الصفحة 246

وقال الفضـل(1):

قد عرفتَ أنّ خالق الشيء غير فاعله ومباشره(2)، فالفعل تارةً يطلق ويراد به: الخلق، كما يقال: الله تعالى فاعل كلّ شيء، وقد يطلق ويراد به: المباشرة والاعتمال.

وعلى التقديرين فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفاً بذلك الشيء الذي خلقه، وإنْ كان المخلوق من جملة الصفات كما قـدّمنا(3).

فمن خلق الظلم لا يقال: إنّه ظالم.

وقد ذكرنا أنّه لم يفرّق بين هذين المعنيـين(4)، ولو فـرّق لم يسـتدلّ بأمثال هذا.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 80.

(2) انظر الصفحتين 93 و 173 من هذا الجزء.

(3) تقدّم في الصفحتين 165 و 220 من هذا الجزء.

(4) راجع الصفحة 149 من هذا الجزء.


الصفحة 247

وأقـول:

إذا أقرّ بإطلاق الفعل على الخلق، وأنّه يقال: فاعل كلّ شيء، ويراد خالقه، فقد صارا مترادفين، وبطل قوله: إنّ خالق الشيء غير فاعله.

ولو سُلّم فلا يرتفع الإشكال بمجرّد هذا الاصطلاح، إذ يكفينا أن نقول: إنّ من أوجد الظلم والفساد يسمّى ظالماً مفسداً لغةً وعرفاً، فيلزمهم الإشكال.

وأمّا قوله: " وعلى التقديرين، فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفاً بذلك الشيء "..

فغلطٌ ظاهر، ضرورة أنّ أكثر صفات الله سبحانه من أفعاله، كالعادل والرحمن والهادي والمحيي والمميت ونحوها، بل صفات الذات أيضاً من مخلوقاته بزعمهم; لأنّها مغايرة له وصادرة عنه بالإيجاب.

ثمّ إنّ مراد المصنّف (رحمه الله) بـ " الآخر " في قوله: " ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلاّ حال نفي الآخر " هو الآخر الضدّ، لا مطلقاً.

وحينئذ فلو ثبت الظلم لأحد لم يصحّ إثبات العدل له في مورد ثبوت الظلم له، فلا يصحّ وصف الله سبحانه بالعادل حال خلقه للظلم وثبوته له، وهو كفر آخر.


*    *    *


الصفحة 248

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم منه المحال; لأنّه لو كان هو الخالق للأفعال، فإمّا أن يتوقّف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا، أو لا، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل: فلأنّه يلزم منه عجزه سبحانه عمّا يقدر عليه العبد، ولأنّه يستلزم خلاف المذهب، وهو وقوع الفعل منه والداعي من العبد، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده، ولأنّه القدرة والداعي إنْ أثّرا فهو المطلوب، وإلاّ كان وجودهما كوجود لون الإنسان وطوله وقصره.

ومن المعلوم بالضرورة أنّه لا مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال، وإذا كان هذا الفعل صادراً عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّـا.

وأمّا الثاني: فلأنّه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد ـ أي خلق ـ تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم، حتّى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممّن لا يكون عالماً بهما، ووقوع الكتابة ممّن لا يد له ولا قلم، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية، الريّان في الغاية، مع تمكّنه من الأكل.

____________

(1) نهج الحقّ: 118.


الصفحة 249
ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوّة على رفع تبنة، وأن يجوز من الممنوع المقيّد العَدْو، وأن يعجز القادر الصحيح عن تحريك الأَنْـمُـلة(1).

وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزَّمِن والصحيح.


*    *    *

____________

(1) الأَنْمُلة ـ بالفتح ـ: المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع; انظر لسان العرب 14 / 295 مادّة " نمل ".


الصفحة 250

وقال الفضـل(1):

نخـتار القسم الثاني، وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّـف على دواعينا وقدرتنا، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية، فهي استبعادات، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقلي.

نعم، عادة الله جرت على إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم، ولكن هو من المحالات العادية كما مـرّ غير مـرّة(2).

وما ذُكر أنّه يلزم أن تكون القدرة والداعي إذا لم يكونا مؤثّرين في الفعل، كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال، فهو ممنوع..

للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة، كالإحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة، ولا يقال لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النار وغيرها، إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء.

فكذلك لم تجرِ عادة الله تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون، بل عقيب حصول القدرة والداعي مع أنّهما غير مؤثّـرَين.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 82.

(2) راجع الصفحة 214 من هذا الجزء.


الصفحة 251

وأقـول:

لا يخفى أنّ مقصود المصنّـف هو: إنّه يلزم انتفاء الفرق في صحّة نسبة الكتابة إلى ذي اليد أو مقطوعها; لأنّ المفروض عدم دخل القدرة وآلاتها في وجود الأفعال، وذلك باطل بالضرورة.

وكذا الكلام في تأثير الداعي، وليس المقصود امتناع حصول الكتابة مثلا بدون الآلات، فإنّه لا ينكر إمكانه، بل وقوعه في اللوح وغيره.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة والداعي، وبين اللون والطول والقصر بجريان العادة، فليس في محلّه; لأنّ المصنّف (رحمه الله) أراد لزوم عدم الفرق في عدم المدخلية والتأثير، لا لزوم عدم الفرق أصلا، وإلاّ فالفروق كـثيرة.

ولا ريب أنّ عدم الفرق بعدم المدخلية والتأثير خلاف الضرورة، فإنّ كلّ عاقل يدرك مدخلية القدرة والداعي في الفعل وتأثيرهما فيه، دون اللون والطول والقصر.


*    *    *


الصفحة 252

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومنها: تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجاً، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً; لأنّ في الشاهد فاعل القبيح إمّا جاهل، أو محتاج، مع إنّه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة، فلأنْ يكون كذلك في الغائب ـ الذي هو الفاعل في الحقيقة ـ أَوْلى.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 119.


الصفحة 253

وقال الفضـل(1):

قد مرّ أنّ الخالق غير الفاعل، بمعنى الكاسب والمباشر(2)، وخالق القبـيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجاً، حيث لا قبيـح بالنسـبة إليه، كما في خلقـه لِما هـو قبيـح بالنسـبة إلى المخلـوق، فلا يلزم منـه جهـل ولا احـتياج.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 83.

(2) انظر الصفحتين 93 و 173 من هذا الجزء.


الصفحة 254

وأقـول:

ضرورة العقلاء قاضية بأنّ خلق القبيح وإيجاده أَوْلى بالقبح من كسـبه، بمعنى محلّـيّة المحلّ له بلا تأثير، بل لا معنى لنسبة قبح الفعل الاختياري إلى غير المؤثّر.

فلا محالة يلزم من خلق القبيح أحد الأمرين: الجهل، والاحتياج، ولا عبرة بالسفسطات.


*    *    *


الصفحة 255

قال المصنّـف ـ رفع الله منزلته ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم منه الظلم; لأنّ الفعل إمّا أن يقع من العبد لا غير..

أو من الله تعـالى..

أو منهما بالشركة، بحيث لا يمكن تفـرّد كلّ منهما بالفعل، أو لا من واحد منهما..

والأوّل: هو المطلوب.

والثاني: يلزم منه الظلم، حيث فعل الكفر وعذّب من لا أثر له فيه ألبتّة، ولا قدرة موجدة له، ولا مدخل له في الإيجاد، وهو أبلغ أنواع الظلم.

والثالث: يلزم منه الظلم; لأنّه شريك في الفعل، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّـاه؟!

وكيف يبرّئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فَعَلَ هو مثله؟!

وأيضاً: يلزم منه تعجيز الله تعالى، إذ لا يتمكّن من الفعل بتمامه، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.

وأيضاً: يلزم المطلوب، وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل، وإذا جاز استناد أثر ما إليه، جاز استناد الجميع إليه.

____________

(1) نهج الحقّ: 119.


الصفحة 256
فأيّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات؟!

فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه الله تعالى نفسه عنها وتبرّأ منها!


*    *    *


الصفحة 257

وقال الفضـل(1):

نختار أنّ الفعل ـ بمعنى الخلق ـ يصدر من الله تعالى، والعبد كاسب للفعل، مباشر له، ولا تأثير لقدرته في الفعل.

قوله: " يلزم منه الظلم ".

قلنا: قد سبق أنّ الظلم لا يلزم أصلا; لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له، والتصرّف في الملك كيف شاء المالك لا يسمّى ظلماً، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلاًّ للفعل الموجب للعذاب(2).

وأمّا قوله: " فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص ".

فنقول: أنا أُخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق بالله تعالى، وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ، وهذا فيه خطر الشرك، وهم يهربون من الشرك!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 84.

(2) انظر الصفحتين 93 و 230 من هذا الجزء.


الصفحة 258

وأقـول:

لا يمكن أن يكون مجرّد الملك مصحّحاً لعذاب من لا ذنب له; لِما سبق من أنّه ليس من أحكام الملكيّة جواز إضرار المالك بملكه الحسّاس، بلا جرم منه، ولا فائدة له، بل هو مناف لمقتضى الملكيّة من رعاية المملوك وحمايته عمّا يضـرّه(1).

وأمّا ما أخبر به من الأمر الداعي لأصحابه، فلو صدق فيه، فلِـمَ أثبتوا لأنفسهم قدرةً وإرادةً وغيرهما من الصفات الزائدة بزعمهم على الذات، وأثبتوا لأنفسهم أيضاً ملكيّة؟!

وادّعوا مشاركة الله سبحانه في الكلّ! والحال أنّ المشاركة فيها أعظم من المشاركة في الفعل، بل لو كان الشرك مطلقاً باطلا لم تصحّ مشاركة الله تعالى في الوجود والشيئية، وفي ثبوت الهوية.

فالحقّ ـ كما سبق ـ أنّ المشاركة في ما لا نقص به على الله سبحانه من الأُمور التي لا توجب الإلهية، ولا المعارضة، أو المماثلة له، جائزة وواقعة، كما في محلّ النزاع.

وكيف يكون فيها نقص؟! وهي من مظاهر القدرة الربّانيّة، ودلائل النزاهة، حيث جعل قدرة العبيد الفعّالة دليلا على قدرته العظمى، وطريقاً إلى نزاهته عن أفعالهم القبيحة!

نعم، أنا أُخبره أنّ الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك وسلوك أسوأ

____________

(1) تقدّم في الصفحة 95 من هذا الجزء.


الصفحة 259
المسالك، هو التعصّب للأسلاف، والاقتداء بآثار الآباء.

ومن المضحك أنّه في مقام إنكار تأثير العبيد يثبت التأثير لهم فيقول: " أنا أُخبره بالذي دعاهم " فأشرك بمذهبه، وأساء باعتقاده إلى ربّه!

وما زال يعاقب المصنّـف عقاب الفاعلين للفاعلين المؤثّرين!

أعاذنا الله من مخالفة العمل للقول، والتعرّض لسخطه، إنّه أرحم الراحمين.


*    *    *


الصفحة 260

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم مخالفة القرآن العظيم والسُـنّة المتواترة والإجماع وأدلّة العقل.

  • أمّا الكتاب فإنّه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبـيد، وقد تقدّم بعضها(2).

    وكيف يقول الله تعالى: ( فتبارك الله أحسن الخالقين )(3) ولا خالق سواه؟!

    ويقول: ( وإنّي لغـفّارٌ لمّن تابَ وآمن وعمِلَ صالحاً ثمّ اهـتدى )(4) ولا تحقّق لهذا الشخص ألبتّة؟!

    ويقول: ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها )(5)..

    ( ليجزي الّذين أساءُوا بما عَمِلُوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحُسـنى )(6)..

    ( لنبلُوهم أيُّهم أحسن عملا )(7)..

    ( أم حَسِب الّذين اجترحوا السـيّـئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا

    ____________

    (1) نهج الحقّ: 120.

    (2) تقدّم في الصفحة 152 ـ 153 من هذا الجزء.

    (3) سورة المؤمنون 23: 14.

    (4) سورة طه 20: 82.

    (5) سورة فصّلت 41: 46، سورة الجاثية 45: 15.

    (6) سورة النجم 53: 31.

    (7) سورة الكهف 18: 7.


    الصفحة 261
    وعَمِلوا الصالحات )(1)..

    ( أم نجعلُ الّذين آمنوا وعَملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعلُ المتّـقين كالفُجّار )(2) ولا وجود لهؤلاء؟!

    ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل؟! وهل هو إلاّ كأمر الجماد ونهيه؟!

  • وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " إعملُوا، فكلٌّ مُيسَّـرٌ لِـما خُلِقَ له "(3)..

    " نيّة المؤمن(4) خيرٌ من عمله "(5)..

    " إنّما الأعمال بالنيّـات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى "(6)..

  • والإجماع دلّ على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به، والرضا بالكفر حرام بالإجماع.

    فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله تعالى، فلا يكون من خلقه.


    *    *    *

    ____________

    (1) سورة الجاثية 45: 21.

    (2) سورة ص 38: 28.

    (3) صحيح البخاري 6 / 298 ح 446 و ج 9 / 284 ح 176، صحيح مسلم 8 / 47، سنن أبي داود 4 / 228 ح 4709، سنن ابن ماجة 1 / 30 ح 78، سنن الترمذي 4 / 388 ح 2136، مسند أحمد 1 / 82، التوحيد ـ للصدوق ـ: 356 ح 3، مجمع البحرين ـ للطريحي ـ 3 / 521 مادّة " يسر ".

    (4) كان في الأصل: " المرء "، وهو تصحيف، والمثبت من المصادر.

    (5) تقدّم تخريجه في الصفحة 123 هـ 5، فراجع.

    (6) تقدّم تخريجه في الصفحة 123 هـ 4، فراجع.


    الصفحة 262

    وقال الفضـل(1):

    قد عرفت في ما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز(2).

    ثمّ إنّ كلّ تلك الآيات معارضة بالآيات الدالّة على أنّ جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه، نحو:

    ( والله خلقكم وما تعملون )(3) أي عملكم..

    و ( الله خالقُ كلّ شيء )(4) وعمل العبد شيء..

    ( فعّالٌ لِما يريد )(5) وهو يريد الإيمان إجماعاً، فيكون فعّالا له، وكذا الكفر، إذ لا قائل بالفصل.

    وأيضاً: تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضلال والختم، نحو:

    ( يُضلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً )(6)..

    و ( ختم الله على قلوبهم )(7) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها.

    ____________

    (1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 86.

    (2) انظر الصفحة 154 من هذا الجزء.

    (3) سورة الصافّات 37: 96.

    (4) سورة الزمر 39: 62.

    (5) سورة هود 11: 107.

    (6) سورة البقرة 2: 26.

    (7) سورة البقره 2: 7.


    الصفحة 263
    وأنت تعلم أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها، خصوصاً في المسائل العقلية، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية.

    وقد ذكرنا في ما سلف من الكلام ما يغني في إثبات المقصد.

    وأمّا ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله تعالى: ( فتبارك الله أحسن الخالقين )(1)، فالمراد بالخالقين هناك: ما يدّعي الكافرون من الأصنام.

    فكأنّه يقول: تبارك الله الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين المقدّرين بزعمكم، فإنّهم لا يقدرون على شيء، والله يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب.

    أو المراد من الخالقين: المقدّرين للخلق، كالمصوّرين، لا أنّه تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق.

    ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال الله تعالى: ( وإذا ذُكر الله وحدهُ اشمأزّت قُلوبُ الّذين لا يُؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الّذين من دونه إذا همُ يسـتبـشـرُون )(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) سورة المؤمنون 23: 14.

    (2) سورة الزمر 39: 45.


    الصفحة 264

    وأقـول:

    قد ظهر ممّا سبق أنّ أجوبته لا تصلح أن توسم باسم الجواب(1)، ودعواه هنا المعارضة بالآيات الأُخر باطلة.

    أمّا قوله تعالى: ( خالق كلّ شيء )(2)، فقد عرفت في أوّل المطلب الأوّل أنّ المراد به السماوات والأرض، وما فيهما من الأجسام والأعراض والأجرام، لا ما يشمل أفعال العباد، فراجـع(3).

    وأمّا قوله تعالى: ( أتعبُـدُون ما تنحتُون * واللهُ خلقكُم وما تعمَـلُون )(4) فالمـراد فيـه بـ (ما يعمـلون) هو: ما ينحتـونه من الأصنـام لا عملهم(5)، إذ لا معنى للإنكار على عبادتهم لِما ينحتون بحجّة أنّه خلقهم وأعمالهم التي منها عبادتهم التي أنكر عليها!

    وأمّا قوله تعالى: ( فعّال لِما يريد )، فالظاهر أنّ معناه أنّه تعالى فعّال لِما يريد فعله وتكوينه.

    ومن أوّل الدعوى أنّه يريد تكوين الإيمان، وإنّما يريده تكليفاً وتشريعاً.

    وأمّا المعارضة بالآيات الواردة في الهداية والإضلال والختم، فمبنيّة

    ____________

    (1) انظر الصفحة 156 من هذا الجزء.

    (2) سورة الرعد 13: 61، سورة الزمر 39. 62، سورة غافر 40: 62.

    (3) راجع ج 2 / 343.

    (4) سورة الصافّات 37: 95 و 96.

    (5) انظر: تفسير الماوردي 5 / 58، الكـشّاف 3 / 345، مجمع البيان 8 / 281، تفسير الفخر الرازي 26 / 151.


    الصفحة 265
    على أنّ المراد بالهداية والإضلال: خلق الهدى والضلال، وهو ممنوع; بل المراد بالهداية أحد أُمور:

    الأوّل: الدلالة والإرشاد، كما في قوله تعالى: إنّا ( هَديناهُ النجدَين )(1).. ( إمّا شاكراً وإمّا كفوراً )(2).

    وقوله تعالى: ( وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى )(3)..

    وقوله تعالى: ( إنّك لتهدي إلى صراط مستقيم )(4).

    .. إلى غيرها من الآيات الكثيرة.

    الثاني: الإثابة والإنعام، كما في قوله تعالى: ( والّذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم * سيهديهم ويُصلح بالهم )(5).

    فإنّ المراد هنا بالهداية: الإثابة; لوقوعها بعد القتل والموت، كما إنّ المراد هنا بالإضلال: إبطال أعمالهم.

    ومثلها في إرادة الإثابة قوله تعالى: ( يَهديهم ربُّهمُ بإيمانهم تجري من تحتهمُ الأنهارُ في جنّات النعيم )(6).

    الثالث: التوفيق وزيادة الألطاف، كما في قوله تعالى: ( من يَهدِ اللهُ فهو المهتدِ )(7)، ونقيضه الإضلال بأن يكلهم إلى أنفسهم، ويمنعهم زيادة

    ____________

    (1) سورة البلد 90: 10.

    (2) سورة الإنسان 76: 3، وتمام الآية: (إنّا هديناهُ السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).

    (3) سورة فصّلت 41: 17.

    (4) سورة الشورى 42: 52.

    (5) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 4 و 5.

    (6) سورة يونس 10: 9.

    (7) سورة الإسراء 17: 97.


    الصفحة 266
    الألطاف.

    ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.

    الرابع: التيسير والتسهيل، وبالإضلال تشديد الامتحان، ولعلّ منه هذه الآية، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحاناً، فتسهل عند قوم، وتشتدّ عند آخرين، هذا كلّه في الهداية والإضلال.

    وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى: ( ختمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة )(1).

    فالمراد به: التشبيه، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم، وعدم الغشاوة على أبصارهم، فكذا على قلوبهم.

    والمعنى: إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها، وصاروا كمن لا يعقل، ولا يسمع، ولا يبصر، كما قال تعالى: ( صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون )(2).

    ويحتمل(3) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل، وعدم انشراح صدورهم للإسلام، وإنّما نسبه إلى الله تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف، لكثرة ذنوبهم، وتتابع مناوأتهم للحقّ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار، ولذا قال سبحانه في آية أُخرى: ( بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا )(4).

    ____________

    (1) سورة البقرة 2: 7.

    (2) سورة البقرة 2: 171.

    (3) في مطبوعة طهران: ولا يحتمل.

    (4) سورة النساء 4: 155.


    الصفحة 267
    فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم; لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.

    ويحتمل أن يريد: ( فلا يؤمنون ) إلاّ إيماناً قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.

    وأمّا تأويله لقوله تعالى: ( أحسن الخالقين )(1) فتأويل بعيد; لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة، كعيسى المذكور بقوله تعالى: ( وإذ تخلق من الطين )(2) لا الخالقين بالزعم والتقدير، بل لا يصحّ أوّل التأويلين; لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة، بل يرونها مقرّبة إلى الله تعالى.

    وأمّـا الآية التي ادّعى مناسـبتها لحال العدليّـة، فخطأٌ; لأنّ مذهبـهم لا يناسب الإشراك كما عرفت(3)، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية; لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات(4)!


    *    *    *

    ____________

    (1) سورة المؤمنون 23: 14.

    (2) سورة المائدة 5: 110.

    (3) تقدّم في ج 2 / 176 ـ 177.

    (4) راجع ردّ الفضل في ج 2 / 175.


    الصفحة 268

    الجواب عن شُـبه المجـبّرة

    قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

    المطلب الحادي عشر
    في نسـخ شـبههم

    إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين، هما أقوى الوجوه عندهم، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!

    ونحن نذكر ما قالوا، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):

    الأوّل: قالوا: لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا..

    والثاني: يلزم منه الجبر; لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجَب لا مختار، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.

    والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد، أو لا.. والثاني; يلزم منه ترجيح أحد طرفَي الممكن على الآخر، لا لمرجّح; لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وبالنسبة إلى القادر الموجد، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحاً للمساوي بغير مرجّح، وإن ترجّح،

    ____________

    (1) نهج الحقّ: 121.


    الصفحة 269
    فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان، وهو محـال.

    أمّا أوّلا; فلامتناع وقوعه حالة التساوي، فحالة المرجوحية أَوْلى.

    وأمّا ثانياً; فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح، فلنفرضه واقعاً في وقت، والراجـح في آخر، فترجيـح أحد الوقتيـن بأحـد الأمرين لا بُـدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل، وإلاّ لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح، فينتهي إلى حدّ الوجوب، وإلاّ تسلسل.

    وإذا امتنع وقوع الأثر إلاّ مع الوجوب ـ والواجب غير مقدور، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضاً ـ فيلزم الجبر والإيجاب، فلا يكون العبد مختــاراً(1).

    الثاني: إنّ كلّ ما يقع فإنّ الله تعالى قد عَلِم وقوعه قبل وقوعه، وكلّ ما لم يقع فإنّ الله قد عَلِم في الأزل عدم وقوعه.

    وما عَلِم الله وقوعه فهو واجب الوقوع، وإلاّ لزم انقلاب عِلمِ الله تعالى جهلا، وهو محال.

    وما عَلِم عدم وقوعه فهو ممتنع، إذ لو وقع انقلب عِلمُ الله تعالى جهلا، وهو محال أيضاً، والواجب والممتنع غير مقدورَين للعبد، فيلزم الجبـر(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 11 ـ 12، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 281، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 321، المواقف: 312 ـ 313، شرح المقاصد 4 / 229، شرح المواقف 8 / 149 ـ 151.

    (2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 288، المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 18، المواقف: 315، شرح المقاصد 4 / 231، شرح المواقف 8 / 155.


    الصفحة 270

    وقال الفضـل(1):

    أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحاً إن شاء الله تعالى.

    وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض(2)، وليس هو من دلائل الأئمّـة الأشاعرة، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.

    ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله، فهو لازم لهم أيضاً لوجوه:

    الأوّل: إنّ ما عَلِمَ اللهُ عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد، وإلاّ جاز انقلاب العلم جهلا.

    وما عَلِمَ اللهُ وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد، وإلاّ جاز الانقلاب.

    ولا مخرج عنهما لفعل العبد، وأنّه يبطل الاختيار، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاسـتقلال كما ذكرتم.

    فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال، فقد لزمكم في مسألة عِلم الله

    ____________

    (1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 91.

    (2) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 288، المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 18.