والأَوْلى للخصم الاكتفاء في الجواب بإنكار الحسن والقبح العقليَّين في الأفعال.
لكن يرد عليه ـ مع بطلانه كما سبق(1) ـ أنّ بعض الأفعال صفة كمال أو نقص عندهم، كالعدل، والظلم، والإصلاح، والإفساد، ونحوها..
وهم يقولون: بالحسن والقبح عقلا فيها كما سبق منه(2)، وهو كاف في تمام دليل المصنّف رحمة الله عليه.
____________
(1) انظر الصفحة 9 من هذا الجزء.
(2) راجع ردّ الفضل بن روزبهان من مبحث " الحسن والقبح العقلـيَّين " في ج 2 / 411 من هذا الكتاب.
وجوب الرضا بالقضاء
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المطلب السادس
في وجوب الرضا بقضاء الله تعالى
اتّـفقت الإمامية والمعتزلة وغيرهم من الأشاعرة وجميـع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره(2).
ثمّ إنّ الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالّة على وجـوب الرضـا بالقـضاء، وهو: إنّ الله تعـالى يفعل القبائح بأسـرها ولا مؤثّر في الوجود غير الله تعالى من الطاعات والقبائح(3)..
فتكون القبائح من قضاء الله تعالى على العبد وقدره، والرضا بالقبيح
____________
(1) نهج الحقّ: 96.
(2) انظر رأي الإمامية والمعتزلة في:
التوحيد ـ للصدوق ـ: 370، المنقذ من التقليد 1 / 192 ـ 193، تجريد الاعتقاد: 200، المحيط بالتكليف: 420.
وانظر رأي الأشاعرة في:
الملل والنحل 1 / 83، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 289، المواقف: 322، شرح المواقف 8 / 176 ـ 177.
(3) انظر الصفحة 6 هـ 2 من هذا الجزء.
ولو كان من قضاء الله تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين، وهي:
إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره..
أو وجوب الرضا بالقبيح..
وكلاهما خلاف الإجماع.
أمّا على قول الإمامية، من أنّ الله تعالى منزّه من فعل القبائح والفواحش، وأنّه لا يفعل إلاّ ما هو حكمة وعدل وصواب، ولا شكّ في وجوب الرضا بهذه الأشياء، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجباً، ولم يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرضا بقضاء الله تعالى ولا في الرضا بالقبائح.
____________
(1) انظر: التوحيد ـ للصدوق ـ: 371، تقريب المعارف: 105، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 88 و 89، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 344، المواقف: 322.
وقال الفضـل(1):
قد سبق أنّ وجوب الرضا بقضاء الله تعالى مذهب الأشاعرة(2)، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى فقد عرفت بطلانه في ما سبق(3)، وأنّه غير لازم; لأنّ خلق القبيح ليس فعله، ولا قبيح بالنسبة إليه تعالى.
وأمّا قوله: " فتكون القبائح من قضاء الله تعالى "..
فجوابه: إنّ القبائح مقضيّات لا قضاء، والقضاء فعل الله تعالى، والقبيح هو المخلوق.
ونخـتار من المقـدّمتين وجـوب الرضـا بقضـاء الله تعالى وقـدره، ولا نرضى بالقبيح، والقبيح ليس هو القضاء، بل هو المقضيّ كما عرفته، ولم يلزم منه خرق الإجماع.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 459.
(2) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في ج 2 / 338.
(3) راجع ردّ الفضل بن روزبهان في الصفحة 7 من هذا الجزء.
وأقـول:
قد بيّـنّـا أنّ خَلق القبيح فِعله(1)، ولو سُلّمت المغايرة فهو في القبح مثله.
وليت شعري لِـمَ يمتنع من القول: بأنّ الخَلق هو الفعل؟! والحال أنّه يزعم أنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى، فليكن فِعله سبحانه للقبيح سائغاً، وتسميته الخَلق بالفِعل جائزة، لا سيّما و [أنّه] لا حسن ولا قبح عقلا في الأفعال عندهم!
وليس هو بأعظم من حكمه بأنّ الله سبحانه يقضي بالقبيح، تعالى الله عمّا يقول الظالمون.
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضاء والمقضيّ، فقد سبق أنّه لا يُغني شيئاً; للتلازم بينهما في الرضا وعدمه(2).
على أنّ القبائح المقضيّات لله سبحانه مرضيّات له; لتوقّف فعل الشيء بالاختيار على إرادته والرضا به ـ كما مرّ(3) ـ، فلو سخطها العبد كان سخطاً لِما رضي الله وأراده.
فإن قلت: من مقضيّات الله تعالى: جهل العباد وملكاتهم السيّئة كالجبن والبخل، وهي ممّا اتّفقت الكلمة والأخبار على ذمّها وعدم الرضا بها، فلا بُـدّ من القول بعدم التلازم بين القضاء والمقضيّ في الرضا وعدمه.
____________
(1) راجع ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في الصفحة 9 من هذا الجزء.
(2) راجع ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 339.
(3) انظر ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 339.
كما إنّ ذمّ الجبن والبخل وعدم الرضا بهما ليس من حيث أصل وجودهما الذي قضت به الحكمة الإلهيّة، بل من حيث آثارهما المستندة إلى العبد التي يقدر على مجانبتها بالنظر إلى قبحها، وتعويد نفسه على خلافها، بل يقدر على تبديل الملَـكتين بخلافهما.
فالجهل والجبن والبخل مرضيّات الوجود، مسخوطات البقاء أو الآثار، والمرضيّ مستند إلى الله تعالى، والمسخوط مستند إلى العبد.
إنّه تعالى لا يعاقب على فِعله
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
المطلب السابع
في أنّ الله تعالى لا يعاقب الغير على فِعله
ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا يعذّب العبيد على فعل يفعله فيهم، ولا يلومهم عليـه(2).
وقالت الأشاعرة: إنّ الله تعالى لا يعذّب العبد على فعل العبد، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر، ثمّ يعاقبه عليه، ويفعل فيه الشتم لله تعالى والسـبّ له ولأنبيائه (عليهم السلام) ويعاقبه عليها، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذِكره وذِكر أحوال المعاد.. ثمّ يقول: ( فما لهم عن التذكرة معرضين )(3)(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 98.
(2) أوائل المقالات: 57 ـ 58 رقم 26 وذكر الشيخ المفيد رأي المعتزلة كذلك، المنقذ من التقليد 1 / 190 و 199.
وانظر رأي المعتزلة في: شرح الأُصول الخمسة: 332 وما بعدها، الملل والنحل 1 / 39، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 344.
(3) سورة المدّثّر 74: 49.
(4) الإبانة عن أُصول الديانة: 158 ـ 161، تمهيد الأوائل: 317 ـ 323، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 115 ـ 117، المواقف: 320 ـ 321، شرح المقاصد 4 / 274 ـ 275، شرح المواقف 8 / 173 وما بعدها.
( وما ربّك بظلاّم للعبيـد )(1)..
( وما الله يريد ظلماً للعباد )(2)..
( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )(3)..
( ولا تزر وازرة وزر أُخرى )(4).
وأيُّ ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئاً ويعاقبه عليه؟! بل يخلقه أسود ثمّ يعذّبه على سواده، ويخلقه طويلا ثمّ يعاقبه على طوله، ويخلقه أكمه ويعذّبه على ذلك، ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء ثمّ يعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم يَـطِر!
فلينظر العاقل المنصف من نفسه، التارك للهوى، هل يجوز له أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى هذه الأفعال؟! مع أنّ الواحد منّا لو قيل له: إنّك تحبس عبـدك وتعذّبه على عدم خروجه في حوائجك! لقابلَ بالتكذيب وتبرّأ من هذا الفعل، فكيف يجوز أن ينسب ربّه إلى ما يتنزّه هو عنه؟!
____________
(1) سورة فصّلت 41: 46.
(2) سورة غافر 40: 31.
(3) سورة النحل 16: 118.
(4) سورة الأنعام 6: 164، سورة الإسراء 17: 15، سورة الزمر 39: 7، سورة فاطر 35: 18.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: أنْ لا خالق غير الله تعالى كما نصّ عليه في كتابه العزيز: ( الله خالق كلّ شيء )(2) وهو يعذّب العبد على فعل العبد; لأنّ العبد هو المباشر والكاسب لفعله وإنْ كان خَـلْقه من الله تعالى، والخَلق غير الفِعل والمباشرة.
ثمّ إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك(3).
وليس هذا من باب الظلم; لأنّ الظلم هو التصرّف في حقّ الغير، ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال: إنّه ظلم، فالعباد كلّهم ملك الله تعالى، وله التصرّف فيهم كيف يشاء.
ألا ترى إلى قول عيسى (عليه السلام) حيث حكى الله تعالى عنه: ( إن تُعذّبهم فإنّهم عبادُك )(4) جعل العبودية سبباً مصحّحاً للتعذيب، والمراد أنّهم ملكك ولك التصرّف فيهم كيف شئت، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرّف في عباده.
هذا هو الحقّ الأبلج وما سواه بدعة وضلالة، كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء الله تعالى.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 466.
(2) سورة الرعد 13: 16، سورة الزمر 39: 62.
(3) انظر الصفحة 7 ـ 8 والصفحة 91 هـ 4 من هذا الجزء.
(4) سورة المائدة 5: 118.
فإنّ هذه الأشياء أعراضٌ خُلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض; لأنّ العبد في الأفعال كاسب ومباشر، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف.
وأقـول:
قد سبق في المطلب الأوّل بيان المراد في قوله تعالى: ( خالق كلّ شيء )(1) فراجع تحقيقه(2).
وأمّا قوله: " لأنّ العبد هو المباشر والكاسب "..
فـفيه: إنّ الكسب الذي يزعمونه أيضاً خَلْق الله تعالى; لأنّه خالق كلّ شيء، ولا أثر للعبد في الكسب أصلا.
ما أدري هل المقتضي للعقاب مجرّد الألفاظ وأن يقال: إنّ العبد كَسَبَ وفَعَل؟!
وأمّا قوله: " ومن تصـرّف في حقّـه بأيّ وجه من وجـوه التصـرّف لا يقال: إنّه ظلم "..
فظاهر البطلان، ضرورة أنّ صحّة تعذيب العبد بأنواع العذاب من دون ذنب ليست من مقتضيات الملكيّة وحقوقها، بل هذا التصرّف ظلم محض لا يستحقّه المالك بوجه أصلا.
قال تعـالى: ( وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون )(3)، فإنّه سبحانه جعل إهلاكه للمصلح ظلماً وإن كان من التصرّف في الملك.
فتعبير الخصم عن الملك بالحقّ على وجه يجوز فيه ذلك التصرّف
____________
(1) سورة الرعد 13: 16، الزمر 39: 62.
(2) انظر ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 342.
(3) سورة هود 11: 117.
وأمّا استدلاله بالآية الحاكية لقول عيسى (عليه السلام) ففي غير محلّه; لأنّ حقّـيّة العقاب متوقّفة على أمرين: الذنب، وولاية المعذِّب على المذنب.
ولمّا كان من اتّخذ عيسى وأُمّـه إلهَين مذنباً ـ وسابقاً ذَكَرَ ذنبه في الآية ـ بيَّن عيسى الأمر الثاني، وهو: ولاية الله تعالى عليهم بأنّهم عباده، فلم تدلّ الآية على صحّة عذاب من لا ذنب له.
وأمّا قوله: " فإنّ هذه الأشياء أعراض خُلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب "..
فـفيه: ـ مع أنّ بعض أمثلة المصنّف كالطيران من الأفعال ـ إنْ أراد أنّها لا يتعلّق بها ثواب وعقاب من حيث الوقوع، فمُسلّم، وليس هو مقصود المصنّف.
وإنْ أراد أنّه لا يجوز تعلّقهما بها، فهو مناف لقوله: " لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ".
.. إلى غير ذلك من كلماته.
والمصنّف لم يقصد إلاّ تجويزهم للعقاب في الأمثلة وهو لازم لهم.
وأما قوله: " والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض "..
فـفيه: إنّه لا أثر لهذا الفرق بعد أن كان المصحّح للعذاب عندهم هو الملكـيّة، على أنّ الكسب كالسواد فِعلٌ لله تعالى، فلا فرق إلاّ بأمر يعود إلى اللفظ.
امتناع تكليف ما لا يطاق
قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):
المطلب الثامن
في امتناع تكليف ما لا يطاق
قالت الإمامية: إنّ الله تعالى يستحيل عليه ـ من حيث الحكمة ـ أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه(2).
فلا يجوز له أن يكلّف الزَمِـنَ الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدّين، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب، ولا إحياء الموتى، ولا إعادة آدم ونوح عليهما السلام، ولا إعادة الأمس الماضي، ولا إدخال جبل قاف في خرم الإبرة(3)، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة، ولا إنزال
____________
(1) نهج الحقّ: 99.
(2) أوائل المقالات: 57 ـ 58، شرح جمل العلم والعمل: 98 ـ 99، الذخيرة في علم الكلام: 100، تقريب المعارف: 112، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 106، المنقذ من التقليد 1 / 203.
(3) هذا ممّا يُضرب مثلا لِما هو مستحيل، وقد وردت عدّة أحاديث عن الخاصّة والعامّة تفيد أنّ جبل قاف هو الجبل المحيط بالأرض، وخضرة السماء منه، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها... انظر: معاني الأخبار: 22 ح 1، مجمع البيان 9 / 208، تفسير الفخر الرازي 28 / 146 و 148، تفسير القرطبي 17 / 3 و 4، معجم البلدان 4 / 338 رقم 9373; والله العالم!
وذهبت الأشاعرة: إلى أنّ الله تعالى لم يكلّف العبد إلاّ ما لا يطاق ولا يتمكّن من فعله(1)، فخالفوا المعقول الدالّ على قُبح ذلك، والمنقول، وهو المتواتر من الكتاب العزيز، قال الله تعالى:
( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها )(2)..
( وما ربّك بظلاّم للعبيـد )(3)..
و ( لا ظلم اليوم )(4)..
( ولا يظلم ربّك أحداً )(5).
والظلم هو الإضرار بغير المستحقّ، وأيُّ إضرار أعظم من هذا مع إنّه غير مسـتحقّ؟!
تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبيـراً.
____________
(1) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 98 ـ 99، تمهيد الأوائل: 332 ـ 333، الأربعيـن في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 328 ـ 332، المواقف: 330 ـ 331، شرح المقاصد 4 / 296، شرح المواقف 8 / 200.
(2) سورة البقرة 2: 286.
(3) سورة فصّلت 41: 46.
(4) سورة غافر 40: 17.
(5) سورة الكهف 18: 49.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّ تكليف ما لا يطاق جائز، والمراد من هذا الجواز، الإمكان الذاتي، وهم متّفقون أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع قطّ في الشريعة بحكم الاستقراء، ولقوله تعالى: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ).
والدليل على جوازه: إنّه تعالى لا يجب عليه شيء، فيجوز له التكليف بأيّ وجه أراد، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه.
وأيضاً: لا يقبح من الله شيء، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
ومذهب المعتزلة: عدم جواز التكليف بما لا يطاق; لأنّه قبيح عقلا بما ذكره هذا الرجل من أنّ المكلّف للزَمِن الطيران إلى السماء وأمثاله يُعدّ سفهاً، وقد مرّ في ما مضى إبطال الحسن والقبح العقلـيَّين(2).
ولا بُـدّ في المقام من تحرير محلّ النزاع، فنقول: إنّ ما لا يطاق على مراتب:
أحدها: أن يمتنع الفعل لِعِلم الله بعدم وقوعه، أو تعلّق إرادته أو إخباره بعدمه، فإنّ مثله لا تتعلّق به القدرة الحادثة; لأنّ القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله، ولا تتعلّق بالضدّين، بل لكلّ واحد منهما قدرة على حِدَة تتعلّـق به حـال وجـوده عنـدنا، ومثـل هذا الشيء لمّـا لم يتحقّـق أصـلا
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 472.
(2) انظر ردّ الفضل في ج 2 / 330 ـ 331 من هذا الكتاب.
والثاني: أن يمتنع لنفس مفهومه، كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم، فقالت الأشاعرة في هذا القسم: إنّ جواز التكليف به فرع تصوّره وهو مختلَف فيه، فمنهم من قال: لا يتصوّر الممتنع لذاته، ومنهم من قال بإمكان تصوّره.
وبالجملة: لا يجوز التكليف به أصلا; لأنّ المراد بهذا الجواز الإمكان الذاتي، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات، وهو باطل.
الثالث: أن لا تتعلّـق به القـدرة الحادثة عادةً، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومه ـ بأن لا يكون من جنس ما يتعلّق به كخلق الأجسام، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بإيجاد الجواهر أصلا ـ، أم لا ـ بأن يكون من جنس ما يتعلّق به، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلّق به كحمل الجبل، والطيران إلى السماء، وسائر المستحيلات العاديّة ـ، فهذا محلّ النزاع..
فنحن نقول: بجوازه لإمكانه الذاتي..
والمعتزلة: يمنعونه لقبحه العقلي(1)..
مع إنّـا قائلون: بأنّه لم يقع(2)، وهذا مثل سائر ما يجوّزه الأشاعرة من الأُمور الممكنة، كالرؤية وغيرها، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع.
____________
(1) انظر: شرح المواقف 8 / 200 ـ 202.
(2) راجع: المواقف: 331، شرح المواقف 8 / 202.
وأقـول:
لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّـة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.
فإنّا نقول أيضاً بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتاً، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية، لكن نقول: إنّه ممتنع بالغير، من حيث قبحه وكونه ظلماً ومنافياً للحكمة(1)، وهم لا يقولون بذلك.
وقد عرفت سابقاً ما في قولهم: " لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء "، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقلـيَّين(2).
وأمّا قوله: " أحدها: أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه "..
فـفيه ما تقدّم أيضاً من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به، لا متبوعان، فلا يجعلان خلافهما ممتنعاً لا يطاق(3).
وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل، فهو أحد السفسطات، وستعرف ما فيه.
وقوله: " والتكليف بهذا جائز، بل واقع إجماعاً "..
باطل لأُمور:
الأوّل: إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ
____________
(1) أوائل المقالات: 56 ـ 58.
(2) انظر ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 332 و 353.
(3) انظر ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 353.
كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجبٌ حينئذ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع، لعدم تيسّر عدمه.
فإذا كلّف الله سبحانه به كان أيضاً تكليفاً بما لايطاق، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق، كما ذكره المصنّف، وتكذب الآية كذباً كلّـيّـاً.
وإن أبيتَ عن كون الواجب ممّا لا يسع، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع، فتكذب الآية كذباً جزئيّاً.
الثاني: إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهي افتراء; لِما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعُه(2)، وأنّ تعلّق علم الله تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعاً، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.
وإنْ كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشـر ـ بما هي لا تطـاق عندهم وتطـاق عنـدنا ـ كان إظهـاره الإجمـاع على التـكليف بما لا يطـاق في المرتبة الأُولى تدليساً.
الثالث: إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأُولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية; لأنّ المرتبة
____________
(1) سورة البقرة 2: 286.
(2) راجع الصفحة 97 من هذا الجزء.
مثلا: إذا كُـلّف الكافر بالإيمان، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به، يكون مكلَّفاً بأن يجمع الضدّين: الإيمان والكفر، والنقيضين: الإيمان وعدمه، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.
وأمّا قوله: " فهذا محلّ النزاع "..
فـفيه ما لا يخفى; لأنّه في المرتبتين الأُوليَين ـ أيضاً ـ محلّ النزاع بيننا وبينهم.
أمّا الأُولى: فلِما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا; لأنّ محلّ التكليف مُطاق عندنا في هذه المرتبة.
وأمّا الثانية: فلأنّا نمنع منه في غيرها ـ فضلا عنها ـ وهم يجوّزونه فيها; لأنّهم يقولون ـ كما ذكر الخصم ـ: إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصـوّره، فمن يقول بتصـوّره لا يمنع من التـكليف به، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.
ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!
وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله: " التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات "، فممّا لا يرضى به الأشاعرة; لأنّه ليس
فـظهر أنّ تكلّف الخصم ـ تبعاً للمواقف وشرحها(2) ـ في بيان هذه المراتب، ودعوى الفرق بينها، لا يجديهم نفعاً سوى تلبيس الحقيقة، وإضاعة الحقّ.. وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي، واتّبعوا الكتاب المجيـد؟!
____________
(1) المسائل الخمسون: 61، تفسير الفخر الرازي 7 / 144، المواقف: 328، شرح المقاصد 4 / 282 ـ 283، شرح المواقف 8 / 195.
(2) المواقف: 330 ـ 331، شرح المواقف 8 / 200 ـ 202.
إرادة النبيّ موافقة لإرادة الله
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المطلب التاسع
في أنّ إرادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) موافقة لإرادة الله تعالى
ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يُريد ما يُريده الله تعالى ويكره ما يكرهه، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهـة(2).
وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، وأنّ النبيّ يُريد ما يكرهه الله تعالى، ويكره ما يُريده; لأنّ الله تعالى يُريد من الكافر الكفر، ومن العاصي العصيان، ومن الفاسق الفسوق، ومن الفاجر الفجور، والنبيّ أراد منهم الطاعات، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبيّ، وأنّ الله كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان، والنبيّ أرادهما منهما، فخالفوا بين كراهة الله وكراهة نبـيّـه(3).
نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد الله
____________
(1) نهج الحقّ: 100.
(2) إنقاذ البشر من الجبر والقدر ـ المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى ـ 2 / 236، مجمع البيان 7 / 399، المنقذ من التقليد 1 / 185.
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 310 ـ 311، وانظر ج 2 / 365 من هذا الكـتاب.
وقال الفضـل(1):
الإرادة قد تقال ويراد بها: الرضا والاستحسان، ويقابلها السخط والكراهة، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.
فالإرادة إذا أُريد بها الرضا والاستحسان، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله، وكلّ ما هو مكروه عند الله مكروه عند رسوله.
وأمّا قوله: " ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، فإنّ النبيّ يُريد ما يكرهه الله ويكره ما يُريده; لأنّ الله يُريد من الكافر الكفر، ومن العاصي العصيان... والنبيّ أراد منهم الطاعات "..
فإنْ أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط، فقد بيّـنّـا أنّه لم يقع بين إرادة الله وإرادة رسوله مخالفة قطّ.
وإنْ أراد أنّ الله يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يُريد منه الطاعة، بمعنى الرضا والاستحسان، فهذا صحيح; لأنّ الله أيضاً يستحسن منهم الطاعة ويُريدها، بمعنى يقدّرها.
والحاصل: إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض، وكثيراً ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا، والله يعلم المصلح من المفسد.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 1 / 485 ـ 486.
وأقـول:
لا أعرف معنىً للتقدير قبل الخلق ـ أي في الأزل ـ كما عبّر به سابقاً، إذ لا أزلي إلاّ الله عندنا(1)، وإلاّ هو وصفاته عندهم(2).
ولعلّه يُريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنىً واحداً، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير ـ الذي هو فعل ـ غير مناسب.
وكيف كان فقوله: " لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيٌّ لله تعالى فهو مرضيٌّ لرسوله " باطل; لأنّ الله سبحانه لمّا كان عندهم مريداً لأفعال العباد، خالقاً لها، لزم أن يكون راضياً بالموجود منها كارهاً للمعدوم; لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل، إذ بالإرادة يحصل الترجيح..
والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح..
فيكون الله سبحانه راضياً بالكفر والمعاصي الموجودة، كارهاً للإيمان والطاعات المفقودة، والنبيّ بخلاف ذلك، فيختلفان بالرضا والكراهة.
وحينئذ فعلى تقدير أن يُريد المصنّف بالإرادة الرضا، يكون كلامه
____________
(1) شرح جمل العلم والعمل: 50، تقريب المعارف: 75 و 83، المنقذ من التقليد 1 / 70.
(2) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 26 و 32 و 47، تمهيد الأوائل: 48 ـ 49، الملل والنحل 1 / 82، المسائل الخمسـون: 43 ـ 44، شرح المواقـف 8 / 44 ـ 45.
وأمّا قوله: " وإنْ أراد أنّ الله تعالى يقدّر الكفر "..
ففيـه: إنّه لو فرض إرادة المصنّف له، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم، سواء أُريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل; لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت، وتوقّف الفعل على الصفة، وحينئذ يلزم المخالفة بين الله ورسوله بالرضا والكراهة، كما عرفت.