الصفحة 47

" ومن قرأ سورة النجم " من لفظ " المواقف " وشرحها(1).

ويرد على الأوّل: إنّه لا يجامع قول جبرئيل: " تلوتَ ما لم أتلُه عليك "، ولا حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخوفه العظيم، إلاّ أنْ يكون الشيطان قد خلط صوته بصوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه لم يشـعر به هو ولا جبرئيـل ولا من أرسله إلى النبيّ بهذا اللوم.

فتأمّـل، فإنّ شأن القوم عجيب!

على أنّه لو أمكن إلقاء الشيطان وخلط صوته بصوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)لفسدت الشرائع، وما صحّ لهم أيضاً أن يحتجّوا بما رووه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)في فضل أوليائهم ; لجواز كونه من إلقاء الشيطان.

ويرد على الثاني: إنّه ـ أيضاً ـ لا يجامع قول جبرئيل: " تلوتَ ما لم أتلُه عليك "، ولا حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأنّه بحسب الفرض لم يتلُ إلاّ قرآناً تلاه جبرئيل عليه.

وأمّا قول الخصم: " ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها، علم أنّ هذه الكلمات.. "..

فمتّجـهٌ ; ولكـنّه دليـل على كـذب الواقعة، وأنّ رواتها الكذبة أُناس لا يعقلون.

وأمّا قوله: " نعم، يلتئم ذِكرها عند ذِكر الملائكة، وهو قوله تعالى: ( وكَم مِن ملَك )(2)... " إلى آخره..

فخطـأٌ ; لأنّ قوله تعالى: ( وكَم مِن ملَك ) إنّما هو بمعنى الكثير، فيكون مذكَّـراً ; ولذا قال: ( لا تغني شفاعتهم )(3)، فلا يلائم البلاغة أن

____________

(1) المواقف: 364، شرح المواقف 8 / 277.

(2 و3) سورة النجم 53: 26.


الصفحة 48
يشير إليه بما يُشار به إلى المؤنّث، وهو لفظ " تلك "، لا سيّما بعد أن أعاد عليه ضمير المذكّر، فقد فرّ عمّا لا يلائم البلاغة إلى ما لا يلائمها!!

ولو سُـلّم حسـن هذه الإشـارة للتعبـيـر عن ذلـك الكـثيـر بالغرانيـق ـ وهو مؤنّـث ـ فلا معنى لحكمه بالنسخ للإيهام، إذ لو وقع بعد قوله تعالى: ( وكَم مِن ملَك ) لم يحتمل رجوعه إلى مدح الأصنام ; للفصل الكـثير، ولعدم المناسبة التي ذكرها، فمن أين يحصل الإيهام الموجب للنسـخ؟!

على أنّ المرويّ عندهم هو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وحاشاه ـ قرأ تلك العبارة بعد قوله: ( أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأُخرى )ومدار الكلام على ذلك، فكيف يسوغ فرض وقوعها بعد قوله: ( وكَم مِن ملَك... ) الآية؟!

ومن الظريف قوله: " فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته "!!

إذ كيف يكون مفترياً عليهم وهم قد رووا هذه الرواية المشؤومة، واعتبرها الغالب منهم، واستدلّ بها من قال منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر؟!

ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) لم يزد على أنّ نقل عنهم سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في القـرآن بما يوجـب الكـفر، وظاهـر الروايـة التي ذكـرها الخصـم تعمّـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك ; لأنّه قرأه بعدما تمنّى إنزال ما يقرّبه إلى قومه الذي هو من نوع مدح الأصنام ألبتّة، فيكون متمنّياً للكفر وفاعلا له، وهذا أسوأ حالا، فقبّح الله ما جنوه على سـيّد النبيّـين.


الصفحة 49
وأمّا ما نسبه إلى القاضي عياض في كتاب " الشفا " فافتراء عليه(1) ; لأنّه إنّما قال: " صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي(2) حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون "(3).

ولو سُلّم أنّ ذلك من مفتريات الملاحدة لا أهل السُـنّة، فكفاهم نقصاً أن يتّبعوا في أخبارهم الملاحدة ويعتبرها علماؤهم.

هـذا، ومن العجب أنّهم يروون ذلك عن النبيّ الذي طهّره الله من الرجس، ويروون في فضل عمر أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: " والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلاّ سلك فجّاً غير فجّك "(4)..

____________

(1) راجع الصفحة 27 من هذا الجزء.

(2) هو: أبو الفضل بكر بن محمّـد بن العلاء بن محمّـد القشـيري، من أهل البصرة أوّلا، وانتقل بعدها إلى مصر، فغدا من كبار فقهاء المالكـيّين فيها، تقلّد أعمالا للقضاء في بعض نواحي العراق قبل انتقاله إلى مصر لأمر قد اضطـرّه، وكان راوية للحديث، حدّث عنه كثير من المصريّين والأندلسـيّين والقرويّين، توفّي في مصر سنة 344 هـ وقد جاوز عمره الثمانين، ودُفن بالمقطّم منها ; له مصنّفات عديدة، منها: كتاب أُصول الفقه، كتاب في مسائل الخلاف، كـتاب الردّ على المزني، كتاب الردّ على الشافعي، كتاب الردّ على القدرية، كتاب الردّ على من غلط في التفسـير، تنزيه الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام.

انظر: ترتيب المدارك 2 / 290، سير أعلام النبلاء 15 / 537 رقم 316، العبر 2 / 67، شذرات الذهب 2 / 366.

(3) الشـفا بتعـريف حقـوق المصطـفى 2 / 125، وانظر: شرح الشفا ـ للقاري ـ 2 / 226، نسـيم الرياض 4 / 96 وفيه: " أبو بكر " بدلا من " بكر "، وهو تصحيف، راجع الهامش السابق.

(4) صحيـح البخـاري 4 / 255 ـ 256 ح 102 و ج 5 / 76 ح 180، صحيـح مسـلم 7 / 115، مسند أحمد 1 / 171 و 182، فضائل الصحابة 1 / 300 ح 301 و ص 314 ح 326، مصنّـف ابـن أبي شـيبة 7 / 482 باب 16 ح 32، الطبقـات الكبـرى ـ لابن سعد ـ 8 / 147، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 568 ـ 569 ح 1253 و 1254 و 1260، مسند أبي يعلى 2 / 132 ـ 133 ح 810.


الصفحة 50
وقال: " إنّ الشيطان يفرّ من حسّ عمر "(1)..

وقال: " إنّ الشيطان يَـفْـرُق من عمر "(2)..

وقال كما في " الصواعق ": " إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلاّ خرّ لوجهه "(3)..

.. إلى غير ذلك.

فليت شـعري هلاّ كان عندهم بعض هذه المنزلة لسـيّد النبيّـين وخيرة الله من خلقه أجمعين؟!


*    *    *

____________

(1) تاريخ دمشق 44 / 81، كنز العمّال 11 / 581 ح 32765.

(2) مسند أحمد 5 / 353، تاريخ دمشق 44 / 82، كنز العمّال 11 / 574 ح 33720.

(3) الصواعق المحرقة: 148، وانظر: المعجم الكبير 24 / 305 ح 774، المعجم الأوسط 4 / 368 ح 3943، فردوس الأخبار 2 / 17 ح 3509، تاريخ دمشق 44 / 86.


الصفحة 51

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

ورووا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه صلّى الظهر ركعتين، (فقال أصحابه: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟! فقال: كيف ذلك؟! فقالوا: إنّك صلّيت ركعتين ; فاستشهد على ذلك رجلين، فلمّا شهدا بذلك قام فأتمّ الصلاة)(2)(3).

ورووا في الصحيحين أنّه صلّى بالناس صلاة العصر ركعتين ودخل حُجرته، ثمّ خرج لبعض حوائجه فذكّره بعض أصحابه فأتمّها(4).

وأيُّ نسـبة أنقص من هذا وأبلغ في الدناءة؟! فإنّها تدلّ على إعراض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عبادة ربّه، وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها، والتكلّم في الصلاة، وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان، نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة.

____________

(1) نهج الحقّ: 146.

(2) في المصدر بدل ما بين القوسين هكذا:

فقال له ذو اليد: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟! فقال: أصدق ذو اليد؟ فقال الناس: نعم ; فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلّى اثنتين أُخريين ثمّ سلّم.

(3) انظر: صحيح البخاري 1 / 206 ح 139 و ص 288 ح 104 و ج 2 / 150 ـ 151 ح 250 ـ 253 و ج 8 / 29 ح 79، صحيح مسلم 2 / 86 و 87، سنن أبي داود 1 / 263 ح 1008 و ص 265 ح 1014 و 1015، سنن الترمذي 2 / 247 ح 399، سنن النسائي 3 / 23 ـ 24، سنن ابن ماجة 1 / 383 ح 1213 و 1214، الموطّـأ: 80 ـ 81 ح 65 و 66، مسند أحمد 2 / 234 ـ 235 و 423.

(4) صحيح البخاري 1 / 288 ح 103، صحيح مسلم 2 / 87، وانظر: سنن النسائي 3 / 24، سنن الدارمي 1 / 251 ح 1500، الموطّأ: 80 ح 64، مسند أحمد 2 / 459 ـ 460، زوائد عبـد الله في المسند: 181 ح 30 و ص 184 ح 31.


الصفحة 52

وقال الفضـل(1):

ما رووا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة(2) حتّى قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فلمّا علم وقوع السهو منه تـدارك(3).

وأيّ نقص ودناءة في السهو وقد قال تعالى في القرآن: ( وإمّا ينسـينّـك الشيطان )(4)؟! وهذا تصريح بجواز السهو والنسيان، والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعاً للسهو في الصلاة.

وإنّ الكلام القليل الذي يتعلّق بأمر الصلاة لا يضرّ، وكذا الحركة المتعلّقة بالصلاة، فيمكن أنّ الله تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأُمور التي ذكرناها، ولا يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة.

وأيّ دناءة ونقص في هذا؟! فإنّ الله تعالى أنساه لوقوع التشريع وقد قال تعالى: ( ما ننسخ من آية أو ننسها )(5)، فإنّ الإنساءَ في أحد المعنيين هو إيقاع النسـيان عليه.

وقد قال تعالى في حقّ يوسف وهو من الأنبياء المرسلين: ( فأنساه

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 226.

(2) كذا وردت العبارة في الأصل و " إحقاق الحقّ " ونسخه المخطوطة.

(3) انظر الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة.

(4) سورة الأنعام 6: 68.

(5) سورة البقرة 2: 106.


الصفحة 53
الشيطان ذِكر ربّه )(1).

وكما إنّه يجب أن يقدّر الله حقّ قدره لقوله: ( وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزلَ اللهُ على بشر من شيء )(2)، كذلك يجب أن يقدّر الأنبياء حقّ قدرهم، ويعلم ما يجوز عليهم وما لا يجوز، وقد قال تعالى: ( إنّما أنا بشر مثلكم )(3).

وقد عاب الله الكـفّار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف البشر بقوله: ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق )(4)..

وقال تعالى: ( سبحان ربّي هل كـنت إلاّ بشراً رسولا )(5).


*    *    *

____________

(1) سورة يوسف 12: 42.

(2) سورة الأنعام 6: 91.

(3) سورة فصّلت 41: 6.

(4) سورة الفرقان 25: 7.

(5) سورة الإسراء 17: 93.


الصفحة 54

وأقـول:

لا ريب في عصمة الأنبياء عن السهو في العبادة لأُمور:

  • الأوّل: قوله تعالى: ( ويل للمصلّين * الّذين هم عن صلاتهم ساهون )(1)، فإنّه سبحانه جعل السهو صفة نقص ودخيلا في استحقاق الويل، بلا فرق بين ما يوجب ترك أصل الصلاة أو أجزائها ; لأنّهما معاً ناشئان من السهو عنها، فكيف يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الساهين؟! بل لو سها كان أَوْلى الناس بالويل، اللّهمّ إلاّ أن تُخصّ الآية بالسهو عن أصل الصلاة، ولكنّهم رووا أيضاً سهوه عن أصلها كما ستعرف!

  • الثاني: إنّه لو سها دخل باللوم في قوله تعالى: ( لِـمَ تقولون ما لا تفعلون )(2)، وقوله تعالى: ( أتأمرون الناس بالبرّ وتـنسـون أنفسكم )(3).. فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائل: " ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلبُ ساه "(4)..

    وهو القائل: " من توضّأ فأسبغ الوضوء، ثمّ قام يصلّي صلاة يعلم ما يقول فيها حتّى يفرغ من صلاتـه، كان كهيئة يوم ولدته أُمّه "(5)..

    ____________

    (1) سورة الماعون 107: 4 و 5.

    (2) سورة الصفّ 61: 2.

    (3) سورة البقرة 2: 44.

    (4) الزهد ـ لابن المبارك ـ: 118 ح 288 و ص 329 ح 1147، العظمة ـ لأبي الشيخ الأصبهاني ـ: 33 ح 45، إحياء علوم الدين 1 / 201، تفسير ابن كثير 1 / 414.

    (5) المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 1 / 46 ح 142، المعجم الكبير 17 / 339 ح 937 نحوه، المستدرك على الصحيحين 2 / 433 ح 3508 وصحّحه وأقـرّه الذهبي.


    الصفحة 55
    والقائل: " لا صلاة لمن لا يتخشّع في صلاته "(1)..

    والقائل: " إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع "(2)(3)..

    وهو القائل: " إيّاكم وأن يتلعّب بكم الشيطان "(4) لمّا قال له رجل: يا رسول الله! إنّي صلّيت فلـم أدرِ أشفعـت أم أوتـرت؟..

    .. إلى نحو ذلك ممّا روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

    فكيف والحال هذه أن يصلّي جماعة ساهياً حتّى ينقص من أربع ركعات ركعتين؟!

  • الثالث: إنّه استفاض أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عيناه ولا ينام قلبه، حتّى عقد له البخاري باباً في كتاب " بدء الخلق " وروى فيه ثلاثة أحاديث، وفي أحدها: " وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم "(5).

    فكيف من لا ينام قلبه حال النوم ينام قلبه حال اليقظة عن عبادة ربّه التي روحها الإقبال على الله تعالى؟!

    ____________

    (1) كنز العمّال 7 / 526 ح 20088 عن الديلمي.

    (2) سنن ابن ماجة 2 / 1396 ح 4171، مسند أحمد 5 / 412، المعجم الكبير 4 / 155 ح 3987، حلية الأولياء 1 / 362، إحياء علوم الدين 1 / 200، كنز العمّال 7 / 528 ح 20095.

    (3) راجع عن هذه الأحاديث: كنز العمّال 4 / 230 و 112 وما بعدها. منه (قدس سره).

    (4) مسند أحمد 1 / 63. منه (قدس سره).

    وانظر: مجمع الزوائد 2 / 150، كنز العمّال 8 / 134 ح 22259، وفي المصادر الثلاثة هذه: " إيّاي " بدل " إيّاكم "!!

    (5) صحيح البخاري 5 / 33 ـ 34 ح 77 كتاب المناقب / باب كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه، وانظر: سنن أبي داود 1 / 51 ح 202، مسند أحمد 1 / 274، المـعجـم الكبيـر 12 / 36 ح 12429، المصنّـف ـ لعبـد الرزّاق ـ 2 / 405 ح 3863 و 3864، صحيح ابن خزيمة 1 / 29 ـ 30 ح 48 و 49، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 101 ح 6351 و 6352، حلية الأولياء 4 / 305.


    الصفحة 56

  • الرابع: إنّ وقوع السهو من الأنبياء في العبادة مناف لحكمة البعثة، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحبّ إلى الله تعالى والأصلح لهم.

    ومن المعلوم أنّ الإقبال على عبادة الله تعالى أحبّ الأُمور إلى الله تعالى وأصلحها للعبد، وأنّ السهو مناف للإقبال، فإذا لم يُقبل النبيّ على عبادة ربّه وصدر منه السهو كانت الأُمّة أَوْلى بذلك وأحقّ بالمسامحة في العبادة!

    وهذا من أكبر المنافيات لمنصب الدعوة إلى الله تعالى والقرب منه.

    وأمّا ما احتمله الخصم من الإسهاء، فخلاف ظاهر أخبارهم التي ذكرها المصنّف (رحمه الله) وغيرها، بل خلاف صريح بعضها..

    فـقد ذكر في " كـنز العمّـال "(1) حديثيـن من أخبـار المقام، قـال النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما: " إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون "، أحدهما: عن البيهقي وسنن النسائي وأبي داود وابن ماجة(2)..

    والآخر: عن سنن ابن ماجة ومسند أحمد(3).

    وذكـر في " الكـنز "(4) أيضاً حديثـاً آخـر عن سـنن أبي داود، قال النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: " إنْ نسّاني [الشيطان] شيئاً من صلاتي فليسـبّح القوم

    ____________

    (1) ج 4 ص 101 [7 / 470 ح 19824] . منه (قدس سره).

    (2) انظر: السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 335، سنن النسائي 3 / 28 و 29 و 33، سنن أبي داود 1 / 267 ح 1020 و 1022، سنن ابن ماجة 1 / 380 ح 1203.

    (3) كنز العمّال 7 / 472 ح 19833، وانظر: سنن ابن ماجة 1 / 382 ح 1211، مسند أحمد 1 / 379.

    (4) ج 4 ص 101 [7 / 472 ح 19837] . منه (قدس سره).


    الصفحة 57
    ولتصفّـق النساء "(1)..

    .. إلى غير ذلك ممّا رووه..

    فكيف مع هذا يحتمل الخصم الإسهاء؟!

    على أنّ الإسهاء بما ظاهره السهو محال ; لأنّه يجعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)عرضة للدخول تحت قوله تعالى: ( ويل للمصلّين... ) الآية(2)، وللّوم والمذمّة بأنّه يقول ما لا يفعل، ويأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه، وعرضة لتكذيبه بدعوى أنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه، كما أنّه مناف لحكمة البعثة وللطف الله بعباده، حيث أسهى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبعد الناس عن قربه بسـبب إسهاء مقتداهم.

    وتلك مفاسد لا تتلافى بحكمة التشريع الذي يمكن فيه البيان اللفظي، بل لمّا استفاض البيان اللفظي من النبيّ لم يبق موضوع لحكمة التـشـريع.

    ثمّ إنّا نسأل من يزعم الإسهاء عن الأمر الذي يشرّع بالإسهاء، هل هو جواز السهو أو هو ما يترتّب على السهو من سجود السهو ونحوه؟!

    فإن كان هو الثاني كان وقوع الإسهاء لغواً ; لأنّ بيان سجدتَي السهو والركعات المنسية لا يتوقّف على الإسهاء.

    وإنْ كان هو الأوّل كان الأمر أشنع ; لأنّ الإسهاء غير اختياري للعبد فلا حكم له، فكيف يشرّع به جواز السهو الذي هو اختياري له لإمكان تحفّظه عنه؟!

    ولو سُلّم أنّه غير اختياري أيضاً فهو لا حكم له أيضاً، ولا معنى

    ____________

    (1) وانظر: سنن أبي داود 2 / 259 ـ 260 ح 2174.

    (2) سورة الماعون 107: 4.


    الصفحة 58
    لتشريع ما لا حكم له بما لا حكم له!

    على أنّ الإسهاء فعل الله تعالى، والسهو فعل المكلّف، فكيف يشرّع حكم أحدهما بوقوع الآخر؟!

    وأيضاً: يكفي في تشريع السهو وقوعه مرّةً أو مرّتين، فما بالهم أسـندوه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً كـثيرة حتّى عقد البخاري أبواباً عديدة متّصلة ذكر فيها سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)؟!

    فمـرّةً نسـبوا إليه أنّه سها عن الجلوس(2)..

    ومـرّةً صلّى الظهر خمساً(3)..

    وأُخرى صلّى إحدى الظهـرَين اثـنـتـيـن(4)..

    وتارةً صلّى المغرب اثـنـتـيـن(5)..

    .. إلى غير ذلك ممّا نقّصوا به عظيم مقامـه!!

    ____________

    (1) صحيح البخاري 2 / 149 ـ 152 ح 247 ـ 254.

    (2) صحيح البخاري 2 / 149 ـ 150 ح 247 و 248، صحيح مسلم 2 / 83، سنن أبي داود 1 / 270 ح 1034 و 1035، سنن الترمذي 2 / 235 ح 391، سنن ابن ماجة 1 / 381 ح 1206 و 1207، سنن النسائي 3 / 34.

    (3) صحيح البخاري 2 / 150 ح 249، صحيح مسلم 2 / 85، سنن أبي داود 1 / 266 ح 1019 و 1022، سنن الترمذي 2 / 238 ح 392، سنن ابن ماجة 1 / 380 ح 1205، سـنن النـسـائي 3 / 31 ـ 32، مـســنـد الشـاشـي 1 / 333 ـ 334 ح 308 و 309.

    (4) صحيح البخاري 2 / 150 ح 250 و 251، صحيح مسلم 2 / 86، سنن أبي داود 1 / 263 ح 1008، سنن الترمذي 2 / 247 ح 399، سنن ابن ماجة 1 / 383 ح 1213، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 1 / 365 ح 1150.

    (5) صحيح البخاري 2 / 150 ذ ح 250، المسـتدرك على الصحيحين 1 / 469 ح 1206.


    الصفحة 59
    وكيف يشكّ عاقل في أنّه نقص، لا سيّما وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض ما رواه البخاري: " لم أنس ولم أُقصّر "(1)..

    وفي رواية مسلم: " كذلك لم يكن "(2).

    فكان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) على فرض الوقوع سهواً في سهو، وكذباً في غلط، فتضاعف النقص، وهو لا يناسب منصب النبوّة والدعوة!

    وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في ما زعمه الخصم من تشريع الكلام والحركة المتعلّقة بالصلاة.

    وأمّا ما استدلّ به ممّا يدلّ على وقوع السهو من الأنبياء، فلا ربط له بما نحن فيه من السهو في العبادة، على أنّ قوله تعالى:( وإمّا ينسـينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين )(3) يمكن أن يكون من قبيل: مهما نسيت شيئاً فلا تقعد مع زيد ناسياً، فحذف من جزاء الآية لفظ ناسياً، والمعنى ـ والله أعلم ـ: مهما نسيت شيئاً فلا تنس عدم القعود معهم بعدما ذكرت لك حرمته وبيّنتها لك.

    ومثل هذا يقال لبيان أهمّية الجزاء بلا نظر إلى وقوع الطرفين أو جوازه، فلا تكون الآية دليلا على وقوع النسيان من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى في غير الصلاة.

    وأمّا قوله تعالى: ( فأنساه الشيطان ذِكر ربّه )(4) فيُعلم المراد منه بعد سماع الآية..

    ____________

    (1) صحيح البخاري 2 / 151 ح 253.

    (2) صحيح مسلم 2 / 87 وفيه: " كلّ ذلك " بدلا من " كذلك ".

    (3) سورة الأنعام 6: 68.

    (4) سورة يوسف 12: 42.


    الصفحة 60
    قال تعالى: ( وقال للّذي ظنّ أنّه ناج منهما اذكرني عند ربّك فأنساه الشيطان ذِكر ربّه ).

    ولا شكّ أنّه بمقتضى ظاهر الآية يراد بضمير ( أنساه ): مظنون النجاة لا يوسف (عليه السلام)، وبالربّ في المقامين: الصاحب الخاصّ، فلا ربط لها بالمدّعى.

    وأمّا قوله تعالى: ( ما ننسخ من آية أو ننسها )(1) فليس المقصود به إنساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كيف؟! وقد قال تعالى: ( سنقرئك فلا تـنسـى )(2).

    هذا إذا أُريد بالآية آية القرآن.

    وأمّا إذا أُريد بها سائر المعجزات ودلائل النبـوّة، فالمـراد ـ والله أعلـم ـ: إنّا إذا أعرضنا عن إحدى دلائل النبوّة أو أنسيناها جئنا بخير منها وأعظم دليلا على النبوّة، وهذا بالضرورة إنّما يتعلّق بأُمم الأنبياء.

    وأمّا ما زعمه من مساواة الأنبياء للناس بالبشرية مستدلاًّ عليه بالكتاب العزيز..

    ففيه: إنّ المساواة بالبشرية لا تقتضي المساواة في كلّ شيء، وإلاّ لجاز أن تقع منهم كلّ المعاصي، حتّى الكفر، والخصم لا يقول به، وليس زائداً على قدرهم منع الرذائل والنقائص عنهم، كالسهو في العبادة وصدور المعاصي عنهم.

    هذا، وممّا يشهد بكذب نسبة السهو إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في العبادة أنّ

    ____________

    (1) سورة البقرة 2: 106.

    (2) سورة الأعلى 87: 6.


    الصفحة 61
    أبا هريرة الراوي لواقعة ذي اليدين، قد أسلم عام خيبر(1)، وأنّ ذا اليـدين وهو ذو الشمالين عمير بن عبـد عمرو قُتل يوم بدر قبل إسلام أبي هريرة بسـنين.

    قال في " الاستيعاب " بترجمة ذي الشمالين: " اسمه عُمير بن عبـد عمرو بن نَـضْلة بن عمرو بن غُـبْشان بن سليم...

    وقال ابن إسحاق: هو خزاعي، يكنّى أبا محمّـد، حليف لبني زهرة، كان أبوه عبـد عمرو(2) بن نضلـة قدم فحالف عبـد الحارث بن زهرة، وزوّجه ابنته نعمى، فولدت له عميراً ذا الشمالين، كان يعمل بيديه جميعاً، شهد بدراً، وقتل يوم بدر شهيداً، قتله أُسامة الجهمي(3) "(4).

    وإنّمـا قلنـا: إنّ ذا اليديـن هو ذو الشمالين لِما روي عن إمامنا الصادق (عليه السلام) أنّه هو(5)..

    ولأخبار القوم أنفسهم..

    ففي مسند أحمد(6)، بسند رجاله من رجال الصحيحين، قال: " حدّثنا عبـد الـرزّاق، حـدّثنا معمـر، عن الزهـري، عن أبي سـلمة بـن عبـد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثـمة، عن أبي هريرة، قال:

    ____________

    (1) انظر: سير أعلام النبلاء 2 / 586 رقم 126، تهذيب التهذيب 10 / 296 رقم 8708، الإصابة في تمييز الصحابة 7 / 434 رقم 10674.

    (2) كان في الأصل: " عبـد بن عمرو "، وكلمة " بن " هنا من سبق القلم، والتصويب ممّا أثبته الشيخ المظفّر (قدس سره) آنفاً ومن المصدر.

    (3) في المصدر: الجشمي.

    (4) الاستيعاب 2 / 469 رقم 716.

    (5) تهذيب الأحكام 2 / 345 ح 1433.

    (6) ج 2 ص 271. منه (قدس سره).


    الصفحة 62
    صلّـى رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الـظهر أو العـصر فسـلّم في ركـعتيـن، فـقال له ذو الشمالين ابن عبـد عمرو ـ وكان حليفاً لبني زهرة ـ: أخفّفت الصلاة أم نسـيت؟!

    فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يقول ذو اليدين؟!

    قالوا: صدق يا نبيّ الله ; فأتمّ بهم الركعتين اللتين نقص ".

    فهذه الرواية الصحيحة عندهم قد جمعت بين اللقبين، وصرّحت بأنّه ابن عبـد عمرو، وأنّه حليف بني زهرة، وما هو إلاّ قتيل بدر.

    وفي " كنز العمّال "(1) عن عبـد الرزّاق مثلها، سوى إنّه لم يذكر حلفه لبني زهرة(2).

    وقد جمعت رواية أُخرى لأحمد(3) بين اللقبين أيضاً(4).

    وكذا رواية أُخرى لعبـد الرزّاق وابن أبي شيبة(5)، نقلها في " كنز العمّال "(6).

    وروى مالك في موطّـئه(7) رواية اشتملت على وصفه بذي الشمالين فقط، ذكرها تحت عنوان ما يفعل من سلّم من ركعتين ساهياً.

    ____________

    (1) ج 4 ص 215 [8 / 141 ح 22291] . منه (قدس سره).

    (2) وانظر: المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 2 / 296 ح 3441.

    (3) ج 2 ص 284. منه (قدس سره).

    (4) وانظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 1 / 200 ـ 201 ح 564، سنن الدارمي 1 / 251 ح 1500.

    (5) المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 2 / 297 ح 3442 و ص 299 ح 3447، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 1 / 488 ب 252 ح 2.

    (6) ج 4 ص 214 [8 / 136 ح 22268] . منه (قدس سره).

    (7) ص 49 في حاشية الجزء الأوّل لمصابيح البغوي، المطبوع بمصر 1318 هـ [الموطّـأ: 80 ـ 81 ح 65] . منه (قدس سره).


    الصفحة 63
    وهي كغيرها في الدلالة على وحدة ذي اليدين وذي الشمالين.

    وأمّا رواية عمران بن حصين، الدالّة على أنّ ذا اليدين هو (الخِـرْبَاق)(1)، فلا تدلّ على التعدّد لجواز كون (الخرباق) لقباً لعمير بن عبـد عمرو، ويقرّبه أنّهم لم يعرفوا للخرباق أباً، وإنّما يقول علماء رجالهم (الخِـرْباق السُلمي)(2).

    وقد عرفت أنّ عميراً أيضاً منسوب إلى سُليم ; لأنّه أحد أجداده، كما سـبق في كلام " الاسـتيعاب "(3).

    وبالجملـة: لا تصلح هذه الرواية لإثبات التعدّد في مقابلة تلك الروايات، فظهر أنّ الصحيح وحدتهما وفاقاً للزهري..

    قال في " الاستيعاب " بترجمة ذي اليدين: " وقد كان الزهري مع علمه بالمغازي يقول: إنّه ذو الشمالين المقتول ببدر، وإنّ قصّة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر ثمّ أُحكمت الأُمور بعد "(4).

    ثمّ قال في " الاستيعاب ": " وذلك وهمٌ عند أكثر العلماء "(5).

    ووجه الوهم ـ كما يظهر من أوّل كلامه ـ أنّه صحّ عن أبي هريرة أنّ ذا اليدين راجع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر الصلاة، فلا بُـدّ أن يكون ذو اليدين

    ____________

    (1) صحيح مسلم 2 / 87، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 1 / 489 ب 252 ح 5، مسند أبـي عـوانـة 1 / 514 ح 1922، المـعجـم الكبـيـر 18 / 194 ـ 195 ح 464 و 465 و 467 و 470.

    (2) الإصابة 2 / 271 رقم 2240.

    (3) تقدّم قبل صفحتين في الهامش رقم 4 عن الاستيعاب 2 / 469 رقم 716.

    (4) الاستيعاب 2 / 476 ضمن رقم 724.

    (5) الاستيعاب 2 / 476 ضمن رقم 724.


    الصفحة 64
    غير ذي الشمالين ; لأنّ أبا هريرة أسلم عام خيبر، وذا الشمالين قُتل ببدر.

    وفيـه: إنّه بعدما عرفت من صراحة الروايات بالاتّحاد لم يبق وجه للحكم بالتعدّد، غاية الأمر أنّه يلزم من الاتّحاد كذب رواية أبي هريرة، وهو غير مسـتغرب!

    فإن قلت: لم يدّعِ أبو هريرة حضور الواقعة حتّى يكون كاذباً في الحكاية، فلعلّه روى عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عمّن حضر من الصحابة؟!

    قلت: قد صرّح أبو هريرة بحضوره بنفسه في بعض هذه الأخبار التي حكى فيها الواقعة..

    فقد روى البخاري عنه في الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو أنّه قال: " صلّى بنا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر أو العصر.. "(1) الحديث.

    ونحوه في " صحيح مسلم " في باب السهو في الصلاة والسجود لـه(2).

    وروى مسلم في هذا الباب ما هو أصرح في ذلك، قال: " بينا أنا أُصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاة الظهر سلّم في الركعتين.. "(3) وساق الحديث.


    *    *    *

    ____________

    (1) صحيح البخاري 2 / 150 ح 250.

    (2) صحيح مسلم 2 / 86 و 87.

    (3) صحيح مسلم 2 / 87.