فإن قلت: كما لم يكن الظلم والصدّ والعصيان منافع، لا تكون أغراضاً؟!
قلـت: نعم، ولكنّ التعليل يستلزم الغرض; إذ لا يمكن سببيّة شيء لأن يفعل سبحانه باختياره وهو لا غرض له; كما سبق.
ولو سلّم مسلّم، فالآيتان لمّا دلّـتا على تعليل أفعاله تعالى، صحّ إثبات الغرض له، الذي هو أيضاً علّة باعثة على الفعل; لأنّ النقص ـ على زعمهم ـ يأتي أيضاً من قبل التعليل; لأنّه يستدعي حاجته إلى العلّة في فعله، فإذا اقتضت الآيتان عدم النقص بالتعليل صحّ إثبات الغرض.
ثمّ لو سُلّم إمكان حمل الآيات كلّها على مجرّد الفائدة، فلا داعي له بعد عدم المعارضة بالنقل كما هو ظاهر، ولا بالعقل; لفساد أدلّته، مع إنّهم لم يجروها في القياس كما سبق!
واعلم أنّ الغرض هو الغاية، فما معنى نفي الخصم الغرض لأفعاله تعالى وإثبات الغاية لها؟!!
وقد حصل هذا التناقض منه قبلُ ـ كما في أوّل هذا المطلب ـ إذ ذكر أنّ الأشاعرة قالوا: لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائـيّة(2)، ثمّ قال في آخر كلامه: " وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل
____________
(1) سورة المائدة 5: 78.
(2) انظر الصفحة 29 من هذا الجزء.
نعـم، قـد يريـد بالغايـة عند إثبـاتها مجرّد الفائـدة المترتّـبة اتّـفاقاً، لا العلّة الغائـيّة، وفائدة كلامه تخفيف الشناعة وتلبـيس الحقّ.
____________
(1) انظر الصفحة 30 من هذا الجزء.
قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):
ومنهـا: إنّـه يلـزم تجـويز تعذيـب أعظـم المطيعيـن لله تعـالى كالنبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعظم أنواع العذاب، وإثابة أعظم العاصين كإبليس وفرعون بأعظم مراتب الثواب; لأنّه إذا كان يفعل لا لغرض وغاية، ولا لكون الفعل حسناً، ولا يترك الفعل لكونه قبيحاً، بل مجّاناً لغير غرض، لم يكن تفاوت بين سيّد المرسلين وإبليس في الثواب والعقاب، فإنّه لا يُـثيب المطيع لطاعته، ولا يعاقب العاصي لعصيانه.
فإذا تجرّد هذان الوصفان عن الاعتبار في الإثابة والانتقام، لم يكن لأحدهما أولوية الثواب والعقاب دون الآخر.
فهل يجوز لعاقل يخاف الله وعقابه أن يعتقد في الله تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟! مع أنّ الواحد منّا لو نُسب إلى أنّه يُسيء إلى من أحسن إليه ويُحسن إلى من أساء إليه، قابله بالشتم والسبّ ولم يرض ذلك منه..
فكيف يليق أن ينسب ربّه إلى شيء يكرهه أدون الناس لنفسه؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 94.
وقال الفضـل(1):
هذا الوجه بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى بيان; لأنّ أحداً لم يقل: بأنّ الفاعل المختار الحكيم لم يلاحظ غاياتِ الأشياء والحِكَمَ والمصالح فيـها.
فإنّهم يقولون في إثبات صفة العلم: إنّ أفعاله متقنة(2)، وكلّ من كان أفعاله متقنة فلا بُـدّ أن يلاحظ الغاية والحكمة، فملاحظة الغاية والحكمة في الأفعال لا بُـدّ من إثباته بالنسبة إليه تعالى، وإذا كان كذلك كيف يجوز التسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي؟!
وعندي أنّ الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية لم يحرّروا هذا النزاع ولم يبيّنوا محلّه، فإنّ جلّ أدلّة المعتزلة دلّت على إنّهم فهموا من كلام الأشاعرة نفي الغاية والحكمة والمصلحة، وإنّهم يقولون: إنّ أفعاله اتّفاقيات كأفعال من لم يلاحظ الغايات(3)، واعتراضاتهم واردة على هذا.
فـنقول: الأفعال الصادرة من الإنسـان مثلا مـبدؤها دواع مخـتلفة، ولا بُـدّ لهذه الدواعي من ترجيح بعضها على بعض، والمرجّح هو الإرادة الحادثة(4).. فذلك الداعي الذي بعث الفاعل على الفعل مقدّم على وجود
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 445.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 188، المواقف: 285.
(3) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 350 ـ 354.
(4) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 205 ـ 208.
هذا تعريف الغرض في اصطلاح القوم، فإن عُرِض هذا على المعتزلي فاعترف بأنّه تعالى في أفعاله صاحب هذا الغرض، لزمه إثبات الاحتياج لله تعالى في أفعاله، وهو لا يقول بهذا قطّ; لأنّه ينفي الصفات الزائدة ليدفع الاحتياج، فكيف يجوّز الغرض المؤدّي إلى الاحتياج؟!
فبقيَ أنّ مراده من إثبات الغرض دفعُ العبث من أفعاله تعالى، فهو يقول: إنّ الله تعالى مثلا خلق الخلق للمعرفة، يعني غاية الخلق، والمصلحة التي لاحظها الله تعالى وراء علّتها هي المعرفة، لا أنّه يفعل الأفعال لا لغرض ومقصود كالعابث واللاعب، فهذا عين ما يقوله الأشاعرة من إثبات الغاية والمصلحة.
فعُلِم أنّ النزاع نشأ من عدم تحرير المدّعى.
وأقـول:
إنْ أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل، فهو مذهبنا(1)، ولا يقوله الأشاعرة.
وإنْ أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل، فهو مذهب الأشاعرة(2)، ويلزمه العبث وسائر المحالات، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب الله سبحانه أعظم المطيعين، ويثيب أعظم العاصين; لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل، بل يفعل مجّاناً بلا غرض، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع، وأمّا في ما لم يقع بعدُ ـ كالثواب والعقاب ـ فمن الجائز أن لا يكون متقناً; لفرض عدم الغرض له تعالى، ولأنّه لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه شيء!..
فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية!
أتُراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟!
وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائـيّة، وأنّ الإماميـة والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأساً ونقصاً، بخلاف الأشـاعرة؟!
وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية، فإنْ أراد بها الغاية الباعثة على الفعل، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.
____________
(1) تجريد الاعتقاد: 198، كشف المراد: 331، تلخيص المحصّل: 343 ـ 344.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 350، المواقف: 331 ـ 332، شرح المواقف 8 / 202 ـ 206.
وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة، فهو وإنْ قالوا به ظاهراً، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان; لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليَّين ونفي وجوبِ شيء عليه تعالى.
وأمّا قوله: " ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل "..
فإنْ أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثاً، فهو صحيح، والله سبحانه أحقّ بـه.
وإنْ أراد أنّـه لا يفـعله لعدم قدرته عليـه كما زعمه سابقاً، فهو باطل ـ كما عرفت ـ، ومنه يُعلم ما في قوله: " فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ".
وقد بيّـنّـا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة، فيكون كمالا للفعل، ودليلا على كمال ذات الفاعل، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها(2); تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
____________
(1) سورة القصص 28: 8.
(2) انظر ج 2 / 169 وما بعدها من هذا الكتاب.
إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):
المطلب الخامس
في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي
هذا هو مذهب الإمامية، قالوا: إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا، [وكره المعاصي سواء وقعت أم لا] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا(2).
وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود، سواء كان طاعة أم لا، وسواء أمر به أم نهى عنه(3) [وكره كلّ ما لم يقع، سواء كان طاعة أو لا، وسواء أمر به أو نهى عنه] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادةً لله تعالى، وأنّه تعالى راض بها!
____________
(1) نهج الحقّ: 94.
(2) أوائل المقالات: 57 ـ 58، شرح جمل العلم والعمل: 87، المنقذ من التقليد 1 / 179، تجريد الاعتقاد: 199.
(3) الإبانة في أُصول الديانة: 126 ـ 127، تمهيد الأوائل: 317، الاقتصاد في الاعتـقاد ـ للغـزّالي ـ: 102، الملـل والنحـل 1 / 83، الأربعيـن في أُصـول الديـن ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343، المواقف: 320، شرح المقاصد 4 / 274، شرح المواقف 8 / 173.
وهذا القول يلزم منه محالات، منها: نسبة القبيح إلى الله تعالى; لأنّ إرادة القبيح قبيحة، وقد بيّـنّـا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها(2).
____________
(1) انظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343 ـ 345، شرح المواقف 8 / 173 وقال: " منهم ـ أي الأشاعرة ـ من جوّز أن يقال: الله مريـد للكـفر والفسـق والمعصيـة " وذكـر في ص 174 أنّ خالـق الشيء بلا إكراه مريدٌ له بالضرورة، وفيه أيضاً: أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله.. فلاحظ!
(2) راجع كلام العلاّمة الحلّي (قدس سره) في ج 2 / 334 المبحث الحادي عشر من هذا الكـتاب.
وقال الفضـل(1):
قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة: إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لِما لا يكون، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه(2).
ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية: إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كارهٌ للمعاصي والكفر(3).
ودليل الأشاعرة: إنّه خالق للأشياء كلّها، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة(4).
وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي، فهو من استدلالات المعتزلة.
والجواب: إنّ الشرك مراد لله تعالى، بمعنى: إنّه أمرٌ قدّره الله تعالى في الأزل للكافر، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به، وهذا من باب التباس
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 448.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343، المواقف: 320، شرح المواقف 8 / 173 و 174.
(3) تقـدّم في الصفحة 63 هـ 2، وراجع المصـارد التاليـة التي تذكر آراء المعتزلـة: شرح الأُصول الخمسة: 456 ـ 457، الملل والنحل 1 / 39، شرح المواقف 8 / 173.
(4) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 343، المواقف: 320، شرح المواقف 8 / 174.
وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى..
فإنْ أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به، فصحيح; لأنّه لو أراد لوجد..
وإنْ أراد عدم الرضا به، فهو باطل; لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.
وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره، فإنّه تعالى أمر الكـفّار بالإسـلام ولم يرد إسـلامهم، بمعـنى عدم تـقدير إسـلامهم، وهذا لا يُعدُّ من السفه، ولا محذور فيه، وإنّما يكون سفهاً لو كان الغرض من الأمر منحصراً في إيقاع المأمور به، ولكن هذا الانحصار ممنوع; لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يُعدُّ سفهاً.
وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى; لأنّ إرادة القبيح قبيحة..
فجوابه: إنّ الإرادة بمعنى التقدير، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.
على أنّ هذا مبنيٌّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام; لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحاً، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّـا ومنكم.
وأقـول:
لا يخفى أنّ الأُمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه; لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلاّ بمرجّح، وهو الإرادة، فيكون العدم على طبع الوجود مقدوراً ومستنداً إلى الإرادة.
ولذا أسند الله تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية )(1) الآية، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب، والموت عدم الحياة.
ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أُمور:
منها: تصوّر المراد..
ومنها: الرضا به، سواء كان وجوداً أو عدماً، وسواء كان حكماً أم غيره، فإنّ مَنْ يريد شيئاً لا بُـدّ أن يرضى به بالضرورة.
ومنها: الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بُـدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارهاً لنقيضه، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.
وإذا كلّف بنحو الندب، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.
وإذا حكم على وجه الإباحة، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو
____________
(1) سورة الإسراء 17: 16.
نعم، إذا كان التكليف امتحانياً لم تتوقّف إرادته إلاّ على الرضا بأصل التكليف، لا بمتعلّقه.
فإذا عرفت هذا فنقول: لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى، لم تكن له إلاّ إرادة تشريعية، أي إرادة للأحكام، فلم يكن له تعالى رضاً بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي، ولا كراهة لِما يتركونه من الطاعات.
بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، فإنّه يلزم أن يكون الله سبحانه مريداً للمعاصي الواقعة راضياً بها، ولعدم الطاعات المتروكة كارهاً لها; لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل، كما سـبق(1).
ويلزم أن يكون الله تعالى آمراً بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات، وناهياً عمّا أراده ورضي به، وهو الذي خلقه من المعاصي، بل يلزم اجتماع الضدّين: الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه; لأنّ أمرُه دليل الرضا وتركُه دليل الكراهة.
وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله; لأنّ نهيه مستلزم للكراهة، وفعله مستلزم للرضا.
وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم، بل هو مبنيٌّ على توقّف الإرادة على الرضا ـ كما بيّـنّـاه ـ،
____________
(1) راجع ردّ الشـيخ المظفّر (قدس سره) في مبحث " استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة " في ج 2 / 373 من هذا الكتاب.
على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير، خطأ; لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل، ولو سُلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة(1)، وهي موقوفة على الرضا.
ومن الفضول قوله في ما سمعت: " وأمر المشرك به "..
فإنّ المصنّف لم يدّعِ أنّه يلزم مذهبهم أمرُ المشرك به حتّى ينفيه، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.
وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه، فخطأ; لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو، لا بما هو موجود، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.
وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره، فمكابرة ظاهرة.
وقوله: " إنّما يكون سفهاً لو كان الغرض من الأمر منحصراً في إيقاع المأمور به "..
باطل; لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن، لا على العاجز، فيكون امتحانه سفهاً آخر، تعالى الله عنه علوّاً كبيراً، وسيأتي قريباً زيادة إشكال عليه فانتظر.
وأمّا قوله: " وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح "..
____________
(1) راجع ردّ الشيـخ المظفّر (قدس سره) في مبحث " استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة " في ج 2 / 373 من هذا الكتاب.
وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام، فقد عرفت جوابه(2).
____________
(1) راجع ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في مبحث " إنّه تعالى لا يفعل القبيح "، الصفحة 9 من هذا الجزء.
(2) راجع الصفحة 25 من هذا الجزء.
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
ومنها: كون العاصي مطيعاً بعصيانه، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.
____________
(1) نهج الحقّ: 95.
وقال الفضـل(1):
جوابـه: إنّ المطيع من أطاع الأمر، والأمر غير الإرادة، فالمريد هو المقـدّر للأشـياء ومرجّـح وجوداتهـا، فإذا وقـع الخـلق على وفق إرادتـه فلا يقال: إنّ الخلق أطاعوه.
نعم، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 452.
وأقـول:
غير خفيّ أنّ الطاعـة منوطة بموافـقة الإرادة، والعصيان بمخالفتـها، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته..
ولذا لو عُلِمَتْ إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه..
ولو عُلم عدم إرادته مع أمره صورةً لم يجب فعله..
وإنّما قالوا: الطاعة موافقة الأمر; لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالباً، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعاً بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعاً ألبتّة.
قال عزّ من قائل: ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )(1)..
وقال تعـالى: ( إنّما أمره إذا أراد شـيئاً أن يقول له كن فيكون )(2).
____________
(1) سورة فصّلت 41: 11.
(2) سورة يس 36: 82.
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
ومنـها: كونه تعالى يأمر بما يكره; لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد.. وينهى عمّا يريد، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.
وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنـه؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 95.
وقال الفضـل(1):
قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يُعدُّ سفهاً(2)، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصراً في إيقاع المأمور به، وليس كذلك; لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.
أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة; فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال: امتثل أمر سـيّده.
وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه; فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان، أطاع أو عصى، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 452.
(2) راجع ردّ الفضل في مبحث " استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة " في ج 2 / 372، وانظر الصفحتين 65 ـ 66 من هذا الجزء.
وأقـول:
لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعاً، كما هو الحاصل في الشرعيّات، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.
ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صورياً لغرض الامتحان أو غيره، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.
ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى، وهو باطل على قولهم: " إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض "(1)!
____________
(1) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 350، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 296، المواقف: 331، شرح المواقف 8 / 202.
قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):
ومنها: مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات، كقوله تعالى: ( وما الله يريد ظلماً للعباد )(2)..
( كُلّ ذلك كان سـيّـئُه عند ربّك مكروهاً )(3)..
( فإنّ الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكـم )(4)..
( والله لا يحبُّ الفساد )(5)..
إلى غير ذلك من الآيات..
فتُرى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 95.
(2) سورة غافر 40: 31.
(3) سورة الإسراء 17: 38.
(4) سورة الزمر 39: 7.
(5) سورة البقرة 2: 205.
وقال الفضـل(1):
قد يُستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا، فقوله تعالى: ( وما الله يريد ظلماً للعبـاد )(2)، أُريد من الإرادة الرضا، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة، وهذا عين المذهب.
وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح، أو مبدأ الترجيح، فلا تقابلها الكراهة، وهو معنىً آخر.
وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 454.
(2) سورة غافر 40: 31.
وأقـول:
لمّا كان من مذهبه: أنّ الله سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون، المريد له(1)، وكان ذلك خلافاً صريحاً للآية الأُولى، التجـأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا، وهو لو سُلّم لا ينفعه; لتوقّف الإرادة على الرضا; لأنّه من مقدّماتها، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم ـ كما زعم ـ اسـتلزم نفي إرادته له، وهو خلاف مذهبه.
وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السـيّئ عنده مكروهاً ولا يحبّ الفساد، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!
وإذا كان يرضى الشكر، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!
وأمّا قوله: " وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا "..
فكلام صـادر من غير تروّ، إذ ليـس في بقيّـة الآيات التـي ذكرهـا المصنّف (رحمه الله) ما يشتمل على لفظ الإرادة، ولا يُعْوِزه الجواب إذا كان مبنياً على المغالطة.
____________
(1) راجع الصفحة 63 من هذا الجزء.
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):
ومنها: مخالفة المحسوس وهو: استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف; لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.
وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.
وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي; لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.
فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات، وثبوت الصارف في المعاصي، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.
____________
(1) نهج الحقّ: 96.
وقال الفضـل(1):
إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصارف لا ينافي سبق إرادة الله تعـالى لأفعالهم وخلقه لها; لأنّ الإسناد بواسطة الكسب والمباشرة، فلا يكون مخالفةً للمحسوس.
وأمّا ما ذكره من الدليل، فهو مبنيٌّ على إثبات الحسن والقبح العقلـيَّين، وقد أبطلناهما.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 455 ـ 456.
وأقـول:
حاصل مراد المصنّف: إنّ الظاهر عندنا الضروري لدينا، أنّ الفعل إنّما تتفرّع إرادته وإيجاده عن ثبوت الداعي له وانتفاء الصارف عنه، وتتفرّع كراهته وتركه عن وجود الصارف عنه وعدم الداعي له.
ولا ريب أنّ الفعل الذي به الطاعة حسن، والحسن جهة دعاء، والفعل الذي به المعصية قبيح، والقبح جهة صرف، فلا بُـدّ أن يكون ما به الطاعة مراد الله تعالى; لوجود الداعي له وهو حسنه بلا صارف عنه، وما به المعصية مكروهاً لله تعالى; لوجود الصارف عنه وهو قبحه بلا داع له..
لأنّ الداعي: إمّا الحاجة إليه، أو الجهل بقبحه، وهما منتفيان في حقّ الله تعالى.
أو الحكمة، وهي منافية لفعل القبيح، فيلزم أن تثبت إرادة الله تعالى للطاعات، وكراهته للمعاصي، إرادة وكراهة تشريعيّتين عندنا وتكوينيّتين عند الأشاعرة.
لكنّهم خالفوا المحسوس بقولهم: إنّ الله تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الأفعال، سواء كان طاعة أم معصية، ويكره كلّ ما لم يقع(1).
فإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ مراد المصنّف هو: الداعي والصارف لله تعالى لا للعبد كما تخيّله الخصم، فأجاب بما لا يرتبط بكلام المصنّف أصـلا.
____________
(1) راجع الصفحة 63 من هذا الجزء.