____________
(1) راجع ج 2 / 354، وانظر الصفحة 101 من هذا الجزء.
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
ومنها: إنّه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً; لأنّه إذا خلق فينا المعصية ولم يكن لنا فيها أثر ألبتّة، ثمّ عذّبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا، كان ذلك نهاية الجور والعدوان، نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان.
فأيُّ عادل يبقى بعد الله تعالى، وأيُّ منصف سواه، وأيُّ راحم للعبد غيره، وأيُّ مَجمع للكرم والرحمة والإنصاف عداه، مع أنّه يعذّبنا على فعل صدر عنه، ومعصية لم تصدر منّـا بل منه؟!!
____________
(1) نهج الحقّ: 104.
وقال الفضـل(1):
نعوذ بالله من نسبة الظلم والعدوان إلى الله المنّان، وخَلْق المعصية في العـاصي لم يسـتوجب الظـلم، والظلم تصرّف في حـقّ الغير، والله تعـالى لا يظلم الناس في كلّ تصرّف يُفعل فيهم.
وقد روي أنّ عمرو بن العاص سأل أبا موسى، فقال: يخلق فيَّ المعصية ثمّ يعاديني بها؟! فقال أبو موسى: لأنّه لا يظلمك(2).
وتوضيح هذا المبحث: إنّ النظام الكلّي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع، كالبيت الذي يبنيه حكيم مهندس، فإنّه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة ومحلّ الصلاة، وإن لم يكن مشتملا على المستراح كان ناقصاً، وكذلك إن لم يكن في الوجود عاص لم يكمل النظام الكلّي، ولم يملأ النار من العصاة..
وكما إنّه لا يحسن أن يُعترض على المهندس: إنّك لِـمَ عملت المستراح ولم تجعل البيت كلّه محلّ العبادة ومجلس الأُنس؟!.. كذلك لم يحسن أن يقال لخالق النظام الكلّي: لِـمَ خلقت العصيان؟! ولِـمَ لم تجعل العباد كلّهم مطيعين؟!.. لأنّ النظام الكلّي كان يقتضي وجود الفريقيـن، فإنّ التصرّف الذي يفعله صاحب البيت في جعل بعضه مسجداً وبعضه مستراحاً هل يقال: هو ظلم؟! فكذلك تصرّف الحقّ سبحانه في الموجود
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 25 ـ 27.
(2) انظر: الملل والنحل 1 / 81 وفيه: " يُقدّر علَيَّ شيئاً ثمّ يعذّبني عليه، قال: نعم، قال عمرو: ولِـمَ؟! قال: لأنّه لا يظلمك ".
ولكنّ المعتزلي الأعمى يحسب أنّ الخلق منحصرٌ فيه، وهو مالك لنفسه والله ملك عليه، لا يعلم أنّه مالك مطلق!!
ألا ترى أنّ الرجل الذي يعمل عملا، ويستأجر على العمل رجالا، ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقّاء، فإذا تمّ العمل أعطى الأُجراء أجرتهم، ولم يُعط العبيد شيئاً، هل يقال: إنّه ظلم العبيد؟! لا شكّ أنّه لا يقول عاقل: إنّه ظلم العبيد; وذلك لأنّه تصرّف في حقّه بما شاء.
ثمّ إنّ هذا الرجل لو حمّل العبد فوق طاقته أو قطع عنه القوت واللباس يقال: إنّه ظالم; وذلك لأنّه تجاوز عن حدّ ما يملكه من العبد، وهو التصرّف حسبما أذن الله تعالى فيه، فإذا تجاوز من ذلك الحدّ فقد ظلم.. وذلك لأنّه ليس بالمالك المطلق، ولو كان هو المالك المطلق، وكان له التصرّف حيثما شـاء وكيفـما أراد، لكان كلّ تصـرّفاته عدلا، لا جـوراً ولا ظلماً.
وكذلك الحقّ سبحانه هو المالك المطلق، وله التصرّف كيفما شاء وحيثما أراد، فلا يُتصوّر منه ظلم بأيّ وجه تَصَرّف.
هذا هو التحقيق ولا تَـعْـدُ عن هذا!
وأقـول:
من المضحك استدلاله بما عن أبي موسى من دعوى عدم الظلم، ردّاً على ما يدركه كلّ ذي وجدان، من أنّ خلق المعصية والمعاداة عليها سفه وظلم، فكأنّه لم يرض أن يختصّ شيخهم الأشعري بهذه الخرافة حتّى أشرك معه جدّه، ولا يخفى أنّ تنظيره بالبيت مخالف لِما نحن فيه من وجهين:
الأوّل: إنّ حسن وجود المستراح في البيت ومدخليّته فيه ظاهر لكلّ أحد، إذ لولاه لتلوّث البيت وتكدّرت حياة أهله، بخلاف محلّ النزاع من أفعال العباد، كالجور والنميمة والقتل والسرقة وقطع السبيل ونحوها، فإنّها شرور في العالم توجب الفساد فيه والنقصان في نظامه لا الكمال.
الثاني: إنّ جعل المستراح محلاًّ للقذر لا ظلم فيه له لعدم شعوره، بخلاف جعل العاصي محلاًّ للأفعال الذميمة ثمّ عقابه عليها.
ومن أغرب الغريب قوله: " ولم يملأ النار من العصاة "..
فإنّه كلام من يرى أنّ لله سبحانه حاجةً وفائدةً في أن يملأها من عبـاده.
على أنّه إذا كان له التصرّف كيفما شاء لم يحتج إلى خلق المعصية، بل له أن يملأها منهم ابتداء.
وليت شعري أمِنَ الرحمة بعدما كمّل بهم نظامه ووسمهم بالسوء أن يعاقبهم؟! بل هم أَوْلى بالثواب.
وما أدري ما فائدة ذِكر استعمال العبيد بلا أُجرة وهو لا يقرّب مطلوبه ولا يخالف قولنا؟!
وأمّـا ما ذكره من حمل العبد فوق طاقته، وقطع القوت واللباس عنه، وأنّه ظلم وجور، فهو أقرب إلى مطلوبنا; لأنّ الظلم إنّما يكون فيه من حيث هو، لا من حيث عدم إذن الشارع فيه، بل لو أَذِن فيه عُدّ آذناً في الجور، وعُدّ إذنه جوراً آخر، وأعظم منه في ظلم خلق الفعل في العبد وتعذيبه عليه بأنواع العذاب.
ودعوى أنّ لله سبحانه ذلك، لأنّه المالك المطلق، ممنوعة; لأنّ الملك المطلق: عبارة عن سلطنة مطلقة غير مقيّدة بوجه، ولا نسلّم أنّ من أحكامها وآثارها جواز الإضرار بالعبد بلا منفعة له ولا ذنب منه، بل أحكامها وشؤونها رعاية العبد ورحمته وإنصافه، وأيُّ عاقل لا يعدّ ذلك الإضرار من التصرّف القبيح والظلم الصريح؟!
____________
(1) ذكره العلاّمة الدواني في بعض رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكلّ، كما في إحقاق الحقّ 2 / 28.
قال المصنّـف ـ زاد الله في علـوّ درجاته ـ(1):
ومنها: إنّه يلزم منه تجويز انتفاء ما عُلم بالضرورة ثبوته..
بيانه: إنّا نعلم بالضرورة أنّ أفعالنا إنّما تقع بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف، فإنّا نعلم بالضرورة أنّا متى أردنا الفعل، وخلص الداعي إلى إيجاده، وانتفى الصارف، فإنّه يقع، ومتى كرهناه لم يقع.
فإنّ الإنسان متى اشتدّ به الجوع وكان تناول الطعام ممكناً، فإنّه يصدر منه تناول الطعام، ومتى اعتقد أنّ في الطعام سُمّاً انصرف عنه، وكذا يُعلم من حال غيره ذلك، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ شخصاً لو اشتدّ به العطش ولا مانع له من شرب الماء، فإنّه يشربه بالضرورة، ومتى علم مضرّة دخول النار لم يدخلها.
ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى، جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه، ويمتنع صدوره عنّا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله تعالى، وذلك معلوم البطلان.
فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهباً يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبـوته؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 104.
وقال الفضـل(1):
قد سبق في تحرير المذهب: إنّ الأفعال تقع بقدرة الله تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة، فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد، وإن جاز عدم الوقوع عقلا، كما في سائر العاديّات التي يجوز عدم وقوعها عقلا ويسـتحيل عادةً(2).
فكذا كلّ ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء، فإنّه يجوز أن لا يقع عقيب إرادة الطعام، ولكن العادة جرت بوقوعها.
وأمّا قوله: " ولو كانت الأفعال صادرةً من الله تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه "..
فهذا أمرٌ صحيح; فإنّ كثيراً ما نفعل الأشياء ونكرهها، وهذا الجواز ممّا لا ريب فيه، وليس في إنكار هذا الجواز نفيُ ما عُلِـمَ بالضرورة.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 29.
(2) تقدّم في الصفحة 113 من هذا الجزء.
وأقـول:
نتيجة كلامه الإصرار على مكابرة الضرورة فلا يُـلتـفت إليـه.
وأعجب منه قوله: " فإنّ كثيراً ما نفعل الأشياء ونكرهها "..
إذ أيُّ عاقل يفعل ما يكره مع انتـفاء الدواعي أو وجود الصـوارف كما هو مفروض الكلام؟!
نعـم، ربّما نفعل ما نـكره لداع أقوى من الصارف، وهو أمرٌ آخر، بل لا تبقى الكراهة الحقيقية حينئذ.
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
ومنها: تجويز ما قضت الضرورة بنفيه; وذلك لأنّ أفعالنا إنّما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده، ولا تقع منّا على الوجه الذي نكره.
فإنّا نعلم بالضرورة أنّا إذا أردنا الحركة يمنةً لم تقع يسرةً، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة، والحكم بذلك ضروري.
فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة، وبالعكس، وذلك ضروريّ البطلان.
____________
(1) نهج الحقّ: 105.
وقال الفضـل(1):
جواب هذا ما سبق في الفصل السابق: " إنّ هذه الأفعال إنّما تقع عقيب إرادة العبد عادةً من الله تعالى، وإنّ الله تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد، وهو يخلق الإرادة، والضرورة إنّما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة، لا أنّها تقضي بأنّ هذه الإرادة مؤثّرة خالقة للفعل "(2).
والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنـيَـين!
ثمّ من العجب كلّ العجب أنّهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأمّلون أنّ هذه الإرادة مَن يخلقها؟!! أهم يخلقونها أم الله تعالى يخلقها؟!
فالذي خلق الإرادة وإن لم يُرد العبد تلك الإرادة، وهو مضطـرٌّ في صيرورته محلاًّ لتلك الإرادة، خالق الفعل.
فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل، ونسبوا إلى أنفسهم الأفعال، وفيه خطر الشرك.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 31.
(2) تقدّم قريباً في الصفحة 146.
وأقـول:
سبق في أوّل المبحث أنّ القول بعدم تأثير قدرة العبد واختياره خلاف الضرورة، وأنّ من أنكر تأثير قدرته ليس له طريق إلى إثبات وجودهـا(1).
كما سبق هناك أنّ الإرادة ومقدّماتها، من تصوّر المراد، والتصديق بمصلحته، والرضا به، أفعال للعباد وآثار لقدرتهم، وأنّه ربّما تقع المقدّمات من الله تعالى، وقد أوضحناه فراجع(2)، فلا محلّ لعجبه كلّ العجب.
ومِن خُلُـوّ وِطابِ(3) الأشاعرة من النقد على مذهب العدليّة التجأوا إلى التهويل بالألفاظ، فعبّروا عن فعل العبد بالخلق والشرك، اللذين ينصرف أوّلهما إلى فعل كامل القدرة، وثانيهما: إلى الشرك في الإلهيّة..
وهم أحقّ بالشرك; لإثباتهم الصفات الزائدة المغايرة لله تعالى في وجوده، ولا تقوم الإلهيّة إلاّ بها، مع أنّهم ـ أيضاً ـ أثبتوا هذه الصفات لأنفسـهم(4)!
____________
(1) راجع الصفحة 120.
(2) راجع الصفحة 124 ـ 125.
(3) الوِطاب، جمع وَطْب: وهو سِقاء اللبن; انظر: لسان العرب 15 / 334، تاج العروس 2 / 469، مادّة " وطب ".
وهو هنا كناية عن خلوّ جعبتهم من الحجّة والبرهان.
(4) انظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 138، المواقـف: 269; وقد تقدّم هذا البحث في ج 2 / 173 وما بعدهـا، فراجـع.
مخالفة الجبريّـة لنصوص القرآن
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):
ومنها: إنّه يلزمهم مخالفة الكتاب العزيز، ونصوصه، والآيات المتضافرة فيه، الدالّة على إسناد الأفعال إلينا.
وقد بيّنتُ في كتاب " الإيضاح " مخالفة أهل السُـنّة لنصّ الكتاب والسُـنّة(2)، بالوجـوه الـتي خالفـوا فيهـا آيات الكـتاب العـزيز، حـتّى إنّـه لا تمضي آية من الآيات إلاّ وقد خالفوا فيها من عدّة أوجه، فبعضها يزيد على العشرين، ولا ينقص شيء منها عن أربعة.
ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة دالّة على أنّهم خالفوا صريح القرآن، ذكرها أفضل متأخّريهم، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي(3)، وهي عشرة:
الأوّل: الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد:
( فويل للّذين كفروا )(4)..
____________
(1) نهج الحقّ: 105.
(2) كتاب " إيضاح مخالفة السُـنّة لنصّ الكتاب والسُـنّة " للعلاّمة الحلّي، فرغ منه سنة 723 هـ، منه عدّة نسخ مخطوطة في مكتبات إيران، ولم يُطبع لحدّ يومنا هذا.
انظر: أمل الآمل 2 / 85 رقم 224، الذريعة 2 / 498 رقم 1954، مكتبة العلاّمة الحلّي: 62 رقم 21.
(3) انظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 283 ـ 286.
(4) سورة مريم 19: 37، سورة الذاريات 51: 60. ولم ترد هذه الآية في المصدر.
( إن يتّبعون إلاّ الظنّ )(2)..
( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم )(3)..
( بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل )(4)..
( فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله )(5)..
( من يعمل سوءاً يُجز به )(6)..
( كلّ امرئ بما كسب رهين )(7)..
( وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاسـتجبتم لي )(8)(9).
____________
(1) سورة البقرة 2: 79.
(2) سورة الأنعام 6: 116.
(3) سورة الأنفال 8: 53.
(4) سورة يوسف 12: 18 و 83.
(5) سورة المائدة 5: 30.
(6) سورة النساء 4: 123.
(7) سورة الطور 52: 21.
(8) سورة إبراهيم 14: 22.
(9) انظر: محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 283.
وقال الفضـل(1):
إعلم أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود(2)، فكلّ ما كان كذلك من كتاب الله وخالفه المكلّف عالماً به يكون كافراً، نعوذ بالله من هذا، وكلّ ما يحتمل الوجوه، ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود، فالمخالفة له لا تكون كفراً، بل هو محتمل للاجتهاد والترجيح لِما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب.
والعجب من هذا الرجل أنّه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف مذهب أهل السُـنّة، ثمّ أتى على الآيات كلّها، ووافق مذهب السُـنّة لها، ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتـزلة.. وهذا الرجل ذكر الآيات كلّها، وجعلها نصوصاً مؤيّدة لمذهبه، ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السُـنّة والجماعة.
وهذا يدلّ على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصّبه وعدم فهمه، أمَا كان يسـتحي من ناظر في كتابه؟!
ومَثله في هذا العمل كمَثل من جمع السهام في وقعة حرب، وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره، فأخذ السهام من بطون أصحابه ومن صدورهم وأفخاذهم، ثمّ يفتخر أنّ لنا سهاماً قاتلة للرجال، ولم يعلم
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 33.
(2) انظر: شرح المصطلحات الكلامية: 366 رقم 1324 مادّة " النصّ ".
ثمّ جعل هذه الآيات دليلا على مذهبه الباطل، من باب إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.
فإنّا لا ننكر أنّ للفعل نسبة إلى الفاعل، ونسبة وإضافة إلى الخالق، كالسواد، فإنّ له إضافة إلى الأسود، لأنّه محلّه، وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتّى صار به أسود.
فقوله تعالى: ( فويل للّذين كفروا )(1) فيه إضافة الكفر إلى العبد، ولا شكّ أنّه كذلك، وليس لنا فيه نزاع أصلا، والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة.
وقوله تعالى: ( فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم )(2) لا شكّ أنّ الكتابة تصدر من يد الكاتب، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال، والكلام في الخلق والتأثير، فنقول: الكتابة كسب العبد وخَلق الحقّ.
ألـم يقرأ هذا الرجل آخر هذه الآية: ( ثمّ يقولون هذا من عنـد الله ليشـتروا به ثمناً قليلا فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسـبون )(3) صرّح بالكسب وأنّ كتابتهم كسب لهم، لا أنّه خلق لهم؟!
وقِـس عليه باقي الآيات المذكورة.
____________
(1) سورة مريم 19: 37، سورة الذاريات 51: 60.
(2 و3) سورة البقرة 2: 79.
وأقـول:
النصّ كما ذكره، هو ما لا يحتمل الخلاف، لكن لا بحسب الاحتمالات السفسطائية والأوهام، وإلاّ لم يكن نصٌّ أصلا، بل بحسب طريقة الاستعمال وأفهام أهل اللسان كما هو ثابت في هذه الآيات الكريمة; لأنّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله إنّما يُفهم منها تأثير الفاعل في الفعل وإحداثه إيّـاه.
ولا يتصوّر عاقل أنّ نسبة الفعل الاختياري إلى الفاعل ذي القدرة والاختيار عبارة عن كون الفاعل محـلاًّ فقط، فلا يقاس ما نحن فيه بالأسود، فإنّ السواد ليس باختياري لمن لا قدرة ولا اختيار له فيه.
ولكنّ الأشـاعرة اصطلحوا وأثبتوا للفعل الاخـتياري نسـبةً إلى الفاعل بمعنى المحلّيّة، لا يعرفها العرب، وسمّوها الكسب، ونسبةً إلى الخالق، وحملوا الكتاب العزيز على اصطلاحهم المتأخّر(1).
ولأجل ما ذكرنا لم يتعرّض المصنّف لتأويل الرازي لو وقع منه; لأنّ أجوبتهم تدور مدار الكسب الخرافي، ولو كان له جواب ذو بال لَما تركه الخصم وتعرّض للكسـب!
فالحقّ أنّ تأويل الآيات بمثل ذلك يعدّ من تحريف الكلم عن مواضعه، ويوجب إسقاط الكتاب العزيز عن الحجّـيّة، إذ لا نصّ في
____________
(1) بل لم يستطع الأشاعرة أنفسهم من توضيح معنى الكسب! حتّى إنّ التفتازاني قال بعد تعريفه للكسب: " وإنْ لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن... " انظر: شرح العقائد النسفية: 144.
وأمّا استشهاده بتتمّة الآية فمن العجائب; لأنّ المراد بالكسب فيها هو طلبهم لذلك الثمن القليل، ولذا جعل تعالى الويل على كلّ من الكتابة والكسب منفرداً.
ومن الجهالات المَثل الذي ضربه، مشيراً به إلى أنّ الآيات من أدلّة الأشاعرة، وكانت سهاماً لهم على خصومهم!
ولم ينكر ذو فهم أنّها من أدلّة العدليّة، وغاية ما عند الأشاعرة تأويلها بالكسب الساقط.
فـ ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يسـتطيعون سـبيلا )(1).
____________
(1) سورة الإسراء 17: 48.
قال المصنّـف ـ نـوّر الله ضريحه ـ(1):
الثاني: ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه، وذمّ الكافر على كفره، ووعده بالثواب على الطاعة، وتوعّده بالعقاب على المعصية..
كقوله تعالى: ( اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت )(2)..
( اليوم تجزون ما كنتم تعملون )(3)..
( وإبراهيم الذي وَفّى )(4)..
( ولا تزر وازرة وزر أُخرى )(5)..
( لتجزى كلّ نفس بما تسعى )(6)..
( هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان )(7)..
( هل تُجزون إلاّ ما كنتم تعملون )(8)..
( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )(9)..
____________
(1) نهج الحقّ: 106.
(2) سورة غافر 40: 17.
(3) سورة الجاثية 45: 28.
(4) سورة النجم 53: 37.
(5) سورة الأنعام 6: 164، سورة الإسراء 17: 15، سورة فاطر 35: 18، سورة الزمر 39: 7.
(6) سورة طـه 20: 15.
(7) سورة الرحمن 55: 60.
(8) سورة النمل 27: 90.
(9) سورة الأنعام 6: 160.
( أُولئك الّذين اشتروا الحياة الدنيا )(2)..
و ( الّذين كفروا بعد إيمانهم )(3)(4).
____________
(1) سورة طـه 20: 124.
(2) سورة البقرة 2: 86.
(3) سورة آل عمران 3: 90.
(4) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 283 ـ 284.
وقال الفضـل(1):
مدح المؤمن وذمّ الكافر بكونهما محلاًّ للكفر والإيمان، كما يمدح الرجل بحسنه وجماله، وتمدح اللؤلؤة بصفائها.
والوعد والوعيد لكونهما محلاًّ للأعمال الحسنة والسـيّئة، كما يؤثِر ويختار المسك، ويحرق الحطب والحشيـش.
والآيات المذكورة إنّما تدلّ على المدح للمؤمن، والذمّ للكافر، وبيان ترتّب الجزاء، وليس النزاع في هذا; لأنّ هذا مسلّم.
والكلام في أنّ الأفعال المجزية، هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد؟
وأمّا المباشرة للعمل والكسب الذي يترتّب عليه الوعد والوعيد والجزاء، فلا كلام في أنّهما من العبد.
ولهذا يترتّب عليهما الجزاء، فعُلم أنّ ما في الآيات ليس دليلا لمذهبه.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 39.
وأقـول:
لا ريب أنّ المدح والذمّ تابعان لحسن الأشياء وقبحها، والحسن والقبح قد لا يعتبر فيهما القصد والاختيار; لعدم كون متعلّقهما من الأفعال الاختيارية، بل من الصفات الذاتية، كصفاء اللؤلؤ وكدرته، وجمال الوجه وحسـنه.
وقد يعتبر فيهما القصد والاختيار; لتعلّقهما بالفعل الاختياري، فإنّ الفعل الاختياري لو وقع بلا قصد لم يوصف بالحسن والقبح، ولا يحمد عليه الفاعل ولا يذمّ، كفعل النائم، فإنّ النائم إذا صدرت منه كلمة الإيمان والكفر لم توصف بحسن ولا قبح منه، ولا يحمد عليها ولا يذمّ.
وكذا لا يذمّ الشخص على الفعل إذا أُكره عليه، كما وقعت كلمة الكفر من عمّار بإكراه قريش فلم يُذمّ عليها، ونزل قوله تعالى: ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان )(1).
ولو انتفى أصل الصدور من الشخص، كان الفعل أَوْلى بعدم اتّصافه بالحسن والقبح منه، وكان الشخص أَوْلى بأن لا يُحمد أو يُذمّ عليه، سواء لم يرتبط به الفـعل أصلا أم ارتبط به بنحو المحلّـيّة أو الآلـيّـة بلا اخـتيار ولا تأثيـر.
فـإنّ الحجـارة لا تُحـمد ولا تُـذمّ عـلى الإيـلام، ولا يحسـن منـها ولا يقبح، وإنّما يُحمد الرامي أو يذمّ على الإيلام لحسنه منه أو قبحه
____________
(1) سورة النحل 16: 106.
وكذا الحال في الإنسـان بنـاءً على صدور فعلـه من الله تعالى، فإنّـه لا يحسن من الإنسان ولا يقبح، ولا يُحمد عليه ولا يُذمّ; لعدم تأثيره في الفعل أصلا، ومجرّد كونه محلاًّ لفعله تعالى، وصيرورته آلةً، وتسميته في الاصطلاح اللفظي كاسباً.. لا يقتضي حسن الفعل منه أو قبحه، ولا حمده عليه أو ذمّه، ما دام غير مؤثّر فيه بوجه، إذ ليس هو إلاّ كالحجارة.
فحينئذ يكون تعلّق المدح والذمّ في القرآن بالمؤمن والكافر، دليلا على الصدور منهما والتأثير لهما.
وأمّا الوعد والوعيد فلا معنى لتعلّقهما بالشخص; لكونه محلاًّ للأفعال، إذ لم يسـتند إليه شيء حتّى يجزى به.. والتشبيه بإيثار المسك واختياره وإحراق الحطب والحشيش، خطأٌ; لأنّ الكلام في صحّة الوعد والوعيد.. وبالضرورة: لا يصحّ وعد المسك، وإبعاد الحشـيـش..
على أنّ حرق الحطب ليس ظلماً له، إذ لا شعور له، بخلاف تعذيب الإنسان، فلا معنى لقياس المؤمن والكافر على المسك والحطب.
وأمّا ما ذكره من أنّ المباشرة والكسب لا كلام في أنّهما من العبد، فإنْ أراد به أنّهما منه حقيقة، كان خروجاً عن مذهبه وشركاً بمعتقده; لأنّ كلّ ما في الوجود من الله تعالى..
وإنْ أراد أنّهما منه اصطلاحاً، وبمجرّد التسمية اللفظية لم يحصل به الجـواب.
قال المصنّـف ـ أعلى الله منزلته ـ(1):
الثالث: الآيات الدالّة على أنّ أفعال الله تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين في التفاوت والاختلاف والظلم.
قال الله تعالى: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )(2)..
( الذي أحسن كلّ شيء خلقه )(3)..
( ثمّ هدى )(4)..
والكفر والظلم ليس بحسـن.
وقال تعالى: ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ )(5)..
والكفر ليس بحقّ.
وقال تعالى: ( إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة )(6)..
( وما ربّك بظلاّم للعبـيد )(7)..
( وما ظلمناهم )(8)..
____________
(1) نهج الحقّ: 107.
(2) سورة الملك 67: 3.
(3) سورة السجدة 32: 7.
(4) سورة طـه 20: 50، وأوّل الآية: (الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).
(5) سورة الحجر 15: 85.
(6) سورة النساء 4: 40.
(7) سورة فصّلت 41: 46.
(8) سورة هود 11: 101، سورة النحل 16: 118، سورة الزخرف 43: 76.