القدرة صالحة للضدَّين
قال المصنّـف ـ عطّر الله مرقده ـ(1):
المطلب الرابع عشر
في أنّ القدرة صالحة للضدَّين
ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة، فإنّهم قالوا: القدرة غير صالحة للضدّين(2)، وهذا مناف لمفهوم القدرة، فإنّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك.
فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير، لم يكن الآخر مقدوراً، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك.
____________
(1) نهج الحقّ: 130.
(2) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 94، تمهيد الأوائل: 326، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 153، المواقف: 153، شرح المواقف 6 / 102 ـ 103.
وقال الفضـل(1):
مذهب الأشاعرة: إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين، بناءً على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله.
بل قالوا: إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورَين مطلقاً، سواء كانا متضادَّين أو متماثلَين أو مختلفَين، لا مَعاً ولا على سبيل البدل، بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلاّ بمقدور واحد، وذلك لأنّها مع المقدور(2).
ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورَين مغاير لِما نجـده عند صدور الآخر.
ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية: إنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة(3).
وأنا أقول: ولعلّ النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلّقاً بمقدور واحد، وهو الكائن عند حدوث الفعل، فكلّ فرد له متعلّق.
والمعـتزلة يجعلون القدرة مطلقـاً متعلّـقة بجميع المقدورات، وهـذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد.
والمعتزلي لا يقول: إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 152.
(2) انظر: تمهيد الأوائل: 326، المواقف: 153.
(3) انظر: شرح الأُصول الخمسة: 415، شرح المواقف 6 / 102 ـ 103، الذخيرة في علم الكلام: 85، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 103.
وأمّا ما ذكره من: " أنّه يوجب عدم كون القادر قادراً; لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادراً على عدم الفعل وهو الترك، فيكون مضطـرّاً لا قادراً ".
فالجواب عن ذلك: إنّه إنْ أُريد بكونه مضطـرّاً أنّ فِعله غير مقدور لـه، فهـو ممنـوع، وإنْ أُريـد به أنّ مقـدوره ومتعلّـق قدرته متعيّـن، وأنّـه لا مقدور له بهذه القدرة سواه، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه..
ولا منازعة لنا في تسميته مضطـرّاً، فإنّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة، ألا يرى أنّ من أحاط به بناءٌ من جميع جوانبه، بحيث يعجز عن التقلّب من جهة إلى أُخرى، فإنّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم، مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره(1).
____________
(1) انظر: شرح المواقف 6 / 104.
وأقـول:
لا يخـفى أنّ تعلّـق القدرة بالشـيء قد يكون بمعنـى أنّه إن شاء فِعْـلَـه فَـعَـلَـه، وإن شاء تَـرْكَه تَـرَكَه، وهو معنى صحّة الطرفَين وصلاحيّـتهما.
وقد يكون بمعنى تأثيرها في متعلّقها، وهذا بالضرورة لا يقع بالطرفين; لأنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محـال، لعدم إمكان اجتماعهما.
ولا ريب أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في المعنى الأوّل، إذ لو كان مقصود الأشاعرة هو المعنى الثاني، لاستدلوا بما هو ضروري، من أنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال، ولم يحتاجوا إلى كلفة بنائه على مقارنة القدرة للمقدور التي تمحّلوا للاسـتدلال عليها.
وحينـئذ فلا وجه لِما زعمه الخصـم من كون النزاع لفظياً; لأنّه إذا كان محلّ النزاع هو التعلّق بالمعنى الأوّل كما عرفت، فلا بُـدّ أن يكون المراد هو القدرة المطلقة; لأنّها هي التي تصلح للنقيضين، لا فرد القدرة الخـاصّ الجامـع لشـرائط التأثيـر; لأنّـه إنّمـا يكـون فـرداً خاصّـاً عنـد التأثير بأحد الطرفين، فلا يمكن أن يصلح في هذا الحين للتأثير بالطرف الآخـر.
ولا يخفى أنّ هذا الذي جمع به الخصم وأظهر التفرّد به راجع إلى ما جمع به الرازي; لأنّ القدرة المطلقة هي القوّة العضلية، وفردها هو القوّة
وأمّا ما أجاب به عن إلزام المصنّف، فمناف لِما توهّمه من كون النزاع لفظياً، إذ لو سلّموا تعلّق القدرة المطلقة بالطرفين، كما هو محلّ دعوى المصنّف، لقال: نحن لا نمنع هذا حتّى ينافي مفهوم القدرة، وإنّما نمنع تعلّق فردها بالطرفين وهو لا ينافي مذهبكم.
ولكن قد يعذر الخصم على إتيان هذه المنافاة; لأنّه لا يعرف من الاستدلال والردّ إلاّ ما في " المواقف " وشرحها، كما هو دأبه في هذا الكتاب، وقد وجد هذا الكلام في " شرح المواقف " فأورده بلفـظه جهلا بأنّه ينفي ما توهّمه(2).
ثمّ إنّه واضح البطلان; لأنّا نختار منه الشقّ الأوّل من ترديده، ونحكم بسفسطة مانعه، إذ لو كان الفعل الذي لا يتمكّن فاعله من تركه مقدوراً له، لكان كلّ فعل تلبّـس به الشخص ولم يقدر على تركه مقدوراً له، وكذا كلّ ترك تلـبّـس به ولم يقدر على نقيضه..
فيكون من سقط من شاهق قادراً على هذا السقوط في حين السقوط، وكان تارك الطيران إلى السماء قادراً على الترك، وهو عين السفسطة.
ومن هذا القبيل مثال البناء الذي ذكره، فإنّ دعوى قدرة من أحاط به البناء وعجز عن التقلّب شبيهة بدعوى القدرة في هذه الأمثلة.
نعم، هو قادر على الكون في البناء المذكور، وعلى السقوط في
____________
(1) تقدّم قول الفخر الرازي في الصفحة 342.
(2) انظر: شرح المواقف 6 / 104.
وضرورة العقلاء حاكمة بذلك، ودعوى الإجماع منّا ومنهم مع وضوح الكذب علينا غير غريبـة!
الإنسان مريدٌ لأفعالـه
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المطلب الخامس عشر
في الإرادة
ذهبت الإماميـة وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله، بل كلّ قادر فإنّه مريد; لأنّها صفة تقتضي التخصيص، وأنّها نفس الداعي(2).
وخالفت الأشاعرة في ذلك، فأثبتوا صفة زائدة عليه(3).
وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها; لأنّ الفعل إذا كان صادراً عن الله تعالى ومسـتنداً إليه، وكان لا مؤثّـرَ إلاّ الله تعـالى، فأيّ دليل حينئذ يدلّ على ثبوت الإرادة؟! وكيف يمكن ثبوتها لنا؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 131.
(2) الذخيرة في علم الكلام: 165 ـ 166، شرح جمل العلم والعمل: 92 ـ 93، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 97 ـ 98، المنقذ من التقليد 1 / 162، تجريد الاعتقاد: 199، المحيط بالتكليف: 232، شرح الأُصول الخمسة: 324 ـ 347، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 344.
(3) الإبانة عن أُصول الديانة: 123 وما بعدها، تمهيد الأوائل: 299 و 317، الملل والنحل 1 / 82 ـ 83، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 207، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 243، المسائل الخمسون: 52 و 53، شرح المقاصد 4 / 128 و 274، شرح العقائد النسفية: 124 ـ 125، شرح المواقف 8 / 44 ـ 45.
فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما عُلم وجوده بالضرورة، وهو القدرة والإرادة.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه، هل يجوز له اتّباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات؟!
وهل يشكّ عاقل في أنّه قادر مريد، وأنّه فرقٌ بين حركاته الإرادية وحركة الجماد؟!
وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بـينه وبيـن ربّـه؟!
وهل تتمّ له المحاجّة عند الله تعالى بأنّي اتّبعت هؤلاء، ولا يسأل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟!
وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز مطلقاً؟!
فكيف لأمثال هؤلاء؟!
فما يكون جوابه غداً لربّـه؟!
وما علينا إلاّ البلاغ المبين!
وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضالّ عن زلله، ويستمرّ المستقيم على معتقده.
وقال الفضـل(1):
هذا المطلب لا يتحصّل مقصوده من عباراته الركيكة، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة; لأنّ إسناد الفعل إلى الله تعالى، وأنّه لا مؤثّر إلاّ هو، يوجب عدم إثبات صفة الإرادة.
وقد علمت في ما سلف بطلان هذا، فإنّ وجود القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة، وكونهما غير مؤثّرتَين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد ـ كما مرّ مراراً ـ، والله أعلم.
وما ذكره من الطامّات قد كرّره مرّات، ومن كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل، وما أحسن ما قلتُ في تطويلاته شعراً:
لقد طوّلتَ والتطويلُ حشوٌ | وفي ما قلتَه نفعٌ قليلُ |
وقالوا الحشو لا التطويل لكن | كلامَك كلّه حشوٌ طويلُ |
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 161.
وأقـول:
لم يخفَ على المصنّف أنّ وجود القدرة والإرادة في العبد ضروري، كيفَ وقد صرّح به هنا، وصرّح في ما سبق بأنّهما مؤثّران بالضرورة؟!
ولكن لمّا عُلم من حالهم أنّهم يكابرون الضرورة، ويطالبون بإقامة الأدلّة على الأُمور البديهية، كما كابروا في أمر تأثيرهما وفي غيره من الأُمور السابقة، جرى على منوالهم في المقام، وألزمهم بعدم وجود الدليل على وجود القدرة والإرادة، بناءً على مذهبهم من كون المؤثّر هو الله تعالى وحده، بل يلزمهم الحكم بعدم وجود الإرادة، إذ لا يتصوّر وجه حاجة إليها غير تخصيص أحد الطرفين المقدورَين.
فإذا منعوا صلاحية القدرة للطرفين وقالوا: إنّها هي المخصّصة لأحدهما، لم يكن معنىً لتخصيص الإرادة، فيلزمهم نفي وجود ما عُلم وجوده بالضرورة، وينسدّ طريق ثبوته، لا سيّما والله سبحانه لا يفعل العبـث.
ودعوى الأشاعرة ترتّب التكليف والثواب والعقاب على وجودها المجرّد عن التأثير، قد عرفتَ بطلانها.
وأمّا ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات، وإيراد الحشو في العبارات، فهو موكول إلى المنصـف.
وكفاك في معرفة تضلّعه في البيان وسموّ مداركه، ما سمّاه شعراً واسـتحسنه من هذين البيتين ونحوهما!!
المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا
قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
المطلب السادس عشر
في المتولّـد
ذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد من أفعالنا [مسـتند إلينا] (2).
وخالفت أهل السُـنّة في ذلك، وتشعّبوا في ذلك، وذهبوا كلّ مـذهب.
فزعم معمَّر(3): إنّه لا فعل للعبد إلاّ الإرادة، وما يحصل بعدها فهو
____________
(1) نهج الحقّ: 132.
(2) أوائل المقالات: 103، الذخيرة في علم الكلام: 73، شرح جمل العلم والعمل: 92، تقريب المعارف: 108، تجريد الاعتقاد: 200.
(3) هو: أبو عمرو ـ أو: أبو المعتمر ـ معمّر بن عبّاد البصري السلمي، مولاهم العطّار، المتكلّم المعتزلي، المتوفّى سنة 215 هـ، تفرّد بمقالات أنكرها عليه معتزلة البصرة ففـرّ إلى بغـداد، وكان يقول: " في العالَم أشياء موجودة لا نهايـة لها، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار "، وكان بينه وبين النظّام مناظرات ومنازعات، لـه عـدّة تصانيـف، منهـا: كـتاب المعاني، كـتاب الاسـتطاعة، كتاب الجزء الذي لا يتجزّأ والقول بالأعراض والجواهر.
انظر ترجمته في: الفهرسـت ـ للنديم ـ: 289، سير أعلام النبلاء 10 / 546 رقم 176، طبقات المعتزلة: 54.
وقال بعض المعتزلة(2): لا فعل للعبد إلاّ الفكر(3).
وقال النظّام: لا فعل للعبد إلاّ ما يوجد في محلّ قدرته، وما يجاورها فهو واقع بطبع المحلّ(4).
وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد من فِعل الله تعالى(5).
وقد خالف الكلّ ما هو معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل..
فإنّا نستحسن المدح والذمّ على المتولّد كالمباشر، كالكتابة والبناء والقتل، وغيرها.
وحسن المدح والذمّ فرع على العلم بالصدور عنّا، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبنّاء المجيدَين في صنعتهما، البارعَين فيها، فقد كابر مقتضى عقله(6).
____________
(1) المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 9 / 11 وفيه أنّه قول ثمامة بن الأشرس والجاحظ أيضاً حكاية عن أبي القاسم البلخي في كتاب " المقالات "، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 87، الملل والنحل 1 / 59، شرح المقاصد 4 / 271 ـ 272.
(2) هو ثمامة بن الأشرس النميري.
(3) المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 9 / 11، الفَرق بين الفِرق: 157 ـ 158، الملل والنحل ـ للشهرسـتاني ـ 1 / 61 ـ 62، شرح المقاصد 4 / 272.
(4) المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 9 / 11، الملل والنحل 1 / 49، شرح المقاصد 4 / 272، شرح المواقف 8 / 160.
(5) تمهيد الأوائل: 334 ـ 335، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 290، المواقف: 316، شرح العقائد النسفية: 151، شرح المقاصد 4 / 271.
(6) راجع: الذخيرة في علم الكلام: 73 ـ 75، تقريب المعارف: 108 ـ 109.
وقال الفضـل(1):
إعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم، ورأوا فيها ترتّباً، قالوا بالتوليد، وهو أن يوجدَ فعلٌ لفاعله فعلا آخر، نحو حركة اليد وحركة المفتـاح.
والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الكائنات إلى الله تعالى ابتداءً.
وأمّا ترتّب المدح والذمّ للعبد; فلأنّه محلّ للفعل ومباشر وكاسـب لـه.
وكذا ما يترتّب على فعله(2) وإن أحدثه الله تعالى بقدرته، فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرّ مراراً.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 165.
(2) تقدّم في الهامش رقم 5 من الصفحة السابقة.
وأقـول:
فيه ما عرفت أنّه لا يصحّ إسناد جميع أفعال العباد إلى الله سبحانه، وأنّ الكسب لا يغني في دفع شيء من الإشكالات السابقة، إذ لا أثر للعبد فيه كأصل الفعل، لاسـتناد جميع الكائنات عندهم إلى الله سبحانه.
وحينئذ فلا محلّ لمدح العبد وذمّه على المتولّد بطريق أَوْلى; لأنّه فعل الله تعالى بلا أثر للعبد فيه أصلا عندهم.
التكليف سابق على الفعل
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
المطلب السابع عشر
في التكليف
لا خلاف بين المسلمين في أنّ الله تعالى كلّف عباده فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وأنّ التكليف سابق على الفعل(2).
وقالت الأشاعرة ها هنا مذهباً غريباً عجيباً! وهو: إنّ التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله(3).
وهذا يلزم منه محـالات..
____________
(1) نهج الحقّ: 133.
(2) شرح الأُصول الخمسة: 410 ـ 411، تقريب المعارف: 123، تجريد الاعتقاد: 203.
(3) التقريب والإرشاد 2 / 290 ـ 292، المحصول في علم أُصول الفقه 1 / 335، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 127، فواتح الرحمـوت 1 / 134 ـ 135.
وقال الفضـل(1):
لمّا ذهبت الأشاعرة إلى أنّ القدرة مع الفعل، والتكليف لا يكون إلاّ حال القدرة(2)، فيلزم أن يكون التكليف مع الفعل، وهذا شيء لزم من القول الأوّل.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 166.
(2) التقريب والإرشاد 2 / 290 ـ 292، المحصول في علم أُصول الفقه 1 / 335 وما بعـدها، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 127، فواتح الرحموت 1 / 134 ـ 135.
وأقـول:
قد عرفت بطلان اللـزوم(1) فيلزمه بطلان اللازم، على أنّ اللزوم ممنوع; لأنّ توقّف صحّة التكليف على القدرة لا يستدعي إلاّ تحقّق القدرة على الفعل في وقته لا في وقت التكليف، فلا يتمّ القول بأنّ التكليف مع الفعـل.
____________
(1) انظر الصفحة 345 ـ 346.
قال المصنّـف ـ قـدّس الله سرّه ـ(1):
الأوّل: أن يكون التكليف بغير المقدور; لأنّ الفعل حال وقوعه يكون واجباً، والواجب غير مقدور.
____________
(1) نهج الحقّ: 133.
وقال الفضـل(1):
لا نسلّم أنّ الواجب غير مقدور مطلقاً، بل ما أوجبته القدرة الحادثة مقدور لتلك القدرة التي أوجبته.
وكذلك فعل العبد بعد الحصول، فيكون مقدوراً، وإذا صار مقدوراً تعلّق به التكليف ولا محذور فيه.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 166.
وأقـول:
لا ريب أنّ المقدور لا يبقى على المقدوريّة حين عروض الوجوب عليه وإنْ كان وجوبه بالقدرة، إذ لو بقي مقدوراً لم يصر واجباً، فإذا فرض تعلّق التكليف بالفعل حين وقوعه، فقد تعلّق به وهو واجب غير مقدور، وهو محال، ومجرّد مقدوريّته بالذات لا تسوّغ التكليف به وهو في حال الوجوب.
ولو سُلّم بقاؤه على المقدوريّة، فلا ريب أنّ التكليف بالشيء محركّ وباعث عليه، والموجود لا يتصوّر التحريك نحوه، وكما لا يجوز التكليف بالشيء بعد وقوعه وإنْ كان مقدوراً في نفسه، لا يجوز التكليف به حين وقوعه.
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
الثاني: يلزم أن لا يكون أحد عاصياً ألبتّة; لأنّ العصيان مخالفة الأمر، فإذا لم يكن الأمر ثابتاً إلاّ حالة الفعل، وحال العصيان هو حال عدم الفعل، فلا يكون مكلّفاً حينئذ وإلاّ لزم تقدّم التكليف على الفعل، وهو خلاف مذهبهم.
لكن العصيان ثابت بالإجماع ونصّ القرآن..
قال الله تعالى: ( أفعصيتَ أمري )(2)..
( ولا أعصي لك أمراً )(3)..
( ءالآن وقد عصيتَ قبلُ )(4)..
ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة أيضاً.
فلينظر العاقل من نفسه، هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الّذين طعنوا في الضروريات؟!
فإنّ كلّ عاقل يسلّم بالضرورة من دين محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الكافر عـاص، وكـذا الفاسـق.. ( يا أيّـها الّـذين آمنـوا اتّـقوا الله وقولـوا قـولا سديداً * يُصْلِـح لكم أعمالَـكم ويغفر لكم ذنوبكم )(5).
فأيّ سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 133.
(2) سورة طه 20: 93.
(3) سورة الكهف 18: 69.
(4) سورة يونس 10: 91.
(5) سورة الأحزاب 33: 70 و 71.
وقال الفضـل(1):
الأمر عندنا أزلي، فكيف ينسب إلينا أنّ الأمر عندنا لم يكن ثابتاً إلاّ حالة الفعل؟!
وأمّا قوله: " حال العصيان حال عدم الفعل "..
فنقول: ممنوع; لأنّ الأمر إذا توجّه إلى المكلّف وتعلّق به، فهو إمّا أن يفعل المأمور به، أو لا يفعل، فإنْ فعل المأمور به فهو مطيع، وإنْ فعل غيره فهو عاص.
فالطاعة والعصيان يكونان مع الفعل، والتكليف حاصل معه، فكيف يصحّ أن يقال: إنّ العصيان حال عدم الفعل، والعصيان صفة الفعل، وحاصل معه؟!
والحاصل: إنّ عصيان الأمر مخالفته، وإذا صدر الفعل عن المكلّف، فإنْ وافق الأمر فهو طاعة، وإنْ خالفه فهو عصيان.
فالعصيـان حاصـل حـال الفعـل، ولا يلزم أصـلا من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتاً.
وأمّا قوله: " والعصيان ثابت "، وإقامة الدليل على هذا المدّعى، فهو من باب طامّاته، وإقامته الأدلّة الكثيرة على مدّعىً ضروري في الشرع متّفق عليـه.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 167.
وأقـول:
نعم، لمّا كان الأمر عندهم أزلياً وجب أن يكون الأمر سابقاً على الفعل، فينافي قولهم بأنّ الأمر مع الفعل، وليس علينا أن ندفع هذه المنافاة.
ودعوى أنّ الأمر أزلي وتعلّقه حادث لو صحّت لا تدفع المنافاة، ما دام الأمر بنفسه ثابتاً في الأزل كما زعموه.
ولا يمكن إنكار قولهم بأنّ الأمر مع الفعل، بدليل ما تكلّفوه من الأجوبة عن المحالات التي ذكرها المصنّف، فإنّهم لو ذهبوا إلى أنّ التكليف قبل الفعل لَما لزمهم شيء من المحالات، وما احتاجوا إلى تكلّف تلك الأجوبة الواهية، التي منها ما أجاب به عن قول المصنّف (رحمه الله): " حال العصيان حال عدم الفعل ".
وحاصله: إنّ المكلّف فاعل حال عصيانه فعلا آخرَ مقارناً لترك المأمور به، فيكون العصيان حال الفعل، وهذا مبنيٌّ على أنّ مرادهم بالفعل في قولهم: " التكليف مع الفعل " هو الأعمّ من فعل المأمور به وفعل ضدّه، لزعمهم أنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على الشيء أو ضدّه.
وفيه: إنّهم لو أرادوا الأعمّ لا خصوص الفعل المأمور به، لَما احتاجوا إلى كلفة الجواب عن المحالات الأُخر; لأنّ المأمور متلبّـس قبل فعل المأمور به بفعلِ ضدّه، فيكون التكليف مع الفعل ـ أي: فِعل الضدّ ـ وقبل فعل المأمور به، فلا يكون تكليفاً بالواجب، ولا طلباً لتحصيل الحاصل.
فتكلّفهم بالجواب عن هذين المحالين دليل على أنّ مرادهم بالفعل
هذا، واعلم أنّ كلام المصنّف إنّما هو في عصيان الأمر كما هو صريح كلام الخصم.
وإنّما خصّ المصنّف الإشكال به دون عصيان النهي; لأنّه في مقام الردّ على قولهم: " التكليف مع الفعل ".
ومن المقرّر أنّ التكليف في النهي إنّما هو بالترك; لأنّه طلب الترك، فيكون التكليف معه لا مع الفعل، لاعتبار القدرة على المكلَّف به، وزعمهم أنّ القدرة على الشيء معه.
وحينئذ فتقرير الإشكال على كون التكليف مع الترك هكذا: إنّ عصيان النهي مخالفته، فإذا لم يكن النهي ثابتاً إلاّ حالة الترك، وحال العصيان هي حال فعل المنهيّ عنه، لم يكن مكلّفاً حينئذ، وإلاّ لزم ثبوت النهي لا مع الترك، وإذا لم يكن منهيّاً حين فعل المنهي عنه، لم يكن عاصياً..
ويمكن أن يدّعي أنّ النهي متعلّق بالفعل بنحو الزجر عنه، فيكون التكليف مطلقاً على زعمهم مع الفعل، ويكون تخصيص المصنّف للإشكال بعصيان الأمر; لاختصاصه به.
وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف في إقامته الأدلّة على ثبوت العصيان قد أقامها على مدّعىً ضروريّ، فصحيح، لكنّه أراد بها التشنيع عليهم باستلزام مذهبهم لمخالفة الضروري الثابت بالإجماع ونصّ الكتاب!
قال المصنّـف ـ رفع الله منزلته ـ(1):
الثالث: لو كان التكليف حالة الفعل خاصّةً لا قبله، لزم: إمّا تحصيل الحاصل، أو: مخالفة التقدير، والتالي باطل بقسميه بالضرورة، فالمقدَّم مثله.
بيان الشرطية: إنّ التكليف إمّا أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف، أو بغيره.
والأوّل: يسـتلزم تحصيل الحاصل.
والثاني: يسـتلزم تقدّم التكليف على الفعل.
وهو خلاف الفرض، وأيضاً هو المطلوب، وأيضاً يسـتلزم التكرار.
____________
(1) نهج الحقّ: 134.
وقال الفضـل(1):
نختار أنّ التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف.
قوله: " يسـتلزم تحصيل الحاصل ".
قلنا: تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال، وها هنا كذلك; لأنّ التكليـف وُجـد مـع القـدرة والفـعل، فهـو حـاصل بهـذا التحصيـل فـلا محـذور.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 169.
وأقـول:
قد تكـرّر هذا الجواب في كلماتهم، وهو من الغرائب; لأنّ الحصول المطلوب لا بُـدّ أن ينبعث عن الطلب.
فلو كان الحصول مقارناً للطلب ومطلوباً به، لزم إعادة نفس الحصول ليتصوّر الانبعاث عن الطلب، فيلزم تحصيل الحاصل وإعادته بعينه، وهو محـال.