةِ أنّه لا قبيـح منه ولا واجب عليه(2).

وأمّا المعتزلة فمن جهةِ أنّ ما هو قبيح منه يتركه، وما يجب عليه يفعله(3).

وهذا الخلاف فرع قاعدة التحسين والتقبيح، إذ لا حاكم بقبح القبيح منه، ووجوب الواجب عليه، إلاّ العقل.

فمن جعله حاكماً بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه.

ونحن قد أبطلنا حكمه وبـيّـنّـا أنّ الله تعالى هو الحاكم، فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، لا وجوب عليه، ولا استقباح منه(4).. هذا مذهب الأشاعرة.

وما نسبه هذا الرجل المفتري إليهم أخذه من قولهم: " إنّ الله خالق

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 383.

(2) المسائل الخمسون ـ للفخر الرازي ـ: 61 و 62، المواقف: 328، شرح المواقف 8 / 195.

(3) المحيط بالتكليف: 229 ـ 230، شرح الأُصول الخمسة: 301، المواقف: 328، شرح المواقف 8 / 195.

(4) راجع ج 2 / 352 من هذا الكتاب.


الصفحة 8
كلّ شيء "(1).. فيلزم أن يكون خالقاً للقبائح..

ولم يعلموا(2) أنّ خلق القبيـح ليس فعله، إذ لا قبيح بالنسبة إليه، بل بالنسبة إلى المحلّ المباشر للفعل كما ذكرناه غير مرّة، وسنذكر تحقيقه في مسألة خلق الأعمال.


*    *    *

____________

(1) تمهيد الأوائل: 341 وما بعدها، الاعتقاد ـ للبيهقي ـ: 73، المواقف: 320، شرح المقاصد 4 / 238 ـ 239، شرح المواقف 8 / 173، وانظر ج 2 / 357 من هذا الكتاب.

(2) يعني بهم الشـيعة الإمامية والمعتزلة.


الصفحة 9

وأقـول:

لا يخفى أنّ الأشاعرة لمّا زعموا أنّ الله تعالى خلق الأعمال جميعها، حسنها وقبيحها، لزمهم ما ذكره المصنّف من القول: بأنّ الله تعالى فاعل للقبائح بأسرها، وأجاب الفضل عنه بجوابين:

الأوّل: إنّه لا يقبح من الله فعل القبيح، إذ لا قبيح منه ولا استقباح بالنسبة إليه; لأنّ قبح الفعل مبنيٌّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليَّين، والأشاعرة لا يقولون بها.

الثاني: إنّ خلق القبيح غير فعله.

وهذان الجوابان ـ مع تضمّن أوّلهما الإقرار بفعل الله سبحانه للقبيح ـ باطلان.

أمّا الأوّل: فلِما عرفت من حكم العقل بالحسن والقبح العقليَّين في الأفعال، وقد أقرّ الخصم به في تحقيقه السابق(1).

وأمّا الثاني: فلأنّ كون الخلق غير الفعل لا يتصوّر أن يكون مبنياً إلاّ على اعتبار أن يكون الفعل قائماً في الفاعل وحالاًّ في ذاته، بخلاف الخلق، وهو باطل; لأنّ القتل فعل للقاتل وهو حالٌّ بالمقتول.

ولو سُلِّمت المغايرة، فخلق القبيح صفة نقص في الخالق، وهو من القبح العقلي المسلّم عندهم على ما أسلفه الخصم.

فإن قلت: الخلق من أفعاله تعالى لا صفاته.

____________

(1) راجع ج 2 / 411 فما بعدها من هذا الكتاب.


الصفحة 10
قلت: المراد بالصفة مطلق ما يفيد الكمال أو النقص لمن ثبت له واتّصف به، كما يشهد به إرجاع الفضل لبعض الأمثلة التي ألزمهم بها المصنّف إلى صفة النقص أو الكمال، وبهذا الاعتبار يوصف الله تعالى بالحكمة والغنى والرزق والإحياء، ونحوها.

ولو سُلّم أنّ خلق القبيح ليس صفة نقص في الخالق، فلا شكّ أنّه مستلزم للنقص في صفاته; لأنّه يعود إلى النقص في القدرة أو العلم أو الحكمة.

ومن المضحك تعليله لكون الخلق غير الفعل، بأنّه لا قبح بالنسبة إليه، ضرورة أنّه لا يقتضي المغايرة بينهما، وإنّما يقتضي أن لا يكون صدور القبيح منه قبيحاً، سواء سمّى صدوره خلقاً أم فعلا.

وأمّا قوله: " ولا واجب عليه "..

فقد عرفت أنّه مناف لمقتضى الحكمة والعدل، ومخالف لنصّ الكتاب، حيث قال تعالى: ( كتب ربّـكم على نفسه الرحمة )(1).. ( وعلى الله قصد السـبيل )(2).. و ( إنّ علينا لَلهدى )(3).

كما عرفتَ بطلان نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له أصلا، ونفيه عن المؤثّر الموجد، فإنّه خلاف الضرورة.


*    *    *

____________

(1) سورة الأنعام 6: 54.

(2) سورة النحل 16: 9.

(3) سورة الليل 92: 12.


الصفحة 11

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

فلزمهم من ذلك محالات..

منها: امتناع الجزم بصدق الأنبياء; لأنّ مسيلمة الكذّاب لا فعل له، بل القبيح الذي صدر عنه من الله تعالى عندهم، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك.

وإنّما نعلم صدقهم لو علمنا أنّه تعالى لا يصدر عنه القبيح، فلا نعلم حينئذ نبوّة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نبوّة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ألبتّـة.

فأيّ عاقل يرضى لنفسه أن يقلّد من لم يجزم بنبيّ من الأنبياء [ألبتّـة] ، وأنّه لا فرق عنده بين نبوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين نبوّة مسيلمة الكـذّاب؟!

فليحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء والانقياد إلى طاعتهم، ليبلّغهم مرادهم ويربح هو الخسران بالخلود بالعذاب(2)، ولا ينفعه عذره غداً يوم الحسـاب.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 85 ـ 86.

(2) في المصدر: في النيران.


الصفحة 12

وقال الفضـل(1):

قد مرّ مراراً أنّ صدق الأنبياء مجزوم به جزماً مأخوذاً من المعجزة وعدم جريان عادة الله تعالى على إجراء المعجزة على يد الكذّابين، وأنّه يجري مجرى المحال العادي(2).

فنحن نجزم أنّ مسيلمة كذّاب; لعدم المعجزة، ونجزم أنّ الله تعالى لم يظهر المعجزة على يد الكاذب، ويفيدنا هذا الجزم العلم العادي.

فالفرق بينه وبين الأنبـياء ظاهر مسـتند بالعلم العادي، لا بالقبح العقلي الذي يـدّعيه.

وما ذكره من الطامّات والتنفير فهو الجري على عادته في المزخرفات والتـرّهات.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 385.

(2) الإرشاد ـ للجويني ـ: 273 ـ 275، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 125، المواقف: 341، شرح المواقف 8 / 228 ـ 229.


الصفحة 13

وأقـول:

لا شكّ أنّ النبوّة ليست من المحسوسات الخارجية حتّى تُعلم بالحـسّ الظاهـري، ولا علـم لنا بالغيـب حـتّى نعلـم عـادة الله فيها، وأنّـه لا يخلق المعجزة إلاّ لصادق، وهو تعالى عندهم لا يقبح عليه شيء.

فكيف يمكن دعوى العادة بإجراء المعجزة على يد الصادق دون الكاذب، وأنّ كلّ ذي معجزة صادق دون غيره؟!

بل من الجائز أن يكون كلّ ذي معجزة كاذباً، ومن لا معجزة له صادقاً، فلا يصحّ الجزم بنبوّة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره من الأنبياء، ولعلّ مسيلمة هو النبي دون نبـيّنا! وعلى الإسلام السلام!


*    *    *


الصفحة 14

قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسـه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم تكذيب الله تعالى في قوله:

( والله لا يحبُّ الفساد )(2)..

( ولا يرضى لعباده الكفر )(3)..

( وما الله يريد ظلماً للعباد )(4)..

( وما ربّك بظلاّم للعبـيـد )(5)..

( ولا يظلم ربّك أحداً )(6)..

( وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون )(7)..

( كلّ ذلك كان سـيّـئه عند ربّك مكروهاً )(8)..

( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء )(9)..

ومن يعتقد اعتقاداً يلزم منه تكذيب القرآن العزيز فقد اعتقد ما

____________

(1) نهج الحقّ: 86.

(2) سورة البقرة 2: 205.

(3) سورة الزمر 39: 7.

(4) سورة غافر 40: 31.

(5) سورة فصّلت 41: 46.

(6) سورة الكهف 18: 49.

(7) سورة هود 11: 117.

(8) سورة الإسراء 17: 38.

(9) سورة الأعراف 7: 28.


الصفحة 15
يوجب الكفر، وحصل الارتداد والخروج عن ملّة الإسلام.

فليتعوّذ الجاهل والعاقل من هذه المقالة [الرديئة] المؤدّية إلى أبلغ أنواع الضلالة.

وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة فلا تقبل توبته.

وليخش من الموت قبل تفطّنه بخطأ نفسه، فيطلب الرجعة فيقول: ( ربِّ ارجعونِ * لَعلّي أعمل صالحاً فيما تركت )(1)، فيقال له: ( كلاّ )(2)!


*    *    *

____________

(1 و 2) سورة المؤمنون 23: 99 و 100.


الصفحة 16

وقال الفضـل(1):

قد مرّ أنّ كلّ ما يقيم من الدلائل هو إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.

فإنّ الأشاعرة مذهبهم المصرّح به في سائر كتبهم: إنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يرضى بالقبائح.

والإرادة غير الرضا، وما ذكر من الآيات ليس حجّة عليهم، إنّما هي حجّة على من جوّز الظلم على الله والرضا بالكفر.

وهـذا الرجل أصـمّ أُطـروش لا يسمع نداء المنادي، وصوّر عند نفسه مذهباً وافترى أنّه مذهب الأشاعرة، ويورد عليه الاعتراضات، وليس أحد من المسلمين قائلا بأنّه تعالى ظالم أو راض بالكفر، تعالى الله عن ذلـك.

وما يزعم أنّه يلزم الأشاعرة فهو باطل; لأنّ الخلق غير الفعل.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 387.


الصفحة 17
والعجب أنّه لا يخاف أن يلقى الله بهذه العقيدة الباطلة، التي هي إثبات الشركاء لله تعالى في الخلق، مثل المجوس.

وذلـك المـذهب أردأ من مذهـب المجـوس بوجـه; لأنّ المجـوس لا يثبـتون إلاّ شريكاً واحداً يسمّونه (أَهْـرِمن)(1)، وهؤلاء يثبـتون شـركاء لا تحصر ولا تحصى.. ( أنّهم إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون )(2).


*    *    *

____________

(1) وأَهْرِمَن، أي: الشرّ أو الضرّ والفساد، أو الظُلمة; وهو الأصل المُحدَث.. والأصل الأزلي هو: يَـزْدان، أي: الخير أو الصلاح والنفع، أو النور.

انظر: شرح الأُصول الخمسة: 284 ـ 285، الملل والنحل 2 / 260 ـ 261، شرح المواقف 8 / 44.

(2) سورة الصافّات 37: 35.


الصفحة 18

الصفحة 19

وأقـول:

قد سبق أنّ خلق الشيء بالاختيار يتوقّف على الرضا به والحبّ له(1)، فيلزم ـ بناءً على أنّه سبحانه خالق القبائح والفساد والكفر ـ أن تكذب الآيتان الأُولَيان.

كما يلزم ـ بناءً عليه ـ أن تكذب الآيات النافية للظلم منه تعالى; لأنّه إذا خلق ظلم الناس بعضهم لبعض كان هو الظالم للمظلوم حقيقة، مضافاً إلى أنّ خلقه تعالى لسيّئات العباد وتعذيبهم عليها ظلم لهم بالضرورة.

ويلزم ـ أيضاً ـ أن تكذب الآية الأخيرة; لأنّه إذا خلق الفحشاء لم يصحّ أن يتنزّه عن الأمر بها، بل خلقه للفحشاء بقوله: " كوني " بمنزلة أمر الفاعل بهـا.

فإن قلت: لا ظلم منه تعالى; لأنّه المالك المطلق، وقد تصرّف في ملكه.

قلـت: تصـرّف المالك بملكه ـ ذي الحياة والشـعور ـ بالإضرار به بلا سبب ظلمٌ له بالضرورة، ويدلّ عليه قوله تعالى: ( وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون )(2).

فإنّه صريح بأنّ إهلاك القرى مع إصلاح أهلها ظلم، والحال أنّه من التصرّف في الملك.

وممّا ذكرنا يُعلم أنّ ما زعمه الخصم من أنّهم ينفون الظلم والرضا

____________

(1) مرّ كلام الشيخ المظفّر (قدس سره) بهذا الخصوص في ج 2 / 364 من هذا الكتاب.

(2) سورة هود 11: 117.


الصفحة 20
بالكفر والقبائح عن الله تعالى باطل.

ولا يتوقّف إثبات الرضا له تعالى بالقبائح على أنّ يكون بمعنى الإرادة، وليس هو من قولنا ولا قول أحد.

وإنّما نقول بتوقّف الفعل الاختياري على إرادته، وهي موقوفة على الرضا به، فيتوقّف الفعل على الرضا به.

وما زعمه من أنّ الخلق غير الفعل قد سبق بطلانه(1)، على أنّ الخلق للشيء يتوقّف على الرضا به بالضرورة، ويستلزم إثبات الظلم لله تعالى وإن لم يسمّ الخلق فعلا.

ولا لوم على المصنّف في عدم التفاته إلى مثل تلك الأجوبة الفارغة عن المعنى، المبنية على مجرّد الاصطلاح أو على أُمور ضرورية الفساد.

وأمّا ما نسبه إلينا من إثبات الشركاء لله سبحانه في الخلق، فقد سبق ما فيه(2)، وأنّ إيجادنا لأفعالنا إنّما هو من آثار قدرته; لأنّ قدرتنا وتأثيرنا من مظاهر قدرته، ودلائل لطف صنعه وحكمته، فنحن لم نسـتغنِ عنه في حال، ولم نفعل بقوّة منّا واستقلال.

وأيّ مناسبة لهذا بالشركة في الخلق المنصرف إلى كونه في عرضه تعالى؟! وبقول المجوس بإلهَين مستقلَّـيْن؟! بل قول الأشاعرة أشبه بقول أكثر المجوس; لأنّهم معاً يثبتون القدماء(3).

ويزيد الأشاعرة على بعض المجوس بإثباتهم حاجة الله تعالى في

____________

(1) راجع الصفحتين 9 ـ 10 من هذا الجزء.

(2) انظر ج 2 / 359 من هذا الكتاب.

(3) راجع ج 2 / 267 هـ 4 من هذا الكتاب.


الصفحة 21
خلقه إلى غيره، وهو صفاته(1).

والبعض من المجوس ـ كما قيل ـ يقرّون بالله تعالى، ويجعلونه خالق الخير، بلا حاجة منه سبحانه إلى غيره(2).


*    *    *

____________

(1) انظر الهامش السابق.

(2) راجع: الملل والنحل 2 / 261.


الصفحة 22

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده; لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه، بل ولا ظنّ به; لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف، وهو الحذر من العقاب، والطمع في الثواب.

ومَن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلاّ خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم، نعوذ بالله منها ومن أمثالها.

ومنها: إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة، والعمل بمقتضى العقل، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأُمور الدنيوية، والإقبال على الله تعالى بالكلّيّة، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه، نُسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه!.. وكلّما ازداد العاصي في عصيانه، ولجّ في غيّه وطغيانـه، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

____________

(1) نهج الحقّ: 87.


الصفحة 23
بالشرع، نُسب إلى العقل والأخذ بالحزم..

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلاّ الخسران، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها: إنّه تعالى كلّف المحال; لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد، وقد كُلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى، أن يكلّف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما، وأن يبلع جبل أبي قُـبَـيْس(1) دفعة، ويشرب ماء دجلة في جرعة، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه: هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل يُنسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ومنها: إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياء (عليهم السلام); لأنّ دليل

____________

(1) جبل أبي قُبيس: هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكـرّمة، قيل: سُمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس، وقيل: كـنّاه النبيّ آدم (عليه السلام) بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس، وكان في الجاهلية يسمّى " الأمين " لأنّ الحجر الأسود كان مستودعاً فيه أيّام الطوفان.

انظر: معجم البلدان 1 / 103 رقم 159، مراصد الاطّلاع 3 / 1066، وانظر مادّة " قبس " في: لسان العرب 11 / 11، تاج العروس 8 / 405.


الصفحة 24
النبوّة هو: أنّ الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى: فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى: فلجواز أن يصدّق المبطلَ في دعواه.

ومنها: إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [منه]; لأنّـه حينئـذ أضـرّ [على البشـر] من إبليس لعنه الله تعـالى، وكان الواجـب ـ على قولهم ـ أن يقول المتعوّذ: أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين، والدخول في زمرة الضالّين، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.


*    *    *


الصفحة 25

وقال الفضـل(1):

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى، وأنّ إجماع الملّـيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبـيـح.. فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسـندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسـندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(2).

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد ـ على رأي الأشاعرة ـ فهذا شيء يلزمهم; لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال، تكون في الجواهر والذوات.. فالخنزير قبيح، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح، وهم متّفقون أنّ الله يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفـعل القبائـح، فإنّ هـذا شيء لم يلزم من كلامـهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مراراً.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 403.

(2) انظر الصفحة 7 من هذا الجزء.


الصفحة 26

وأقـول:

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّـه لا يُوجِد القبائح، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه، كالزنا، والقيادة، والكفر، ونحوها!(1).

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف، إذ ليس الإشكال ناشئاً من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحاً، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه، تقريراً للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله: " وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم... " إلى آخره..

فـفيه ما مرّ من أنّ فعل القبيـح وخلقه بمعنىً واحد، وتعدّد الألفاظ لا أثـر له، فإنّ الإشـكال ناشـئ من قولهـم بإيجـاد الله سـبحانه للقبائـح، ولا لتسميته خلقاً لا فعلا(2).

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقلـيَّين في الأفعال.

وأمّا قوله: " فهذا شيء يلزمهم "..

____________

(1) انظر ج 2 / 332 من هذا الكتاب.

(2) راجع الصفحة 9 من هذا الجزء.


الصفحة 27
فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة; لِما فيها من المصالح الكثيرة، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية، أو لا تلائم الطباع، سُمّيت شروراً وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها، وإلاّ فالله أجلّ من أن يخلق القبيح، تبارك الله أحسن الخالقين.


*    *    *


الصفحة 28

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):

المطلب الرابع
في أنّ الله تعالى يفعل لغرض وحكمة

قالت الإمامية: إنّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين، ونفع يصل إليهم(2).

وقالت الأشاعرة: إنّه لا يجوز أن يفعل شيئاً لغرض، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد، ولا لغاية من الغايات(3).

ولزمهم من ذلك محالات:

منها: أن يكون الله تعالى لاعباً عابثاً في فعله، فإنّ العابث ليس إلاّ الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّاناً، والله تعالى يقول: ( وما خلقنا

____________

(1) نهج الحقّ: 89.

(2) الذخيرة في علم الكلام: 108 وما بعدها، تقريب المعارف: 114 وما بعدها، قواعد المرام في علم الكلام: 110.

(3) الاقـتصاد في الاعتقاد ـ للغـزّالي ـ: 115، نهاية الإقدام في علم الكلام: 397، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 296، المواقف: 331، شرح المواقف 8 / 202.


الصفحة 29
السماء والأرضَ وما بينهما لاعبين )(1).. ( ربَّنا ما خلقت هذا باطـلا )(2).

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب; تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبيـراً.


*    *    *

____________

(1) سورة الأنبياء 21: 16.

(2) سورة آل عمران 3: 191.


الصفحة 30

وقال الفضـل(1):

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض، وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائـيّـة(2).

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها(3).

ومن دلائل الأشاعرة: إنّه لو كان فعله تعالى لغرض، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة، لكان هو ناقصاً لذاته، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض; لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه; وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه، لا يكون باعثاً على الفعل، وسـبباً لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه، وهو معنى الكمال.

فإذاً يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصاً بدونه(4)، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات:

منها: أن يكون الله تعالى لاعباً عابثاً.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 424.

(2) راجع ج 2 / 346 من هذا الكتاب.

(3) المحيط بالتكليف: 263، وانظر: ج 2 / 345 من هذا الكتاب.

(4) انظر: شرح المواقف 8 / 202 ـ 203.