الصفحة 31

والجواب الحقيقي: إنّ العبث ما كان خالياً عن الفوائد والمنافع، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حِكَم ومصالح لا تحصى، راجعة إلى مخلوقاته تعالى، لكنّها ليست أسباباً باعثة على إقدامه، وعللا مقتضية لفاعليّته، فلا تكون أغراضاً له ولا عللا غائيةً لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثاراً مترتّبة عليها، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثاً خالياً عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(1).


*    *    *

____________

(1) انظر: شرح المواقف 8 / 205.


الصفحة 32

وأقـول:

لم ينفِ الحكماء كُلّي الغرض، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم(1)، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدين (رحمه الله) في التجريد: " ولا يلزم عوده إليه "(2).

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى الله تعالى، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّف (رحمه الله) بقوله: " إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ".

فقولهم في هذا الدليل: " لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه " ظاهر البطلان، فإنّ الحكيم المُحسِن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده، أو احتياج النظام إليه، فيكون الغرض كمالا للفعل، ودليلا على كمال ذات الفاعل; لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصاً عابثاً.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

____________

(1) انظر مثلا: تهافت التهافت: 491، شرح التجريد: 443، وقد مرّ ذلك في ج 2 / 347 هـ 1.

(2) تجريد الاعتقاد: 198.


الصفحة 33
أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا: إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم(1).

وما قيل: إنّ الغرض علّة لعلّـيّة العلّة الفاعليّة، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّـيّته إليه، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

فـفيه: إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّـيّته للكائنات إلى إمكانها، واحتياجه في كونه رازقاً إلى وجود من يرزقه، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته، وإنّه مسـتكمل بها(2).. فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت: نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء، وإبقاء إبليس، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت: لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا، وهو غرض راجح لهم، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس، فينال كلّ امرئ استحقاقه، قال

____________

(1) انظر الصفحة 29 من هذا الجزء.

(2) تمهيد الأوائل: 227، الملل والنحل 1 / 81 ـ 82، المواقف: 279، شرح المواقف 8 / 44 ـ 45.


الصفحة 34
تعـالى: ( ألـم * أحسـب النـاس أن يتـركوا أن يـقـولـوا آمـنّـا وهـم لا يُـفـتنون )(1).

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب الله وعقابه، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطاً بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد، مشتمل على مصلحة للمؤمنين، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم، قال تعالى: ( فاليوم الّذين آمنوا من الكـفّار يضحكون )(2).

هذا، ونُقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك، كما حكاه السيّد السعيد ـ مع ردّه ـ عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي(3)، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام..

قال: " إعلم أنّه ـ رضي الله عنه ـ قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث، مثل: إنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بغرض، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

____________

(1) سورة العنكبوت 29: 1 و 2.

(2) سورة المطـفّفين 83: 34.

(3) هو: محمّـد بن صفي الدين عبـد الرحمن بن محمّـد بن عبـد السلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي، وُلد سنة 832 هـ وتوفّي سنة 906 هـ، له تصانيف عديدة منها: جوامع التبيان في تفسير القرآن، كتاب تهافت الفلسفة، حاشية على التلويح للتفتازاني.

انظر: هديّة العارفين 6 / 223، معجم المؤلّفين 3 / 401 رقم 14004.


الصفحة 35
وأنت تعلم أنّه لا يشـكّ ذو فكرة(1) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية، وفعله موقوف على صفة ذاتية، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات "(2).

والأَوْلى في ردّه أن يقال: إنّه إنْ أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإنْ أراد به أنّ الغـرض يكون داعياً له إلى الفعل، فهو المطـلوب، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض; لأنّهم قالوا بحجّية القياس(3)، وهو لا يتمّ إلاّ إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض، إمّا لكون العلّة في القياس غرضاً كما في أكثر المقامات، أو لاستلزامها للغرض، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأنْ يكلّف سبحانه اختياراً تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة، وإلاّ فكيف صارت علّة لفعل الله وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإنْ لم تكن علّة غائية، يستلزم القول بصحّة الأغراض; لأنّ النقص المفروض يأتي أيضاً

____________

(1) في المصدر: " مِـرّة "، والمِـرّة، القوّة وشدّة العقل; انظر: لسان العرب 13 / 74 مادّة " مرر ".

(2) إحقاق الحقّ 1 / 432 ـ 433.

(3) التبصرة في أُصول الفقه: 419 مسألة 3، المستصفى من علم الأُصول 2 / 234، المحصول في علم أُصول الفقه 2 / 245، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 3 / 164 وما بعدها، المواقف: 36.


الصفحة 36
من تلك العلّة; لأنّها تسـتدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بُـدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث; فهو عين ما في " شرح المواقف "(1).

وفيـه: إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثاً ولعباً وإن اشتمل في نفسه على مصلحة، ضرورة أنّ من استأجر أجيراً على فعل فيه مصلحة، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّاناً وبلا غاية له ولا لغيره، عُدّ عابثاً لاعباً.

على أنّ قوله: " أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حِكم ومصالح... " إلى آخره..

إنْ أراد به أنّ ذلك أمر لازم، فهو لا يتمّ على قولهم: " لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء "!

وإنْ أراد أنّه أمر اتّفاقي، فكيف يتنزّه الله سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحـة، ويراه عيـباً عليه، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلـق ما لا مصلحة فيه؟!


*    *    *

____________

(1) شرح المواقف 8 / 204 ـ 205.


الصفحة 37

قال المصنّـف ـ رحمه الله تعالى ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم أن لا يكون الله سبحانه مُحسناً إلى العباد، ولا منعماً عليهم، ولا راحماً لهم، ولا كريماً في حقّ عباده، ولا جواداً، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز، والمتواتر من الأخبار النبوية، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك: إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعاً لغرض الإحسـان إلى المنتـفع، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسـناً; ولهذا لا يوصـف مُـطعم الدابّـة لتسـمن حتّى يذبحها بالإحسـان في حقّها، ولا بالإنعام عليها، ولا بالرحمة; لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريماً وجواداً لو نفع الغير للإحسان وبقصده، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريماً ولا جواداً; تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبـيـراً.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟!

نعوذ بالله من مزالّ الأقدام، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 89.


الصفحة 38

وقال الفضـل(1):

جوابه: منع الملازمة; لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثاً للفاعل على الفعل، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم، لو كان خالياً من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثاً.

وقد بيّـنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحِكَم والغايات والمصالح، فلا تكون أفعاله عبثاً.

وأمّا قوله: " إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه "..

فإن أراد بالقصد الغرضَ والعلّةَ الغائيّة; فممنوع.

وإن أراد الاختيارَ وإرادةَ إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين; فذلك في حقّه تعالى ثابت، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائـيّة.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 434.


الصفحة 39

وأقـول:

منع الملازمة مكابرة ظاهرة، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض، عبثٌ، والعبث لا يكون إحساناً وإنعاماً وكرماً، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحساناً بلا قصد الإحسان، وإلاّ لكان كذلك وإن صدر لغاية أُخرى، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة; وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر:


لا تمدحنَّ ابنَ عبّاد وإنْ هطلتْكفّاه بالجودِ سَحّاً يُخجلُ الدِّيَما(1)
فإنّهـا خَـطراتٌ مـن وساوسـهِيُعطي ويمنعُ لا بُخلا ولا كَرَما(2)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل، ليس من الكرم، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني، فهو عين القول بالغرض; لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي، والداعي هو الغـرض.


*    *    *

____________

(1) السَّحُّ: الصَّـبُّ المتتابع الكثير، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل; انـظر: لسان العرب 6 / 188 مادّة " سحح ".

والدِّيَمُ، جمع دِيمَة: المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق، وهي هنا على المجاز: العطاء الدائم المسـتمرّ; انظر: لسان العرب 4 / 446 و 458 مادّتَي " دوم " و " ديم ".

(2) البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّـاد; انظر ديوانه: 409 ـ 410 رقم 214، وانظر: مرآة الجنان 2 / 314، شذرات الذهب 3 / 105.


الصفحة 40

قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى، بل وضعها وخلقها عبثاً.

فلا يكون خلق العين للإبصار، ولا خلق الأُذن للسماع، ولا اللسان للنطق، ولا اليد للبطش، ولا الرِجل للمشي، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق، ولا الماء للتبريد، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحِكَم والمصالح، ويبطل علم الطبّ بالكلّـيّة، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح، ويبطل علم الهيئة، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 90 ـ 91.


الصفحة 41

وقال الفضـل(1):

إذا قلنا: إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى، هي راجعة إلى مخلوقاته، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى..

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [الاختيارية] ..

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري، وليس هو تعالى كذلك; للزوم النقص والاحتياج..

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفـاعل(2).

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة، لا نفي منافع الأشياء، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء..

مثلا: اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة، وفي إضاءتها منافع للعباد، فالله تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 436.

(2) شرح المواقف 8 / 204.


الصفحة 42
حالة باعثة إلى هذا الخلق، فلا يلزم أن لا تكون المنافع مقصودة، بل هي مقصودة، بمعنى ملاحظة المصلحة والغاية المترتّبة عليها، لا بمعنى الغرض الموجب لإثبات النقص له.


*    *    *


الصفحة 43

وأقـول:

قوله: " رتّب عليها المصالح ".

إن أراد به أنّه رتّبها بما هي مصالح لها مقصودة من خلقها، فهو معنى كونها غرضاً منها.

وإن أراد به أنّه رتّبها بما هي مقصودة بأنفسها، لا بما هي غرض، لم يخرج فعل الأشياء عن العبث، ومنه يعلم ما في قوله بآخر كلامه: " بل هي مقصودة بمعنى ملاحظة المصلحة ".

فإنّه إن أراد بقصد المنافع وملاحظتها، مطلوبيّـتها منها، فهو المطلوب.

وإن أراد به مجرّد ملاحظتها لأنفسها، فلا تكون مخرجة للأشياء عن العبث.

ولا يخفى أنّ قوله: " قبل خلق الأشياء دبّرها " خطأٌ; لأنّ التدبير إنّما هو حين الخلق وما دام البقاء، لا قبل الخلق.

ولا يصحّ أن يريد به التروّي، فإنّه سبحانه غنيٌّ عن التروّي إذا أراد شيئاً قال له: ( كن فيكون )(1).

وأمّا قوله: " فإنّا لو فقدنا العلّة الغائية لم نقدر على الفعل الاختياري "..

____________

(1) سورة البقرة 2: 117، سورة آل عمران 3: 47 و 59، سورة الأنعام 6: 73، سورة النحل 16: 40، سورة مريم 19: 35، سورة يس 36: 82، سورة غافر 40: 68.


الصفحة 44
فخطأٌ آخر; لأنّ اللازم من فقدها إنّما هو العبث لا عدم القدرة.

فلو زعم أنّ الترجيح بلا مرجّح محال كالترجّح بلا مرجّح، فهو جار في حقّ الله تعالى; لأنّ المانع العقلي واحد، على أنّ الامتناع والمحالية بالغير لا ينافي القدرة على نفس الفعل.

ولو اكتفى بالنسبة إلى الله سبحانه بمجرّد رجحان الفعل في نفسه لاشتماله على المصلحة، جاء مثله بالنسبة إلى الإنسان بلا فرق.

ثمّ لا يخفى أنّ قياس الغائب على الشاهد الذي استند إليه سابقاً يقتضي العلّة الغائيّة لأفعاله تعالى.

وما ذكره من لزوم نقص الاحتياج قد عرفتَ وهنه، وهو أشبه بحديث خُـرَافـة(1).


*    *    *

____________

(1) مثلٌ يُضرب لكلّ ما لا يمكن وقوعه.

وخُرافة: رجل من عُذْرة استهوته الجنّ ـ كما تزعم العرب ـ مدّة، ثمّ لمّا رجع أخبرَ بما رأى منهم، فكذّبوه حتّى قالوا لِما لا يمكِـن: حديث خرافة.

انظر: مجمع الأمثال ـ للميداني ـ 1 / 346 رقم 1028، الحيوان ـ للجاحظ ـ 6 / 426، تاج العروس 12 / 162 مادّة " خرف ".

ووردت في أُمّهات مصادر الجمهور روايات نُسـبت إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حدّث بعض نسائه وأقـرّ بخرافة وأحاديثه العجيبة عن الجنّ! فانظر مثلا:

مسند أحمد 6 / 157، الشمائل النبوية ـ للترمذي ـ: 308 ح 252 ب 38، مسند أبي يعلى 7 / 419 ح 4442، مجمع الزوائد 4 / 315 باب عشرة النساء، كنز العمّال 3 / 629 ح 8244 و 8245.


الصفحة 45

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم منه الطامّة العظمى والداهية الكبرى [عليهم] ، وهو: إبطال النبوّات بأسرها، وعدم الجزم بصدق واحد منهم، بل يحصل الجزم بكذبهم [أجمع]; لأنّ النبوّة إنّما تتمّ بمقدّمتين:

إحداهما: إنّ الله تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوّة لأجل التصديق.

والثانية: إنّ كلّ مَن صدّقه الله تعالى فهو صادق.

ومع عدم القول بإحداهما لا يتمّ دليل النبوّة..

[المقدّمة الأُولى:] فإنّه تعالى لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق، لم يدلّ على صدق المدّعي، إذ لا فرق بين النبيّ وغيره.

فإنّ خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق، لكان لكلّ أحد أن يدّعي النبوّة ويقول: إنّ الله صدّقني; لأنّه خلق هذه المعجزة، ويكون نسبة النبيّ وغيره إلى هذه المعجزة على السواء; ولأنّه لو خلقها لا لأجل التصديق لزم الإغراء بالجهل; لأنّها دالّة عليه.

فإنّ في الشاهد لو ادّعى شخص أنّه رسول السلطان، وقال للسلطان: إنْ كنت صادقاً في دعوى رسالتك، فخالف عادتك، واخلع خاتمك، ففعل السلطان ذلك، ثمّ تكرّر هذا القول من مدّعي رسالة السلطان وتكرّر من السلطان هذا الفعل عقيب الدعوى، فإنّ الحاضرين بأجمعهم يجزمون

____________

(1) نهج الحقّ: 91.


الصفحة 46
بأنّه رسول ذلك السلطان.

كذا هنا، إذا ادّعى النبيّ الرسالة، وقال: إنّ الله تعالى يُصدّقني بأن يفعل فعلا لا يقدر الناس عليه مقارناً لدعواي، وتكرّر هذا الفعل من الله تعالى عقيب تكرّر الدعوى، فإنّ كلّ عاقل يجزم بصدقه، فلو لم يخلقه لأجل التصديق; لكان الله تعالى مغرياً بالجهل، وهو قبيح لا يصدر عنه، وكان مدّعي النبوّة كاذباً حيث قال: إنّ الله تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي، فإذا استحال عندهم أن يفعل لغرض، فكيف يجوز للنبيّ هذه الدعوى؟!

المقدّمة الثانية، وهي: إنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق; ممنوعة عندهم أيضاً; لأنّه يخلق الإضلال، والشرور، وأنواع الفساد والشرك، والمعاصي الصادرة من بني آدم (عليه السلام)، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟! فتبطل المقدّمة الثانية أيضاً.

هذا نصّ مذهبهم وصريح معتقدهم، نعوذ بالله من عقيدة أدّت إلى إبطال النبوّات، وتكذيب الرسل، والتسوية بينهم وبين مسيلمة حيث كذب في ادّعاء الرسالة.

فلينظر العاقل المنصف، ويَخَفْ ربّه، ويَخْشَ من أليم عقابه، ويعرض على عقله هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة؟!

وهل هؤلاء أعذر في مقالاتهم؟ أم اليهود والنصارى الّذين حكموا بنبوّة الأنبياء المتقدّمين (عليهم السلام)، وحكم عليهم جميع الناس بالكفر حيث أنكروا نبوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء، فهم شرّ من أُولئك.


الصفحة 47
ولهذا قال الصادق (عليه السلام) حيث عدّهم وذكر اليهود والنصارى: " إنّهم شرّ الثلاثة "(1).

ولا يعذر المقلّد نفسه، فإنّ فساد هذا القول معلوم لكلّ أحد، وهم معترفون بفساده أيضاً.


*    *    *

____________

(1) انظر مؤدّاه في: علل الشرائع 1 / 339 ـ 340 ح 1 باب 220.


الصفحة 48

وقال الفضـل(1):

حاصل ما ينعقد في هذا الاستدلال من هذا الكلام: أنّ الله تعالى لو لم يخلق المعجزة لغرض تصديق الأنبياء لم يثبت النبوّة، فعُلم أنّ بعض أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.

والجواب: إنّه إنْ أراد بهذا الغرض العلّةَ الغائيّة الباعثة للفاعل المختار على فعله الاختياري; فهو ممنوع.

وإنْ أراد أنّ الله تعالى يفيض المعجزة بالقصد والاختيار، وغايته وفائدته تصديق النبيّ من غير أن يكون تصديق النبيّ باعثاً على إفاضة المعجزة، فهذا مسلّم، ويحصل تصديق الأنبياء من غير إثبات الغرض، وهذا مذهب الأشاعرة كما قدّمنا.

ثمّ إنّ هذا الرجل يفتري عليهم المدّعيات المخترعة من عند نفسه من غير تفهّم لكلامهم وتأمّل في غرضهم، فإنّهم يعنون بنفي الغرض نفي الاحتياج من الله تعالى، ووافقهم في ذلك جميع الحكماء الإلهيّـين(2).

فإنْ كان هذا المدّعي صادقاً، فكيف يكـفّرهم ويرجّح عليهم اليهود والنصارى؟!

وإنْ كان باطلا، فيكون غلطاً منهم في عقيدة بَعثَهم على اختيارها

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 439.

(2) هذا ادّعاء الجرجاني في شرح المواقف 8 / 202 المقصد الثامن، وقد تقدّم في الصفحة 31 من هذا الجزء أنّ الحكماء لم ينفوا كلّيّ الغرض، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاسـتكمال; فراجـع!


الصفحة 49
تنزيه الله تعالى من الأغراض والنقص والاحتياج، فكيف يجوز ترجيح اليهود والنصارى عليهم؟!

ومع ذلك افترى على الصادق (عليه السلام) كذباً في حقّهم، وإن كان قد قال الصادقُ هذا الكلام، فيجب حمله على طائفة أُخرى غير الأشاعرة..

كيف؟! والشيخ الأشعري الذي هو مؤسّـس هذه المقالة تولّد بعد سنين كثيرة من أزمان الصادق؟! والأشاعرة كانوا بعده، فكيف ذكر الصادق فيهم هذه المقالة؟!

فعُـلِم أنّ الرجل مفـتر كَـوْدَن(1) كـذّاب، مثل كَـوادِن حلّـة وبغـداد، لا أفلح من رجل سوء!


*    *    *

____________

(1) الكَـوْدَن ـ جمعها: الكوادن ـ: البَـليدُ، على التشـبيه هنا، وفي اللغة هو: البِـرْذَوْن الثقيل من الدوابّ، وقيل: هو الفيـل، وقيل: البغل.

انظر مادّة " كـدن " في: الصحاح 6 / 2187، لسان العرب 12 / 48، تاج العروس 18 / 475 و 476.


الصفحة 50

وأقـول:

حاصل مذهبهم ـ كما ذكر ـ: إنّه تعالى يخلق المعجزة لا لغاية، لكـنّها بنفسها تفيد التصديق بالنبـوّة.

وفيـه: إنّ إفادتها له ليست ذاتية; إذ ليست هي إلاّ كسائر خوارق العادة التي ربّما تـقع في الكون، ولا يوجب نفس وجودها تصديـق أحد في دعواه، فمن أين تفيد المعجزة التصديق بالنبوّة وهو لم يكن غرضاً منـها؟!

ومجرّد مقارنتها لدعوى النبوّة لا يجعل التصديق بها فائدة لها بعد أن كان أصل وجودها ومقارنتها بلا غرض، كما لو قارنت دعوىً أُخرى لآخَرَ! وحينئذ، فلا يكون مدّعي النبوّة أَوْلى بدعواها من غيره وإنْ ظهرت المعجزة على يده; لأنّ خلقها كان مجّاناً وبلا قصد تصديقه، فكيف تقتضي نبوّته خاصّـة؟!

ثمّ لو سُلّم كون التصديق فائدة للمعجزة، فهو غير نافع لِما ذكره المصنّف (رحمه الله) من لزوم كذب مدّعي النبوّة بقوله: " إنّ الله يخلق المعجزة لتصديقي "، وغير دافع للإغراء بالجهل من حيث إفادة المعجزة أنّ الله تعالى خلقها لتصديقه، وإنْ لم يكن هناك إغراء بالجهل من حيث أصل دعواه النبوّة، لفرض كونه نبيّـاً.

ثمّ إنّه لم يتعرّض للجواب عن إيراد المصنّف (رحمه الله) على المقدّمة الثانية، إكـتفاءً بما أسلفه من دعوى العادة التي عرفت أنّه لا معنى لها.


الصفحة 51
وأمّا قوله: " وإن كان باطلا فيكون غلطاً في عقيدة "..

فـفيه: إنّهم لم يستوجبوا ذلك لمجرّد الغلط، بل للإصرار عليه عناداً للحقّ، وجرأةً على الله تعالى، بعد البيان بصريح الكتاب العزيز والسُـنّة الواضحة وحكم العقل الضروري، ولو دعاهم إلى ذلك تنزيه الله تعالى عن الحاجة والنقص لَما جعلوه محتاجاً في كلّ آثاره إلى غيره، وهو صفاته الزائدة على ذاته بزعمهم!

وكيف يكون ذلك تنزيهاً وقد أوضح لهم الإمامية أنّه ليس من الاحتياج والنقص في شيء؟! بل الغرض كمالٌ للتأثير وشاهدٌ بكمال المؤثّـر.

ومن المضحك وعظه في المقام وإنكاره على المصنّف (رحمه الله) في ترجيـح اليهود والنصارى على الأشاعرة، والحال أنّه قد جاء بأكبر منه قريباً، حيث جعل مذهب العدلية أردأ من مذهب المجوس.

وأمّا ما زعمه من أنّ تأخّر زمن الأشعري والأشاعرة عن الصادق (عليه السلام)مناف لإرادته لهم..


الصفحة 52
فـفيه: إنّه إذا جاز لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إرادتهم أو المعتزلة على الخلاف بينهم من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " القدرية مجوس هذه الأُمّة "(1)، فليجز للصادق (عليه السلام) إرادتهم; لأنّ علمه من علم جدّه، واصلٌ إليه من باب مدينة علمه(2)، وهو أحد أوصيائه الطاهرين.

ويحتمل أن يريد الصادق (عليه السلام) مطلق الناصبة والمجبّرة، فيدخل فيهم الأشاعرة، وإن كانت بدعتهم بعده.


*    *    *

____________

(1) سنن أبي داود 4 / 221 ح 4691، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 2 / 341 رقم 2681، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 149 ح 338، المعجم الأوسط 3 / 127 ح 2515 و ج 4 / 464 ح 4205.

(2) إشارة إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنـا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأتي من بابها "، وقد تقدّمت الإشارة إلى مصادر هذا الحديث الشريف في ج 2 / 407 هـ 2، فراجـع.


الصفحة 53

الصفحة 54

قال المصنّـف ـ شرّف الله منزلته ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم [منه] مخالفة الكتاب العزيز; لأنّ الله تعالى قد نصّ نصّاً صريحاً في عدّة مواضع من القرآن أنّه يفعل لغرض وغاية، لا عبثاً ولعباً..

قال تعالى: ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين )(2)..

قال تعالى: ( أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً )(3)..

وقال تعالى: ( وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلاّ ليعبُدون )(4).

وهذا الكلام نصّ صريح في التعليل بالغرض والغاية.

وقال تعالى: ( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحلّت لهمُ وبصدّهم عن سبيل الله )(5)..

وقال تعـالى: ( لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسـان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )(6)..

وقال تعالى: ( ولنبلُـوَ أخباركم )(7).

____________

(1) نهج الحقّ: 93.

(2) سورة الأنبياء 21: 16.

(3) سورة المؤمنون 23: 115.

(4) سورة الذاريات 51: 56.

(5) سورة النساء 4: 160.

(6) سورة المائدة 5: 78.

(7) سورة محمّـد 47: 31.


الصفحة 55
والآيات الدالّة على الغرض والغاية في أفعال الله أكثر من أن تُحصى، فليتّـقِ الله المقلّد في نفسه، ويخشَ عقاب ربّه، وينظر في من يقلّده، هل يسـتحقّ التقليد أو لا؟!

ولينظر إلى ما قال، ولا ينظر إلى مَن قال، وليستعدَّ لجواب ربّ العالمين حيث قال: ( أَوَلَمْ نُعمِّركُم ما يتذكَّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير )(1).. فهذا كلام الله على لسان النذير، وهاتيك الأدلّة العقليّة المستندة إلى العقل الذي جعله الله حجّة على بريّـته.

وليُدخل في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم: ( فبشّر عبادِ * الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أُولئك الّذين هداهمُ الله وأُولئك هم أُولو الألباب )(2)..

ولا يُدخل نفسه في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم: قالُوا ( ربَّنا أرِنا الّذين أضلاّنا من الجنِّ والإنس نجعلهُما تحتَ أقدامِنا ليكونا مِنَ الأسفَلين )(3).

ولا يُعذر بقِصر العمر، فهو طويل على الفكر; لوضوح الأدلّة وظهورها، ولا بعدم المرشدين، فالرُّسل متواترة، والأئمّة متتابعة، والعلماء متضافرة.


*    *    *

____________

(1) سورة فاطر 35: 37.

(2) سورة الزمر 39: 17 و 18.

(3) سورة فصّلت 41: 29.


الصفحة 56

وقال الفضـل(1):

قد ذكرنا في ما سبق أنّ ما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(2).

فقوله تعالى: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون )(3)، فالمراد [منه] أنّ غاية خلق الجـنّ والإنـس والحكمة والمصـلحة فيه كانت هي العبادة، لا أنّ العبادة كانت باعثاً له على الفعل، كما في أرباب الإرادة الناقصة الحادثة.

وكذا غيره من نصوص الآيات، فإنّها محمولة على الغاية والحكمـة لا على الغرض.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 444.

(2) انظر الصفحة 37 من هذا الجزء.

(3) سورة الذاريات 51: 56.


الصفحة 57

وأقـول:

لا يخفى أنّ حمل الآيات على مجرّد المنفعة والفائدة من دون أن تكون غرضاً وعلّة غائيّة مستبعد جدّاً، بل هو ممتنع في أكثرها، كالآية الأُولى، فإنّها دالّة على أنّ خلق السماوات والأرض بما فيهما من المنافع والفوائد صالح لأن يقع على نوعين: لعب، وغير لعب، ولا وجه له إلاّ قصد الغاية وعدم قصدها، وإلاّ فلا يصحّ تنويع ما فيه الفائدة إلى نوعين: لعب لا فائدة فيه، وغير لعب فيه الفائدة.

  • وكقوله تعالى: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبـدون )(1)فإنّـه لا يمكن حمـله على المنـفعة والفائـدة; لأنّ المعنـى حينـئذ يكـون: ما خلقت كلّ فرد من الجنّ والإنس إلاّ وفائدته ومنفعته العبادة.. وهو كـذبٌ، إذ ليـس كلّ فـرد منهم عابـداً، بخـلاف ما إذا قصد الغرض، فإنّـه لا يلزم حصوله.

    وليس المقصود جنس الجنّ والإنـس حتّى لا يلزم الكذب على تقدير إرادة الفائدة; لأنّه نسب العبادة إلى ضمير الجمع الدالّ على الثبوت لكلّ فرد; على أنّه لو قصد الجنس يكون أكثر الأفراد بلا فائدة; لدلالة الآية على انحصار فائدة خلق الجنس الحاصل في خلق أفراده بالعبادة، وحينئذ فيعود محذور الكذب.

  • وكقوله تعالى: ( فبظلم من الّذين هادوا )(2) الآية، فإنّه لا معنى

    ____________

    (1) سورة الذاريات 51: 56.

    (2) سورة النساء 4: 160.