الصفحة 271
تعالى بالأشياء.

قال الإمام الرازي: " ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً "(1).

وقد أجابه شارح " المواقف " كما سـيرد عليك(2).


*    *    *

____________

(1) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 328.

(2) شرح المواقف 8 / 155 ـ 156.


الصفحة 272

وأقـول:

ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليسـت من آثار قدرتهم.

وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة اسـتدلّوا به، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض(1)، عند قول نصيـر الدين (قدس سره) في " التجريد ": " وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق "(2).

والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسـه!


*    *    *

____________

(1) شرح التجريد: 335.

وقد جاء مؤدّاه في: الإرشاد ـ للجويني ـ: 205 ـ 206، تبصرة الأدلّة في أُصول الدين 2 / 624.

وكذا جـاء مؤدّاه في: المواقف وشرحها وشرح المقاصد كما مرّ آنفـاً في الصفحـة 264.

(2) تجريد الاعتقاد: 171.


الصفحة 273

قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):

والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة..

أمّـا النقض، ففي الأوّل من وجوه:

الأوّل ـ وهـو الحـقّ ـ: إنّ الوجـوب مـن حـيـث الـداعـي والإرادة، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.

فإنّـا نقول: الفعل مقدور للعبد، يمكن وجوده منه، ويمكن عدمه، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده، وحصلت الشرائط، وارتفعت الموانع، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّـة، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.

ولا يكون ذلك جبراً ولا إيجاباً بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 122.


الصفحة 274

وقال الفضـل(1):

هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار، ومرادنا نفي الاختيار، سواء كان ممكناً في نفس الأمر أو لا.

وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر، سواء كان منشأ عدم تمكّـنه عدم الإمكان الذاتي لفعله، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع، فما ذكره ليس بصحيح.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 94.


الصفحة 275

وأقـول:

لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا، فإن لم يتمكّن كان موجَباً لا مختاراً، ويلزم الجبر، أجاب المصنّـف (رحمه الله): " إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ".

قولكم: " كان موجَباً لا مختاراً ".

قلنـا: ممنوع; لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته، فلا ينفي كونه مختاراً، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.

وهذا معنى ما يقال: " الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ".

وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار، ومرادنا نفي الاختيار، وهو كلام لا محصّل له.

ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة، وإن لم يصر فاعله بذلك موجباً.

وفيه ـ مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجباً ـ يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار، ولا ينافي كونه مقدوراً بالذات، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجباً بالغير، لا واجباً بالذات، ولا صادراً بالجبر.

وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع

الصفحة 276
من العبد مجبور عليه!

على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.

ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف، مع أنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح " المواقف " ويبني عليه؟! ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!


*    *    *


الصفحة 277

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

الثاني: يجوز أن يترجّح الفعل، فيوجده المؤثّر، أو العدم فيعدمه، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(2)، فلا يلزم الجبر ولا الترجيـح من غير مرجّح.

قوله: " مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض، فليفرض واقعاً في وقت، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ".

قلنا: ممنوع; بل الرجحان الأوّل كاف، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 122.

(2) انظر: المطالب العالية من العلم الإلهي 1 / 107 ـ 108، المنقذ من التقليد 1 / 29، شرح المقاصد 1 / 481 ـ 482.


الصفحة 278

وقال الفضـل(1):

لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل، ولا بُـدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل; لأنّ هذا المرجّح موجـود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه، ولهذا ترجّح الفعل.

فلو كان هذا المرجّح موجوداً عند عدم الفعل، ولم يترجّح به الفعل، فلا يكون مرجّحاً، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساوياً.

ويلزم خلاف المفروض; لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجـد في وقت ويعدم في الآخر، ولا بُـدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب، وإلاّ يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 96.


الصفحة 279

وأقـول:

لا يخفى أنّ عندنا مسألتين:

الأُولى: إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفَي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن، غير منته إلى حدّ الوجوب، بحيث يجوز أن يوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل، فينـسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟

لا ريب أنّه لا يمكن; لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.

وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته، يقتضي امتناع وقوع المرجوح; لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.

ولذا قال نصير الدين (قدس سره) في " التجريد ": " ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته "(1).

الثانية: إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ـ كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(2) ونقله المصنّف عنهم ـ أو لا يمكن؟

ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة، ومبنيٌّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح، وهو ممنوع; لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته

____________

(1) تجريد الاعتقاد: 113.

(2) راجع ما تقدّم انفاً في الصفحة 272.


الصفحة 280
في الإقدام على الفعل، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية، مع فرض عدم الفعل.

هذا إذا أُريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.

وأمّا لو أُريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفَي الممكن، فلا محالة يكون المرجّح موجباً; ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.


*    *    *


الصفحة 281

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

الثالـث: لِـمَ لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدورَيه على الآخر، من غير مرجّح.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين(2)، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه، والهارب من السبع إذا عَـنَّ(3) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.

وإذا كان هذا الحكم وجدانياً، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!

الرابع: إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به; لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدَّين(4)، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة; لعدم التمكّن من الترك.

وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدَّين، لزمهم وجود الضدَّين دفعة

____________

(1) نهج الحقّ: 123.

(2) انظر: المطالب العالية من العلم الإلهي 1 / 108، شرح المقاصد 1 / 484.

(3) عَـنَّ الشـيءُ: ظَـهَـرَ أمامك; انظر: لسان العرب 9 / 437 مادّة " عنن ".

(4) تمهيد الأوائل: 326 و 336، الإرشاد ـ للجويني ـ: 201، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 153، المواقف: 153.


الصفحة 282
واحدة; لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم(1).

وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم، إمّا اجتماع الضدَّين أو تقدّم القدرة على الفعل.

فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!


*    *    *

____________

(1) تمهيد الأوائل: 336، الإرشاد ـ للجويني ـ: 197 ـ 198، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 152، المواقف: 151.


الصفحة 283

وقال الفضـل(1):

اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح، والحكم بعد تصوّر الطرفين، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن، وتصوّر المحمول ـ الذي هو معنى كونه محوجاً إلى السبب ـ ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز..

ألا ترى إلى كـفّـتَي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما، وقال قائل: ترجّحت إحداهما على الأُخرى بلا مرجّح من خارج، لم يقبله صبي مميّز، وعلم بطلانه بديهة.

فالحكم بأنّ أحد المتساويَين لا يترجّح على الآخر إلاّ بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب، بل الحكم مركوز في طباع البهائم، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب(2).

وما ذكر من الأمثلة، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم، بل اللازم وجود المرجّح.

وأمّـا دعوى كونه وجدانياً مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي، دعوى باطلة كسائر دعاويه; والله أعلم.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 99.

(2) انظر: شرح المواقف 3 / 135 ـ 136.


الصفحة 284
وأمّـا قولـه في الوجـه الرابـع: " إنّ هذا الدليـل ينافي مذهبهـم، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به; لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدَّين... " إلى آخره.

فنقول في جوابه: عدم صلاحية القدرة للضدَّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه، وليس له التمكّن من الترك، وذلك يوجب نفي الاختيار.

فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدَّين، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب، لم يكن العبد قادراً على الترك، فيكون موجباً لا مختاراً، وهذا هو المطلوب..

فكيف يقول: إنّ كون القدرة غير صالحة للضدَّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!

فعُلِم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!

ثمّ ما ذكر أنّهم [إنْ] (1) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين، لزمهم إمّا اجتماع الضدَّين، أو تقدّم القدرة على الفعل; فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذوراً.

والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا: إنّ القدرة لا تصلح للضدَّين(2); لأنّ القدرة عندهم مع الفعل(3)، فيجب أن لا يكون صالحاً

____________

(1) أثبتـناه من " إبطال نهج الباطل ".

(2) راجع تخريجه المارّ آنفاً في الصفحة 276 هـ 4.

(3) راجع تخريجه المارّ آنفاً في الصفحة 277 هـ 1.


الصفحة 285
للضدَّين، وإلاّ لزم اجتماع الضدَّين!

أُنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات، حسبَ أنّ هذا الكلام حطب يُسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضاً! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.


*    *    *


الصفحة 286

وأقـول:

ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح، خطـأٌ ظاهر، فإنّ قومه ـ وهم الأشاعرة ـ لا يوافقون عليـه، ويزعمـون أنّ بقـاءَ الممـكنِ الموجـود، وعدمَ الممكـناتِ الأزلي، لا يحتاجان إلى مرجّـح وسـبب.

ولذا قالوا: إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود، لا الإمكان(1).

ولكن غرّ الخصمَ أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من " المواقف " وشرحها دعوى ضروريةِ حاجةِ الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان(2)، خلافاً للأشاعرة.

ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم، ولذا تنفر من صوت الخشب، أَوردا عليه بقولهما: " قلنا ذلك، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه، فإنّه لمّـا حدث الصوت بعد عدمه، تخيّلت البهائم أنْ لا بُـدّ له من محدِث، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفَي الصوت، وأنْ لا بُـدّ هناك من مرجّـح "(3).

ولو سُلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب، وعلى أنّه يمتنع

____________

(1) شرح المقاصد 2 / 15.

(2) انظر: المواقف: 71، شرح المواقف 3 / 135 ـ 136.

(3) المواقف: 71، شرح المواقف 3 / 137.


الصفحة 287
ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه; لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.

ولذا قال في " المواقف " في البحث عن أفعال العباد، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة: " واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاماً للمعتزلة، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري; وإلاّ فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفَي المقدور، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقياً "(1).

بل يستفاد من هذا ـ لا سيّما قوله: " يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار " ـ جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي، كما يدلّ عليه أيضاً تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة(2)، وتجويزهم عقلا أنْ يعذّب الله الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة(3)، وقولهم: لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء(4)، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.

وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع، فمن الجهل أيضاً; لأنّ المصنّف

____________

(1) المواقف: 313.

(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 296، المواقف: 412، شرح المقاصد 5 / 247.

(3) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 115 ـ 116، تمهيد الأوائل: 385، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134.

(4) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 295، المواقف: 328، شرح المقاصد 4 / 294.


الصفحة 288
لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدَّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل، وإنّما يقول: إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل; لأنّ الاستدلال به مبنيٌّ على جواز تعلّق القدرة بالضدَّين، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.

وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف: " إنْ خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدَّين لزمهم... شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذوراً "..

ففيـه: إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر، وهو: إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيٌّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدَّين، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.

فقال: وإنْ خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر، وهو اجتماع الضدَّين أو تقدّم القدرة على الفعل، وكلاهما مخالف لمذهبهم.

وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم، وعن سرقته لكلام " المواقف " وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم، وبعدم انطباقه على المورد!!


*    *    *


الصفحة 289

قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):

وفي الثاني من وجهين:

الأوّل: العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات، والمؤثّر متقدّم.

الثاني: إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فُرض موجوداً، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمُه، لامتناع اجتماع النقيضين، وإذا كان ممتنع العدم كان واجباً، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له، إذ لا بُـدّ في العلم من المطابقة، فالعلم والمعلوم متطابقان، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، فإنّه لولاه لم يكن علماً به.

ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه، بما هو حكاية عنه، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.

وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب، فكذا مع فرض العلم به.

وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي، كذا هذا الوجوب، ولا يلزم من تعلّق علم الله تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته، بل بالنسبة إلى العلم.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 123.


الصفحة 290

وقال الفضـل(1):

قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي، في " مبحث التكليف والبعثة "(2)، وهذا صورة تقريره:

" ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد، وإلاّ جاز انقلاب العلم جهلا.. وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد، وإلاّ جاز الانـقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد، وأنّه يبطل الاختيار، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته; لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال، فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ".

قال الإمام الرازي: ولو اجتمع جملة العقلاء، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها "(3).

وقال شارح " المواقف ": " واعتُرض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم، على معنى أنّهما يتطابقان، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة; لأنّ

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 108.

(2) تقدّم عن الفخر الرازي وغيره كما في الصفحة 267 هـ 1.

(3) الأربعين في أُصول الدين 1 / 328.


الصفحة 291
الفرس في حدّ نفسه هكذا، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.

فالعلم بأنّ زيداً سيقوم غداً مثلا، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه، دون العكس، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتـناعه، وسلب القدرة والاختيار، وإلاّ لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختاراً لكونه عالماً بأفعاله وجوداً وعدماً "(1)، انتهى كلام شارح " المواقف ".

وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السُـنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.

وجواب الأوّل من الوجهين: إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل ـ كما ذكرنا ـ حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا(2)، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور; لِما ستعلم.

وجواب الثاني من الوجهين: إنّا نُسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات، واجب بالغير.

والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطرارياً، وهو حاصل، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.

وأمّا جواب شارح " المواقف " فنقول: لا نُسلّم أنّ العلم مطلقاً تابع للمعلوم، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.

وإن أراد بالتابعيّة التطابق، فلا نُسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو

____________

(1) شرح المواقف 8 / 155 ـ 156.

(2) تقدّم في الصفحة 265.


الصفحة 292
المعلوم في العلم الفعلي، بل الأمر بالعكس عند التحقيق، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت، هو الأصل والعلّة لبناء البيت، والبيت يتبعه، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي، لزم انقلاب العلم جهلا.

وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليٌّ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.

كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع، ويتبعه وجود الممكنات، فإنْ وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قـدّره علمه الفعلي في الأزل، لزم انقلاب العلم جهلا، وهذا هو التحقيـق!


*    *    *


الصفحة 293

وأقـول:

تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة لـه دليلا، كما نقله عنهم من هو منهم، وهو القوشجي كما مرّ(1).

وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابَين بسبب ما نقله عن شارح " المواقف "، فمن المضحكات; لأنّ تصنيف " شرح المواقف " متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة، فإنّ السلطان محمّـد خدا بنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمئة، وصنّف له هذا الكتاب(2)، وكان تصنيف " شرح المواقف " سنة سبع بعد الثمانمئة، كما ذكره الشارح في آخر شرحه(3).

على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب، إذ لم يذكر في " شرح المواقف " ولا غيره.

ولو كان واحد من الجوابَين من كلام الأشاعرة لَما خفي على صاحب " المواقف "، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطّلع عليهما عُلِمَ أنّهما من خواصّ خصومهم، كما هي

____________

(1) تقدّم في الصفحة 267 من هذا الجزء.

(2) انظر: نهج الحقّ: 38 مقدّمة العلاّمة الحلّي; وانظر: أعيان الشيعة 9 / 120، الذريعة 24 / 416 رقم 2183.

(3) شرح المواقف 8 / 401.

وقد كانت وفاة العلاّمة الحلّي (قدس سره) كانت في سنة 726 هـ، وتوفّي الإيجي مؤلّف " المواقف " في سنة 756 هـ، فيما كانت وفاة الجرجاني شارح " المواقف " في سنة 812 هـ.


الصفحة 294
عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية، رغبة عن الحقّ، وتعصّباً لِما هم عليـه.

لكن لمّا كان لشارح " المواقف " حاشية على " شرح التجريد القديم "(1)، اطّلع على الجواب الأوّل، فذكره في " شرح المواقف "(2); لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين (قدس سره) قد ذكره في " التجـريد "(3)، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين، والجواب الثاني من خواصّ المصنّـف.

ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله: " بل ندّعي انقلاب العلم جهلا " غير نافع له; لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّراً لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم، وإنّما يوجب أن يقع ما علم الله تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني..

ففيـه: إنّ الوجوب بالغير، الحاصل من فرض وقوع الممكن

____________

(1) هو الشرح المسمّى " تشـييد القواعد " أو " تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد " تأليف: شمس الدين محمود بن عبـد الرحمن بن أحمد الأصفهاني، المتوفّى سنة 746 هـ.

وتسميته بالشرح القديم لا لكونه أقدم الشروح، بل لتقدّمه على " شرح التجريد " المعروف بـ " الشرح الجديد "، للشيخ علاء الدين عليّ بن محمّـد القوشجي، المتوفّى سنة 879 هـ.

وقد كتب شارح " المواقف " السيّد الشريف عليّ بن محمّـد الجرجاني، المتوفّى سنة 816 هـ حاشية على الشرح القديم هذا، اشتُهرت باسم " حاشية التجريد ".

انظر: الذريعة 3 / 354، مقدّمة تجريد الاعتقاد: 80، كشف الظنون 1 / 346.

(2) شرح المواقف 8 / 155.

(3) تجريد الاعتقاد: 113 ـ 114.


الصفحة 295
بالاختيار ـ كما بيّنه المصنّف ـ لا يجعل الفعل اضطرارياً، وإلاّ كان خُلفاً، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار، كالظلم وفعل القبيح، فإنّهما ممتنعان على الله تعالى لقبحهما، وهو قادر مختار في تركهما.

وبالجملة: المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطاً بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك، غاية الأمر أنّ الله تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتـركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين، كما يُعلـم ذلك في حقّـه تعالى، وهـو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.

وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح " المواقف "..

فـفيه: إنّه إنْ أراد بقوله: " إنّ علم الله تعالى بالموجودات فِعليٌّ " أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها، ومنها أفعالنا، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا: إنّه تعالى فاعل لأفعالنا; لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.

وإنْ أراد به أنّ علمه شرط لها، فلا يضرّنا تسليمه، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا; لأنّ الأثر للفاعل، لا للشرط.

والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سبباً لوجود المعلوم في الخارج، أنّـه دخيل في السـببية من حيث كونه شرطاً، كعلم المهندس، بخلاف العلم الانفعالي، فإنّه ليس بشرط للمعلوم، بل هو مسـبّب، أي: فرع عن وجود المعلوم، كعلمنا بما وقع.

وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضاً الذي يعرّفونه بما ليس سبباً لوجود المعلوم في الخارج، ولا مسـبّباً عنه، كعلم الله سبحانه بذاته، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته، ويختلفان بالاعتبار.

على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطاً لوجود المعلوم، ضرورة

الصفحة 296
أنّ العلم تابع للمعلوم; لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به، فيكون وجود المعلوم واقعاً متقدّماً رتبة على العلم; لكونه شرطاً له أو بحكمـه.

فلو كان العلم الفعلي شـرطاً أيضاً لوجود المعلوم جاء الـدور(1)، فـلا بُـدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره، ليس شرطاً في وجود المعلوم.

نعم، تصوُّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء، وهو أمر آخر، ومنه تصوّر المهندس، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري..

فإذا عرفت هذا، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ، فتدبّر!


*    *    *

____________

(1) وبه قال الفخر الرازي في الأربعين في أُصول الدين 1 / 207.


الصفحة 297

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

وأمّا المعارضة في الوجهين، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعـالى.

فإنّا نقول في الأوّل: لو كان الله تعالى قادراً مختاراً فإمّا أن يتمكّن من الـترك أو لا، فإن لم يتمكّـن من التـرك كان موجـباً مجـبوراً على الفعـل، لا قادراً مختاراً.

وإنْ تمكّن، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا، فإنْ لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح، فإنْ كان محالا في حقّ العبد، كان محالا في حقّ الله تعالى، لعدم الفرق.

وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر، وإلاّ تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبـد.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 124.


الصفحة 298

وقال الفضـل(1):

ذكر صاحب " المواقف " هذا الدليل في كتابه، وأُورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادراً مختاراً، لإمكان إقامة الدليل بعينه، فيقال: لو كان الله موجداً لفعله بالقدرة استقلالا، فلا بُـدّ أن يتمكّن من فعله وتركه، وأن يتوقّـف فعله على مرجّح، إلى آخر ما مرّ تقريره.

وأُجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدَثة، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة، لكن إرادة العبد محدَثة، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله تعالى فيه، بلا إرادة واختيار منه، دفعاً للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه، وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أُخرى(2)..

فظهر الفرق واندفع النقض.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 113.

(2) المواقف: 312 ـ 313، شرح المواقف 8 / 149 ـ 151.