وإنْ أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد، فنعم الوفاق، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله: " إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ".
وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف: " ودليلهم آت في نفس الاختيار "..
فـفيه: إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد، ومنه يعلم ما في جوابه أيضاً عن الإشكال الثالث بقوله: " فجوابه: إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ".
وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل..
فـفيه: إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثراً للعبد كان خروجاً عن مذهبه، وإلاّ فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه، لا الفرق كيفما كان، وإلاّ فالفروق كثيرة.
واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المَخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد; لأنّهما هما المحقّقان للكسب، وإن كانا معاً من فِعل الله تعالى كأصل الفعل، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازماً لا مناص منه ليكون به المَخلص، فإذا جعلوه عادياً غير لازم الوجود واقعاً، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف، لم يكن مَخلصاً.
وهذا هو مقصود المصنّـف في كلامه الأخير.
وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مَخلصهم بإثبات وجوب
وكيف يدّعيه المصنّف وكلّ أحد يعلم أنّ ما جعلوه مَخلصاً هو وجود الاختيار لا وجوب خلق الله الفعل عقيبه؟!
وبهذا تعرف مقدار تدبّر هذا الخصم!
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
وأمّا الثاني: فلأنّ كون الفعل طاعة أو معصية، إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج، أو أمراً زائداً عليه.
فإن كان الأوّل، كان أيضاً من الله تعالى، فلا يصدر عن العبد شيء، فيبطل العذر.
وإن كان الثاني، كان العبد مسـتقلاًّ بفعل هذا الزائد.
وإذا جاز إسناد هذا الفعل، فليجز إسناد أصل الفعل!
وأيّ ضرورة للتمحّل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار؟!
وأيّ فارق بين الفعلين؟! ولِـمَ كان أحدهما صادراً عن الله تعالى والآخر صادراً عن العبد؟!
وأيضاً: دليلهم آت في هذا الوصف، فإن كان حقّـاً عندهم امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.
وأيضاً: كون الفعل طاعة، هو كون الفعل موافقاً لأمر الشريعة، وكونه موافقاً لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل، إنْ طابق الأمر كان طاعة، وإلاّ فلا.
وحينئذ لا يكون الفعل مستنداً إلى العبد، لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، فينتفي هذا العذر أيضاً كما انتفى عذرهم الأوّل.
____________
(1) نهج الحقّ: 127.
وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله.
فلو كان أصل الفعل صادراً من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفاً بالحسن.
فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من الله امتنع وصفها بالقبح، فلا تكون معصية، فلا يستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب، فلا يحسن من الله تعالى ذمّ إبليس وأبي لهب وغيرهما، حيث لم يصدر عنهم قبيـح ولا معصية، فلا تتحقّق معصية من العبد ألبتّة!
وأيضاً: المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعاً، والقرآن مملوء من المناهي والتوعّد عليها.
وكلّ ما نهى الله عنه فهو قبيح، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلاّ ما نهى الله عنه، مع إنّها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر.
وكلّ ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى، والفاعل له هو الله لا غير عندهم، فيكون حسناً وقد فرضناه قبيحاً، وهذا خُـلف.
وأمّا الثالث: فهو باطل بالضرورة، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول، وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون.
وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات، والدخول في هذه الظلمات، والإعراض عن الحقّ الواضح، والدليل اللائح، والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع؟!
فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه، ولا يبقى للقول مجال، ولا يمكن الاعتذار بهذا المحال!
وقال الفضـل(1):
القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاّني من الأشاعرة..
ومذهبه: إنّ الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين، على أنّ تتعلّق قدرة الله تعالى بأصل الفعل، وقدرة العبد بصفته، أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى، كما في لطم اليتيم تأديباً أو إيذاءً، فإنّ ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيـره(2).
هذا مذهب القاضي، وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب; لشمول الأدلّة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق.
وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة(3) فليـس من خواصّـه.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 139.
(2) التقريب والإرشاد 1 / 232 ـ 233، تمهيد الأوائل: 347، المواقف: 312، شرح المواقف 8 / 147.
(3) المعروف أنّ أوّل من أثبت من الأشاعرة تأثيراً غير مسـتقلّ لقدرة العبد في الفعل هو أبو المعالي الجويني في كتابه " النظامية " كما في العلم الشامخ: 331، وحكاه عنه كذلك الشهرسـتاني في الملل والنحل 1 / 85، وردّه الشهرسـتاني في نهاية الإقدام في علم الكلام: 78 ـ 79 قائلا باسـتحالة هذا التأثير.
هذا، ولم يُعرف للأشاعرة قول بتأثير قدرة العبد إلاّ عند متأخّريهم، كالشعراني في اليواقيت والجواهر 1 / 139 ـ 141، والزرقاني في مناهل العرفان 2 / 29 ـ 32.
أمّا قوله: " كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقاً لأمر الشريعة، وكونه موافقاً لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل... " إلى آخر الدليل.
فجوابه: إنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقاً لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل، فإنّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة الفعل، بل هو ذات الفعل، فبطلانه ظاهر.
وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذات، بمعنى أنّه وصف للذات فمسلّم، لكن لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة، وهذا أوّل الكلام.
ثمّ إنّ ما ذكر أنّ: " الطاعة حسنة والمعصية قبيحة... وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم، إذ لا معنى للحسن عندهم... سوى صدوره من الله، فلو كان أصل الفعل صادراً من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفاً بالحسن... " إلى آخره.
فجوابه: إنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة، ولكنّ مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل، فكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبه إليه، وربّما يكون قبيحاً بالنسبة إلى المحلّ كالعاصي.
قوله: " فلو كان أصل الفعل صادراً من الله تعالى امتنع وصفه بالقبـح ".
قلنا: المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى، وكلّ ما كان صادراً
والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح، فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله.
وأمّا قوله: " وأمّا الثالث: فهو باطل بالضرورة، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ".
فنقول: هذا القول إن صدر من الأشاعرة، يكون مراد القائل: إنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد، ولا بُـدّ من إثبات شيء لئلاّ يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب، ولكنّه غير معلوم الحقيقة، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام.
وأقـول:
لا يخفى أنّ نسبة القول الثاني إلى القاضي الباقلاّني منافية لقوله سابقاً: " هذه الأقوال ما رأيناها في كتب الأصحاب "!!(1).
والظاهر: إنّ المصنّف مختصٌّ بإبطال مذهب القاضي بالوجوه المذكورة; لأنّ ما تخيّل الخصم مشاركة المصنّف للأشاعرة فيه هو قوله: " وأيضاً: دليلهـم آت في هذا الوصـف "، وهو ـ كما ترى ـ توطـئة للإيراد لا نفسه; لأنّ المنظور إليه في الإيراد هو قوله بعده: " فإن كان ـ أي دليلهم ـ حقّاً امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ".
وبهذا تعلم أنّ الخصم لم يُجب عن هذا الوجه، كما أنّه لم يتعرّض للجواب عمّا قبله الذي هو أوّل الوجوه.
واعلم أنّ المصنّـف أبطل قول القاضي بخمسة وجوه:
الأوّلان منها راجعان إلى إبطال تفرقة القاضي بين الفعل وصفته.
وثالثها: إلى إبطال قوله بإسناد الوصف إلى العبد.
وأخيراها: إلى إبطال قوله بأنّ أصل الفعل من الله تعالى.
وقد عرفت أنّ الخصم أغفل جواب الأوّل، ولم يفهم الثاني، كما أنّه أغفل جواب الأخير، وهو ما ذكره المصنّف بقوله: " وأيضاً المعصية قد نهى الله تعالى عنها... " إلى آخره.
وحاصلـه: إنّ المعصية ـ يعني أصل الفعل ـ كالزنا منهيٌّ عنه، وكلّ
____________
(1) تـقدّم في الصفحة 314 من هذا الجزء.
وأمّا الثالث، وهو الذي ذكره بقوله: " وأيضاً: كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقاً لأمر الشريعة "..
فقد أجاب عنه الخصم بقوله: " فجوابه: إنّا لا نسلّم... " إلى آخره.
وردّد فيه بمراده بالرجوع بين أمرين لم يُردهما قطعاً، فإنّ مراده بالرجوع في قوله: " وكونه موافقاً لأمر الشريعة يرجع إلى ذات الفعل " هو استناد الموافقة إلى ذات الفعل، لا أنّها ذاته أو وصفه كما تخيّله الخصم.
وحاصل مقصود المصنّف ـ كما هو صريح كلامه ـ: إنّ معنى كون الفعل طاعة هو كونه موافقاً للأمر، وكونه موافقاً له مستند إلى ذات الفعل، لا إلى العبد، فكيف يقول القاضي باستناد الطاعة إلى العبد؟! ومنه يعلم ما في قول الخصم: " لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ".
وأمّا ما أجاب به عن الرابع بقوله: " ثمّ إنّ ما ذكر أنّ الطاعة حسـنة... " إلى آخره..
فخطأٌ ظاهر; لأنّ حاصل مراد المصنّف بهذا الوجه أنّه لو كان أصل الفعل صادراً عن الله تعالى ـ كما يزعمه القاضي وقومه ـ لكان حسناً وامتنع قبحه، فلا يكون معصية; لأنّها قبيحة فلا تتحقّـق من العبد معصية ألبتّة، ولا يحسن ذمّه وعقابه!
والحال: إنّا علمنا أنّ الله سبحانه ذمّ إبليس وأبا لهب وغيرهما، وهـذا وارد على القاضي وقومه، سواء كان الحسن والقبح عقليَّين أم شرعيَّين، لامتناع كون فعل الله تعالى قبيحاً بقبح عقلي أو شرعي.
كما إنّه لا معنى لجعل المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى، فإنّه أشبه باللغو، إذ كيف يمكن إثبات صدورها ممّن لم يوجدها ونفي صدورها عن خالقها وموجدها؟! وهل معنىً للخلق إلاّ الصدور والإيجـاد؟!
هذا، ويمكن أن يريد المصنّف بهذا الوجه الإشكال على دعوى القاضي صدور وصف المعصية من العبد، لا الإشكال على دعواه صدور أصل الفعل من الله تعالى كما بيّـنّـا.
فيكون معنى كلامه: إنّ أصل الفعل إذا كان صادراً عن الله سبحانه كما زعمه القاضي، بطل قوله بصدور وصف المعصية عن العبد; لأنّ فعل الله تعالى لا يوصف بالقبيح، فلا يوصف بالمعصية، ويلزمه انتفاء المعصية عن العبد، كما يلزمه أن لا يحسن من الله سبحانه ذمّ إبليس وسائر العصاة، والحال أنّ الله تعالى قد ذمّهم.
وأمّا قوله: " يكون مراد القائل: إنّ هناك شيء ينسب إليه... " إلى آخـره..
فـفيه: إنّه إذا لم يطّلع على كلمات القائل ومحلّه من العلم، فكيف حكم بأنّ هذا مراده؟!
على أنّ الشيء المجهول الذي أثبته إن كان للعبد تأثير فيه، بطل مذهبهم، وإلاّ بطل التكليف والبعثة والعقاب!
القدرة متـقـدّمة [على الفعل]
قال المصنّـف ـ أعلى الله منزلته ـ(1):
المطلب الثالث عشر
في أنّ القدرة متـقدّمة
ذهبت الإمامية والمعتزلة كافّة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعـل(2).
وقالت الأشاعرة هنا قولا غريباً عجيباً، وهو: إنّ القدرة لا توجد قبل الفعل، بل مع الفعل، غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن(3).
فلزمهم من ذلك محالات، منها: تكليف ما لا يطاق; لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان إجماعاً منّا ومنهم.
فإنْ كان قادراً عليه حال كفره، ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه.
____________
(1) نهج الحقّ: 129.
(2) الذخيرة في علم الكلام: 88، شرح جمل العلم والعمل: 97، الاقتصاد في ما يتعلّـق بالاعتـقاد: 104، تجريد الاعتقـاد: 175، شرح الأُصول الخمسة: 390 ـ 391.
(3) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 92، تمهيد الأوائل: 325، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 152، شرح المقاصد 2 / 353، شرح المواقف 6 / 88.
وقد نصَّ الله تعالى على امتناعه فقال: ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها )(1).
والعقل دلّ عليـه، وقد تقـدّم(2).
وإنْ قالوا: إنّه غير مكلّف حال كفره، لزم خرق الإجماع; لأنّ الله تعـالى أمـره بالإيمـان، بل عنـدهم أنّـه أمرهم في الأزل ونهـاهم، فكيـف لا يكون مكلّفاً؟!
____________
(1) سورة البقرة 2: 286.
(2) راجع الصفحة 97 ـ 98 من هذا الجزء.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّ القدرة حادثة مع الفعل، وإنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل، بل امتنع وجوده فيه... وإنْ لم يمتنع وجوده قبله، بل أمكن، فلنفرض وجوده فيه.. فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك، بل هي حال الفعل، هذا خُلفٌ محال..
لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارِناً يستلزم اجتماع النقيضين، أعني كونه متقدّماً وغير متقدّم، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال، فلا يكون ممكناً، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات.
وإذا لم يكن الفعل ممكناً قبله لم يكن مقدوراً قبله، فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر..
فتعيّن أن تكون موجودة معه، وهو المطلوب(2).
هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى.
وأمّا ما ذكر من لزوم المحالات أنّ الكافر مكلّف بالإيمان بالإجماع، فإنْ كان قادراً على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل، وهو خلاف مذهبهم..
وإنْ لم يكن قادراً لزم تكليف ما لا يطاق.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 143.
(2) انظر: شرح المواقف 6 / 88 ـ 90.
____________
(1) انظر: شرح المواقف 6 / 98.
وأقـول:
ما ذكره من دليل الأشاعرة هو عين ما في " المواقف " وشرحها بألفاظه(1)، وقد أشكلا فيه بما أغفله الخصم إضاعة للحقّ.
وحاصله: إنّه إنْ كان المراد بوجود الفعل قبل وجودِه هو وجودُه بشرط كونه قبل الوجود، فهو مسلّم المحالـيّـة، ولا كلام فيه.
وإنْ كان المراد به وجوده في زمان عدم الفعل بدلا عن العدم، فهو ليس بمحال.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم التكليف بما لا يطاق، فهو مبنيٌّ على ما ذهبوا إليه من تعلّق القدرة بطرف دون آخر(2)، وهو باطل.
ولو سلّم فقدرة الكافر إنّما تعلّقت بترك الإيمان، والمطلوب تعلّقها بالإيمان، ليكون ممّا يسع المكلّف الذي نفت الآية التكليف بغيره.
وبالضرورة: إنّ مجرّد تعلّق القدرة بالكفر وبترك الإيمان لا يجعل الإيمان ممّا يسع المكلّف ومصداقاً له.
وأُجيب عن أصل الإشكال بأنّ الكافر مكلّف في الحال بالإيمان في ثاني الحال.
وفيه: مع أنّه مناف لِما يزعمونه ـ كما ستعرف ـ من أنّ التكليف مع
____________
(1) المواقف: 151، شرح المواقف 6 / 88.
(2) انظر: اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 98، تمهيد الأوائل: 332 ـ 333، المواقف: 331، شرح المواقف 8 / 200.
ومنه يعلم وجه تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان; لأنّ المكلّف به ليس بمقدور قبل وجوده وواجبِ حينه(1).
وقد صحّح القوشجي تشنيعهم بتقرير أنّه قبل الإتيان غير مقدور، وحينه يحصل الامتثال، وحينئذ فهو أيضاً وارد بالنسبة إلى التكليف بالإيمان(2).
____________
(1) انظر: المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 8 / 250، شرح المواقف 6 / 96 ـ 97.
(2) شرح التجريد: 362.
قال المصنّـف ـ شرّف الله قدره ـ(1):
ومنها: الاستغناء عن القدرة; لأنّ الحاجة إلى القدرة إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود، وهذا إنّما يتحقّق حال العدم; لأنّ حال الوجود هي حال الاستغناء عن القدرة; لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجباً فلا حاجة به إلى القدرة.
على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة ألبتّة; لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو الله تعالى(2).
فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول; لأنّه خلاف مذهبهم.
____________
(1) نهج الحقّ: 129.
(2) انظر: المطالب العالية من العلم الإلهي 9 / 75، المواقف: 150، شرح العقائد النسـفية: 146.
وقال الفضـل(1):
الحاجة إلى القدرة اتّصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار، حتّى يصحّ كونه محلاًّ للثواب والعقاب، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل، لا يتحقّق له صورة الاخـتيار، والله حكيـم يخلق الأشـياء لمصـالح لا تحصى.
ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولا.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 145.
وأقـول:
إذا لم تكن القدرة مؤثّرة، فكيف يعلم وجودها؟! وكيف يخرج عن الاضطرار؟! ومن أين تكون مصحّحة للثواب والعقاب؟! على أنّ الثواب عندهم تفضّل محض، والعقاب تصرّف في الملك بلا حاجة إلى القدرة(1).
وأمّا ما زعمه من أنّه لو لم تكن القدرة حادثة لا تتحقّق له صورة الاختيار، فخطأ; إذ لا يتوقّف إيجاد صورة الاختيار على وجود القدرة إذا لم يكن لهما أثر أصلا كـما زعموا، على أنّه لا فائـدة في صورة الاختيـار بلا تأثير، كما لا نتصوّر حكمةً في خلق القدرة غير التأثير.
ولو سلّم فالبحث عنها ـ بلحاظ جهة التأثير ـ فضول.
____________
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 123 و 134 و 140، المواقف: 378، شرح المقاصد 5 / 125 ـ 126.
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
ومنها: إلزام حدوث قدرة الله تعالى أو قِدَم العالَم; لأنّ القدرة مقارِنة للفعل، وحينئذ يلزم أحد الأمرين، وكلاهما محال..
لأنّ قدرة الله تعالى يستحيل أن تكون حادثة، والعالَم يمتنع أن يكون قديمـاً.
ولأنّ القِدَم مناف للقدرة; لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم، فإذا كان الفعل قديماً امتنع استناده إلى القادر.
ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد والكلام في أحكامها، مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل ألبتّة، وإنّه لا مؤثّر غير الله تعالى، فأيّ فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل، إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة للتأثير؟!
وقال أبو عليّ ابن سينا رادّاً عليهم: " لعلّ القائم لا يقدر على القعود "(2).
____________
(1) نهـج الحقّ: 130.
(2) الإلهيّات من كتاب الشفاء: 182.
وقال الفضـل(1):
حاصل هذا الاعتراض: إنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قِدَم مقدوره، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معاً، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته، أو من قِدَم قدرته قدم مقدوره، وكلاهما باطل; بل قدرته أزلية إجماعاً، متعلّقة في الأزل بمقدوراته.
فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه، ولو كان ذلك ممتنعاً في القدرة الحادثة لكان ممتنعاً في القديمة أيضاً(2).
وأجاب شارح " المواقف " عن هذا الاعتراض بأنّ " القدرة القديمة الباقيـة مخالفـة في الماهيّـة للـقدرة الحادثـة التي لا يجوز بقاؤها عنـدنا، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم الحادثة عليه.
ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقاً معنوياً لا يترتّب عليه وجود الفعل، ولها تعلّق آخر به حال حدوثه، تعلّقاً حادثاً موجباً لوجوده، فلا يلزم من قِدَمها مع تعلّقها المعنوي قِدَم آثارها، فاندفع الإشكال بحذافيره "(3).
وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل، فبالحـريّ أن يتعجّب من تعجّبه; لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد، وهي من صفات الكمال.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 148.
(2) انظر: شرح المواقف 6 / 94 ـ 95.
(3) شرح المواقف 6 / 96.
وأمّا قوله: (أنْ لا فرق بينها وبين اللون); فقد أبطلنا هذا القول في ما سبق مراراً، بأنّ اللون لا نسبة له إلى الفعل، والقدرة تُخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار، ويخرج بها العبد من الجبر المطلق، ويترتّب على فِعله الثواب والعقاب والتكليف; والله أعلم.
قال الإمام الرازي: القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة(1) الحيوانية، وهي القوّة العضلية التي هي بحيث متى انضمّ إليها إرادة أحد الضـدّين، حصل ذلك الضدّ، ومتى انضـمّت إليها إرادة الضدّ الآخر، حصل ذلك الآخر، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء، وهي قبل الفعل.
والقدرة أيضاً تطلق على القوّة المستجمِعة لشرائط التأثير، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معاً وإلاّ اجتمعا في الوجود، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر; وذلك لاختلاف الشرائط... وهذه القدرة مع الفعل; لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثّر التامّ(2).
ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّةَ المستجمِعة لشرائط التأثير، ولذلك حكم بأنّها مع الفعل، وأنّها لا تتعلّق بالضدَّين.
والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوّة العضلية، فلذلك قالوا بوجودها
____________
(1) انظر: المواقف: 154، وجاء في تفسير الفخر الرازي 1 / 146 ما نصّه: " واعلم أنّ لفظ القوّة يقرب من لفظ القدرة " وهو مؤدّى " القدرة تطلق على مجرّد القوّة "، فلاحـظ!
(2) انظر: شرح التجريد ـ للقوشجي ـ: 361.
وبهـذا يخـرج جـواب أبي علي ابن سـينا حيـث قال: " لعـلّ القـائم لا يقدر على القعود " فإنّه غير قادر، بمعنى أنّه لم يحصل له بعدُ القوّة المستجمعة لشرائط التأثير، وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضلية.
____________
(1) شرح المواقف 6 / 104 ـ 105.
وأقـول:
لا أثر لمخالفة القدرة القديمة للحادثة في الماهيّة; لأنّ دليل الأشاعرة السابق المانع من تقدّم القدرة الحادثة آت في القديمة أيضاً، كدليلهم الآخر الآتي في كلام القوشجي.
على أنّ المخالفة ممنوعة بمقتضى مذهبهم; لأنّ القدرتين من الأعراض واقعاً في مذهبهم، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.
قال القوشجي: " احتجّت الأشاعرة على أنّ القدرة مع الفعل لا قبله بوجهين:
أحدهما: إنّها عرض، والعرض لا يبقى زمانيـن، فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة، والمعلول بدون العلّة، وهو محال.
وأُجيب عنه: أمّا أوّلا: فبالنقض بقدرة الله تعالى، وما يقال من أنّ العـرض لا يطلق على صفاته تعالى، وأنّ صفاته ليست مغايرة لذاته، فممّا لا يجدي نفعاً، ولأنّ الكلام في المعاني لا في إطلاق الألفاظ "(1).
وأمّا قول شارح " المواقف ": " ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل... " إلى آخره(2).
ففيه: إنّه إذا جاز ذلك في القديمة فليجز مثله في الحادثة، بأن تكون
____________
(1) شرح التجريد: 362.
(2) شرح المواقف 6 / 96.
وأمّا ما أجاب به الخصم عن تعجّب المصنّف، فقد مرّ ما فيه، من أنّ البحث عن تقدّمها أو مقارنتها، إنّما هو فرع تأثيرها ومبنيٌّ عليه، فإذا زعموا أنّها غير مؤثّرة، كان بحثهم عن جهة التقدّم والمقارنة فضولا، وإن كان البحث عنها من جهة أُخرى صحيحاً.
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة واللون..
ففيه: إنّ المطلوب هو الفرق بالنسبة إلى الدخل بالفعل، لا الفرق بأيّ وجه كان، وما ذكره من صورة الاختيار، قد عرفت أنّه لا فائدة فيه مع عدم تأثير القدرة.
على أنّه لا يتوقّف خلق صورة الاختيار على خلق القدرة بعد فرض عدم الأثر لهما.
كما إنّ القدرة بلا تأثير لا تصحّح العقاب والثواب، ولا تخرج العبد عن الجبر الحقيقي.
وأمّا كلام الرازي، فهو في الحقيقة تسليم منه لخصومهم; لأنّ محلّ النزاع هو المعنى الأوّل، الذي لا يخالف المعنى الثاني بذات القدرة، وإنّما يخالفه بعدم اجتماع شرائط تأثيرها.
كما إنّ احتمال الرازي لإرادة الأشعري للمعنى الثاني خطأ، كما ذكره شارح " المواقف "; لأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثّرة عند الأشعري، فكيف يقال: إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمِعة لشرائط التأثير؟!
وأمّا ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب ابن سـينا..
ففيه: ما حكاه السيّد السعيد عن ابن سينا في كلام له متّصل بهذا
ونقل السيّد (رحمه الله) أيضاً عن ابن سينا أنّه أبطل القول بأنّ القدرة مع الفعل، حيث إنّه في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز، من " إلهيّات الشفاء " قال: " وقد قال بعض الأوائل ـ وغاريقون منهم ـ: إنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم.
وقال بهذا أيضاً قوم من الواردين بعده بحين كثير.
فالقائل بهذا القول كأنّه يقول: إنّ القاعد ليس يقوى على القيام، أي: لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم، فكيف يقوم؟! وإنّ الخشب ليس بجبلّته أن يُنحَت باباً، فكيف يُنحَت؟!
وهذا القائل لا محالة غير قوي على أنّ يرى ويبصر في اليوم الواحد مراراً، فيكون بالحقيقة أعمى "(1).
____________
(1) الإلهيّات من كتاب الشفاء: 182، إحقاق الحقّ 2 / 151.