الصفحة 113

إنّــا فاعلــون

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

المطلب العاشـر
في: إنّـا فاعلـون

اتّـفقت الإمامية والمعتزلة على: " إنّا فاعلون " وادّعوا الضرورة في ذلـك(2).

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل، بل في قلوب الأطفال والمجانين.

فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الراميَ دون الآجرة، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لَما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة، بل هو حاصل في البهائم.

____________

(1) نهج الحقّ: 101.

(2) الذخيرة في علم الكلام: 73، شرح جمل العلم والعمل: 92، المنقذ من التقليد 1 / 150 ـ 151، تجريد الاعتقاد: 199.

وانظر رأي المعتزلة في: المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 8 / 3 و 13، شرح الأُصول الخمسة: 323 و 336، المحيط بالتكليف: 230، الملل والنحل 1 / 39، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 320.


الصفحة 114
قال أبو الهذيل: " حمار بِشْر أعقل من بِشْر(1); لأنّ حمار بِشْر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه; لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، وبِشْر لم يفرّق بينهما، فحماره أعقل منه "(2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلاّ الله تعالى(3)، فلزمهم من ذلك محالات.


*    *    *

____________

(1) هو: أبو عبـد الرحمن بشر بن غياث المَرِيسي، فقيه حنفي متكلّم، كان يقول بالإرجاء، ومن أصحاب الرأي، وله مقالات فاسدة، توفّي ببغداد سـنة 218 أو 219 هـ.

انظر ترجمته في: تاريخ بغـداد 7 / 56 رقم 3516، معجم البلدان 5 / 138 رقم 11179، وفيات الأعيان 1 / 277 رقم 115.

(2) منهاج السُـنّة النبوية 3 / 108.

(3) اللمع في الردّ على أهل الزيـغ والبـدع: 71 ـ 72، الإبانة عن أُصول الديانة: 126 ـ 131 المسألة 194 ـ 205 و ص 142 ذيل المسألة 226 و ص 146 الجواب 233، تمهيد الأوائل: 317 ـ 319، الإنصاف ـ للباقلاّني ـ: 43، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ: 115 الدعوى الرابعة، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 83، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 320 الفرقة الرابعة، المسائل الخمسون: 59 المسألة 34، شرح العقائد النسـفية: 135، شرح المقاصد 4 / 223 و 238 وما بعدها، شـرح المواقف 8 / 145 ـ 146 و 173 ـ 174، شرح العقيدة الطحاوية: 120 ـ 121; وانظر: خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ: 25 ـ 46.


الصفحة 115

وقال الفضـل(1):

مذهب الأشاعرة: إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرةً واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبـد.

والمراد بكسبه إيّاه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلاًّ له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري(2)، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد..

فالعبد فاعل وكاسب، والله خالقٌ ومبدع.. هذا حقيقة مذهبهم.

ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا، كما صدّر الفصل بقوله: " إنّـا فاعلـون " واعترض الاعتراضات عليه.

فنحن أيضاً نقول: إنّـا فاعلـون، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا وأوجده مقارناً لقدرتنا واختيارنا، وهذا شيء لا يسـتبعده العقل.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 5.

(2) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 72 ـ 78، تمهيد الأوائل: 342، شرح المواقف 8 / 145 و 146.


الصفحة 116
فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد، والسواد مخلوق لله تعالى، فلِـمَ لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقاً لله تعالى؟!

ودليل الأشاعرة: إنّ فعل العبد ممكن في نفسه، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى; لشمول قدرته ـ كما ثبت في محلّه ـ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد; لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد; لِما هو ثابت في محلّه.

وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقٌّ صريح، ولا شكّ أنّ الممكن، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده، ولا مجال للقدرة الحادثة.

والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى في الوجود، وهذا خطأٌ عظيم واستجراء كبير، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع، كما سـنبيّن لك إن شاء الله تعالى في أثناء هذه المباحث.

ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب، بل باختيار، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق..

منهـا: ما اختاره أبو الحسين(1) من مشايخهم وذكره هذا الرجل،

____________

(1) هو: محمّـد بن علي بن الطيّب البصري، شيخ المعتزلة، وصاحب التصانيف الكلامية، بصري سكن بغداد ودرس فيها الكلام إلى حين وفاته سنة 436 هـ، ولم تذكر أيّ من المصادر تاريخاً لولادته، إلاّ إنّه قيل: قد شاخ.

له تصانيف عديدة، منها: المعتمد في أُصول الفقه ـ ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب " المحصول " ـ، تصحيح الأدلّة، شرح الأُصول الخمسة، كتاب في الإمامة، وغير ذلك.

انظر: تاريخ بغداد 3 / 100 رقم 1096، وفيات الأعيان 4 / 271 رقم 609، لسان الميزان 5 / 298 رقم 1009، شذرات الذهب 3 / 259 حوادث سنة 436 هـ، معجم المؤلّفين 3 / 518 رقم 14762.


الصفحة 117

الصفحة 118
وهو: ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال(1).

وبيان ذلك: إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتَي المختار والمرتعش، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء، بخلاف حركة المرتعش، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.

وجعل أبو الحسـين ومن تابعه من الإمامية إنكارَ هذا سفسـطةً مصادِمةً للضرورة(2) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحـث.

والجواب: إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري، لكنّه عائد إلى وجود القدرة، منضمّةً إلى الاختيار في الأُولى وعدمها في الثانية، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها(3).

والحاصل: إنّـا نرى الفعل الاختياري مع القدرة، والفعل الاضطراري بلا قدرة، والفرق بينهما يُعلم بالضرورة، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه، وهذا محلّ النزاع، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعاً.

____________

(1) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 320.

(2) المواقف: 313.

(3) انظر: شرح المواقف 8 / 152.


الصفحة 119
ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطلٌ صريح; لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله، ومعترفين مثبتين له بالدليل.

فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى; لأنّه مسلّم بين الطرفين، فكيف يُسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيـه؟!

وأيضـاً: إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد، وبدونها لا يحصل، ويـلزم منها: إنّه لا إرادة منـه ولا حصول الفعل عقيبها، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه(1)؟!

فعُلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطِـل فيه.


*    *    *

____________

(1) شرح المواقف 8 / 152 ـ 153.


الصفحة 120

وأقـول:

قولـه: " نحن أيضاً نقول: إنّـا فاعلـون "..

مغالطة ظاهرة; لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده، وهم لا يقولون به، وإنّما يقولون: إنّـا محلٌّ لفِعل الله سبحانه(1)، والمحلّ ليس بفاعل، فإنّ مَـنْ بنى في محلّ بناءً لا يقال: إنّ المحلّ بان، وفاعل; نعم، يقال: مات وحَيِـيَ ونحوهما، وهو قليل.

وقولـه: " وهذا شيء لا يسـتبعده العقل "..

مكابرة واضحة; لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلاًّ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم.. فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد، ولا يكلونها إلى إرادة الله تعالى، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم..

فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّـا محلّ صرف؟!

وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه، إذ ليس السواد متعلّقاً لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!

وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة، فإنْ كان المراد بالمقدّمة القائلة: " كلّ ممكن مقدور لله تعالى "، هو: أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال

____________

(1) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 72 ـ 78، شرح المقاصد 4 / 225 ـ 226، شرح المواقف 8 / 145 ـ 146.


الصفحة 121
العبـاد، فهـو مصـادرة، ولا يلـزم من إمكـانها المبـيّن في المقـدّمة الأُولى إلاّ احتياجها إلى المؤثّر، وجواز تأثير قدرة الله تعالى فيها، لا تأثيرها فعلا بهـا.

وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة; لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله، وإنّما قدرة الله تعالى صالحة للتأثير فيه، وأن تتغلّب على قدرة العبد.

ولسخافة هذا الدليل لم يشرِ إليه نصيـر الدين (رحمه الله) في " التجـريد "، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.

وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو: إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى، فهو منجرٌّ إلى الانتقاد على الله سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز: ( تباركَ اللهُ أحسن الخالقين )(1).

وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.

أمّا إثبات فاعل غير الله تعالى، أصلُ وجوده وقدرته من الله تعالى، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة الله سبحانه وتوابع مخلوقيّته له، فمن أحسن الأُمور وأتمّها اعترافاً بقدرة الله تعالى، وأشدّها تنزيهاً له.

أترى أنّ عبـيد السلطان إذا فعلوا شيئاً بمَدَد السلطان يقال: إنّهم سلاطين مثله، ويكون ذلك عيباً في سلطانه، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من الله تعالى، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئاً من

____________

(1) سورة المؤمنون 23: 14.


الصفحة 122
صفاتهم، فكيف يكون القول: بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّاً منافياً لعظمة الله تعالى؟!

واعلم أنّ الخلق لغةً: الفعل والاختراع، قال تعالى: ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير )(1).. ( وتخلقون إفكاً )(2).

نعـم، المنصرف منه عند الإطلاق فِعل الله تعالى، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكَنَتِ الفرصةُ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيباً في مذهبنا لكان عيباً في قوله تعالى: ( تباركَ اللهُ أحسن الخالقين )(3).

وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أَوْلى بالعيب في مذهبهم; لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى، زائدة على ذاته بزعمهم(4) كزيادتها على ذوات العباد.

فكيف يشركون فيها معه البشر، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير الله؟!

نعـم، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القِـدَم، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته، كما هو مذهب الأشاعرة.

وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون: الله مالك ونحن مالكون؟!

____________

(1) سورة المائدة 5: 110.

(2) سورة العنكبوت 29: 17.

(3) سورة المؤمنون 23: 14.

(4) راجع ج 2 / 267 ومصادر الهامش رقم 4.


الصفحة 123
وأمّـا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضـرورة، فممّا تكـرّر ذِكره في كتبهم، وهو ظاهر الفساد; لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية، تحكم بتأثير القدرة فيها، وأنّا فاعلون لهـا، ولذا يذمّ الطفلُ الراميَ لعلمـه الضـروري بأنّـه مؤثّر، كما بيّنه المصنّـف (رحمه الله).

على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يُعلم وجودها، إذ لا دليل عليها غيره، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها; لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.

فإن قلت: الاختيار هو الإرادة، وهي: عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين، فيكون وجود الاختيار مستلزماً لوجود القدرة.

قلـت: المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقاً حتّى يلزم وجودها، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدورَي الله تعالى، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدورَيه تعالى، بأن يخلق الفعل عند خلقها.

هـذا، مضافاً إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلاّ كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كـذلك.

وهل خلق القدرة ـ وكذا الاختيار ـ بلا تأثير إلاّ من العبث؟! تعالى الله عنه.

نعـم، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية، وإنْ كان ضرورياً، إلاّ إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة

الصفحة 124
الله تعالى، كما عن أبي إسحاق الإسفراييني(1)، أو بنحو الاستقلال والإيجاب كما عن الفلاسفة(2)، أو بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب العدلية(3)، فمن أين يتعيّن الأخير؟!

وفيـه: بعد كون المطلوب في المقام هو إبطال مذهب الأشاعرة، وما ذكر كاف في إبطاله: إنّ مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة; لأنّ وجود الاختيار وتأثيره من أوضح الضروريات.

على أنّ الإيجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار تسلّطها على الطرفين في القول الأحقّ، ويمكن أن يحمل كلامهم على الإيجاب بالاختيار فيكون صحيحاً.

وأمّا مذهب أبي إسحاق، فظاهر البطلان أيضاً; لأنّ الله سبحانه مُنزّه عن الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال، ولأنّه يقبح بأقوى الشريكين أن يعذّب الشريك الضعيف على الفعل المشترك، كما بيّنه إمامنا وسـيّدنا الكاظم (عليه السلام) وهو صبي لأبي حنيفة(4).

____________

(1) كما في محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 280، تلخيص المحصّل: 325، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار: 190.

وقد مرّت ترجمة الإسفراييني في ج 2 / 59 هـ 1; فراجـع.

(2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 280، شرح المواقف 8 / 147، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار: 190، شرح العقيدة الطحاوية: 122.

(3) الذخيرة في علم الكلام: 84 و 86، شرح جمل العلم والعمل: 92 و 96 ـ 97، تجريد الاعتقاد: 205.

وانظر رأي المعتزلة في: شرح الأُصول الخمسة: 325 و 362، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 281، شرح المواقف 8 / 146.

(4) انظر ذلك مثلا في: التوحيد ـ للصدوق ـ: 96 ب 5 ح 2، الأمالي ـ للصدوق ـ: 494 ح 673 المجلس 64، مناقب آل أبي طالب 4 / 339، الاحتجاج 2 / 331 ح 269، أعلام الدين: 318.


الصفحة 125
وأمّا ما زعمه من إبطال دعوى الضرورة بقوله: " لأنّ علماء السلف كانوا منكرين... " إلى آخره..

ففيـه: إنّ علماء السلف من العدلية إنّما ذكروا الأدلّة على المدّعى الضروري، للتنبيه عليه لا لحاجته إليه، ولذا ما زالوا يصرّحون بضروريّته، مضافاً إلى أنّ عادة الأشاعرة لمّا كانت على إنكار الضروريات، احتاج منازعهم إلى صورة الدليل مجاراةً لهم.

وأمّا قوله: " وأيضاً: إنّ كلّ سليم العقل... " إلى آخره..

فتوضيحه: إنّ سليم العقل يعلم أنّ إرادته لا تتوقّف على إرادة أُخرى، فلا بُـدّ أن تكون إرادته من الله تعالى، إذ لو كانت منه لتوقّفت على إرادة أُخرى; لتوقُّف الفعل الاختياري على إرادته، فيلزم التسلسل في الإرادات، وهو باطل.

فـإذا كانت إرادته من الله تعـالى وغير اختيارية للعبـد، لم يكن الفعـل من آثار العبد وقدرته، بل من آثار الله تعالى، لوجوب حصول الفعل عقيب الإرادة المتعلّقة به، الجازمة الجامعة للشرائط، المخلوقة لله تعالى، فلم تكن إرادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من آثار العبد، بل من الله تعـالى.

وفيـه: إنّ عدم احتياج الإرادة إلى إرادة أُخرى، لا يدلّ على عدم كونهـا من أفعـال العبـد المسـتندة إلى قدرتـه، فإنّ تأثيـر قدرته في الفعـل لا يتوقّف ذاتاً على الإرادة، ولذا كان الغافل يفعل بقدرته وهو لا إرادة له، وكذا النائم.

وإنّما سُمّي الفعل المقدور اختيارياً لاحتياجه غالباً إلى الإرادة والاختيار، فتوهّم من ذلك اشتراط سبق الإرادة في كلّ فعل مقدور، وهو

الصفحة 126
خطـأ.

وبالجملة: فعل العبد المقدور نوعان: خارجي، كالقيام والقعود ونحوهما; وذهني، وهو أفعال القوى الباطنة، كالإرادة والعلم والرضا والكراهة ونحوها.

والأوّل مسبوق بالإرادة إلاّ نادراً كفعل الغافل والنائم، والثاني بالعكـس، والجميع مقدور ومفعول للعبد، ولذا كُلّف الإنسان عقلا وشرعاً بالمعرفة، ووجب عليه الرضا بالقضاء، وورد العفو عن النيّة..

وقال تعالى: ( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم )(1)..

وقال سبحانه: ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً )(2)..

وقال تعالى: ( فَطوّعت له نفسه قتل أخيه )(3)..

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّما لكلّ امرئ ما نوى "(4)..

وقال: " نيّة المرء خير من عمله "(5).

____________

(1) سورة الأنفال 8: 53.

(2) سورة يوسف 12: 83.

(3) سورة المائدة 5: 30.

(4) صحيح البخاري 1 / 2 ح 1 و ص 37 ح 53 و ج 3 / 290 ح 13 و ج 8 / 252 ح 63 و ج 9 / 40 ح 1، صحيح مسلم 6 / 48، سنن أبي داود 2 / 269 ح 2201، سنن ابن ماجة 2 / 1413 ح 4227، سنن الترمذي 4 / 154 ح 1647، سنن النسائي 1 / 59، مسند أحمد 1 / 25، تهذيب الأحكام 1 / 83 ح 218 و ج 4 / 186 ح 519، الأمالي ـ للطوسي ـ: 618 ح 1274، دعائم الإسلام 1 / 156.

(5) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 6 / 185 ح 5942، حلية الأولياء 3 / 255، تاريخ بغـداد 9 / 237، إحيـاء علـوم الديـن 5 / 270، فردوس الأخبـار 2 / 373 ح 7096 و 7097، أُصـول الكـافي 2 / 112 ح 1669، المحاسـن 1 / 405 ح 919، الهدايـة ـ للصدوق ـ: 62.


الصفحة 127
ويشهد لكون الإرادة من الأفعال المستندة إلى قدرة العبد; أنّ الإنسان قد يتطلّب معرفة صلاح الفعل ليحدث له إرادة به، وقد يتعرّف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده، وإنْ كانت جازمة فإنّها قد تكون فعلية والمراد استقبالياً، فالقدرة في المقامين على الإرادة حاصلة من القدرة على أسبابها كسائر أفعال القلب، فكلّ فعل باطني مقدور للإنسان حدوثاً وبقاءً وزوالا.

فـثبت أنّ الإرادة ومقـدّماتها ـ أعني: تصوّر المراد والتصديـق بمصالحه والرضا به من الجهة الداعية إليه ـ مقدورة للعبد، ومن أفعاله المسـتندة إليه.

نعم، ربّما يكون بعض مقدّمات الإرادة من الله تعالى، وبذلك تحصل الإعانة من الله تعالى لعبده، كما تحصل بتهيئة غيرها من مقدّمات الفعل، وعليه يُحمل قول إمامنا الصادق (عليه السلام): " لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين "(1).

فإنّه لا يبعد أنّ المراد بالأمر بين الأمرين دخل الله سبحانه في أفعال العباد، بإيجاد بعض مقدّماتها، كما هو واقع في أكثر المقدّمات الخارجية، التي منها تهيئة المقتضيات ورفع الموانع.

فحينئذ لا يكون العبد مجبوراً على الفعل ولا مفوَّضاً إليه بمقدّماته، وبذلك يصحّ نسبة الأفعال إلى الله تعالى.

فإنّ فاعل المقدّمات، لا سيّما الكثيرة القريبة إلى الفعل قد يُسمّى

____________

(1) الكافي 1 / 179 ح 406، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 141، التوحيد ـ للصدوق ـ: 362 ح 8، الاحتجاج 2 / 490.


الصفحة 128
فاعلا له، وعليه يُحمل ما ظاهره إسناد أفعال العباد إلى الله تعالى، كبعض آيات الكتاب العزيز(1).

والله وأوليـاؤه أعلـم.


*    *    *

____________

(1) انظر: سورة البقرة 2: 253، سورة الرعد 13: 16، سورة الصافّات 37: 96، سورة الزمر 39: 62.


الصفحة 129

قال المصنّـف ـ زاد الله فضله عليه ـ(1):

منها: مكابرة الضرورة، فإنّ العاقل يُفرّق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنةً ويسرةً، والبطش باليد اختياراً، وبين الحركة الاضطرارية; كالوقوع من شاهق، وحركة المرتعش، وحركة النبض، ويفرّق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد.

ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 102.


الصفحة 130

وقال الفضـل(1):

قد عرفت جواب هذا في ما مرّ(2)، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام ثمّ كـرّره، كما هو عادته في التكريرات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى; والجواب ما سبق.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 18.

(2) راجع الصفحة 113 فما بعدها.


الصفحة 131

وأقـول:

مراد المصنّـف (رحمه الله) سابقاً هو: بيان مدّعى العدلية من كون العباد فاعلين بالضرورة(1).

ومراده هنا: بيان ما يلزم الأشاعرة من مكابرة الضرورة، غاية الأمر أنّه بيّن سابقاً وجه الضرورة بياناً للمدّعى، وهو ليس من التكرار.

وأمّا تطويله، فهو لإيضاح الحجّة للعوامّ عسى أن يرتـدع من له قلـب.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب بمجرّد وجود القدرة وعدمها من دون تأثير لوجودها، فقد عرفت أيضاً أنّه مخالف للضرورة، فإنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة تحكم بتأثيرها، ولو لم يكن لها تأثير لم نعلم بوجودها; لاحتمال الفرق بمجرّد وجود الاختيار وعدمه(2).


*    *    *

____________

(1) تقدّم في الصفحة 111.

(2) تقدّم في الصفحة 120.


الصفحة 132

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومنها: إنكار الحكم الضروري من حسن مدح المحسن وقبح ذمّه، وحسن ذمّ المسيء وقبح مدحه.

فإنّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائماً ولا يفعل شيئاً من المعاصي، ويبالغ بالإحسان إلى الناس، ويبذل الخير لكلّ أحد، ويعين الملهوف، ويساعد الضعيف.. وإنّه يقبح ذمّه، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيهاً، ولامه كلّ أحد، ويحكمون حكماً ضرورياً بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدّي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس، ويمتنع من فعل الخير وإن قَـلَّ، وإنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيهاً ولامه كلّ عاقل.

ونعلم ضرورة قبح المدح والذمّ على كونه طويلا وقصيراً، أو كون السماء فوقه والأرض تحته، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ لو كان الفعلان صادرين عن العبد، فإنّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إلـيه.

والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ، فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه، ولا الشكر له، ولا بحسن ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم، بل جعلوهما متساويَين

____________

(1) نهج الحقّ: 102.


الصفحة 133
في اسـتحقاق المدح والذمّ(1).

فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله، ويتّبع ما يقوده عقله إليه، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ويعتقد ضدّ الصواب، فإنّه لا يُـقبل منه غداً يوم الحساب..

وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم: ( وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للّذين استكبروا إنّا كـنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا نصيباً من النار )(2).


*    *    *

____________

(1) انظر: نهاية الإقدام في علم الكلام: 370، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 294، طوالع الأنوار: 202.

(2) سورة غافر 40: 47.


الصفحة 134

وقال الفضـل(1):

حاصل ما ذكره في هذا الفصل: أنّ المدح والذمّ يتوجّهان إلى الأُمور الاختيارية، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمّه، ولولا أنّ تلك الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لَما كان فرق بين الأعمال الحسنة والسـيّـئة، ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذمّ، فعُلم أنّ الأفعال اختيارية، وإلاّ يلزم التساوي المذكور، وهو باطل.

والجواب: إنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال، باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل وكسبه ومباشرته للفعل; أمّا أنّه لتأثير قدرته في الفعل، فذلك غير ثابت، وهو المتنازع فيه، ولا يتوقّف ترتّب المدح والذمّ على التأثير، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور.

ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار، فباطل مخالف للعرف واللغة، فإنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها بخلاف الحمد، واختُـلف في الحمد أيضاً.

وأمّا قوله: " والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح "..

إنْ أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي للمدح والذمّ المذكورين، فذلك كذلك; لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا.

وإنْ أراد نفي الحكم بحسن مدح الله تعالى وثنائه مطلقاً، فهذا من

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 19.


الصفحة 135
مفترياته، فإنّهم يحكمون بحسن مدح الله وثنائه; لأنّ الشرع أمر به، لا لأنّ العقل حكم به، كما مـرّ مراراً(1).


*    *    *

____________

(1) انظر ردّ الفضل بن روزبهان في ج 2 / 411 ـ 412.


الصفحة 136

وأقـول:

لا ريب أنّ المدح والذمّ يتبعان حسن الأشياء وقبحها، والحسن والقبح في الأفعال إنّما يكونان من حيث صدورها من فاعلها وتأثيره فيها بقدرته واختياره، لا لذواتها، ولذا لو صدر من النائم أو المكره فعل لم يُمدح ولا يُذمّ عليه.

وحينئذ فلا يصحّ تعلّق المدح والذمّ بالعبد بمجرّد جعل الله تعالى له محلاًّ لفعله من دون قدرة له على الامتناع ولا تأثير له في الفعل، فلا وجه لجعل الكسب موجباً لترتّب مدح العبد وذمّه على الفعل، فإنّه بأيّ معنىً فُسّر لم يصدر كأصل الفعل بقدرةِ العبدِ واختياره، وما لم يصدر من العبد شيء لا يحسن مدحه أو ذمّه عليه.

وأمّا ما حكاه عن أهل اللغة من أنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها(1)..

ففيـه: إنّ مرادهم بالغير هو الصفات كصفاء اللؤلؤ، لا ما يعمّ الأفعال التي تقع بلا قدرة واختيار، فإنّه خلاف الضرورة.

ولكن على هذا يشكل ذِكر المصنّف للطول والقصر، وكون السماء فوقنا والأرض تحتنا، فإنّها ليست من الأفعال حتّى يكون عدم المدح والذمّ عليها شاهداً للمدّعى.

____________

(1) مثل الثناء على الشيء بما فيه من الصفات الجميلة، خِلْقِـية كانت أو اختيارية; انظر مادّة " مدح " في: المصباح المنير: 216، تاج العروس 4 / 199.


الصفحة 137
ويمكن الجواب عنه: بأنّ مراده أنّهم إذا لم يجعلوا لجهة الصدور مدخلا في حسن المدح والذمّ وقبحهما، كان اللازم عدم قبح المدح والذمّ على المثالين ونحوهما ممّا لم يصدر عن الإنسان، وهو خلاف الضرورة.

وأمّا ما ردّد به في بيان مراد المصنّف بقوله: " الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ "..

فخطـأٌ، إذ ليس شيء ممّا ذكره مراداً له، وإنّما مراده أنّهم لمّا لم يجعلوا الأفعال صادرة من العبد ـ والحال كما عرفت أنّ لجهة الصدور في الأفعال مدخلا تامّاً في استحقاق المدح والذمّ، وفي حسنهما وقبحهما ـ لزمهم إنكار حسن مدح الله على إنعامه، وذمّ إبليس والكافرين والظالمين; لأنّ المدح والذمّ غير صادرَين من العبد، وهذا الإنكار خلاف الضرورة.

على أنّه لو أراد المصنّف ما ذكره الخصم أوّلا كان جديراً بالذِكر والعجـب..

إذ كيـف يدّعي عاقـل أنّـه ـ مع قـطع النـظر عن التـكليف الشرعي ـ لا يحسن مدح الله على نعمائه وشكره على آلائه، ولا يقبح مدح إبليس والكافرين، وأنّه لا فرق عقلا بين هذين المدحين، كما لا فرق أيضاً بين مدح الله على نعمه وذمّه عليها، ومدح الظالم على ظلمه وذمّه عليه؟!

فمن ادّعى ذلك كان حقيقاً بأن يلحق في المجانين!


*    *    *


الصفحة 138

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

ومنها: إنّه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي; لأنّـا غير قادرين على ممانعة القديم..

فإذا كان الفاعل فينا للمعصية هو الله تعالى لم نقدر على الطاعة; لأنّ الله تعالى إنْ خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول.. وإنْ لم يخلقه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكّـناً من الفعل والترك، كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات، وكما إنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد.

ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا، فكيف نقدر على ممانعته؟!

ولأنّه إذا طَلَبَ منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا، بل إنّما يفعله هو، كان عابثاً في الطلب، مكلِّـفاً لِما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيـراً.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 103.


الصفحة 139

وقال الفضـل(1):

هذه الشبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب، وإلاّ لم يجترئ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالِقِـين في الوجود.

والجواب: إنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّـيّة لا باعتبار الفاعليّة، ولأنّ العبد لمّا كانت قدرته واختياره مقارنةً للفعل، صار كاسباً للفعل، وهو متمكّن من الفعل والترك، باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسـب والمباشرة، وهذا يكفي في صحّـة التـكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقـيّـته للفعل، وهو محلّ النزاع(2).

وأمّـا الثواب والعقاب المترتّبان على الأفعال الاختيارية، فكسائر العاديّات المترتّبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي والتجاء سؤال.

وكما لا يصحّ عندنا أن يقال: لِـمَ خلق الله الإحراق عقيب مسيس النار؟ ولِـمَ لا يصحّ ابتداءً؟ فكذا ها هنا لا يصحّ أن يقال: لِـمَ أثاب عقيب أفعال مخصوصة، وعاقب عقيب أفعال أُخرى، ولِـمَ لا يفعلها ابتداء ولَـمْ يعكس فيهما؟

وأمّـا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة، فإنّها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره، فيخلق الله الفعل عقيبها عادةً، وباعتبار ذلك يصير

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 22.

(2) انظر: شرح التجريد: 444 ـ 445.


الصفحة 140
الفعل طاعة ومعصية، ويصير علامة للثواب والعقاب(1).

ثـمّ ما ذكره أنّـه يلزم إذا كان الفاعل للمعصيـة فينا هو الله تعالى أنّـا لا نقدر على الطاعة، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول، وإلاّ كان ممتنع الحصول..

فنقول: هذا يلزمكم في العلم لزوماً غير منفكّ عنكم; لأنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد.. وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد، ولا مخرج عنهما لفعل العبد.. وأنّه يبطل الاختيار، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع.

فيبطل حينئذ التكليف; لابتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما زعم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء.


*    *    *

____________

(1) انظر: شرح المواقف 8 / 154.


الصفحة 141

وأقـول:

من رأى تعبيره عن هذا الدليل بالشبهة يحسب أنّه يأتي في جوابه بالكلام الجزل والقول الفصل، وإذا جاء إلى جوابه رآه بالخرافات أشبه! فإنّ كلّ ما ذكره لا يجعل متعلّق التكليف من آثار العبد، فإنّ كلّ ما في الوجود بزعمهم مخلوق لله تعالى، حتّى الكسب والمحلّـيّة.

فمن أين يكون العبد مؤثّراً وموجداً حتّى يصحّ تكليفه؟!

وبالجملة: إنْ كان للعبد إيجاد وتأثير في متعلّق التكليف، تَمّ مطلوبنا، وإلاّ فالإشـكال بحاله، فيلزمهم تـكليف العباد بما لا يطـاق، ومـا لا أثر لهم فيه أصلا وحصول العبث في الطلب.

وأمّـا ما زعمه من أنّ الثواب والعقاب من العاديّات..

فـفيه ـ مع ما عرفت من إشكال حصول العلم بالعادة الغيبـية ـ: إنّـه لا يمكن أن يكون من عاديّات العادل الرحمن أن يعذّب عبده الضعيف على فعل هو خلقه فيه، ولا أثر للعبد به بوجه، فلا يقاس بخلق الإحراق عقيب مسـيـس النار.

وأمّـا ما أشار إليه من الجواب عن العبث في الطلب بقوله: " وأمّا التكليف والتأديب والبعثة "..

فخروج عن مذهبه ظاهراً، إذ كيف يدعو التكليف والتأديب والبعثة العبد إلى الفعل والاختيار، وهما من الله سبحانه، ولا أثر للعبد فيهما أصلا عندهم؟!

وأمّـا ما زعمه من الإلزام لنا بالعلم، فممّا لا يرضى به عارف من