مبـاحـث الـنُّـبـوّة
نـبـوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال المصنّـف ـ طـيّب الله مرقده ـ(1):
المسألة الرابعـة
في الـنُّبـوّة
وفيها مباحث:
المبحث الأوّل
في نُبـوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)
إعلم أنّ هذا أصل عظيم في الدين، وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر، فيجب الاعتناء به، وإقامة البرهان عليه، ولا طريق في إثبات النبوّة على العموم وعلى الخصوص إلاّ بمقدّمتين:
إحداهما: إنّ النبيّ ادّعى رسالة ربّ العالمين له إلى الخلق، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له.
____________
(1) نهج الحقّ: 139.
وهاتان المقدّمتان لا يقول بهما الأشاعرة.
أمّا الأُولى: فلأنّه يمتنع أن يفعل الله لغرض من الأغراض، أو لغاية من الغايات، فلا يجوز أن يقال: إنّه تعالى فعل المعجزة على يد مدّعي الرسالة لغرض تصديقه، ولا لأجل تصحيح دعواه، بل فعلها مجّاناً.
ومثل هذا لا يمكن أن يكون حجّةً للنبيّ ; لأنّا لو شككنا في أنّ الله فعله لغرض التصديق أو لغيره، لم يمكن الاستدلال على صدق مدّعي النبوّة مع هذا الشكّ، فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم بأنّه لم يفعله لغرض التصديق؟!
وأمّا الثانية: فلأنّها لا تتمّ على مذهبهم ; لأنّهم يسندون القبائح كلّها إلى الله تعالى، ويقولون: كلّ من ادّعى النبوّة ـ سواء كان مُحقّـاً أم مبطلا ـ فإنّ دعواه من فعل الله وأثره، وجميع أنواع الشرك والمعاصي والضلال في العالم من عند الله تعالى، فكيف يصحّ مع هذا أن يُعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟! فجاز أن يكذب في دعواه، ويكون هذا الإضلال من الله سبحانه كغيره من الأضاليل التي فعلها!(2).
فلينظر العاقل: هل يجوز له أن يصير إلى مذهب لا يمكن إثبات نبـوّة نبيّ من الأنبياء به ألبتّة، ولا يمكن الجزم بشريعة من الشرائع؟! والله تعالى قد قطع أعذار المكلّفين بإرسال الرسل، فقال: ( لئلاّ يكون للناس
____________
(1) انظر: الذخيرة في علم الكلام: 328 ـ 330، تقريب المعارف: 154، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 250.
(2) الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 101 ـ 102، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 305 ـ 306، المواقف: 341 ـ 342.
وأيّ حجّة أعظم من هذه الحجّة عليه تعالى؟! وأيّ عذر أعظم من أن يقول العبد لربّه: إنّك أضللت العالم، وخلقتَ فيهم الشرور والقبائح، وظهرَ جماعةٌ خلقتَ فيهم كذبَ ادّعاء النبوّة، وآخرون ادّعوا النبوّة، ولم تجعل لنا طريقاً إلى العِلم بصدقهم، ولا سبيل لنا إلى معرفة صحّة الشرائع التي أتوا بها ; فيلزم انقطاع حجّة الله تعالى؟!
وهل يجوز لمسلم يخشى الله وعقابه، أو يطلب الخلاص من العذاب، المصير إلى هذا القول؟!
نعوذ بالله من الدخول في الشـبهات.
____________
(1) سورة النساء 4: 165.
وقال الفضـل(1):
هذا الكلام المموّه الخارج عن طريق المعقول قد ذكره قبل هذا بعينه في مسألة خلق الأعمال(2)، وقد أجبناه هناك(3)، ولمّا أعاده في هذا المقام لزمنا مؤنة الإعادة في الجواب، فنقول:
أمّا المقدّمة الأُولى من المقدّمتين اللتين ادّعى توقّف ثبوت النبوّة عليهما، وهي: " إنّ النبيّ ادّعى الرسالة، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له "..
فقد بيّـنّا قبل هذا أنّ غاية إظهار المعجزة والحكمة والمصلحة فيه: تصديق الله تعالى النبيّ في ما ادّعاه.
وهذا يتوقّف على كونِ إظهارِ اللهِ (المعجزةَ مشتملا)(4) على الحكمة والمصلحة والغاية(5)، لا على إثبات الغرض والعلّة الغائية الموجبة للنقص والاحتياج، فـثـبـتَ المقدّمة الأُولى على رأي الأشاعرة وبطل ما أورده عليهم.
وأمّا المقدّمة الثانية، وهي: " إنّ كلّ مَن صدّقه الله تعالى فهو
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 191.
(2) راجع ج 3 / 44.
(3) تقدّم في ج 3 / 47.
(4) كان في الأصل: " معجزةً مشتملٌ "، وهو غلط نحوي، والصواب ما أثبتـناه في المتن من إحقاق الحقّ.
(5) بناءً على ما ذهب إليه الأشاعرة من أنّ أفعال الله تعالى غير معلَّـلة بالأغراض والمقاصد.
فهذا شيء تثبته الأشاعرة ويستدلّون عليه بالدلائل الحقّة الصريحة، ولا يلزم من خلق الله القبائح ـ التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه ـ أن يكون كلّ مدّع للنبوّة ـ سواء كان محقّـاً أو مبطلا ـ دعواه من الله.
وماذا يريد من أنّ دعوى المحقّ والمبطل من الله؟!
إنْ أراد أنّه من خلق الله، فلا كلام في هذا ; لأنّ كلّ فعل يخلقه الله.
وإنْ أراد أنّه مرضيٌّ من الله، والله يرسل المحقّ والمبطل، فهذا باطل صريح، فإنّ الله لا يرضى لعباده الكفر والضلال وإنْ كان بخلقه وتقديره كما سمعت مراراً.
وكلّ من يدّعي النبوّة، وهو مبعوث من الله، فقد جرت عادة الله على إظهار المعجزة بيده لتصديقه، ولم تتخلّف عادة الله عن هذا، وجرت عادته ـ التي خلافها جار مجرى المحال العادي ـ بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب.
والحاصل: إنّ الأشاعرة يقولون بعدم وجوب شيء على الله ; لأنّه المالك المطلق ولا يجب عليه شيء(1).
وما ذكره من أنّه كيف يُعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟
فنقول: بتصديق المعجزة يُعرف هذا.
قوله: " يجوز أن يُظهر المعجزة على يد الكاذب ".
قلنا: ماذا تريدون من هذا الجواز؟! الإمكان العقليّ، فنقول: يمكن
____________
(1) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 295، شرح المقاصد 4 / 294، شرح المواقف 8 / 195 ـ 196.
وأمّا ما أطال من الطامّات والترّهات، فنعمل بقوله تعالى: ( وأَعرِض عن الجاهلين )(1).
____________
(1) سورة الأعراف 7: 199.
وأقـول:
يرد على ما أجاب به عن المقدّمة الأُولى: إنّه لا يلزم على مذهبهم ثبوت المصلحة والفائدة للمعجزة، إذ لا يجب عليه تعالى شيء، ولا يقبح منه شيء، فيجوز أن يفعل الله سبحانه المعجزة بلا فائدة أصلا!
على أنّ الفائدة والحكمة في خلق المعجزة على يد الكاذب يمكن أن تكون من جنس الحكمة والفائدة في خلق الكفر وسبّه تعالى وسبّ رسله، بأن يكون خلق المعجزة على يد الكاذب دخيلا في النظام الكلّي، كخلق الكفر وسبّه تعالى بزعمهم، فلا يلزم أن تكون المصلحة في خلق المعجزة تصديق النبيّ في ما ادّعاه.
وبالجملة: الالتزام بأنّ التصديق هو مصلحة المعجزة، موقوف على إثبات الغرض لله تعالى، أو وجوب مثل هذه المصلحة عليه، فإذا أنكروهما لم يمكن الالتزام بأنّ التصديق هو المصلحة.
على أنّا لا نعرف من كون المصلحة مرعيّةً لله تعالى إلاّ أنّها غرض وغاية له.
وما أشار إليه من أنّ العلّة الغائية توجب النقص والحاجة، قد عرفتَ بطلانه، وأنّ المصلحة تعود إلى العبد، فلا يلزم النقص في حقّه سبحانه، ولا الحاجة له، كما سـبق موضّحاً في المطلب الرابع(1).
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى المقدّمة الثانية، من أنّ هذا يثبته الأشاعرة
____________
(1) تقدّم في ج 3 / 49.
فـفيه: إنّا لا ننكر إثباتهم له، لكـنّا نقول: إنّه ليس لازماً على مذهبهم ; لقولهم: بأنّه لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه شيء، وأنّه خلق جميع أضاليل الكون.
وليته ذكر لنا بعض تلك الدلائل الحقّة لهم، فإنّا لا نعرف دليلا لهم غير دعوى العادة التي ستعرف ما فيها.
وما ذكره من الترديد في مراد المصنّف: نختار منه الشقّ الأوّل، وهو: إنّ الله تعالى خلق دعوى المحقّ والمبطل.
ونقول: إذا كان الله خالقاً لدعواهما ولم يقبح عليه، فما المانع من أن يخلق لكلّ منهما معجزة، ويضلّ الناس بمعجزة الكاذب، كما خلق سائر الأضاليل وكفرهم به وبالأنبياء الصادقين؟!
ويمكن أن نختار الشقّ الثاني ونقول: قد حقّـقنا أنّ خالق الشيء وموجده لا بُـدّ أن يكون مريداً له، راضياً به، فيلزم من خلق الله تعالى لدعوى المبطل رضاه بها، وإلاّ فما الذي ألجأه إلى خلقها؟!
كما يلزم من خلقه للكفر رضاه به، وعليه يكون قوله تعالى: ( إنّ الله... لا يرضى لعباده الكفر )(1) كاذباً على مذهبهم.
وأمّا ما ذكره من حديث العادة، فباطل ; لجواز كذب كلّ ذي معجزة فضلا عن بعضهم، ولا علم لنا بعادة الله في الأنبياء، فإنّها غيب، ولا طريق غيرها بزعمهم إلى العلم بصدق ذي المعجزة.
ولو سُـلّم تحقّق العادة، فإنّما هو عند من يعرف الشرائع، وأمّـا من
____________
(1) سورة الزمر 39: 7.
على أنّ خرق العادة جائز وواقع كما في ذات المعجزة، ففي حين تَخلّـفُ(1) العادة بالمعجزة، كيف يقطع بعدم تخلّفها في النبوّة؟!
وبالجملة: إذا كان تعالى لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء، وجوّزنا عقلا إظهار المعجزة على يد الكاذب، لم يمكن إحراز العادة والعلم بصدق واحد من الأنبياء ـ فضلا عن الجميع ـ ولا سيّما مع زعم الأشاعرة صدور جميع الأضاليل عن الله سبحانه!
فظهر لك أيّ الكلامين هو المموّه الخارج عن طريق المعقول!
____________
(1) تخلّف، أي: تـتخلّف ; حُذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وهو جائـزٌ كـثيرٌ في كلام العرب.
عصمـة الأنبـيـاء
قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابه ـ(1):
المبحث الثاني
في أنّ الأنبيـاء معصومون
ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، منزّهون عن المعاصي، قبل النبوّة وبعدها، على سبيل العمد والنسيان، وعن كلّ رذيلة ومنقصة، وما يدلّ على الخسّة والضعة(2).
وخالفت أهل السُـنّة كافّة في ذلك، وجوّزوا عليهم المعاصي(3)..
وبعضهم: جوّزوا الكفر عليهم قبل النبوّة وبعدها(4)..
وجوّزوا عليهم السهو والغلط(5)..
____________
(1) نهج الحقّ: 142.
(2) أوائل المقالات: 62، تنزيه الأنبياء: 15، الذخيرة في علم الكلام: 337 ـ 338، المنقذ من التقليد 1 / 424، تجريد الاعتقاد: 213.
(3) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284، الإرشاد ـ للجويني ـ: 298، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 1 / 279 و 2 / 116، المواقف: 358، شرح المقاصد 5 / 49، إرشاد الفحول: 70.
(4) انـظر: الفصل في الملـل والأهواء والنحـل 2 / 284، الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ 1 / 145 ـ 146.
(5) انظر مثلا: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 117 و 167، المواقف: 359، شرح المقاصد 5 / 50، وسـيأتي مزيد تفصيل في محلّه.
وهذا اعتراف منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ تلك الأصنام تُرتجى الشفاعة منها.
نعوذ بالله من هذه المقالة التي نُسب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، وهي توجب الشرك.
فما عُذرهم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام، ولم تأخذه في الله لومة لائم، وينسب إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك وهو في مقام إرشاد العالم؟!
وهل هذا إلاّ أبلغ أنواع الضلال؟!
وكيف يجامع هذا قوله تعالى: ( لئلاّ يكون للناس على الله حُجّة بعد الرسـل )(3)؟!
وهل أبلغ من هذه الحجّة، وهي أن يقول العبد: إنّك أرسلت رسولا
____________
(1) سورة النجم 53: 19 و 20.
(2) انظر مثلا: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 1 / 160، المعجم الكبير 9 / 34 ح 8316 و ج 12 / 42 ح 12450، تأويل مختلف الحديث ـ لابن قتيبة ـ: 167، تاريخ الطبري 1 / 551 ـ 552، تفسير الطبري 9 / 174 ـ 177 ح 25327 ـ 25335، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 3 / 363 ـ 364، تفسير الماوردي 5 / 398، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 286، أسباب النزول: 172 ـ 173، زاد المسير 5 / 322، شرح المقاصد 5 / 59، مجمع الزوائد 7 / 71 و 115، شرح المواقف 8 / 276 ـ 277، الدرّ المنثور 6 / 65 ـ 69 عن عبـد بن حُميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والبزّار، وابن مردويه، والضياء في " المختارة "، وسعيد بن منصور.
(3) سورة النساء 4: 165.
ولا ريب أنّ القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى: ( وما قدَروا الله حـقّ قدره )(1).
____________
(1) سورة الأنعام 6: 91.
وقال الفضـل(1):
إنّ أهل الملل والشرائع بأجمعهم أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة في ما يبلّغونه عن الله تعالى إلى الخلائق، إذ لو جاز عليهم التقوّل والافتراء في ذلك عقلا لأدّى إلى إبطال دلالة المعجزة، وهو محال.
وفي جواز صدور الكذب عنهم في ما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأُستاذ أبو إسحاق(2) وكثير من الأئمّة الأعلام، لدلالة المعجزة على صدقهم في الأحكام، فلو جاز الخُلف في ذلك لكان نقـضاً ; لدلالة المعجزة، وهو ممتنع.
وأمّا سائر الذنوب فهي إمّا كفر أو غيره..
أمّا الكفر فأجمعـت الأُمّـة على عصمـتهم منه قبل النبـوّة وبعدهـا، ولا خلاف لأحد منهم في ذلك.
وجوّز الشيعة للأنبياء إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك، وذلك باطل قطعاً ; لأنّه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّية وترك تبليغ الرسالة، إذ أَوْلى الأوقات بالتقـيّـة وقت الدعوة ; للضعف وكثرة المخالفين(3).
أُنظر إلى هؤلاء المتصلّفين يجوّزون إظهار الكفر على الأنبياء للتقيّة،
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 199.
(2) هو: إبراهيم بن محمّـد الإسفراييني، المتوفّى سنة 418 هـ، وقد مرّت ترجمته في ج 2 / 59.
(3) انظر: شرح المواقف 8 / 264.
وأمّا الصغائر والكبائر، كلّ منهما إمّا أن يصدر عمداً، وإمّا أن يصدر سهواً..
أمّا الكبائر، فمنعه الجمهور من المحقّـقين، والأكثر على أنّه ممتنع سـمعاً.
قال القاضي والمحقّقون من الأشاعرة: إنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا، إذ لا دلالة للمعجزة عليه، فامتناع الكبائر منهم عمداً مسـتفاد من السمع وإجماع الأُمّة قبل ظهور المخالفين في ذلك.
وأمّا صدورها سهواً، أو على سبيل الخطأ في التأويل، فالمختار عدم جـوازه.
وأمّا الصغائر عمداً، فجـوّزه الجمهور.
وأمّا سهواً، فهو جائز اتّـفاقاً بين أصحابنا وأكثر المعتزلة، إلاّ الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة، ممّا ينسب فاعله إلى الدناءة والخسّة والرذالة.
وقالت الشيعة: لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة، لا عمداً ولا سهواً، ولا خطأً في التأويل، وهم مبرّأون عنها قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟!(1).
ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهواً وعمداً من وجوه، ونحن نذكر بعض الأدلّة، لا للاحتجاج بها على الخصم ; لأنّه
____________
(1) انظر: شرح المواقف 8 / 264 ـ 265.
الأوّل: لو صدر عنهم ذنب لحرم اتّباعهم في ما صدر عنهم، ضرورة أنّه يحرم ارتكاب الذنب، واتّباعهم واجب ; للإجماع، ولقوله تعالى: ( إنْ كـنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله )(1).
وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصغائر والكبائر، ذكره الأشاعرة، وفيه موافقة للشـيعة.
فعُلم أنّ الأشاعرة يوافقون في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر، لكن في الصغائر تجويز عقلي ; لدليل آخر، كما سيأتي في تحقيق العصمة.
الثاني: لو أذنبوا لرُدّت شهادتهم، إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع، واللازم باطل بالإجماع ; لأنّ من لا تُقبل شهادته في القليل الزائل من متاع الدنيا كيف تُسمع شهادته في الدين القيّم إلى يوم القيامة؟!
وهذا الدليل يدلّ على وجوب عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر ; لأنّها توجب الردّ، لا نفس صدور الصغيرة.
الثالث: إنْ صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وإيذاؤهم حرام إجماعاً(2).
وأيضاً: لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى: ( ومن يعصِ الله ورسوله فإنّ له نار جهنّم )(3)..
____________
(1) سورة آل عمران 3: 31.
(2) انظر: شرح المقاصد 5 / 49 ـ 51، شرح المواقف 8 / 265.
(3) سورة الجنّ 72: 23.
وتحت قوله تعالى لوماً ومذمّة: ( لِـمَ تقولون ما لا تفعلون )(2)..
وقوله تعالى: ( أتأمرون الناس بالبرّ وتـنسـون أنفسكم )(3).
فيلزم كونهم موعَدين بعذاب جهنّم وملعونين ومذمومين، وكلّ ذلك باطل إجماعاً.
وهذا الدليل ـ أيضاً ـ يدلّ على عصمتهم من كلّ الذنوب، وغيرها من الدلائل التي ذكرها الإمام الرازي(4).
والغرض: إنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء، من لزوم إبطال حجّة الله، فمذهب الأشاعرة بريء عنه، وهم ذكروا هذه الدلائل.
وأمّا تجويز الصغائر التي لا تدلّ على الخسّة ; فلأنّ الصغيرة النادرة عمداً معفوّة عن مجتنب الكبائر(5)، والنبيّ بشر، ولا يبعد من البشر وقوع هـذا.
ثمّ اعلم أنّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة،
____________
(1) سورة هود 11: 18.
(2) سورة الصفّ 61: 2.
(3) سورة البقرة 2: 44.
(4) الأربعين في أُصول الدين 2 / 117 ـ 122.
نقول: إلاّ أنّ الفخر الرازي جوّز فيه على الأنبياء ارتكاب الكبائر والصغائر سهواً في زمان النبوّة! فقد قال: " والذي نقوله: إنّ الأنبياء (عليهم السلام) معصومون في زمان النبوّة عن الكبائر والصغائر بالعمد، أمّا على سبيل السهو فجائز "!
(5) شرح المواقف 8 / 267.
فعلى هذا يكون الأنبياء معصومين من الكفر والكبائر والصغائر الدالّة على الخسّة والرذالة، وأمّا غيرها من الصغائر فإنّهم يقولون: لا يجب عصمتهم عنها ; لأنّها معفوٌّ عنها ـ بنصّ الكتاب ـ من تارك الكبيرة أنّ: ( الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم إنّ ربّك واسع المغفرة هو أعلمُ بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّـةٌ في بطون أُمّهاتـكم فلا تُزكُّوا أنفسكم هو أعلمُ بمن اتّقى )(2).
دلّت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوٌّ عنه ما صدر من الصغائر عنه، وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خُلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي الذنب والغفلة، فكانت بعض الذنوب تصدر عنهم بحسب مقتضى الطبع، ولمّا لم يكن خلافَ ملَـكةِ العصمة فلا مؤاخذة به.
وأمّا العصمة عند الحكماء، فهي ملَـكة تمنع عن الفجور، وتحصل هذه ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامـر الداعيـة إلى ما ينـبغي، والنواهي الزاجرة عمّـا لا ينبغي، ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهواً أو عمداً عند من يجوّز تعمّدها، ومَن تركَ الأَوْلى والأفضل فإنّها لا تمنع العصمة التي هي الملَـكة، فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا ثمّ
____________
(1) راجع: حاشية الدواني على العقائد العضدية: 203، حاشية السيالكوتي: 203، شرح مطالع الأنظار: 211، شرح المواقف 8 / 280 و 281.
(2) سورة النجم 53: 32.
ثمّ إنّ الأنبياء مكلَّـفون بترك الذنوب، مثابون به، ولو كان الذنب ممتنعاً عنهم لَما كان الأمر كذلك، إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليـه.
وأيضاً: فقوله: ( إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ )(2)، يدلّ على مماثلتهم لسائر الناس في ما يرجع إلى البشرية، والامتياز بالوحي لا غير، فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر(3).
هذا حقيقة مذهب الأشاعرة، ومن تأمّل فيه علم أنّه الحقّ الصريح المطابـق للعقـل والنقل، وكلّ ما ذكـره هذا الرجـل على سـبيل التشـنيـع فـلا يأتي عليهم، كما علمته مجملا، وستعلمه مفصّلا عند أقواله.
وما ذكره من قصّة سورة النجم وقراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يكن من القرآن، فهذا أمر لم يُذكر في الصحاح، بل هو مذكور في بعض التفاسير..
وذكروا: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا اشتدّ عليه إعراض قومه عن دينه، تمنّى أن يأتيه من الله ما يقرّبه إليهم ويستميل قلوبهم، فأنزل الله عليه سورة النجـم، ولمّا اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى: ( أفرأيتم اللات والعُـزّى * ومناة الثالثة الأُخرى )(4) " تلك الغرانيق العُلى، منها الشفاعة ترتجى "، فلمّا سمعه قريش فرحوا به وقالوا: قد ذكر آلهتنا بأحسن الذِكر ; فأتاه جبرئيل بعدما أمسى وقال له: تلوتَ ما لم أتلُه عليك! فحزن النبيّ
____________
(1) راجع: حاشية الدواني على العقائد العضدية: 203، حاشية السيالكوتي: 203، شرح مطالع الأنظار: 211، شرح المواقف 8 / 280 و 281.
(2) سورة الكهف 18: 110.
(3) شرح المواقف 8 / 281.
(4) سورة النجم 53: 19 و 20.
هذا ما ذكره بعض المفسّرين، واستدلّ به من جوّز الكبائر على الأنبـياء.
والأشـاعرة أجـابوا عن هذا بأنّه ـ على تقدير حمل التمنّي على القراءة ـ هو من إلقاء الشيطان، يعني أنّ الشيطان قرأ هذه الآية المنقولة، وخلط صوته بصوت النبيّ حتّى ظُـنَّ أنّه قرأها.
قالت الأشاعرة: وإنْ لم يكن من إلقاء الشيطان، بل كان النبيّ قارئاً لها، كان ذلك كفراً صادراً عنه، وليس بجائز إجماعاً.
وأيضاً: ربّما كان ما ذكر من العبارة قرآناً، ويكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة، فنسخ تلاوته للإيهام(3).
ومن قـرأ سورة النجم وتأمّل في تتابـع آياتها علم أنّ هذه الكلـمات لا يلتئم وقوعها بعد ذِكر الأصنام ولا في أثنائها، ولا يمكن (للبليغ أن)(4)يتفـوّه به في مدح الأصنام عند ذِكر مذمّـتها.
نعم، يلتئم ذِكرها عند ذِكر الملائكة، وهو قوله تعالى: ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )(5).
____________
(1) سورة الحجّ 22: 52.
(2) انظر: هامش رقم 2 الصفحة 18، شرح المواقف 8 / 276 ـ 277.
(3) تفسير الفخر الرازي 23 / 50 ـ 55، شرح المواقف 8 / 277.
(4) كان في الأصل: " أنّ البليغ "، وما أثبتـناه من إحقاق الحقّ.
(5) سورة النجم 53: 26.
هذه أجوبة الأشاعرة، فعُلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته.
وأمّا المغاربة(1) فهم يمنعون صحّة هذا عن أصله.
وذكر الشيخ الإمام القاضي أبو الفضل موسى بن عياض اليحصبي المغربي في كتاب " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " أنّ هذا من مفتريات الملاحدة، ولا أصل له، وبالغ في هذا كلّ المبالغة(2).
____________
(1) يعني بهم علماء الأندلس والمغرب العربي.
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 125.